الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقدما -من الجانب الاقتصادي والتكنولوجي- وكان إدراك أبناء الدول المتخلفة لهذه الحقيقة وعدم قدرتهم على تحمل المزيد من المعاناة، لهذا فإن حكومات هذه الدول الأخيرة أخذت بفكرة التخطيط لإحداث نمط من التغيير الاجتماعي والثقافي يطلق عليه "التحديث" modernization وليس معنى هذا أن التغيرات التحديثية سوف تتجه نحو إحلال النموذج الغربي بالضرورة westernization في الاقتصاد "الاقتصاد الحر والتصنيع" والسياسة "تعدد الأحزاب الديمقراطية الغربية" والقيم "العلمانية والعقلانية" والإعلام والتعليم والسلوك ونماذج التفكير والفصل بين الدنيا والدين
…
إلخ، فهناك عدة مسارات وغايات للتحديث لا تقتصر على النموذج الغربي على عكس ما يذهب إليه المؤرخ البريطاني "توبنيبي" toynbee الذي يرى أن كلمة عصري omdern تساوي كلمة غربي western التي يرفض الكثير استخدامها، على عكس ما يذهب إليه عالم الاجتماع اليهودي "ايزنشتادت" s.n.eisenstadt الذي يربط التحديث السياسي بصياغة نظم دستورية ديمقراطية كالتي تسود في الغرب وهو يرى أن سقوط التجربة الديمقراطية الدستورية في بعض الدول مثل باكستان والسودان -في أزمة معينة- هو سقوط لتجربة التحديث، لأنه فضل في تطبيق النظم الغربية4، كذلك فقط ربط البعض خطأ بين التحديث والصياغة الأمريكية للمجتمعات americanization وهذا لا يقل خطأ عن رأي "توينيبي" و "إزنشتادت". فهناك التجربة اليابانية وهناك التجربة الصينية وهناك التجربة السعودية وهناك تجارب كثيرة في العالم الثالث كالتجرب الهندية. وهي كلها تجارب تنطلق من إيديولوجيات ونماذج فكرية وغائية متباينة وهي تجارب ناجحة بالمعيار الاقتصادي والتكنولوجي وإن اختلفت المنطلقات والمسارات والأهداف.
التحديث وارتباطه بالتصنيع:
وسوف نعالج التحديث هنا على أنه نموذج من التغيرات الاجتماعية من خلال طرح مجموعة من التساؤلات حول متضمناته وأهدافه وأساليبه. فقد
ارتبطت عمليات التحديث من الناحية التاريخية بعملية التصنيع. ولكن هذا لا يعني أنهما مترادفتان. فالتحديث كمصطلح أكثر شمولًا واتساعًا حيث يمكن حدوث التحديث حتى في غيبة التصنيع. ويشير "آبتر" Apter في هذا الصدد إلى أن تحديث العالم الغربي اقترن بعمليات الصياغة التجارية Commercialization والصناعية Industrialization للمجتمعات الأوروبية، أما في المجتمعات غير الغربية فقد اقترنت بدايات التحديث بالصياغة التجارية والبيروقراطية. ويشير "آبتر" إلى أن التحديث في المجتمعات الغربية كان نتيجة للتصنيع، بعكس الحال في المجتمعات النامية المعاصرة نجد أن التحديث يحدث نتيجة للتصنيع، بعكس الحال في المجتمعات النامية المعاصرة نجد أن التصنيع يحدث نتيجة لاطلاق برامج مخططة لتحديث المجتمعات5.
والواقع أنه يصعب الفصل الفعلي بين التحديث والتصنيع؛ لأنهما معًا يشكلان العامل الأساسي في النمو الاقتصادي خاصة في ظل التقدم التكنولوجي في كل المجالات الصناعية والزراعية والتجارية حتى إنه أصبح يطلق على الزراعة المتقدمة وتربية المواشي والدواجن بشكل متقدم تهجين وتلقيح صناعي، وطرق متقدمة في التربية الصناعات البيولوجية، وإذا كان البعض يفصل بين التحديث وبين التصنيع فإنه يصعب وجود نماذج واقعية تدعم هذا الرأي، إلى جانب أنه يمكن النظر إلى التصنيع في المجتمعات بوصفه المدخل إلى عملية التحديث أو على الأقل بوصفه أحد عملياته أو وسائله الاقتصادية.
ويمكن تحديد مفهوم التصنيع ببساطة بأنه جانب من التنمية الاقتصادية يحدث من خلال عمليات التحويل التي تحدث للمواد والطاقة من خلال استخدام تكنولوجيات معينة. وغالبًا ما تكون مصادر الطاقة في المجتمعات الزراعية ناجمة عن قوة الإنسان وقوة الحيوان. وقد قدرت مصادر الطاقة في أمريكا سنة 1850 فوجد أن 65% منها راجعة إلى قوة الإنسان والحيوان، أما في سنة 1950 فقد وجد أن 65% من الطاقة تأتي من الوقود والقوة الكهربائية الناجمة عن مصادر مائية. Hydro - electrik وقد ارتفع متوسط استهلاك
الطاقة من 435 حصانًا في الساعة لكل شخص سنة 1850 إلى 4470 حصانًا في الساعة لكل شخص سنة 1950وقد اختلف الباحثون بشأن محاولة تحديد مراحل النمو الصناعي والاقتصادي، وربما كانت أشهر محاولة في هذا الصدد تلك التي قدمها روستو W. W. Rostow حيث حدد خمس مراحل للنمو وهي7.
