المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نحو مدخل إسلامي للتنمية - بناء المجتمع الإسلامي

[نبيل السمالوطي]

فهرس الكتاب

- ‌ال‌‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌فهرس

- ‌الفصل الأول: الأسس البنائية للمجتمع الإسلامي

- ‌مقدمة

- ‌العقيدة بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المعارضة:

- ‌المفهوم القرآني للعقيدة:

- ‌الفكر الاجتماعي الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌ نفي الحرج

- ‌ قلة التكاليف

- ‌ التدرج في الأحكام

- ‌ مسايرة مصالح الناس

- ‌ تحقيق العدالة بين الناس

- ‌أهداف الشريعة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌ تهذيب الإنسان بالعبادات

- ‌ إقامة العدل في الجماعة الإسلامية

- ‌المصلحة

- ‌مدخل

- ‌ مرتبة الضروريات:

- ‌ مرتبة الحاجيات:

- ‌ مرتبة التحسينات:

- ‌أسس العلاقات الاجتماعية الصالحة

- ‌العدل واجتناب الظلم

- ‌ طاعة أولياء الأمور في غير معصية:

- ‌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

- ‌ التخلق بالأخلاق الإسلامية:

- ‌التربية الإسلامية الصحيحة

- ‌مدخل

- ‌ التربية الإسلامية تربية تكاملية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية متوازية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية سلوكية وعملية:

- ‌ التربية الإسلامية تجمع بين الفردية والجماعية:

- ‌ التربية الإسلامية تركز على تقوية جانب المراقبة لله:

- ‌ التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان:

- ‌ التربية الإسلامية توجه الإنسان نحو الخير:

- ‌ التربية الإسلامية تربية مستمرة:

- ‌ التربية الإسلامية تتسم بالعالمية والشمول:

- ‌ التربية الإسلامية محافظة ومجددة:

- ‌العلاقة بين العقيدة والشريعة

- ‌مدخل

- ‌ الجوانب السلوكية التي تحدد العلاقة بين الإنسان وربه

- ‌ الجوانب السلوكية الذاتية والاجتماعية

- ‌مصادر الفصل الأول

- ‌الفصل الثاني: الدراسة السوسيولوجية للنظم الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌تعريف النظام الاجتماعي:

- ‌خصائص النظم الاجتماعية

- ‌لكل نظام وظيفة أو مجموعة من الوظائف يؤديها داخل المجتمع

- ‌ يرتبط النظام بفكرة المعايير أو القواعد الضابطة للسلوك

- ‌التزام الناس بهذه القواعد يرتبط بفكرة الجزاءات الاجتماعية

- ‌ النظام هو السلوك الاجتماعي الذي يعترف به أبناء المجتمع

- ‌ أغلب النظم تتسم بدرجة عالية من التعقيد

- ‌ الترابط الوظيفي

- ‌ لكل نظام اجتماعي مجموعة من العناصر

- ‌أنواع النظم الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ من حيث العمومية والخصوصية:

- ‌ من حيث الاستمرار والعرضية أو الوقتية في الحدوث:

- ‌ من حيث التلقائية والتقنين:

- ‌ من حيث المشروعية وعدم المشروعية:

- ‌ من حيث الهدف:

- ‌من حيث ما إذا كان النظام أساسي أو فرعى

- ‌ النظم الاختيارية والنظم الإجبارية

- ‌ يضيف بعض العلماء

- ‌أهداف النظم الاجتماعية:

- ‌تصنيف النظم الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ النظم الاقتصادية والحكومية:

- ‌ النظام العائلي:

- ‌ نظام الدين:

- ‌ نظام التعبيرات الجمالية والعقلية والترويح:

- ‌أهمية دراسة النظم الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ تدخل النظم الأساسية في تكوين البناء الاجتماعي

- ‌ تكشف النظم الاجتماعية للمجتمع عن أساليبَ لمواجهة حاجاته الجماعية

- ‌ تعد دراسة النظم الاجتماعية هي الأساس الأول للدراسة المقارنة بين المجتمعات

- ‌ تعد الدراسة العلمية للنظم الاجتماعية هي الأساس الأول لمواجهة المشكلات الاجتماعية

- ‌النظم وأوزانها داخل البناء الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌ التيار الماركسي الملحد

- ‌ التيار الديني أو القيمي

- ‌مصادر الفصل الثاني

- ‌الفصل الثالث: النظام العائلي

- ‌الأسرة

- ‌الأسرة أهميتها ووظائفها

- ‌أسس بناء الأسرة في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ التعرف:

- ‌ الرضا الكامل الذاتي من الطرفين

- ‌ الكفاءة:

- ‌ المهر:

- ‌الحقوق والواجبات الزوجية

- ‌نظام الأدوار والمراكز الاجتماعية داخل إطار العلاقات الأسرية

- ‌مدخل

- ‌ حقوق الزوجة على الزوج:

- ‌ حقوق الزوج على زوجته:

- ‌ حقوق الأولاد:

- ‌نظام المحرمات من النساء في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المحرمات بسبب القرابة

- ‌ المحرمات بسبب المصاهرة

- ‌ المحرمات بسبب الرضاعة:

- ‌نظام التحريم على سبيل التأقيت:

- ‌النظام الإسلامي في مواجهة الخلافات والمشكلات الأسرية:

- ‌النظام الإسلامي لإنهاء العلاقات الزوجية مع محاولات العلاج:

- ‌الإسلام وقضية تعدد الزوجات:

- ‌مصادر الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابع: النظام التربوي

- ‌مقدمة

- ‌نماذج قرآنية للتربية:

- ‌نماذج من أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام:

- ‌أهداف التربية الإسلامية:

- ‌ميادين التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الميدان الأول تلاوة الآيات

- ‌الميدان الثاني التزكية

- ‌الميدان الثالث تعليم الكتاب

- ‌الميدان الرابع تعليم الحكمة

- ‌أهم الأسس العامة التي تقوم عليها التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌ التربية الإسلامية تحقق النمو المتكامل المتوازن لشخصية الإنسان:

- ‌ التربية الإسلامية تحقق للإنسان التوازن:

- ‌ التربية الإسلامية تربية فكرية وسلوكية وعملية معا:

- ‌تجمع التربية الإسلامية بين الطابع الفردى والاجتماعي معا

- ‌التربية الإسلامية تنشيء الفرد على مراقبة الله سبحانه

- ‌ التربية الإسلامية تحافظ على فطرة الإنسان النقية وتعلي غرائزه الفطرية:

- ‌ التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الخير:

- ‌ التربية الإسلامية تربية مستمرة:

- ‌ التربية الإسلامية تربية عالمية منفتحة:

- ‌التربية الإسلامية تجمع بين المحافظة والتجديد

- ‌أساليب التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌ أسلوب القدوة الصالحة:

- ‌ أسلوب الترغيب والترهيب:

- ‌ أسلوب التوجيه والموعظة الحسنة:

- ‌ أسلوب العقاب الفعلي:

- ‌ أسلوب القصة:

- ‌أسلوب التربية السلوكية باقتلاع العادات السيئة

- ‌ استخدام الأساليب الحسية:

- ‌ أسلوب النقاش والحوار

- ‌ أسلوب المحاولة والخطأ:

- ‌ أسلوب استخدام الأحداث والظروف والمواقف في مجال التعليم:

- ‌ توجيه طاقات الإنسان في مساراتها الصحيحة:

- ‌ أسلوب استثمار وقت الفراغ:

- ‌التربية الإسلامية وقضية الصحة النفسية

- ‌مدخل

- ‌ المعيار المثالي:

- ‌ المعيار الإحصائي:

- ‌ المعيار الحضاري:

- ‌ المعيار السيكولوجي أو الطبي النفسي:

- ‌ المعيار الإسلامي الصحيح:

- ‌مؤشرات الصحة النفسية بالمفهوم الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌ الإيمان الكامل اليقيني بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره

- ‌ التوافق الاجتماعي مع الغير:

- ‌ التوافق الذاتي:

- ‌ الشعور بالسموِّ والعزة والعلوِّ والقدرة على مواجهة الصعاب والأزمات

- ‌ الشعور بالرضا والسعادة:

- ‌ القدرة على العطاء والإنجاز والعمل:

