الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكنه قيدها بضوابط تدفع الأضرار وتجلب المنافع، مثل التراضي وحرية الاتجار وتحدث الفقهاء عن تنظيم الاتجار في الدائرة الشرعية فتكلم الفقهاء عن قيد السلم وهو البيع الذي يكون المبيع فيه مؤجلَا والثمن معجلَا لينتفع بذلك من عنده مال ويريد بضاعة مستقبلًا ومن ينتظر بضائع، أو من ينتج زرعًا ويريد مالًا عاجلًا. كذلك تحدث الفقهاء عن عقد المرابحة بأن يبيع التاجر ما عنده على نسبة معينة في الثمن تكون ربحًا، وتحدثوا كذلك عن عقد التولية بأن يكون البيع بمثل الثمن -وذلك عادة يكون بين التجار أنفسهم ليسد كل تاجر نقص بضاعته مما عند الآخر
…
ويحرص الإسلام أن ينطلق كل تنظيم اجتماعي أو اقتصادي للسلوك الإنساني من منطلق دفع الضرر وجلب المنفعة وتحقيق التعاون والتكافل الاجتماعي بين الناس.
ولهذا يحرم الإسلام بيوع الغرر - والغرر هو الخطر وقال ابن عرفة هو ما كان ظاهره يغر وباطنه مجهول- وقال صاحب المشارف: بيع الغرر وهو بيع المخاطرة وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله. وبيع الغرر يعنى إذن البيع الذي لا يتحقق من نتائجه ذلك لأن هذه النتائج تكون متوقفة على أمر مستقبل مجهول قد يقع وقد لا يقع. مثال هذا بيع الثمار قبل نضجها، أو بيع السمك في الماء، أو بيع الحيوان قبل ميلاده
…
وتحريم هذا النوع من البيع ثابت بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام. فعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- عن بيع الغرر رواه مسلم وعن علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة حتى تدرك" رواه أبو داود.
وحكمة تحريم هذا النوع من البيوع سد باب الخلافات والمنازعات المحتمل حدوثها بين المتعاملين، طالما أنها تشبه المقامرة التي لا تنتهي في الغالب إلا بحدوث مشكلة.
رابعًا:
الزرع وإحياء الأرض الموات:
شجع الإسلام على الزراعة وحث المسلمين على الاهتمام بالزراعة
تقديرًا لأهمية الزراعة لأنها هي مصدر الغذاء ومصدر المواد الخام للصناعة، قال عليه السلام:"ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة" رواه البخاري -ويشير هذا الحديث إلى ان الزارع في صدقة مستمرة لأن زرعه لا يمر عليه يوم إلا ويأكل منه طير أو بهيمة أو إنسان أو يأكلون منه جميعًا. والزراعة تتضمن عملًا بشريًّا من جانب المزارع إلى جانب تفويض الأمر إلى الله سبحانه بعد أن يؤدي ما عليه. وتقديرًا من الإسلام لأهمية الزراعة، وحفزًا للناس على إحياء الأرض بالزراعة، جعل مكافأة من يحيي أرضًا- لا تنتج زرعًا وغير مملوكة لأحد- أن يتملكها.
ولكن ما معنى الأرض الموات؟ هي الأرض التي تعطل زرعها لانقطاع الماء عنها، أو لغمر الماء لها، أو لكون طينتها غير صالحة للزراعة16. ويتمثل الإحياء هنا في إزالة السبب المانع من زراعتها، فإن كان مواتها بسبب غمر المياه لها فإحياؤها بإقامة السدود، وإن كان بسبب قلة المياه فإحياؤها بإجراء المياه لها وحفر الآبار واستخدام آلات الري، وإن كانت غير مستوية سويت وإن كانت الأرض تحتاج إلى تسميد وإضافة المخصبات فعلى المزارع لها ذلك. ويشترط لاعتبار الأرض مواتًا ألا يكون منتفعًا بها بأي شكل من الأشكال -مرابض للحيوانات أو ملاعب للخيل يتريض فيها الناس
…
إلخ ولعل هذا هو ما جعل الفقهاء يشترطون لاعتبار الأرض مواتًا أن تكون بعيدة عن العمران حتى لا تكون مرفقًا من مرافقه أو يمكن أن تكون كذلك مستقبلًا -هذا إلى جانب أن إحياء أرض بعيدة يسهم في امتداد العمران وتنمية الثروات. ومن الفقهاء من وضع حد للبعد عن العمران، ومنهم من ترك ذلك للعرف. وإحياء الأرض الموات يكون واجبًا على القادر في حالة ما إذا كانت غير مملوكة لأحد، فإذا كان لها مالك فإن عليه إحياءها وإلا حق لولي الأمر نزعها منه وتسليمها لمن لديه استعداد وقدرة على إحيائها.
