الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعًا: ضرورة
إيجاد علاقة شخصية وطيدة بين المتعلم والمعلم:
وقد طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ حيث كان يجمع المسلمين في المسجد -الصحابة عليهم رضوان الله الذين صاحبوه عليه الصلاة والسلام ويوجههم ويربيهم ويرشدهم ويعلمهم مبادئ دينهم الحنيف. وهذه العلاقة لها أهميتها حيث إن القضية لا تتعلق فقط بالمعلومات وإنما تتعلق بالسلوك والقدوة. وفي أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى أهمية صحبة المتعلم لأستاذه، وأثر ذلك في تقويم السلوك وتصحيح القيم والاتجاهات.
نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين
مدخل
…
نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين:
سوف نعرض هنا نموذجا من الآراء التربوية عند كل من أبي حنيفة أكبر علماء الكوفة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ومالك بن نبي المفكر المعاصر 1905-1973م. وقد جاءت فلسفة أبي حنيفة التربوية في رسالة العالم والمتعلم ورسالته إلى عثمان البني والفقه الأبسط* ويبدأ أبو حنيفة إلى المتعلم أبي مقاتل بإيضاح ثلاثة أمور منهجية:
أ- ضرورة النظرية.
ب- ضرورة التجديد عن طريق الاجتهاد.
* كتاب العالم والمتعلم رواية مقاتل عن أبي حنيفة حيدر أباد 1958هـ ثم نشره الشيخ زاهد الكوثري بمصر 1368هـ، وكذلك نشر هذا الأخير رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البني.
-والفقه الأبسط هو رواية أبي مطيع عن أبي حنيفة نشره الكوثري كذلك. مذكور في دراسة للدكتور رضوان السيد مقدمة إلى مؤتمر التربية الإسلامية الذي انعقد في بيروت 1-16 جمادي الأولى 1401هـ وطبع كتاب بعنوان الفكر التربوي الإسلامي صدر عن دار المقاصد الإسلامية -بيروت وسوف نعتمد في عرض آراء أبي حنيفة التربوية على هذه الدراسة- التي محاضرة ألقاها الدكتور رضوان السيد في المؤتمر المذكور
جـ - المعنى الجامع للإسلام.
وفي مجال ضرورة النظرية في التربية يقول أعلم أن العمل تبع للعلم، كما أن الأعضاء تبع للبصر. فالعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير. ولذلك قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] وهو هنا يركز على أهمية الوضوح النظري ووضوح الرؤية كأساس لتجنب الانحرافات في الفكر والعمل. أما بالنسبة للأمر الثاني الذي يتعلق بمشروعية إعادة النظر والتفكير فإن أبي حنيفة يواجه فيه أولئك الذين يدعون بشكل عام إلى التزام أقوال السلف الصالح، والتنكر لكل ما لم يحدث في أيامهم. وهو يرى أن التغير في الظروف الاجتماعية يبرر مشروعية الجديد في المتغيرات الشاملة منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن هذه المتغيرات تكاثر الفرق والخصوم في الدين فإذا كف الرجل لسانه عن الكلام فيما اختلف فيه الناس وقد سمع ذلك، لم يطلق أن يكف قلبه لأنه لا بد للقلب أن يكره أحد الأمرين أو الأمرين جميعًا. فإذا تجاهل العلم ما يقع أمامه من خلافات في الرأي فإما أن يهتم بالجهالة لعدم تمييزه الخطأ من الصواب، وإما أن ينزل به من الشبهة ما نزل بغيره، وإما أن يختلط الأمر عليه فلا يدري من يحب في الله ومن يبغض في الله لعدم إمكان معرفة المصيب من المخطئ. وهذا يعنى عند أبي حنيفة كما تشير محاضرة د. رضوان السيد أن الوضوح النظري ليس فقط مقدمة للتصرف، ولكن مقدمة لكل عمل اجتماعي. والعالم المسلم الحق هو الذى يختلط بالجمهور فلا يوجد علم للعزلة ولا يكون العالم لنفسه ولا يكون العالم المسلم عالمًا إلا إذا بدأت فاعليته الاجتماعية أي تأثيره في الناس وأوجب الله على العلماء أن يبينوا العلم للناس ولا يكتموه. ومن كتمه عن أهله ألجمه الله بلجام من النار يوم القيام. وهذا يعني كما يشير المحاضر المذكور:
أ - أن العلم عند أبي حنيفة يعني الرؤية الشاملة الواضحة.