- ‌مبادئ التعلم في النظرية التربوية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌ الربط بين النظرية والتطبيق:

- ‌ مراعاة استعدادات المتعلم وقدرته الاستيعابية والإدراكية:

- ‌ تكوين الاتجاهات قبل الفهم واستيعاب المعلومات:

- ‌ تسهيل العملية التعليمية وتيسير حصولها:

- ‌التعزيز من خلال الاستفسار والمراجعة والمناقشة

- ‌مدخل

- ‌ التطور، سنة من سنن الحياة:

- ‌ التبصر في التراث وإعمال العقل وعدم التقليد الأعمي:

- ‌ الانفتاح العقلي على مختلف التجارب والخبرات البشرية

- ‌ التكامل بين العلم والإيمان:

- ‌ التكامل بين العقل والنقل أو الإيمان بالغيب ومنطق العلم:

- ‌ ضرورة أن يكون العلم موجهًا لما يرضي الله سبحانه:

- ‌ ضَرُورة العمل على نشر العلم وتعليم الناس:

- ‌ استمرارية التعلم وعدم تقيده بسن:

- ‌ إيجاد علاقة شخصية وطيدة بين المتعلم والمعلم:

- ‌نماذج من الآراء التربوية عند المسلمين

- ‌مدخل

- ‌ المستوى الفردي

- ‌ المستوى الاجتماعي العام

- ‌ المستوى الإنساني

- ‌مصادر الفصل الرابع

- ‌الفصل الخامس: النظام الاقتصادي

- ‌مقدمة

- ‌المنظور الإسلامي للمال أو الثروة المادية:

- ‌أساليب تحصيل الثروة والأموال

- ‌مدخل

- ‌ التجارة:

- ‌ الزراعة:

- ‌ الصناعة:

- ‌دعوة الإسلام إلي الاستثمار

- ‌مدخل

- ‌ دعوة الإسلام إلى العمل:

- ‌ تحريم الاكتناز والاستغلال:

- ‌ تحريم الاستثمار الاستغلالي:

- ‌الأسس البنائية للاقتصاد الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌الاتفاق مع الطبيعية البشرية

- ‌ تحقيق التوازن بين الفرد والجماعة وبين دوافع الإنسان:

- ‌ الضوابط الاقتصادية:

- ‌ إطلاق الطاقات الاستثمارية وتشجيع النشاط الاقتصادي المنتج:

- ‌ الحيلولة دون التضخم المرضي للثروات الخاصة:

- ‌ المجتمع الإسلامي يقضي على الفقر ويعالج مشكلة الاحتياج:

- ‌نظام الملكية في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌واجبات التملك

- ‌مدخل

- ‌ أداء الزكاة التي فرضها الله سبحانه:

- ‌ أداء واجبات التكافل الاجتماعي:

- ‌ضوابط الملكية الخاصة في الإسلام:

- ‌أساليب اكتساب الملكية

- ‌مدخل

- ‌ الكسب بالانتظار:

- ‌ العمل:

- ‌ المخاطرة:

- ‌ الزرع وإحياء الأرض الموات:

- ‌ العقود الناقلة للملكية:

- ‌ الميراث:

- ‌نظام المعاملات المالية في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌نظام الزكاة: فلسفتها وأهدافها الاجتماعية:

- ‌علاقات العمل في الإسلام:

- ‌الواقعية الاقتصادية في الإسلام -تكافؤ الفرص وتفاوت الثروات

- ‌العدالة الاقتصادية في الإسلام:

- ‌أسلوب مواجهة الإسلام للمشكلات الاقتصادية

- ‌مدخل

- ‌مواجهة الإسلام لمشكلة الفقر

- ‌مدخل

- ‌ بيت مال المسلمين

- ‌ الزكاة:

- ‌ النفقات الواجبة:

- ‌ مواجهة الإسلام لمشكلة التمايز والصراع الطبقي:

- ‌ مواجهة الإسلام لمشكلة البطالة:

- ‌تحقيق الاستقلال الاقتصادي للمجتمع الإسلامي:

- ‌التوجيه الاقتصادي في الإسلام:

- ‌الوظائف الاقتصادية للدولة طبقا للنظام الاقتصادي الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌ حالات الاحتكار والاستغلال والإضرار:

- ‌ في حالة الربح الفاحش:

- ‌ في الحالات التي تستدعيها الضرورة:

- ‌مسئولية الدولة عن الأموال العامة:

- ‌مسئولية الدولة في مجال الضمان الاجتماعي ومعاونة الفئات المحتاجة

- ‌الملكية العامة في الإسلام وضوابطها

- ‌مدخل

- ‌ أرض الحمى:

- ‌ الأراضي الزراعية المفتوحة:

- ‌الفكر الاقتصادي في التراث الإسلامي:

- ‌مصادر الفصل الخامس

- ‌الفصل السادس: قضايا التحديث والتنمية في علم الاجتماع مع طرح مدخل إسلامي مقترح

- ‌مقدمة

- ‌التحديث وارتباطه بالتصنيع:

- ‌التحديث والتغير الاجتماعي

- ‌التحديث الحضاري: شروطه، نماذجه، معوقاته

- ‌اتجاهات دراسة التحديث في الدول النامية

- ‌تحديث البناء الاجتماعي-التحديث الفردي

- ‌التحديث وقضية الالتزام الجماهيري بقضايا المجتمع والتنمية

- ‌نماذج من المعوقات الاستراتيجية أمام تحديث الدول النامية

- ‌التحديث والتنمية

- ‌العلاقة بينهما ومداخل الدراسة

- ‌مدخل

- ‌البعد العقائدي أو الإيديولوجي

- ‌ بعد النظم الاجتماعية:

- ‌ البعد التنظيمي:

- ‌ البعد الثقافي:

- ‌ البعد النفسي:

- ‌ بُعْد الإمكانات المتاحة:

- ‌ بُعْد المناخ الدولي أو النسق العالمي:

- ‌نحو مدخل إسلامي للتنمية

- ‌مصادر الفصل السادس

الفصل: ‌نحو مدخل إسلامي للتنمية

لعرض المدخل الإسلامي لدراسة وفهم التنمية الاجتماعية الشاملة.

ص: 322

‌نحو مدخل إسلامي للتنمية

يمكن القول أن الدين الإسلامي عقيدة وشريعة يعد منطلقًا للتنمية الاجتماعية بمفهومها الشمولي حيث إن الإسلام اهْتَمَّ بالإنسان الذي كرمه الله واستخلفه في الأرض ورسم له أسلوب عزته وسموه وتفوقه، كما اهتم بالجماعة والمجتمع حيث رسم لهما عوامل التكامل والتكافل والتقدم والنمو في جميع الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويمكن إيجاز أهم جوانب الارتباط الوثيق بين الإسلام وقضايا التنمية كما سبق أن حددتها في النقاط التالية:

أولًا: ارتبط خلق الإنسان -كإنسان- في الدين الإسلامي بالتكريم والرفعة والعزة، وليس أدل على هذا من أن الإنسان فيه نفخة من روح الله إلى جانب العنصر الترابي. وهذا يعني أن الجنس البشري منذ خلقه هو أفضل المخلوقات عند الله، وجدير به أن يعمل وأن يكون على هذا المستوى من التكريم الإلهي حتى أن الله يباهي به الملائكة في مواقف معينة:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة} [البقرة: 30]، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] .

ثانيًا: ارْتَبَطَ وُجُودُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ بِتَنْمِيَةِ الْأَرْضِ وَتَعْمِيرِهَا بعد عبادة اللَّهِ سبحانه وتعالى قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] . وقال أيضًا: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] . وقد حمل سبحانه وتعالى بني آدم في البر والبحر ليؤدوا واجباتهم المفروضة عليهم وهي واجبات الاستخلاف والقيادة والتعمير والتنمية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] .

ثالثًا: ارْتَبَطَ خَلْقُ اللَّهِ سبحانه وتعالى للبشر ذكورًا وإناثًا وجماعات

ص: 322

وقبائل وشعوبًا بالتعارف والاحتكاك ثقافيًّا، والتعاون على البر والتقوى وتحقيق الاستفادة المتبادلة من خبرات بعضهم البعض:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13] .

