الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويوظف القرآن الكريم القصة في خدمة تحقيق العديد من الأهداف، مثل تثبيت فؤاد النبي عليه الصلاة والسلام، وإيضاح أسس الدعوة إلى الله وتصديق الأنبياء السابقين، وإظهار صدق محمد عليه الصلاة والسلام ومقارعة أهل الكتاب بالحجة، إلى جانب جميع أنواع التربية والتوجيه، تربية الروح وتربية العقل، وتربية الجسم، حيث تتضمن مضامين تربوية ترسخ الدوافع الإيمانية في نفوس المؤمنين، وتضرب لهم القدوة والمثل، وتحذرهم من نتائج الكفر والانحراف. ومن الطبيعي أن توظف القصة في القرآن لخدمة أهداف دينية من أجل تربية المؤمنين، فليس القرآن الكريم كتاب قصة، غير أن إعجاز بلاغة القرآن ودقة الأداء وفنية التعبير، جعل القصص القرآني الذي يحتوي على مضامين دينية وتربوية طليقة بليغة من المنظور الفني. وهذا يشير إلى إمكانية استخدام القصص كأسلوب في التربية بشرط نقاء مضمونها واتفاقه مع مبادئ الإسلام.
أسلوب التربية السلوكية باقتلاع العادات السيئة
…
سادسًا: أسلوب التربية السلوكية باقتلاع Dislearning العادات السيئة وتكوين العادات الصالحة:
وهذا الأسلوب لم تكتشف أصوله إلا مدرسة ديناميات الجماعة Group Dynamics حديثًا في حين أن الإسلام نَبَّهَ إِلَيْهِ مُنْذُ أكثر من أربعة عشر قرنًا. وقد بدأ الإسلام بإزالة العادات السيئة التي سادت مجتمع الجاهلية، وكان السبيل إلى ذلك أمرينِ، الأول: هو القطع الحاسم الفاصل، والثاني: أسلوب التدرج البطيء. ويتوقف استخدام الأسلوب الأول أو الثاني على نوع العادة التي كان يعالجها ودرجة أهميتها ومدى عمقها داخل الجماعة. فالعادات التي تتصل بالعقيدة هي الأسس الجوهرية للإسلام -مثل عبادة الأصنام والوقوف أمام التماثيل والدعارة- قطعها الإسلام بشكل حاسم من اللحظة الأولى؛ لأنها مثل الأورام السرطانية لا بد أن تستأصل من جذورها وإلا فلا حياة. ومن أمثلة هذه العادات الوثنية التي
استأصلها الإسلام الشرك والاجتماع حول الأوثان والتوسل إليها ووأد البنات والكذب والغيبة والنميمة والتكبر....إلخ.
أما بالنسبة لبعض العادات الاجتماعية التي تحتمل التأجيل في اقتلاعها، والتي تمارس بشكل جماعي وتتمكن من نفوس الناس، ولا تتصل بالأساس الأول للإيمان وإن كانت ترتبط به بشكل وثيق مثل شرب الخمر والزنا والربا والرق، فقد لجأ الإسلام في علاج كل منها إلى التدرج على مراحل ودرجات، أو أخر تحريمها حتى اكتمل نمو المجتمع المسلم ونضج.
فالخمر جاءت أو إشارة لتحريمه في قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] ففصل سبحانه بين السكر والرزق الحسن وكله توجيهًا رقيقًا أحس منه أذكياء المسلمين أنها بداية لتحريم الخمر، ثم كانت الإشارة الثانية في سورة البقرة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] وتشير هذه الآية إلى تحقيق مرحلتي الوعي والاقتناع، وهما خطوتان أساسيتان من خطوات تغيير الاتجاهات Attitude change على المستوى اللفظي، ثم جاءت الإشارة الثالثة في سورة النساء في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] وهو هنا يربط الصلاة بالامتناع عن الخمر، فهو سبحانه يحض المسلمين على اتخاذ موقف عملي من الخمر بالامتناع عنها حتى تصح الصلاة، وهو في الواقع امتناع ونهي عن التعاطي؛ لأن الإنسان لا يستطيع عمليًّا أن يشرب ثم يفيق قبل حلول موعد الصلاة، ثم جاءت الخطوة الحاسمة في سورة المائدة في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]
أما الزنا فقد تدرج به الأمر من النصيحة إلى التهديد بالعقوبة إلى
تقرير عقوبة مجملة ثم إلى تقرير عقوبة مفصلة محددة، كما تدرج من عدم إكراه الفتيات على البغاء مع إباحة زواج المتعة إلى تحريم البغاء وتحريم زواج المتعة معًا، وإغلاق كل الطرق إلى ممارسة الجنس إلا الزواج المشروع المؤبد المعقود باسم الله وبنية الدوام1.
وبالنسبة للربا فقد أخر تحريمه إلى العام العاشر من الهجرة حتى اكتمل نمو الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، وبالنسبة للرق فقد اتخذ الإسلام في معالجته وسائل بطيئة جدًّا تنتهي في النهاية بتحرير الرقيق.
هذا بالنسبة لمنهج الإسلام في القضاء على سيئ العادات، أما منهجه في غرس وتثبيت ودعم العادات الصالحة المرغوب فيها فإنه وضع عدة أساليب:
أ- أسلوب الهزة الوجدانية العنيفة الموحية القادرة على تغيير البناء العقدي والتصوري عند الإنسان، واستخدم هذا الأسلوب من أجل تحويل الناس من الكفر إلى الإيمان، ويقترن هذا الأسلوب بتغيير البيئة، حيث ينتقل المسلم من بيئته الكافرة لينتمي إلى جماعة الإيمان حيث يدخل معهم في علاقات إيمانية قوامها العدل والمساواة والتآخي، ويمارس معهم شعائر الإسلام، ويستمع معهم إلى القرآن الكريم، ويشترك أعضاء الجماعة الإسلامية في الإكرام والآمال والجهاد، وهنا تصبح النماذج السلوكية الجديدة ظاهرة فردية وجماعية معًا "الاستقامة، الصدق، العدل، الإخاء.. إلخ"، فالإسلام يستثير الوجدان، ويفرض الرغبة في العمل، ثم يحول الرغبة إلى عمل وسلوك يدعمه الإيمان وتدعمه الجماعة المسلمة.
ب- الإقناع والاقتناع العقلي: فالإسلام يتضمن جانب الغيب، وهو مسألة
1 يمكن الرجوع إلى دراسة محمد قطب: مناهج التربية الإسلامية، دار الشروق، الطبعة الثانية صـ346-251.