ب - يعني كذلك الفاعلية الاجتماعية بين الجمهور.
ج- ويعني ثالثًا الوضوح في التوجه والصدق في تمييز الحق من الباطل.
د- وعلى العالم هنا أن يقف إلى جانب الحق وينكر الباطل.
والأمر الثالث الذي لا بد منه لاكتمال المنهج التربوي للعالم المسلم عند أبي حنيفة، يتمثل في الفهم الصحيح للإسلام ولرسالته ولأسلوب الدعوة وأصول النقاش حتى مع المخطئين. وهو هنا يقول:"إن الله عز وجل إنما بعث رسوله رحمة ليجمع به الرفقة، وليزيد الألفة ولم يبعثه ليفرق الكلمة ويحرض المسلمين بعضهم على بعض". فعلى المسلم أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادل بالتي هي أحسن وأن يبشر ولا ينفر، وأن يوضح للمخطئين خطأهم بالحسنى ولا يتجاوز ذلك إلى القذف والاتهام والتفكير، أو تحريض فئة مسلحة على فئة بسبب الخلاف معها في الرأي. ويجب -في نظر أبي حنيفة- أن يبقى الخلاف بين العالم وخصومه خلافًا في الرأي وليس خلافًا في الدين".
وعلى العالم -عند أبي حنيفة- دعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام ودعوة المسلمين للالتزام بأحكامه، وهو يرى أن الإسلام هو جوهر جميع الديانات السماوية السابقة وهو الدين الجامع، فهو الدين الذي نادى به جميع الرسل. فهناك دين واحد منذ زمن آدم يقوم على التوحيد. وما دام الدين واحدا فاللقاء أمر ضروري بين جميع الناس لأن الدين واحد وإن اختلفت الشرائع. وعلى العالم المسلم أن يدعو المسلم والمسيحي في إطار الدين الواحد. وهذه هي الفكرة الاجتماعية والحقيقة التاريخية الأساسية التي يجب الالتزام بها. بالإسلام لم يأت به محمد -صلي الله عليه وسلم- بشكل مفاجئ ولكنه الدين التاريخي للبشرية كلها، والمتبع للإسلام إنما يدخل نفسه وبحرية واتساق مع المجرى العام للتاريخ من خلال التعامل مع الرسالة الإلهية الواحدة.
وبعد أن يعرض أبو حنيفة لقضية دين الإسلام وموقعه من التاريخ البشري، يتناول الجانب الداخلي للدين وهو الإيمان ويحدده بأنه التصديق والمعرفة واليقين والإقرار والإسلام وهو لا يجعل العلم جزءًا من الإيمان
-تعرض في هذا لكثير من الهجوم- وقد تبنى هذا الرأي معارضًا رأي الخوارج الذين أخرجوا أكثر المسلمين من حظيرة الإسلام واستباحوا قتلهم. والأصل في الإسلام عند أبي حنيفة الجمع والتوحيد والتأليف وليس التمزيق والتفريق والصراع، وهذه رسالة الإسلام ورسالة العالم المسلم -عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يفكر أحدًا من الناس بذنب. ويجب أن يظل الباب مفتوحا للعودة إلى الدين سواء بالنسبة لأداء الفرائض أو التزام الجماعة. ويجب على العالم أن يعمل على انتشار الثقة بالنفس بين المؤمنين. فالإيمان، لأن الإيمان هو التصديق والتسليم لله وهذا لا يتجزأ ولا يزيد أو ينقص.