رابعًا: أعلى الإسلام من قيمة العمل باعتباره أنه السبيل إلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، وهو الوسيلة إلى إشباع حاجات الإنسان المشروعة وهو السبيل إلى تعمير الأرض والتنمية في كل المجالات والعمل الذي يعلي الإسلام قدره ويرفعه إلى مراتب العبادة، وهو ذلك العمل المشروع البعيد عن الانحرافات، والعمل المتقن الذي يخلص فيه العاملون. وقد وصف الله نفسه بأنه صانع يتقن صناعته كما يتقن كل شيء ويحسن كل شيء خلقه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} [النمل: 88] ويقول تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} [السجدة: 7] . ويقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، ويلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى يقرن في الكثير من المواضع بين الإيمان والعمل الصالح:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والعمل الذي يقصده الإسلام يتسع ليشمل العمل العقلي والعمل اليدوي المقترن بالتفكير معًا وهما السبيل الصحيح للتنمية يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191] . وتحض التوجيهات النبوية الشريفة على عمل اليد: "ما من نبي إلا وكان يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده".

"من بات كالًّا من عمل يده، بات مغفورًا له".

وليس من المصادفة أن جميع أنبياء الله كانوا من العاملين إعلاء لقيمة العمل وتقديرًا لأهله، فيروى أن نوحًا كان نجارًا وإدريس خياطًا وموسى

ص: 323

راعيًا، ومحمد راعيًا وتاجرًا عليهم جميعًا صلاة الله وسلامه. ويتعهد الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يحاسب على عمل الإنسان وأنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} [الكهف: 30] .

خامسًا: يربط الإسلام بين العمل والعلم، فالعمل الصالح هو الذي يستند إلى العلم السليم، ويعلي القرآن في أكثر من موضع من قدر العلم والعلماء ويؤكد أهمية طلب العلم، ومن المعروف أن العلوم النظرية والتطبيقية هي السبيل إلى التقدم والتنمية في كل مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والعلوم في الإسلام ليست قصرًا على العلوم الدينية فقط ولكنها تمتد لتشمل كل العلوم التي تدرس الجماداتِ والنباتات والحيوان والإنسان، فالعلم في الإسلام هو مطلق العلم بشرط ألا ينطلق من منطلقات مغرضة أو منحرفة مثل العلوم العنصرية مثلًا وهدف العلم التوصل إلى الحقائق والقوانين التي تحكم الظواهر، وهي كلها شواهد على عظمة الله سبحانه وتعالى في كل مجال وحدة المكونات العضوية -وحدة القوانين الطبيعية

تدل على وحدانية الخالق- وهدف العلوم في الإسلام تحقيق مصالح الناس في دنياهم وتحسين ظروف حياتهم المعيشية وهذا هو جوهر التنمية بمفهومها الشمولي: فقد سخر الله سبحانه وتعالى كل ما في السموات والأرض للإنسان ودعاه للانتفاع بها ولا يكون ذلك إلا بالمعرفة العلمية الدقيقة قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان: 20] وقال تعالى في سورة إبراهيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [ابراهيم: 32، 34] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ويوجهنا الإسلام إلى ضرورة العمل بمقتضى هذا التسخير من

ص: 324

خِلال فهم الظواهر وما يحكمها من قوانين حتى يستفيد من هذه الظواهر في حياته ويستخدمها لصالحه. ويحثنا القرآن الكريم على التفكير وإعمال العقل في كل الظواهر: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} [آل عمران: 191] وتبين سورة الواقعة عظمة الله الخالق وتدعونا إلى الفهم الحقيقي للكثير من الظواهر التي هي خلق من خلق الله بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58- 59] . ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63- 64]، ويقول تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة: 68-72] . ويقول تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] . وفي هذه الآيات الكريمة دعوة صريحة للبحث العلمي والتفكير في مجالات علوم الحياة والأرض والمناخ والزراعة والماء والأجنة والطاقة والفلك

إلخ، وهناك العديد من الآيات التي تدعونا للتفكير والبحث في المعادن:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} الآية. [الحديد: 25] . وكيف ينتفع به الناس أن لم يفهموا خواصه والقوانين التي تحكمه؟ ويدعونا القرآن الكريم إلى البحث في داخل الإنسان: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: 21] وهذه دعوة إلى البحوث البيولوجية والنفسية والفسيولوجية والباثولوجية والطب النفسي والعقلي

إلخ. ويقول تعالى في سورة فصلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} [فصلت: 53] ونجد نفس التوجيهات للتفكير والبحث والفهم في مختلف سور القرآن الكريم مثل سورة "يس" وغيرها من السور ويعلي الإسلام من قيمة العلماء ويرفعهم فوق مرتبة العباد. يقول تعالى في سورة الزمر: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 91] ويقول تعالى في سورة المجادلة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ويقول عليه الصلاة والسلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".

ص: 325

سادسًا: سبق الإسلام كل المواثيق العالمية الحديثة إلى إعلان حقوق الإنسان على نحو لم تصل إليه أية مواثيق وضعية. فقد طفت المسألة على السطح بعد الحرب العالمية الثانية حيث صدرت وثيقة عالمية لإعلان حقوق الإنسان في 10/ 12/ 1948، كما عقدت الاتفاقية الأوروبية سنة 1950 في روما لحماية حقوق الإنسان، وعقدت الاتفاقيات الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/12/1966. وعقد أخيرًا المؤتمر الدولي الأول لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية والذي نظمه المعهد الدولي الأول للدراسات الجنائية عقد في إيطاليا سنة 1979، وذلك بعدَ أن فشلت المواثيق الوضعية في مواجهة المشكلات العالمية ومحاولة البحث فيما يمكن أن يقدمه الإسلام والعالم الإسلامي في هذا الموضوع35 وترتبط التنمية ارتباطا جوهريًّا بقضية حقوق الإنسان، طالما أن الهدف الأساسي من التنمية تحسين ظروف حياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية وتحريره من كل الضغوط البيئية والاجتماعية وإشعاره بالعدل والمساواة وإتاحة الفرص المتكافئة أمام الجميع وتأمينه ضد كل أنواع الاستغلال والاستبداد والتمييز العنصري وجعله يستمتع بالحريات الشخصية في حدود عدم الإضرار بالغير أو الاعتداء على حقوقه عامة

إلخ. وإذا حاولنا معرفة حقوق الإنسان في الإسلام والتي تستمد من النصوص المقدسة التي هي في مرتبة أعلى من الدساتير والمواثيق الدولية الوضعية نجد أنها كثيرة وشاملة وعميقة وفي مقدمتها مبدأ الكرامة الإنسانية بغض النظر عن الجنس واللون واللغة والدين أو الانتماءات الاجتماعية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} [الإسراء: 70] . ذلك المبدأ الذي جاء به الإسلام قبل أكثر من 1350 عامًا من وروده بصور أقل عمقًا وتأصيلًا في الفكر السياسي العالمي. وهناك مبدأ وحدة الإنسانية يقول عليه السلام: "كلكم لآدم وآدم من تراب" ويقول تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الآية. [النساء: 1] وحققت الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِن

ص: 326

بِالْمَعْرُوفِ} الآية. [البقرة: 228] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِن} الآية. [النحل: 97] . وأقر الإسلام قبل كل المواثيق الوضعية الدولية والمحلية حق الإنسان في الحياة، تحريم القتل إلا بالحق وإقرار حق القصاص:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب} [البقرة: 179] . وهناك نصوص كثيرة تشير إلى حق الإنسان في الحياة الكريمة الآمنة التي تكفل له الحماية من الظلم، يكفي أنه في الحديث الشريف:"إن الله حرم على نفسه الظلم وجعله بينكم محرمًا فلا تظالموا، وإن الظلم ظلمات يوم القيامة". وأكد الإسلام حق الإنسان في المعاملة الكريمة والمحاكمة القضائية العادلة وضمانات في حالات الخطأ، وأكد حق الإنسان في المعيشة الكريمة من خلال توفير أساسيات المعيشة كالسكن والغذاء والتعليم والعلاج، وحقه في تكوين أسرة واختيار الشريك فيها بحرية، وأكد حقوق الأطفال الراشدين وكبار السن والرجال والنساء داخل الأسرة بشكل متوازن عادل36، وحقوقهم داخل المجتمع. وأكد الإسلام الحق في الملكية في إطار ضوابط معينة وفي الحماية القضائية وفي العمل وفي الضمان الاجتماعي عند العجز أو الحاجة -وأوجبت الشريعة الإسلامية حق التشاور حيث جعلت الشورى فريضة اجتماعية وسياسية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] ونبذت الإكراه حتى في الدين: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] وهذا هو حق الإنسان في ألا يكره على شيء. ولا نستطيع حصر حقوق الإنسان في الإسلام ويكفي أن نشير إلى أن تحققها هو في جوهره تحقيق للتنمية الاجتماعية في أعلى مستوياتها.

