الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا:
العقود الناقلة للملكية:
يستهدف الإسلام تنمية موارد الأمة من خلال كافة أساليب التنمية الاقتصادية، تنمية زراعية وتنمية صناعية بكافة أنواعها وتبادلات تجارية داخلية أو تجارة خارجية
…
كل ذلك من أجل تحقيق الحياة الطيبة للمؤمنين التي تخلو من مشكلات الجوع والخوف والتي تتسم بالأمن والعدل والتكافل والإخاء وتبادل المنافع والمصالح دون احتكار أو اكتناز أو استخدام للنفوذ في الإثراء غير المشروع أو عنصرية لون أو دين أو مركز حتى لا تكون الأموال دولة بين الأغنياء وحدهم، وذلك وعد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين حيث قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ووعيد الله شديد عند كفران نعمه وحبس خيراته عن عباده حيث يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . ويضع الإسلام خطوطًا عامة في مجال تنظيم الإنتاج والاستثمار أو التنمية الاقتصادية بشكل عام، حتى يمكن مراعاتها في كل مكان وزمان، وبشكل يتفق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويحافظ على حق الإنسان في التملك والعمل والتعمير، غير أن كل عمليات التنمية الاقتصادية يجب أن تدور في دائرتين أساسيتين هما:
أولًا: دائرة الحلال، والله لا يحب المفسدين.
ثانيًا: دائرة العدل: والله لا يحب الظالمين.
والعقود من الأساليب التي يتم من خلالها التملك والكثير من المعاملات الاقتصادية سواء في مجال الإنتاج أو الاستهلاك أو التوزيع، وهي مجالات الاقتصاد الأساسية. وهناك عدة أسس تستند إليها العقود في الإسلام، تلك العقود التي يطالبنا القرآن الكريم الوفاء بها:
أولًا: عقود المعاملات يُنظر فيها للمقاصد والمصالح، فإذا كان الأصل في العبادات الالتزام بما جاء به الشرع والتقيد بالصور التي أمر الله بها لأنها تستهدف التقرب إلى الله وتحقيق الصلة المستمرة بين العبد وخالقه، فإن الأصل في المعاملات تحقيق مصالح العباد في الحياة ورفع الحرج عنهم بعيدًا عن الباطل والظلم والحرام. ويفسر ابن تيمية رحمه الله هذا الفرق بين العبادات والمعاملات19 أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيها عدم الحظر، فلا يحظر منها إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد وأن تكون مأمورًا بها. فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه أنه عبادة؟ وما لم يثبت أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس: 59] ، ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله في سورة الأنعام حيث قال
تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَاّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 136-138]، ومن صحيح مسلم عن عياض بن حرام رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:"قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاحتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا". وهذه القاعدة عظيمة النفع في مجال التنمية الاقتصادية، وبناء عليها فإن البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج إليها الناس في معاشهم كالأكل والشرب والملبس وضعت لها الشريعة آدابها فحرمت منها ما يؤدي إلى الفساد أو ما فيه حرمة أو ظلم وأوجبت ما لا بد منه وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة.
ثانيًا: تنعقد العقود في الإسلام بكل ما يدل على مقصودها:
يهتم الإسلام بالجوهر والمضمون والقصد وليس بالشكل ولهذا وبناء على الأصل السابق فقد حرر الإسلام العقود من الشكلية فلم يشترط لها صيغة محددة حيث اعتبر كل ما دل على إيجاب وقبول عقدًا وترتب عليه آثاره ما دام قد أبرمه من لهم أهلية التعاقد وتم فيما يجوز التعاقد معه. وهذا يدل على مقدار مرونة الإسلام حيث إن هذا المبدأ يتسع لعوائد الناس وأعرافهم ويسمح للاختلافات الناجمة عن اختلاف الثقافات بين المجتمعات*.