ويؤكد أبو حنيفة أن الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، ولئن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير
…
ويؤكد كذلك أنه على المتعلم أن يدرك أن مصادر المعرفة أربعة: كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه واجتهاد قياس وإجماع. وهو يصنف الناس من أجل توضيح أسلوب تعامل العالم مع كل فئة حيث يقول الناس على أربعة أصناف المؤمن المخلص في إيمانه، والكافر الجاحد في كفره، والمنافق المداهن في نفاقه والمعاهد
…
وعلى العالم أن يراعي هذا التصنيف. ويركز أبو حنيفة على قيمة العمل وقيام المجتمع على أساس العمل -وقد كان كل الأنبياء من العاملين- وقد فعل ذلك في مقابل بعض الدعاوي إلى ترك الدنيا واعتبار هذا أفضل من التكسب فيها وأوجه الكسب عنده الإمارة والتجارة والزراعة والصناعة أما العلم فليس وسيلة للكسب عنده حفاظا على قيمة العلم والعالم. وأشار إلى ضرورة محاسبة العالم لنفسه ومراقبة سلوكه الشخصي والعام وتقوى الله وأداء الأمانة والنصيحة، ذلك أنه قدوة للمتعلم وللناس. وكانت له آراء في سلوك المتعلم فقد ذكر أنه يحسن إلا يتزوج وإلا يمتهن مهنة إلا بعد التحصيل العلمي الأساسي وهذا يعني التفرغ للعلم في الشباب، وليس معنى عدم الاهتمام بالمال، ولكن يجب العمل على
تحصيله من الحلال للاستغناء به عن وجهاء المجتمع والسلطة. وقدم العديد من النصائح التربوية التي يجب أن يلتزم بها العالم والمتعلم للحفاظ على كرامة العلم والعلماء والحصول على ثقة الناس فيهم*. ومن هذا يتضح أنه كان لأبي حنيفة رؤية تربوية منهجية واضحة في تربية العالم وسلوك المتعلم وأساليب التحصيل العلمي وأسلوب التنشئة الاجتماعية التربوية السليمة وأخلاقيات العالم وأسلوب الدعوة وأسلوب الحوار ومصادر العلم.. مما يتفوق على الكثير من النظريات التربوية المعاصرة.
وإذا انتقلنا لعرض موجز سريع لأهم التصورات التربوية عند مالك بن نبي وتصوره لكيفية استعادة الشعوب الإسلامية المعاصرة مجدها الأول كما كان في صدر الإسلام، فإنه يرى أن إيديولوجية التغير وإعادة البناء هي إيديولوجية التغير والبناء نفسها التي انطلق منها المجتمع العربي في صدر الإسلام إذ إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده. وقد كانت آراء مالك بن نبي موضوع رسائل علمية منها رسالة علي القريشي بعنوان الأسس التربوية للتغير الاجتماعي عند مالك بن نبي والتي سوف تقتطف منها أهم التصورات التربوية عند هذا المفكر المسلم. وهو يرى أن هناك أسسا تربوية للوصول إلى الحضارة. وهو يرى أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها. ويرى لتحقيق هذه الغاية أنه يجب معالجة ثلاث مشكلات أولية للتغير الحضاري وهي: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب "الإمكانات الطبيعية" ومشكلة الوقت "عنصر الزمن". ولتحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات العربية يجب العودة للبنية التي شكلت من خلالها الفكرة
* مثل التزام الجلوس في المسجد وعدم الجلوس في الطرقات أو أمام المحلات، وعدم الأكل في الأسواق، وعدم مخالطة التجار والوجهاء ورجال الديوان في البداية تجنبا لإساءة الظن بالعالم، وعدم مجالسة أهل الأهواء إلا على سبيل الدعوة للدين وعدم مجالسة ذوي الجاه والشراء يجب الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجب على العالم أن يكون فقيه الجمهور وأن يتجنب السلطان ولو كان عالمًا عادلًا.. هذه الصفات وغيرها ذكرها رشوان السيد في المحاضرة التي أشرنا إليها.