سابعًا: يدعو الإسلام الناس إلى الإنتاج والعمل على استثمار الموارد المتاحة لهم سواء أكانت مادية أم مالية أم بشرية وتوظيفها بما يحقق أعلى عائد ممكن في إطار ضوابط محددة ومحكمة تحقق التوازن بين صالح الفرد وصالح الجماعة- ونلاحظ أن المنظور الإسلامي للثروة المادية يعد جزءًا

ص: 327

أساسيًّا من صلب العقيدة الإسلامية، وقد جَعَلَ الْإِسْلَام للثروة - بكل أشكالها- وللمال مكانه كبيرة وأعطاها القيمة الواقعية التي يستحقها، حتى إن القرآن الكريم وصف المال بأنه زينة الحياة الدنيا وسوى في ذلك بينه وبين الأبناء، ووصف الأموال بأنها قوام للناس من معاشهم ومصالحهم الخاصة والعامة.

والإسلام يدعو إلى تحصيل الثروة والأموال من خلال مختلف الأساليب المشروعة، وفي هذا دعوة إلى التنمية الاقتصادية بأعمق صورها. وأساليب تحصيل الثروة والمال في الإسلام متعددة، فهناك التجارة:{لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 1-2] وهناك الزراعة حيث يوجهنا القرآن الكريم إلى إحياء الأرض وزراعتها واستثمارها يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24- 32] . وقد دعا الإسلام إلى إحياء الأرض الموات فقد أفاض الفقهاء في هذه الناحية وهناك باب خاص بذلك في كتب الفقه ويقول عليه السلام: "من أَحيا أرضا ميتة فله رقبتها"، وقد انصراف المسلمون إلى إحياء الأرض الموات تحت تأثير هذا التوجيه الكريم وبدافع التملك والربح الحلال الذي حث الإسلام عليه. وهناك الصناعة وفي القرآن الكريم توجيهات إلى التنمية الصناعية بكل أشكالها في إطار ضوابط شرعية. فقد أشار القرآن الكريم إلى صناعة الحديد:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] وصناعة الملابس: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26] ومثل صناعة المعمار والتشييد والبناء: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] . وينبه القرآن إلى السعي وابتغاء فضل الله في الأرض بمختلف الأساليب والوسائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ولم يأمر سبحانه وتعالى بالانصراف عن تحصيل الثروة بالأساليب المشروعة إلا للعبادة، فإذا قضيت الصلاة فإن الناس مدعوون إلى الانتشار في الأرض

ص: 328

واستثمار كل طاقاتها، من خلال التفكير والعلم المثمر. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] .

وإذا كان الإسلام يعلي من قيمة العمل المثمر والاستثمار في كل المجالات، فإنه يضع من الضوابط ما يحول دون المشكلات والجوانب السلبية التي تنجم عن غياب الضوابط والقيم الحاكمة كالاستغلال والصراع بكافة أشكاله والتمزق في العلاقات الاجتماعية والانقسام الطبقي الحاد وتزايد حجم الحقد واتجاه الأغنياء نحو مزيد من الغنى، والفقراء إلى مزيد من الفقر مما يفتح الطريق أمام ممارسة السلوك الانحرافي بكل صوره وأشكاله "دعارة وقتل وسرقة وعنف وإدمان واعتياد وانحراف الأحداث وانحرافات فكرية وعقائدية

إلخ". وكل هذه الأمراض الاجتماعية تنجم عن إطلاق التنمية الاستثمارية دون ضوابط حاكمة. يقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] وتتضح دعوة الإسلام إلى استثمار الموارد المختلفة من عدة أمور مثل الدعوة إلى العمل بوصفه العامل الأساسي في عملية الإنتاج: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] ويقول تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] والدعوة إلى تجنب الاستثمار الاستغلالي الذي يقوم على الربا والاحتكار لما لها من آثار ضارة على المجتمع والأمن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي لأعضائه، وتحريم الاكتناز والاستغلال:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} [التوبة: 34] .

ثامنًا: تقوم التنمية الاقتصادية في الإسلام على أسس بنائية، عقائدية وأخلاقية واجتماعية. وأهم هذه الأسس هي ما يلي27:

أ- أن الْمُلْكَ كُلَّهُ لله سبحانه وتعالى أساسًا وأن الإنسان مستخلف فيه من

ص: 329

أجل التعمير والتنمية وأداء حقوق الله والعبادة -وتتمثل هذه الواجبات في آداء فرض الزكاة وواجبات التكافل الاجتماعي- والتملك الفردي يجب أن يكون من خلال الأساليب المشروعة غير الانحرافية، وأهم أساليب التملك المشروع: العمل والمخاطرة بالكسب والخسارة، والزراعة وإحياء الأرض الموات، والعقود الناقلة للملكية بأنواعها المختلفة من بيع وهبة، والخلافة بميراث أو وصية.

ب- الاقتصاد الإسلامي يتفق مع الطبيعة البشرية حيث يتيح الفرص للاستمتاع بالطيبات، ويدعو للتملك والعمل والاجتهاد والاستثمار والثراء، بشرط عدم الإضرار بالغير، وتحقيق الصالح العام، وتجنب المحرمات.

ج- تحقيق التوازن بين حاجات الفرد والحاجات الجماعية، ويظهر هذا في نبذ التبذير والإسراف، وفي الحث على الاستثمار والتملك، والملكية في نظر الإسلام ليست ذات طابع فردي مطلق، كما أنها ليست ذات طابع جماعي مطلق. ففرديتها تظهر في إقرار الإسلام للملكية الفردية وحمايتها من كل اعتداء عليها، أما جماعيتها فتظهر من خلال تقييد نموها واستخدامها بمصالح الجماعة أو الصالح العام.

د- الضوابط الأخلاقية للتنمية الاقتصادية في الإسلام، وهنا تظهر أخلاقية الاقتصاد الإسلامي، فالعنصر الأخلاقي ليس متضمنًا بالضرورة في جوهر عملية التنمية الاقتصادية في ذاتها، كما يشير إلى ذلك "بونسيون" ponsioen ،38 ولكنه يرتبط بها إذا وضعت التنمية الاقتصادية في إطار نظام عقائدي أشمل يحقق هذه الأخلاقية، كما هو الحال في النظام الإسلامي، وتتمثل هذه الضوابط الاقتصادية للسلوك الاقتصادي في الإسلام في عدة أمور مثل: تحريم اكتناز الأموال، وضرورة الاستثمار في المجالات التي تعود بالنفع على الفرد وجماعته ومجتمعه، وأداء فريضة الزكاة وواجبات التكافل الاجتماعي، والصدقات، والامتناع عن

ص: 330

ممارسة الربا والغش والاحتكار والاستغلال، وعدم استخدام الثروة للإضرار بالآخرين، أو للحصول على جاه أو سلطة أو مركز اجتماعي من خلال أساليب مرضية كالرشوة بشكلها المباشر وغير المباشر "الهدايا"، والالتزام بنظام الميراث، والبعد عن الإسراف والتقتير، وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه الضوابط الأخلاقية للتنمية الاقتصادية.

هـ- إطلاق الطاقات الاستثمارية،وتشجيع النشاط الاقتصادي المنتج،فقد نهى الإسلام عن البطالة، ونبذ مبادئ التوكل والاكتناز والربا لما لها من آثار ضارة على الفرد والمجتمع، ولم يوجب الإسلام النفقة للفقير القادر على العمل؛ حتى لا يركن إلى الكسل والخمول.