وهناك من الناس من يضع سورًا حول أرض غير مملوكة لأحد، لكن حيازتها أو وضع اليد عليها وتحجيزها -أي تسويرها- ليس مثبتًا للملكية لكنه مثبت للأولوية أو الأحقية في الزراعة والإحياء، وهي سند الملكية الحقيقة. لكن هذه الأولوية في الاستصلاح والاستنزاع لا تستمر إلى ما لا نهاية، ذلك لأن معنى هذا أن واضع اليد الذي لا يزرعها يحرم غيره من الانتفاع بها كما يحرم الأمة من الانتفاع بخيراتها. لهذا حدد الرسول -صلي الله عليه وسلم- لواضع اليد ثلاث سنوات كفرصة لزراعتها أو محاولة ذلك وإلا تنزع منه وتعطى لآخر أقدر منه ولديه الاستعداد. قال عليه السلام:"من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين" وقد روي مثل ذلك عمر بن الخطاب.
والإحياء سبب للملكية باتفاق الفقهاء لورود نص واضح عن الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك. لكن هناك خلافا بين الفقهاء حول اشتراط إذن الإمام. فهل الإحياء وحده سبب للملكية دون إذن الإمام أو باشتراط إذنه؟ وقال أبو حنيفة: الإحياء سبب الملكية ولكن شرطها إذن الإمام. ويحكي أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة هذا الخلاف في كتابه الخراج17 وبين وجهة نظره هو التي هي وجهة نظر جمهور الفقهاء كما بين وجهة نظر شيخه*. ونستطيع القول: إن الجمهور ينظرون إلى الواقع وليس إلى
يذهب أبو يوسف في كتابه الخراج ويقول: "وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: من أحيا أرضا مواتا فهي له إذا أجازه الإمام
…
ومن أحيا أرضا مواتا بغير إذن الإمام فليست له، وللإمام أن يخرجها من يده ويصنع فيها ما يرى من الإجارة أو الإقطاع وغير ذلك". قيل لأبي يوسف ما ينبغي لأبي حنيفة أن يكون قد قال هذا إلا من شيء لأن الحديث قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحيا أرضا ميتة فهي له" فبين لنا ذلك الشيء فهل سمعت عنه في هذا شيء يحتج به؟ قال أبو يوسف حجته في ذلك أنه يقول الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام، أرأيت رجلين أراد كل واحد منهما أن يختار موضعًا واحدًا، وكل واحد منهما منع صاحبه أيهما أحق؟، أرأيت إن أراد رجلا أن يحيي أرضا ميتة بفناء رجل وهو مقر أنه لا حق له فيها، فقال لا يحق له فإنها بفنائي وهذا يضرني، فإنما جعل أبو حنيفة إذن الإمام في ذلك ههنا فصلا بين الناس، فإذا أذن الإمام في ذلك لإنسان كان له أن يحييها وكان ذلك الإذن جائزا مستقيما وإذا منع الإمام أحد كان ذلك المنع جائزًا، ولم يكن بين الناس التشاح في الموضع الواحد، ولا الضرار فيه مع إذن الإمام ومنعه، وليس ما قاله أبو حنيفه يرد الأثر، إنما رد الأثر أن يقول: وإن أحياها بإذن الإمام فليست له، فأما أن يقول هي له فهذا اتباع ولكن بإذن الإمام ليكون إذنه فصلًا فيما بينهم من خصوماتهم ومنع إضرار بعضهم ببعض، أما أنا فأرى إذا لم يكن ضررًا على أحد، ولا لأحد فيه خصومة أن إذن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قائم وقال:"من أحيا أرضًا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق".