أولًا: الوضع التقليدي Traditional Setting
ثانيًا: التهيؤ للانطلاق Preconitions for take off
ثالثًا: الانطلاق The take off
رابعًا: الاتجاه نحو النضج Thurst Lowards Maturity
خامسًا: مرحلة الاستهلاك الواسع High mass consumption
ولقد لقيت هذه المراحل قبولًا واسعًا في الأوساط العلمية كما أنها وجهت بالعديد من ألوان النقد*. ولعل النقد الأساسي الموجه لهذه النظرية هي محاولة تعميم محصلة التجربة الأوروبية دون دراسات مقارنة واقعية تسمح منهجيا بهذا التعميم. فهذه النظرية تربط بين تجربة التنمية الاقتصادية بالتصنيع في إطار محدد، وهذا ينطبق على بعض المجتمعات ولا يعني انطباقها على تجارب مجتمعات معينة حتمية انطباقها على كل المجتمعات.
وقد طرح في التراث الاقتصادي والاجتماعي العديد من نظريات المراحل كنماذج للتحديث تقترب من نظرية روستو في بعض الجوانب وتختلف عنها من جوانب أخرى. وهذه الاختلافات تعكس اختلاف التغيرات التحديثية من حيث محركاتها ومنطلقاتها واتجاهاتها وتوجهاتها الإيديولوجية والقوى المؤثرة فيها. ومثال هذا دراسة جون فيربانك J.K. Fairbank
* للوقوف على المزيد من التفصيلات عن نظرية روستو ونقدها ارجع إلى كتاب المؤلف بعنوان التنمية والتحديث الحضاري -الجزء الأول- الأبعاد الاقتصادية والنفسية للتنمية الاقتصادية -الجبلاوي، القاهرة 1975 ص69-83.
و"الكساندر ايكشتين A. Eckstein و"يانج" L.S. Yang في دراسة لهم بعنوان التغير الاقتصادي في الصين الحديثة: إطار تحليلي حيث ذهبوا إلى أن هناك خمس مراحل للنمو تتفق إلى حد كبير مع مشروع روستو، وهي:
1-
مرحلة التوازن التقليدي.
2-
مرحلة ظهور القوى المخلة بهذا التوازن التقليدي.
3-
مرحلة الفوضى والاضطراب واختلال التوازن الأمر الذي يستثير الميكانزمات الاجتماعية التي تسعى لاستعادة التوازن والاستقرار.
4-
الانطلاق نحو النمو.
5-
الوصول إلى مرحلة النمو الذاتي المنتظم والمستمر.
ويشير "لوير" إلى أن هذه المراحل تنطبق على التغيرات الحادثة في اقتصاديات الصين والهند وأغلب دول الشرق الأدنى باستثناء اليابان. فهذا المجتمع الأخير لم تظهر فيه مرحلة التوتر والاضطراب واختلال التوازن التقليدي بنفس الشكل والقوة الذي ظهرت بهما في مجتمعات الشرق القديم الأخرى. فقد حدث شكل من التزامن والمعاصرة بين التقليد والتحديث واستمر حتى الآن بشكل متناسق في مجتمع اليابان. ويحتاج نموذج "روستو" إلى تغيرات كبيرة عند التطبيق على مجتمعات العالم الثالث التي تعرضت للاستنزاف الاستعماري في الماضي، وما زالت تتعرض لضغوط اقتصادية وسياسية وعسكرية واجتماعية وإيديولوجية واستراتيجية من جانب الدول المتقدمة اقتصاديًا والتي تملك مقومات التنمية والتحديث التي تحتاجها الدول النامية: الخبرات، التكنولوجيا المتقدمة، العلم، رأس المال، الاتصال، هذا إلى جانب أنها تملك مختلف ميكانزمات وتنظيمات التجسس والضغط وإحداث التوترات.. وتحاول توظيف كل هذه المقومات من خلال القروض، والمعونات، برامج التسليح، المخابرات
…
لتوجيه حركة التغير المخطط داخل هذه الدول النامية في مسارات معينة، وتعويق اتجاه التغير إلى مسارات أخرى أو حتى بلوغ مراحل معينة.