و يحول الاقتصاد الإسلامي دون التضخم المرضي للثروات الخاصة، حتى لا يكون أسلوب توزيع الثروة عاملًا من عوامل التمزق والصراع الذي يهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمجتمع، فإذا كان الاقتصاد الإسلامي يشجع على التملك، ويكفل حمايتها بكل السبل، فإنه وضع ضوابط للحد من التوسع في الثروات الخاصة من خلال مجموعة من الأساليب نذكر منها: الالتزام بالأساليب المشروعة لجمع الثروة والتملك، ولا يجب توظيفها في خدمة صاحبها على حساب مصالح الآخرين بأي شكل "رشوة، احتكار، ربا، استغلال" وضرورة أداء حق الله فيها "زكاة وتكافل وصدقات"، وتطبيق نظام الميراث الإسلامي من خلال توزيعها على المستحقين شرعًا.

ز- يقضي الإسلام على مشكلات الفقر والعوز والاحتياج؛ لأن قدرًا كبيرًا من الأمراض والصراعات الاجتماعية تنجم عن وجود قطاعين متناقضين في المجتمع، أحدهما متخم من الثراء والقدرة المالية، والآخر لا يجد قوت يومه وقوت أسرته.

وهذا هو المدخل الذي تدخل منه الدعوات الانحرافية والاتجاهات الاجتماعية المضللة الهدامة كالماركسية مثلًا، وقد كفل الاقتصاد الإسلامي

ص: 331

معالجة هذه المشكلة من خلال الدعوة إلى العمل لكل قادر عليه ورفعه إلى مرتبة العبادة، وأوجب الزكاة وواجبات التكافل والصدقات، والدعوة إلى مبدأ المشاركة في الرزق الفائض "من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له"، هذا إلى جانب مختلف الضوابط السابق الإشارة إليها.

ويذهب الاقتصادي الفرنسي "جاك أوستروي" في دراسة له بعنوان "الإسلام أمام التطور الاقتصادي"39 إلى أن الاقتصاد الإسلامي نظام وسط، وهو ينتقد المذاهب الاقتصادية بقوله:"إنه لا توجد طريقة وحيدة ضرورية للتنمية الاقتصادية كما تريد أن تقنعنا المذاهب القصيرة النظر في النظامين الرأسمالي والشيوعي حيث يدعى كل منهما أنه يمثل المنهج الاقتصادي الأمثل"، ويؤكد "أوستروي" ضرورة الاستفادة بما يطلق عليه المذهب الثالث في الإسلام الذي يقف موقفًا وسطًا بين المذاهب الفردية والجماعية، ويجمع بين حسنات كل المذاهب الاقتصادية المعاصرة، إلى جانب أنه يتغلب على جميع الصعوبات الاقتصادية التي يقف الاقتصاد الحر عاجزًا عن معالجتها.

تاسعًا: ينظم الإسلام علاقات العمل تنظيمًا دقيقًا متقنًا يحقق العدل، حيث يطالب العاملين بالإتقان في العمل ومراقبة الله سبحانه وتعالى قبل الخوف من رقباء الدنيا، قال عليه السلام:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، كما يقضي الإسلام من صاحب العمل أن يحدد للعامل مقدار العمل الذي سيكلف به، ومقدار الأجر، وأن يمنحه أجره بمجرد أداء العمل، وأن يكون حجم العمل على قدر ما يستطيعه العامل بحيث لا يؤدي إلى الإضرار بالعام صحيًّا أو اجتماعيًّا، يقول عليه الصلاة والسلام:"من استأجر أجيرًا، فليعلمه أجره"، قال عليه السلام:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، ويقول عليه السلام: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس،

ص: 332

ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم، فأعينوهم"، وللفقهاء حديث طويل حول علاقات العمل في الإسلام، وقد ذهب بعض الباحثين كالإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" إلى أنه على ولي الأمر أن يضمن عملًا لكل عضو قادر على العمل من أبناء المجتمع، واستنتج ذلك من أن الرسول عليه السلام "أعطى رجلًا قدومًا ودرهمًًا وأمره أن يحتطب"، أما بالنسبة للعجزة والشيوخ فإن من واجب الدولة تأمين حاجتهم المعيشية كاملة، وهكذا سبق الإسلام مفاهيم التأمين والضمان الاجتماعي، ولكن بشكل أكثر تحديدًا وانضباطًا، فالإسلام يؤمن الإنسان على أكله وشربه ولبسه ونفقات أسرته من خلال العمل، ويؤمنه ضد البطالة والعجز والشيخوخة، وللفقهاء حديث حول أسلوب تحديد الأجر، فكل أجر لا يفي العامل حاجاته الأساسية "المأكل، والمشرب، والمسكن، والملبس"، ولا يقره الإسلام، وإلى جانب هذه الحاجات الأساسية ينبغي أن يؤمن للعامل متطلبات النمو الاجتماعي المشروع: كالتعليم، ومواجهة الأمراض من خلال العلاج

إلخ40.

عاشرًا: يقوم الاقتصاد الإسلامي على أساس واقعي أخلاقي، فهو يؤكد أهمية التعاون والتكافل من أجل التنمية والاستثمار وتحقيق التقدم والتوازن الاجتماعي، غير أن هذا ليس معناه تحقيق المساواة الحسابية الكاملة بين الناس، وجعل الأغنياء والفقراء سواء -كما يدعي بعض أصحاب المذاهب الاقتصادية الوضعية الطوبائية- فالإسلام دين الفطرة يعترف بالواقع، وبالتفاوت بين الأفراد في الملكات والمذاهب والذكاء والقدرات والجهد، فلكل سعيه وجهده ومقدرته وخبرته، وقد بحث بعض الفقهاء مثل أبي عبيد القاسم في كتابه "الأموال"، وأبي يوسف في كتابه "الخراج" في القوانين الاقتصادية على أساس تحقيق العدالة الاجتماعية والفرصة المتكافئة بين الناس عامة41، مع ترك المواهب والقدرات الذهنية والبدنية تعمل في نطاق الغاية العظمى وعدم التعسف، قال عمر بن الخطاب:"الرجل وبلاؤه، الرجال ووفاؤه، الرجل وقدمه، الرجل وحاجته".

ص: 333

ويقر الإسلام حقيقة التفاوت الفطري بين الناس في القدرات والاستعدادات والأرزاق والثروات، قال تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْق} [النحل: 71]، ويقول تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] ، وهذا التفاوت هو الدافع إلى العمل والاجتهاد والسعي وبذل الجهد؛ للتنمية، وتحسين الأحوال، ومدخل للتنافس الشريف الذي يحقق المزيد من التنمية، والذي يعود بالمصلحة على الفرد والمجتمع معًا. ويضبط الإسلام هذا التنافس بضوابط محكمة تحول دون تحوله إلى صراع مدمر كما حدث في التجربة الأوروبية للتنمية خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كما تحول دون التعارض مع الفطرة كما حدث في تجربة التنمية في الدول الماركسية.

حادي عشر: للإسلام أسلوبه المتميز في مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فمواجهة مشكلة الفقر تقوم على عدة أسس منها: تمكين كل قادر على العمل أن يعمل، وهذا واجب من واجبات الدولة، سواء أكان العمل يدويًّا أو ذهنيًّا، وقد كرم الإسلام كلًّا من العملين حتى لا يكون هناك احتقار للعمل اليدوي، وبالتالي لا يوجد تفاوت بين الناس مصدره طبيعة العمل، فكل الأعمال مكرمة طالما أنها شريفة42، والإسلام يتيح الفرصة لكل ذي موهبة وقدرة من الانتفاع بموهبته وقدرته، وفي هذا ما يحقق النمو للفرد وللمجتمع معًا، وبالنسبة للعاجزين عن الكسب بسبب الشيخوخة أو المرض أو الأنوثة أو الصغر أو اليتم، فإن الإسلام يؤمن لهم حياة كريمة عزيزة عن طريق عدة مصادر منها: الزكاة المفروضة، والنفقات الواجبة، والكفارات، والصدقات، ثم هناك بيت مال المسلمين، وللفقير حق في هذا المال يعطى منه بانتظام43، ويواجه الإسلام مشكلة التمايز والصراع الطبقي حيث يوضح حقيقة أن الإنسان هو أكرم المخلوقات، وأن الله قد كرمه:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} الآية. [الإسراء: 70] ، وأن الناس كلهم يرجعون إلى أصل واحد وهو آدم، وآدم من تراب، وأن معيار التمايز بين البشر ليس هو اللون أو الثراء أو