المتوقع، فهم يقولون إنه إذا لم يكن خلاف ولا نزاع فإن الإحياء وحده سبب للملكية، وأبو حنيفة يتوقع الخلاف فيعمل على الوقاية منه قبل وقوعه -ويذهب أبو حنيفة إلى أن سلطان الدولة قائم على الأراضي كلها- مواتًا أو غير موات -وأن غير الموات عليها سلطان لأصحابها، وأصحابها في ولاية الإمام العامة المنظمة للحقوق والواجبات فيها ولهم سلطان محدود، الشيخ محمد أبو زهرة في دراستة عن المجتمع الإسلامي18 إلى أن هذا الرأي الأخير يتفق مع نظام الولاية الإسلامية وهو أجدر بالقبول لقول النبي صلي الله عليه وسلم:"ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه". وإذا كان الإحياء سبب للملكية فإن الملكية لا تنتقل إلى غير المحيي إلا بسبب مشروع من أسباب انتقال الملكية، وإذا ما عادت مواتًا وهي في يد المحيي أو يد وريثه، فإن الملكية لا تزول وعلى ولي الأمر الحاكم أن يلزمه بالإحياء لأن تركها مواتًا يضر بالصالح العام. وقد اختلف الفقهاء في هذا الأمر -فالإمام مالك يرى أن الملكية تزول لأن العلة في التملك الإحياء وقد زال، فإذا زال السبب بطل المسبب. والإحياء كاصطياد الحيوان، فالاصطياد هو سبب الملكية، فمن اصطاد سمكًا من البحر ولكن سقط في الماء حيًّا تزول ملكيته.
وقد ناقش الفقهاء قضية مهمة وهي ملكية الرقبة والمنفعة -فهل التملك بالإحياء يؤدي إلى ملكية الرقبة أم المنفعة أم لكليهما؟ يذهب بعض الفقهاء أنه في البلاد المفتوحة- إذا كان المحيي مسلمًا- ملك الرقبة والمنفعة، وإذا كان غير مسلم فإن الملكية تكون للمنفعة فقط -لأن
المسلم سوف يخرج الزكاة على الزرع والثمار -والزكاة عبادة إسلامية لا يلزم بها غير المسلم احترامًا من الإسلام لحرية العبادة. ولهذا فإن غير المسلمين يجب عليهم دفع الخراج الذي هو في طبيعته مقاسمة بين الدولة وواضع اليد تحقيقًا للتكافل الاجتماعي حيث تلتزم الدولة المسلمة بتغطية حاجات فقراء غير المسلمين.
وهناك رأي ينظر إلى القضية -ليس من زاوية المحيي ولكن من زاوية طريقة الحصول على الماء الذي ينبت الزرع ومصدره، فنوع الملكية يتبع الماء فإن كانت تسقى من ماء السماء أو من الآبار أو بماء الأنهار العظام التي لا تقع في قبضة أحد فإنها تكون مملوكة الرقبة وتكون الأرض عشرية لأن هذه المياه لم يكن لغير المسلمين سلطان عليها. أما إذا كانت تسقى من نهر حفره غيرالمسلمين فإنها تكون خراجية أي لا تكون الملكية فيها تامة- هذا إذا كان الذي أحياها مسلمًا، أما إذا كان الذي أحياها غير مسلم فإنها تكون خراجية تحقيقًا للتكافل الاجتماعي بدون مساس بحرية العقيدة.
هذا هو التصور الإسلامي لإحياء الأرض بالزراعة والعمران والتسوية وتقسيمها إلى بيوت وإنشاء قرى وتحويل الصحاري إلى مناطق زراعية مثمرة عامرة. وفتح باب الإحياء في الحقيقة هو فتح لباب العمارة في الأرض وتنمية الثروة ومواجهة مشكلات تزايد السكان وتحقيق للتطلعات المشروعة المتزايدة للناس وللتعاون بين الناس، ذلك أنه مع نمو الزراعة تنمو مقادير الزكاة ومقادير الخراج مما يحقق النفع للجميع. وقد قرر الفقهاء أن وجوب الزكاة في الزرع وجوب مقاسمة فهي بمقدار عشر ما تخرجه الأرض إن سقيت بغير آلة، وبمقدار نصف العشر إن سقيت بآلة. وبذلك يكون بيت مال الزكاة شريكًا لمن أخرج الزرع أو تعهد الغراس، الأمر الذي يجعل من الإحياء سبيلًا لتحقيق التنمية الاقتصادية من جهة، ولتحقيق أعلى درجة من درجات التكافل الاجتماعي بين أعضاء المجتمع من جهة أخرى.