الإسلامية والتجربة التأسيسية للمجتمع الإسلامي. وهذا يعني أن نقطة الانطلاق عنده هي الفكرة الدينية ويصنف مالك مراحل تغير الحضارة حيث يرى أنها تمر بثلاث مراحل هي:
أ- مرحلة النهضة وهي مرحلة بداية الصعود التي تتمثل في سيادة الروح.
ب- مرحلة الأوج أو القمة وهي مرحلة الانتشار والتوسع وسيادة العقل.
ج- مرحلة الأفول والانحدار والتدهور وهنا تسود الغرائز.
ولهذه الدورة الحضارية مضامين تربوية.
ففي المرحلة الأولى يبرز ذو دور الصفوة بوصفهم الدعاة إلى الروح الجديدة. وهذه المرحلة كما يذكر مالك، تربوية وليست تعليمية حيث يكون التركيز على بناء الشخصية وليس على البناء العلمي.
أما المرحلة الثانية: وهي مرحلة العقل فإنها تتمثل في اللجوء إلى العلم والحوافز العلمية التي فرضها الانتشار الحضاري، وهنا يسود التفرغ للماديات والأمور العقلية نتيجة لتعقد حاجات المجتمع.
وتأتي المرحلة الثالثة: نتيجة للصراع بين العقل والضمير الذي يقضي إلى المرحلة الغريزية. وهو يرى أن المجتمع الإسلامي المعاصر يعيش في هذه المرحلة. ففي غياب الروح والعقل تسيطر الغرائز على سلوك الناس، حيث تظهر عدة خصائص كاللفظية والجمود، والسلبية والقابلية للاستعمار، وفقدان مشكلات الواقع، وهو يرى أن هذه المراحل ليست حتمية -كما هو الحال عند ابن خلدون، حيث يفسح فيها مجال للإرادة استنادًا إلى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ويوضح ابن نبي الموجهات التربوية التي يعتبرها أسس التغير الاجتماعي، وهي:
أ- الفعالية كقيمة أساسية في التغير.
ب- المضمون التربوي للأفكار المتغيرة.
ج- الاتصال باللغة المربية وخلق المبررات.
د- أهمية المجتمع كوسيط تربوي.
هـ- أهمية العلم والتعليم.
ويؤكد أن الأفكار الليبرالية والماركسية هى إنعكاس لواقع معين -حضاريًّا أو إيديولوجيا، وهي غير مجدية لواقعنا العربي. وهو يحدد الثقافة بأنها تتضمن العادات والأذواق والقيم التي تسهم في تشكيل الشخصية وتحدد دوافع الفرد وانفعالاته وصلاته بالناس والأشياء ويشير إلى محددات الشخصية، فالشخصية لا تشكل من خلال المدرسة فحسب، ولكنها تحدد من خلال مختلف عوامل البيئة والوسط الثقافي الذي يعيش الفرد. والتخلف عنده هو حاصل ضرب اللافعالية الضرورية في مستوى مجموع الأفراد.
ويشير مالك إلى أن الثقافة كنظرية في التغير وإعادة البناء لا بد أن تصاغ صياغة تربوية معتمدة على العناصر الآتية:
أولا: التوجه الجمالي: فالقبح يعبر عن التخلف، والإحسان صورة نفسية للجمال وعلى التربية الجمالية أن تنطلق من منطلقات أخلاقية.
ثانيا: التوجه الأخلاقي: فقوة المجتمعات وضعفها أمر يرتبط بشكل وثيق بتوجهاتها الأخلاقية. وهو يركز على ربط العلم بالأخلاق وعلى المفاهيم الإسلامية كالإخاء والتعاون والإخلاص
…
ثالثا: التوجه العقلي ويشير إلى استخدام المنطق العلمي.
رابعا: التوجه العلمي والصناعي ويركز على التوجيه المهني والتربوي بحيث يكون التوجيه العلمي والتكنولوجي ضمن تصميم ثقافة النهضة على نحو تربوي وتعليمي مدروس.
وقبل أن يعرض مالك لأساليب إعادة البناء الاجتماعي يشير إلى أزمات الواقع العربي الراهن وأهمها محاولات التجريب المستمرة والغياب