* يقول ابن تيمية رحمه الله: فكل ما عده الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال. وليس لذلك حد مستمر لا في الشرع ولا في اللغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم. فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة، بل قد تختلف أنواع اللغة الواحدة. ولا يجب على الناس التزام نوع من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذ كان ما تعاقدوا به دالًّا على مقصودهم وإن كان يستحب بعض الصفات. وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد.
وهذا يعني أن القاعدة العامة هي أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} [النساء: 3] . ويقول تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، ويقول تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4]، {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة المشروع فيها هذه العقود ويتضح منها عدة أمور أهمها:
أ- التراضي في العقود -ولا يوجد لفظ محدد يوضح التراضي لأنه أمر معروف ومتروك للثقافات المحلية والأعراف.
ب- من الأسماء ما يعلم حده باللغة -كالشمس، ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق- وما لم يكن له حد في اللغة أو الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس -كالقبض المذكور في قوله صلي الله عليه وسلم:"من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه" ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوهما لم يحدد الشرع لها حدًّا وتركها للأعراف.
ثالثًا: لا تتم العقود في الإسلام إلا برضا المتعاقدين واتفاقهما:
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وهذه الآية في المعاوضات، أما في التبرعات يقول تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . وقد وفر الإسلام
الحماية الكاملة والرعاية التامة لموضوع رضا الطرفين باشتراط أهلية التكليف للمتعاقدين، وبأن أفسح المجال للخيار بين المتعاقدين، ومن ذلك خيار الغبن وخيار المجلس وخيار الشرط وخيار الرؤية مما تفصله كتب الفقه.
رابعًا: يوجب الإسلام توثيق العقود؛ ضمانا للحقوق وإقامة العدل بين الناس. ويكون التوثيق بالكتابة والإشهاد عليها حتى لا يتنازع الناس فيما بعد ولا يحدث ظلم أو تظالم ولحسم المسائل عند حدوث الاختلاف. يقول تعالى في سورة البقرة آية 282: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} .
- {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}
- {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}
- {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
- {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}
- {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَاّ تَرْتَابُوا}
- {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُم}
- {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] .
هذه الآية رقم 282 من سورة البقرة نموذج فريد من الإعجاز التشريعي في مجال العلاقات الاقتصادية يعلمنا فيها الله سبحانه وتعالى أصول هذه العلاقة في مجال التوثيق لأنه خالق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وما جلبت عليه النفوس من التباين والتقلب والمطامع والجحود
…
إلخ
خامسًا: يجب أن تحقق العقود العدل بين المتعاقدين وتتجنب الظلم:
الأصل في مبادئ الاقتصاد الإسلامي ألا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، ولا تطيب النفس إلا بأن تقدم ما عندها طائعة غير مكرهة -راضية بدون غش أو خداع- وكما يقول ابن تيمية: إن من العدل ما هو ظاهر يعرفه كل واحد بعقله مثل وجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان- ووجوب الصدق وتحريم الكذب والخيانة وإن جزاء القرض الوفاء والحمد21. ومن العدل ما هو خفي فصلته الشريعة الإسلامية عندما حَرَّمَتْ كل المعاملات التي تسبب أكل المال بالباطل كعقود الربا والميسر وما يجري مجراهما مثل بيع الغرر وحبل الحبلة، أو العقود التي تقوم على الغش وإخفاء العيب في المبيع لأن باطنها يحمل الظلم والاستغلال والكذب وهي ما لا تتفق مع القيم الإسلامية.
سادسا: وجوب تحقيق العقود والمعاملات لمقاصد الشريعة في العبادة والأخلاق:
فإذا كانت العقود والمعاملات الاقتصادية الإسلامية تستهدف تحقيق
مصالح الناس في الكسب وتبادل المنافع وتيسير وسائل الحياة
…
فإنها يجب أن تلتزم بأصول العقيدة والقيم الإسلامية وإلا فإنها تنقلب إلى أساليب تدمر الإنسان ومجتمعه من خلال جرائم الغش والسرقة والاختلاس والرشوة -كما أنها تفكك علاقات الأخوة بين الناس- قال صلي الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] . وقد ذكر عليه الصلاة والسلام أن من يكون مطعمه حرام وملبسه من حرام ومشربه من حرام فإن الله لا يستجيب له الدعاء. وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنون بأنهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37-38]، ولهذا فقد حدد الإسلام مجموعة من المبادئ الأخلاقية في مجال المعاملات الاقتصادية منها:
أ- النهي عن البيع وقت النداء للصلاة وخاصة الجمعة -وقد اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] .