ص: 334

الجاه أو السلطان

إلخ، لكنه هو التقوى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} [الحجرات: 49]، فالفقر والغنى في نظر الإسلام حقيقتان من حقائق الوجود الإنساني:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] . أما المعيار الثاني للتمايز بين البشر فهو العلم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وقد عمل الإسلام على معالجة الطبقية القائمة على أسس اقتصادية من خلال نظم الزكاة والنفقات وكفالة الدولة للفقراء والمحتاجين من العجزة الذين ليس لهم أقارب أغنياء، ومن خلال ضوابط الملكية الخاصة، ومن خلال الحيلولة دون تضخم الثروات عن طريق الميراث الشرعي، كما عالج مشكلة الطبقية النفسية "الغرور والكبر" عن طريق العبادات حيث تسوي بين الفقير والغني، وحيث يشعر الجميع بالخضوع لله سبحانه وتعالى، والعبادات تهذب النفوس، وتؤكد التضامن بين المسلمين، أما الطبقية القائمة على التفاوت المعرفي، فإن الإسلام يستخدم مصطلح الدرجات، ويوظف العلم في خدمة الدين والدنيا بشرط أن يكون ملتزمًا بالأطر الإسلامية، فقد استعاذ رسولنا عليه السلام من شر علم لا ينفع، وأفضل الناس من تعلم العلم وعلَّمه.

كذلك، فالإسلام يواجه مشكلة البطالة والتسول، بالدعوة إلى العمل لكل قادر عليه، بوصفه الأساس للتمايز بين الناس:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} الآية. [فصلت: 33] . وهو السبيل إلى تعمير الكون، وتحقيق التقدم والتنمية، وقد وجه القرآن الكريم أنظار المسلمين إلى تسخير الله كل ما في الأرض والسموات والبحار للإنسان، وما على الناس بعد هذا إلا السعي والعمل لاستغلال هذه الموارد الاقتصادية، والتمتع بزينة الحياة الدنيا وطيباتها في إطار ما رسمه الله من ضوابط، ويرى الفقهاء أن من واجب الحاكم الإسلامي تأمين العمل لكل قادر عليه، وعلى الدولة تأمين وسائل العمل للعمال، بغض النظر عن درجة بساطتها وتعقيدها، وقد خول الإسلام للحاكم أن يلزم أصحاب العمل بتشغيل العمال إذا امتنعوا عن ذلك ظلمًا، كما أجاز

ص: 335

له إلزام العاملين الراغبين عن العمل الذي يجيدونه على ممارسة هذا العمل إذا قتضت المصلحة ذلك، "وهذا ما ذكره ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكيمة"، فبعض الأعمال قد تكون فرض عين على بعض الأشخاص القادرين عليها في حالة الاحتياج إليها، وعدم وجود غيرهم، وللفقهاء كلام دقيق في هذه الجوانب، وينبه الإسلام إلى خطورة البطالة لما يمكن أن تؤدي إليه من انحرافات فكرية وسلوكية، فقد قال الإمام أحمد:"إذا جلس الرجل ولم يحترف دعته نفسه إلى أن يأخذ ما في أيدي الناس". والإسلام يحارب البطالة في كل أشكالها -بشرط القدرة على العمل- حتى لدى غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية -واقعة مع اليهودي- وهذا من شأنه توجيه الطاقة البشرية داخل المجتمع نحو التنمية والعمل المنتج المثمر44.

ثاني عشر: يسعى الإسلام إلى القضاء على التبعية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع المسلم، وهذا هو غاية التنمية الاقتصادية والاجتماعية كما تعالجها جميع الاتجاهات النظرية المتصارعة، فالمبدأ الإسلامي الذي يذهب إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والحياة الاقتصادية تتطلب ثلاثة أنشطة وهي الزراعة والصناعة والتجارة، ولهذا وجب تنمية هذه المجالات والتنسيق بينها45 بشكل يحقق النمو والاستقلال الاقتصادي، وقد أوضح ابن تيمية في كتابه "الحسبة" أن واجب الدولة أن تتداخل بالتنظيم والإجبار؛ لإيجاد حاجات الأمة من الصناعات والزراعات والمرافق المعاشية العامة، وإعداد من يصلحون لها ويقومون بها، ويشير ابن تيمية "إلى ضرورة تدخل الدولة في تحديد أجور العمال، وتحديد أسعار السلع في حالة المغالاة"، وهذا ما ذكره الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة"، وهذا يشير إلى أن الإسلام سبق كل الاتجاهات الحديثة في الأخذ بمبدأ التوجيه الاقتصادي، وتطبيق الاقتصاد الموجه تحقيقًا للتوازن بين الفردية والجماعية، وتحقيقًا للنمو الاقتصادي والاجتماعي للإنسان والمجتمع في ضوء العدالة والمساواة والأخوة بمفهومها الإسلامي الصحيح، وليس بالمفهوم الليبرالي أو الماركسي القاصر.

ص: 336

ثالث عشر: اهتم الإسلام بالتنمية التعليمية والتربوية بشكل واضح، فالعلم كما سبق قيمة كبرى من قيم الإسلام، ومعيار أساسي للتمايز بين الناس، وأول سورة نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدأت بكلمة:"أقرأ"، واهتم الإسلام بمحو الأمية والتعليم، لدرجة أنها كانت مدخلًا للتحرر من الأسر في الحروب، وقد تحدث بعض الفقهاء أنه يجب إتاحة الفرصة أمام الجميع لإظهار مواهبهم وقدراتهم، واستثمارها في خدمة المصلحة الخاصة والعامة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال نظام تربوي تعليمي متدرج46، فالمرحلة التعليمية الأولى تكون عامة للأمة كلها، ولا يتخلف عنها أحد "مرحلة إجبارية". ويدخل المرحلة الثانية من لديه القدرة على متابعة الدراسة، أما من وقفت به استعداداته عند المرحلة الأولى، يدخل إلى مجال العمل المناسب حيث يكون منهم العاملون بأيديهم في الزراعة والعمارة والتجارة والصناعات اليدوية وغير ذلك مما لا يحتاج إلى تخصص مهني دقيق، أما من ينهي المرحلة الثانية من التعليم فإما أن يكون لديه القدرة على متابعة التعليم في المرحلة الثالثة حيث التخصص المهني الدقيق، فنون الطب والعسكرية والقضاء.. إلخ، وإما أن يتوقف ويتجه إلى مجالات العمل الفني التي تحتاجها الأمة "أعمال نصف ماهرة" كالصناعة والمحاسبة، ولا يدخل المرحلة الثالثة إلا من تؤهله قدراته لهذه المرحلة المتخصصة الدقيقة، والتي تؤهل بعد التخرج لتولي الوظائف التخصصية العليا، وهذا النظام يتيح أمام الجميع فرصة متكافئة للتعليم، وفرصة متكافئة للعمل في مجالات يحتاجها المجتمع من جهة وتتفق مع قدراتهم وميولهم واستعداداتهم من جهة أخرى، وعلى الدولة العمل على تأهيل أبناء المجتمع حسب ميولهم وحسب حاجة الأمة، وإذا تركت الأمة هذا العمل باءت بالإثم، وقد ذكر الإمام الشاطبي في كتابة "الموافقات" أن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة أفراد الأمة جميعهم، فبعضهم قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلًا لها، والباقون إن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين، وهذا يعني أن الإسلام أوجب على الحاكم تأهيل جميع أعضاء المجتمع حسب ما يناسبهم وما يستطيعون

ص: 337

القيام به47، وبهذا سبق الإسلام كل النظم التربوية الحديثة التي تحاول الاقتراب من هذه الفكرة في مجال الحديث عن تنمية التعليم.