والواقع أننا إذا كنا نوافق على الربط بين التنمية الاقتصادية والنمو في عمليات التصنيع كمًّا وكيفًا، باعتبار أن التصنيع هو المدخل الأساسي للإنتاج -بكل أنواعه- وبالتالي المدخل لزيادة الناتج القومي وبالتالي متوسط الدخل الفردي، فإننا نؤكد أن النمو أو التغير الصناعي ليس مجرد نمط من التغير التكنولوجي أو الاقتصادي أو تغير في ثقافة المجتمع المادي فحسب، ولكنه يمثل نمطًا من التغير الاجتماعي والثقافي كذلك بوصفه نمطًا اجتماعيًا يتطلب تغيرًا في السلوك والقيم والعادات وبعض المعتقدات، كما يرتبط بنماذج ونظم الأسرة والاتجاهات الوالدية والعلاقة مع البيئة وأساليب التفاعل معها، كما يرتبط بمضامين وتوجهات التنشئة الاجتماعية، وبالدوافع النفسية كالدافع إلى العمل والإنجاز والتحكم في البيئة وطلب العلم، ويرتبط بمستويات الطموح والتطلع والتحقيق، كما يرتبط بطبيعة النمط التعليمي السائد وتوجهاته وأهدافه ومضامينه
…
إلخ. هذا إلى جانب أن توجهات التصنيع وأنواعه وأهدافه وتوظيف عائده أمر يرتبط بالتوجهات السياسية وبناء القوة والتأثير داخل المجتمع، وبالتوجه الإيديولوجي السائد، ويرتبط بالسلوك السياسي للجماعات الاجتماعية المختلفة.
وقد اتسع مفهوم الصناعة في العصر الحديث، فهناك الصناعات الاستخراجية والتحويلية والخفيفة والوسيطة والثقيلة، وهناك الصناعات البيولوجية التهجين والتلقيح الصناعي، وهناك صناعة السياحة والفندقة، وحتى يقال صناعة الرأي العام ويقصد بها صناعة وسائل الاتصال وتكنولوجيات التعليم والتأثير في الجماهير.. وإذا كان مصطلح التحديث يرتبط بتزايد تحكم الإنسان في البيئة المادية والجغرافية وكأساليب متقدمة للتوافق الإيجابي معها، فإن التصنيع بكافة أشكاله يلعب دورًا مهمًا في هذا الصدد. وهذا يعني أن التصنيع يعد مدخلًا أساسيًّا للتحديث جنبًا إلى جنب مع المداخل الأخرى التي تحقق النمو الاجتماعي والثقافي والسياسي
…
ويمكن القول أن الاختلاف في تحديد العلاقة بين المفاهيم المذكورة-
التحديث، التنمية الاقتصادية، التنمية الاجتماعية، التصنيع
…
يرجع إلى اختلاف التوجهات الإيديولوجية، وإلى ارتباط هذه المفاهيم بالمصالح الدولية والمجتمعية -ومثال هذا، دراسة "رينهارت بندكس" R. Bendix بعنوان بناء الأمة والمواطنة8 يعرف التصنيع كنمط من التغير التكنولوجي والاجتماعي ويذهب إلى أن التحديث يتضمن كل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي صاحبت التصنيع في العديد من البلاد الغربية.
ويشير لوير Lauer إلى أن بعض الدارسين يرون جوهر التحديث يتمثل في نوعية النظام الاجتماعي Social Order الذي يوصف بالحداثة Modernity والذي يطبق داخل المجتمعات الحديثة أم حتى المجتمعات النامية في أثناء عملية تحولها من التقليدي إلى النمو والتقدم. ومن الطبيعي أن رؤية الباحث في علم الاجتماع للنظام الاجتماعي من حيث مضامينه ومحدداته وارتباطاته بالقوى الاجتماعية ومنطلقاته وعوامل قيامه وثباته وتغيره..
سوف تختلف بالضرورة عن رؤية الباحث في علم الاقتصاد أو العلوم السياسية أو علم النفس.. فهناك من الباحثين مثل "شومبيتر وماكليلاند Mc. Cleland وهيجن Hagen من يرون أن جواهر التحديث يمكن في طبيعة الشخصيات الفردية Individual Personalities. والتحديث عندهم وظيفة نتيجة وسبب في نفس الوقت لنماذج محددة من الشخصية خاصة لدى الصفوة أو القيادات في المجالات المختلفة. وقد اختلف الباحثون في تحديد أهم هذه السمات والخصائص الشخصية المرتبطة بقضية التحديث القدرات الريادية Interprenerial abilities- "شومبيتر" أم تطوير الدافعية العالية للإنجاز Development of high achievement motivation "ماكليلاند" أم انتقال الشخصية من التسلطية إلى الشخصية الديمقراطية "هيجن" أم تغير في النماذج السلوكية Behavioral models "كنكل".... إلخ9. وهناك طائفة من الدارسين يربطون بين مفهوم التحديث ومفهوم الاختيار الحر من جانب الأفراد، وهذا المتغير يرتبط بدوره بالتربية والنشاط الاقتصادي والضوابط السياسية والاجتماعية والعقيدة الدينية والقيم