ب- النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه لما في هذا من اعتداء على حق ثبت للمشتري الأول مما يؤدي إلى اختفاء روابط الثقة والأخوة وظهور الصراع والحقد وانعدام الثقة.
ج- النهي عن بيع الأشياء التي يستعملها مشتريها فيما حرم الله -فلا يجوز بيع العنب لمن يتخذه خمرًا أو بيع السلاح للصوص الذين يهددون أمن المسلمين.
د- النهي عن التحايل على الحرام كالطرق التي يتحايل بها التجار على أكل الربا بما يستعملونه من بيانات وهمية كعملية بيع السكر أو الأرز
أو أي سلعة بسعر عالٍ للمحتاج الذي يبيعها بسعر أقل ليدخل فرق السعر في جيب التاجر تحايلًا على أخذ الزيادة مقابل القرض -وهذا ما نهى عنه الرسول صلي الله عليه وسلم.
سابعًا: لا تتم العقود إلا بضبط المقادير وتحديد الأثمان؛ تجنبًا للتغابن والنزاع واحتمال الصراعات، ولهذا حرم بيع الغرر لما فيه من جهالة الثمن أو المثمن. وعن بيع ما في بطون الأمهات والسمك في الماء.
وينبغي عند اختلاف الأصناف تقويمها بالنقد تحريًا للعدل وابتعادًا عن المراباة. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة.
فقال النبي: " لا تفعل، بع الجمع -التمر الرديء- بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا -أي: تمر جيد-" وقد قص القرآن الكريم علينا قصة نبي الله شعيب الذي طالب قومه بالوفاء بالكيل والميزان دون تطفيف أو بخس للناس أشياءهم وقد نزلت سورة بأكملها تهدد المطففين بالويل وهي سورة المطففين. وقد اهتم الاسلام بقضية ضبط المقادير والوفاء بالكيل والميزان والبعد عن التطفيف، وقد ظهرت وظيفة المحتسب في الدولة الإسلامية لمراقبة الأسواق والتأكد من سلامة الموازين والقضاء على الغش والخداع في مجال المعاملات الاقتصادية.
ثامنًا: يوجب الإسلام الصدق والإحسان والسماحة وتحريم الغش والتدليس والالتواء، وفي الكتاب والسنة العديد من الأدلة على هذا المبدأ.
أنواع العقود الاقتصادية:
رفع الله الحرج عن عباده فأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، والأصل في المعاملات الاقتصادية الإباحة لا الحظر إلا ما كان محرمًا، ولهذا فإنه يجب الاستحداث في العقود طالما أنها تحقق الشروط الإسلامية
وهذا من يسر الإسلام وشموله22. وسوف نورد بعض أنواع العقود التي يقرها الإسلام.
أولًا: عقد تمليك مال بمال على وجه التراضي:
ويشترط في العاقد العقل والتمييز وأن يكون له حق الملك والولاية على ما بيده، كما يشترط أن يكون المباع مباحًا متقوَّمًا، وأن يكون مقدور التسليم. وعن رفاعة بن رافع أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل، أي الكسب أطيب فقال:"عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور" رواه البزار وصححه الحاكم والبيع المبرور هو ما يجري في الأمور المباحة ويبتعد تمامًا عن المحرمات كالربا والغش والعقود المجهولة وأساليب الكسب الخبيثة كالاتجار في الملاهي والأعراض.
ثانيًا: عقد السلم:
والسلم هو السلف -وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في المجلس ويشترط له ما يشترط في البيع. قال عليه السلام: "من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، وهناك سبعة شروط يجب أن تحقق في عقد السلم هي:
1-
أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته من المكيل والموزون من حبوب وغيرها.