رابع عشر: والحديث عن تنمية التعليم يقود إلى تنمية الشخصية، وقد سبق أن ذكرنا أن هناك مدخلًا مطروحًا في التنمية، أطلقنا عليه المدخل السيكولوجي، يربط أنصاره بين التنمية ونماذج الشخصية، ومثال هذا "أفريت هيجن E. Hagen" الذي يحاول علاج التنمية الاقتصادية من خلال أساليب نفسية، يربط بين النمو الاقتصادي وبين الشخصية الابتكارية Creative Personality48، "ودافيد ماكليلاند D. Mc Clelland" الذي يرى أن الشخصية هي المحرك الأول للتغير والتنمية الاقتصادية وهو يؤكد على الروح الريادية "interpreneurial spirit"، وهو يربط بين التنمية وبين الشخصية المنجزة التي لديها الحاجة إلى الإنجاز "The need for achievement"، ونفس الشيء بالنسبة "لشومبيتر" الذي يربط التنمية الاقتصادية بالقدرات الريادية التي يتمتع بها رجال الأعمال، وإذا حاولنا فهم الشخصية الإسلامية كما يحددها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكما أفاض فيها الفقهاء نجد أنها تجمع كل هذه الخصائص إلى جانب شيء مهم وأساسي وهي أن هذه الخصائص "الإنجاز، الابتكارية، حب العلم والعمل، القدرة على مواجهة المشكلات، الدقة، الصدق، الأمانة

إلخ" تنبثق من الإيمان بالله، وتنطلق من دوافع إيمانية تمثل قوة دفع كبيرة أقوى من كل الدوافع والمنطلقات الوضعية، وقد حدد الإسلام أساليب تربية هذه الشخصية من خلال القدوة الحسنة، والترغيب والترهيب، والتوجيه، والقصة، والمحاولة والخطأ

إلخ.

وتحدد التربية الإسلامية مُثُلًا عليا وقيمًا نهائية أمام النشء والشباب، وهذا هو أهم ما يحتاج إليه الشباب "القيم، المثل، القدوة"، وهذا أن الشخصية الإسلامية قادرة على إطلاق حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل أقوى من كل النماذج التي تحدث عنها أنصار الاتجاه السيكولوجي في التنمية50.

ص: 338

خامس عشر: وإذا انتقلنا إلى مجال التنمية الصحية فيكفي القول أن الإسلام هو دين النظافة والقوة، فالنظافة من الإيمان، وهناك الكثير من التوجيهات الإسلامية للعناية بالصحة، والأخذ بأساليب الإرشاد الصحي والوقاية والتداوي أو العلاج، والبعد عن كل ما يفسد الصحة كالسكر وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير، فالتوجهات المتعلقة بالوضوء، والطهارة، وتجنب الحائض، والاهتمام بالرضاعة الطبيعية للأطفال، وتوجيه الناس إلى التداوي أو العلاج، والبعد عن كل ما يفسد الصحة كالسُّكْر وأكل الدم والميتة ولحم الخنزير.. فالتوجيهات المتعلقة بالوضوء، والطهارة، وتجنب الحائض، والاهتمام بالرضاعة الطبيعية للأطفال وتوجيه الناس إلى التداوي بما هو حلال طيب، وأن الله لم يوجد داء إلا وخلق له الدواء، والأمر يتجنب اللواط والزنا.. كل هذا دعوة إلى الاهتمام بالصحة والتنمية الصحية، وقد ثبت أن الابتعاد عن هذه التوجيهات الإلهية يوقع الإنسان في التهلكة، ويكفي أن نشير في هذا إلى أن أخطر أمراض العصر "الإيدز"، والأمراض النفسية الكبرى، والسرطان، ينجم عن الابتعاد عن التوجيهات الإسلامية51.

سادس عشر: وللإسلام تصوره الواضح لأساسيات النظام السياسي، فالإسلام يعتمد الشورى منهجًا للتعامل السياسي، ويترك التفصيلات لظروف كل مجتمع، وهو بهذا ينبذ الاستبداد والتسلط، ويأمر الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام بالشورى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159]، ويصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، وينبه الإسلام إلى ضرورة محاربة المنكر: "من رأى منكم منكرًا، فليغيره

" الحديث، ويقول عليه السلام:"الساكت عن الحق شيطان أخرس"، ويوجب الإسلام إعمال قاعدة مهمة في الحكم إلى جوانب الشورى، وهي قاعدة العدل:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، والإسلام يحارب الظلم، ويحدد الإسلام بشكل دقيق طرق اختيار الحاكم، والشروط الواجب توافرها في الحاكم، ووظائف الحاكم، وطبيعة الدولة

إلخ، وهكذا حقق الإسلام أرقى أشكال التنمية السياسية قبل أن تعرفها الدول الحديثة، تلك الدول التي لم تصل إلى عظمة التطبيق الإسلامي لقيامها على اجتهادات وضعية، ومن عظمة الإسلام أنه يضع المبادئ العامة في بعض الأمور كالشورى، ويترك لكل مجتمع

ص: 339

حرية التطبيق بما يتفق مع ظروفه وتاريخه وثقافته في إطار المبدأ والأساس.

سابع عشر: وقد حدد الإسلام نظمًا للإدارة تحدد أقصى درجات التنمية والتقدم الإداري، وتقوم على مجموعة من القيم الدينية والمنطلقات الإيمانية، مما يجعلها أقوى في التطبيق من كل القواعد الوضعية للتنمية الإدارية، وتقوم الإدارة الإسلامية على عدة أسس أهمها، المساواة: فالمسلمون سواسية كأسنان المشط، والشورى:{وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ} ، وسيادة القانون، وتطبيق العدالة دون مراعاة للحسب أو النسب أو الغنى والفقر أو اللون..، ويركز الإسلام على أساليب التعامل مع الغير "العلاقات الإنسانية"، ومراعاة المصلحة العامة والاهتمام بمصالح الآخرين، وتيسير مصالح الناس "تيسير الإجراءات وتحقيق المصالح"، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به" رواه مسلم: "3/ 1458"، وينهى الإسلام عن التسلط والكبرياء، ويؤكد الإسلام مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، وضرورة انتقاء الرؤساء والولاة بدقة، بشرط ألا يكون الرجل حريصًا عليها، يقول عليه الصلاة والسلام:"إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه" أخرجه مسلم: "3/ 1456"، ويحرص الإسلام على أهمية الوفاء بالعهود، ويؤكد قيم الصدق والعدل والكفاية، وينبذ التعقيد الروتيني والتفرقة في التعامل، وأهم شيء في الإدارة الإسلامية عنصر مراقبة الله في السر والعلن.. وفي مجال إتقان العمل والإنتاج، فقد نسب الله الإتقان وإحسان العمل لنفسه، وأمرنا ديننا بإتقان العمل:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، ويأمرنا ديننا كذلك بالمطابقة بين القول والعمل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون}

الآية، وهنا يؤكد أهمية القدوة الحسنة، ومسئولية الراعي عن الرعية:"كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته" أخرجه مسلم: "3/ 1459"، وينهى الإسلام عما يطلق عليه حديثًا أمراض البيروقراطية كالرشوة:"لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم"، والتعقيد والتعسف:"ألا هلك المتنطعون"، وينهى عن المحاباة: "من ولي من أمر

ص: 340

المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم" أخرجه أحمد، وقال عليه السلام: "من ولاه الله عز وجل من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره" رواه أبو داود: "122/2"، وهذا كله يشير إلى أن الإسلام أول من وضع أسس الإدارة العلمية والإنسانية التي تقوم على مجموعة من القيم الإيمانية، والقادرة على تحقيق الكفاية الإنتاجية، والكفاية النفسية والاجتماعية بشكل متكامل52.