2-
أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرًا، فيذكر جنسه ونوعه فيقول في التمر مثلًا برني أو معلقي ونحوهما.
3-
أن يذكر قدره بالكيل -أو بالوزن- أو بالذراع أو بالعدد.
4-
أن يشترط أجلًا معلومًا له وقع في الثمن عادة كالشهر.
5-
أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله سواء كان موجودًا حال العقد أو معدومًا.
6-
أن يقبض رأس ماله في مجلس العقد أو ما في معنى القبض.
7-
أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح لأنه ربما تلف قبل أوان تسليمه.
ثالثًا: عقود الشركة -وهي خمسة أقسام:
أ- شركة العنان: وهي أن يشترك اثنانِ فأكثر بمالَيْهما ليعملا فيه ببدنيهما وربحه بينهما، أو يعمل أحدهما بشرط أن يكون له من الربح أكثر من ربح ماله نظير إدراته وعمله -ويشترط أن يكون المالان معلومين حاضرين وأن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، وأن يشترط لكل واحد منهما جزءًا من الربح كالنصف أو الثلث23، وكتب الفقه تفصل هذا النوع من الشركة.
ب- شركة المضاربة: وهي دفع مال معين معلوم قدره إلى من يتجر فيه بجزء معلوم. وتسمى هذه الشركة قراضًا ومعاملة وتنعقد بما يؤدي معنى ذلك وهي أمانة ووكالة وكتب الفقه تفصل هذا النوع من الشركات24. والمضاربة أمانة ووكالة فإن ربح فشركة وإن فسد فإجارة وإن تعدى فغضب، قال في الهدى: "المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك: فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يباشر من العمل بنفسه وشريك إذا ظهر فيه الربح". ومن شروط صحتها تقدير نصيب العامل بجزء شائع كالربع والثلث أو يقول رب المال بيننا فيكون على النصف.. وإن اختلفا فللعامل أجرة المثل، وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله وفي الشروط -والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد ولا تفريط. والقول قوله في قدر رأس المال والربح25.
ج- شركة الوجوه: وهي أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما شيئًا يشتركان في ربحه من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهما
نصفين أو ثلاثًا
…
فيكون الملك بينهما على ما اشترطاه.
د- شركة الأبدان: وهي أن يشتركا فيما يتقبلان بأبدانهما في ذممهما من العمل فهي شركة صحيحة ولو مع اختلاف الصنائع، وما يتقبله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما يطالبان به ويلزمهما عمله.
هـ- شركة المفاوضة: هي تفويض كل منهما إلى صاحبه شراء وبيعًا ومضاربة وتوكيلًا وابتياعًا في الذمة ومسافرة بالمال وارتهانًا وضمانًا ما يرى من الأعمال فصحيحه26.
رابعًا: عقد المزارعة:
وهي دفع أرض وحب لمن يزرعه ويقوم عليه، أو مزروع لمن يعمل عليه بجزء مشاع من المتحصل ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة والزرع وزيادتهما من السقي والاستسقاء والحرث وآلة
…
والمزارعة جائزة في أصح أقوال العلماء.
خامسا: عقد الإجارة:
وهو عقد على منفعة مباحة معلومة تؤخذ شيئًا فشيئًا مدة معلومة عين معلومة أو موصوفة في الذمة أو عمل معلوم ولا تصح إلا بشروط ثلاثة:
1-
معرفة المنفعة: إما بالعرف كسكنى الدار شهرًا، وخدمة الآدمي سنة فإذا كان هناك عرف فإن هذا يغني عن تعيين النفع وصفته وينصرف الإطلاق إليه. وإما بالوصف كحمل بضاعة وزنها كذا إلى موضع معين أو بناء حائط طوله كذا وعرضه كذا وسمكه كذا
…
2-
معرفة الأجرة: بمعنى تحديدها بشكل واضح.
3-
أن تكون المنفعة مباحة: فلا تصح الإجارة في المحرمات كالزنى والنياحة والقمار
…