ثامن عشر: هذا وقد عالج الإسلام قضايا العلاقات الدولية ومشكلات الديون معالجة قديمة تحقق النمو المتوازن لجميع الأطراف دون جور أو عدوان، أو اختلال في التوازن الاقتصادي سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى العالمي، ويكفي أن ننظر إلى أزمة الديون في الدول النامية لنرى كيف أن الشروط المجحفة التي ارتبطت بالديون أو القروض التي صرفتها الدول المتقدمة اقتصاديًا إلى الدول النامية هي التي أدت إلى الأزمة العالمية المعاصرة، وإلى أزمات الكساد المتكررة التي عانى منها العالم المعاصر، وتتمثل هذه الشروط في فرض فوائد باهظة وشروط معينة لإنفاق القرض، وإجبار الدول المقترضة على استخدام القرض في مشروعات محددة تخدم مشروعات في الدول المقرضة.. وتراكم الديون وفوائدها أدى ببعض الدول "مثل المكسيك" إلى إشهار إفلاسها، وإعلان دول أخرى مثل أراجواي وغيرها من دول أمريكا اللاتينية الخروج على كل الأعراف والقواعد الدولية والامتناع كليًّا عن سداد الديون إنقاذًا لشعوبها من الجوع والإفلاس53، وكما سبق أن أشرنا فإن نتائج عجز الدول النامية عن سداد الديون بفوائدها الباهظة لم تقتصر على الدول النامية، ولكنها أدت إلى مشكلات اقتصادية وأزمات اجتماعية داخل الدول الدائنة ذاتها*. والحلول

* يذكر د. محمد شوقي الفنجري في مقال له بعنوان "مديونية العالم النامي المستعصية وحلها الإسلامي": أن ديون المكسيك بلغت عام 1986 نحو مائة مليار دولار عجزت عن سدادها وسداد فوائدها، وقد أثرت على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أو بآخر، فعندما خفضت المكسيك وارداتها؛ لتوفير العملة الصعبة؛ سدادًا لديونها هبطت الصادرات الأمريكية للمكسيك بنسبة تزيد على 50%، وطبقًا لما ذكره مجلس التنمية لما وراء البحار اختفت نحو ثلثمائة ألف فرصة عمل أمريكية منذ سنة 1982 نتيجة لذلك. انظر المقال المذكور في المراجع.

ص: 341

التي تقدمها الدول الدائنة حلول فاشلة ليس من شأنها القضاء على المشكلة مثل جدولة الديون وتمديد فترة السداد، وأحيانا تفرض الهيئات الدولية حلولًا تؤدي إلى المزيد من المشكلات والأزمات مثل رفع الدعم. وتخصص أغلب الصادرات والموارد الرئيسة للدولة لسداد الديون.. إلخ. وقد قال بعض الاقتصاديين الغربيين أن الاقتصاد العالمي لن يصلح إلا إذا وصل سعر الفائدة إلى صفر، وهذا هو الحل الإسلامي الذي ينادي بتطبيق القرض الحسن، وينادي بالمشاركة في المشروعات والأرباح بأشكال مختلفة، وينادي بالتعاون من أجل صالح الجميع ورخاء الجميع، وهذا هو ما تحاول المؤسسات الاقتصادية الإسلامية تطبيقه.

من كل ما سبق نجد أن الإسلام يضع لنا أسس التنمية الاقتصادية والتعليمية والصحية والإدارية والسياسية والاجتماعية بشكل سليم، والفرق الرئيسي بينها وبين التنميات الوضعية أنها تنطلق من دوافع دينية ومنطلقات إيمانية وقيم موجهة تكفل لها عنصر الاستمرار والنجاح في مواجهة المشكلات والأزمات المحلية والعالمية، وكل قطاع من قطاعات التنمية في الإسلام يحتاج إلى دراسات وأبحاث، وليس هذا الفصل سوى دعوة للمزيد من الجهد والتعمق نظرًا وتطبيقًا، وما يهمنا هنا الإشارة إلى أن نموذج التنمية الإسلامية يختلف تمامًا عن النماذج الإيديولوجية المطبقة والمطروحة في دراسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، النموذج الليبرالي، والنموذج الاشتراكي، والنموذج المختلط، والنموذج الإسلامي ليس نموذجًا وسطًا فحسب، ولكنه له أصالته الذاتية في نظرته للإنسان والمجتمع والحياة

ص: 342

والعالم والكون والمستقبل وقوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية، ولا يمكن اعتبار الإسلام مجرد بناء إيديولوجي في مجال التنمية، مثله مثل الإيديولوجيات الوضعية؛ ذلك لأنه يصوغ بناء ثقافيًّا شاملًا، كما يصوغ منهجًا متكاملًا في الحياة، وكما يشير "إلياس بايونس" و"فريد أحمد" في مؤلفهما الصغير حول "مقدمة في علم الاجتماع الإسلامي" فإن الإسلام ليس مجرد صيغة من الشعائر الشكلية، ولكنه عملية طاعة لحكم الله في إطار علاقة الإنسان بالله، والعلاقة القائمة بين الناس سواء في مجال الأسرة أو الحكم والاقتصاد والتعليم والترفيه والتكاثر، وكل تلك الأمور التي تضمن استمرار الحياة الاجتماعية المتكاملة والمتفاعلة على وجه الأرض54، ويشير الكاتبان إلى أن الدول الإسلامية التي حاولت على مدى أكثر من ربع قرن اتباع أساليب رأسمالية أو اشتراكية في التنمية، لم تختف داخلها مشكلات التخلف، إلى جانب وقوعها في مشكلات مزعجة مثل مشكلة الديون، وهي مشكلة عويصة، لدى الدول التي تأخذ بالأسلوب الرأسمالي في التنمية، ومشكلة العجز البيروقراطي والتسلط الذي نجم عنه تبديد الموراد الوطنية وغرس الإحساس بالغربة بين العمال، لدى الدول التي تأخذ بالأسلوب الاشتراكي في التنمية، والنتيجة تعريض الاستقلال السياسي الذي كافحت من أجله الشعوب للخطر55، وقد أشار "ميردوك Merdock" إلى عنصر الفساد "الرشوة والاختلاس والغشّ في الأموال الحكومية، والتحايل على القوانين، والحصول على خدمات غير قانونية، والتعقيدات الروتينية في بعض الدول النامية، التي أطلق عليها مصطلح الدول النامية"، ويرى "بايونس" و"فريد أحمد" أن معظم الدول الإسلامية تندرج تحت هذا التصنيف56. وهذه الأمراض السياسية والبيروقراطية من شأنها تعويق عمليات التنمية داخل هذه الدول.

ويتميز النموذج الإسلامي للتنمية، فوق ذاتيته المتميزة والمستمدة من تطبيق الشريعة التي أرادها الله للإنسان منهجًا وأسلوب حياة، فإنها تحقق

ص: 343

الإشباع المتوازن لحاجات الإنسان المادية والروحية، وكما يقول الباحثان المذكوران أن أي جهد يخلو من إرضاء الجانب الروحي في الإنسان، لا يخلف وراءه إلا الإحساس بالمرارة وعدم الرضا، رغم كل مظاهر التقدم المادي التي يمكن تحقيقها57. والنموذج الإسلامي يرفض التطرف بكل أشكاله المادية "الغربية والماركسية"، والروحية -الرهبنة، وإذلال الجسد، وعدم التمتع بكل الطيبات والزينة الحلال- وهذا يعني أن هذا النموذج يركز على توفير بيئة سياسة واجتماعية واقتصادية قادرة على إشباع مطالب الإنسان المادية والروحية بشكل متوازن، ولعل غياب هذا الأمر هو الذي يفسح المجال للتطرف بكل أشكاله المادية والروحية، وإذا كان علم الاجتماع لم يستطع أن يصبح حتى الآن علمًا موضوعيًّا بعيدًا عن الانحيازات الإيديولوجية إلا في أقل القليل، وفي بعض المجالات، فإن التنمية تتضمن بالضرورة أحكامًا قيمية ومعيارية؛ لأنها تشير إلى إحداث تحولات من حالة غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب فيها، وهنا يصبح على المشتغلين بعلم الاجتماع من المسلمين تحقيق نوع من الالتقاء الضروري بين علم الاجتماع الذي يفترض فيه الحيدة العلمية، وبين متطلبات الشريعة الإسلامية، خاصة عند صياغة استراتيجية التنمية وبرامجها وأهدافها، يضاف إلى هذا، فإنهم مطالبون بالإسهام في رسم استراتيجية التغير الاجتماعي وتوجيهه بما لا يتعارض مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية، وهم مطالبون ثالثًا بتشخيص المشكلات الاجتماعية في الدول النامية وتفسيرها في ضوء معطيات الإسلام وحقائقه، ورسم سبل مواجهتها بما يتفق -أو على الأقل بما لا يتعارض- مع الشريعة الإسلامية، وهم مطالبون رابعًا بالإسهام في إرساء الأسس الاجتماعية للدعوة الإسلامية استنادًا إلى حقائق الإسلام ومعطيات العلوم الاجتماعية الحديثة فيما يتعلق بديناميات العلاقات الاجتماعية، وأسس بناء وتغير القيم والاتجاهات والسلوك، وديناميات ممارسة القوة والتأثير داخل المجتمعات

ص: 344