الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهناك واجبات تفرضها الشريعة على الدولة الإسلامية تسمى بفروض الكفاية كإنشاء دور العلم والمصانع والمستشفيات
…
وهو يقع على عاتق الجماعة كلها. ويرى الفقهاء أن الدولة يجب أن تقوم بالأنشطة الاقتصادية التي يعجز عنها الفرد -كالصناعات الثقيلة والسكك الحديدية- أو التي يعزف عنها الأفراد لكثرة التكاليف وقلة الأرباح مثل: استصلاح الأراضي البور. وللدولة أن تتولى الأنشطة الاقتصادية التي يخشى من تركها للأفراد أن ينحرفوا أو يقصروا مع ما لها من أهمية كالتعليم والعلاج. ويجوز لولي الأمر أن يخصص الملكية الجماعية ويقيد الانتفاع بها إذا اقتضى ذلك الصالح العام، وقد فعل ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما خصص جانبا من أرض الكلأ المباحة للجميع -في منطقة النقيع- وجعلها خاصة لخيل الجيش وإبله59.
الفكر الاقتصادي في التراث الإسلامي:
سبق علماء المسلمين في بحث القضايا الاقتصادية التي اهتم بها علماء الاقتصاد في العالم الغربي بقرون طويلة، فقد بحث المفكرون المسلمون قضايا العرض والطلب ونظرية القيمة وقضية التبادل الاقتصادي ومسائل الأسعار والارتباط بين القضايا الاقتصادية بقضايا الثقافة والجوانب القيمية والعقدية والنظم الاجتماعية والتفاعل بين الإنسان والبيئة أو الأيكولوجيا لذلك فإنهم بحثوا في قضية مدى وحدود تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وعوامل التنمية الاقتصادية ومواجهة المشكلات الاقتصادية في المجتمع.
…
وسوف نكتفي هنا بعرض أهم جوانب الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون فقد كتبت عنه عشرات الرسائل العلمية والكتب من بينها رسالة دكتوراه بعنوان: الفكر الاقتصادي في مقدمة ابن
خلدون"* ذكر صاحبها أن كتابة ابن خلدون جديرة بأن تكون نقطة البدء للدراسة العلمية في الاقتصاد، فهي ليست مجرد تجميع للمعارف المنوعة لكنها مجموعة معارف منظمة مرتبة ينطبق عليها مصطلح العلم بمعناه الدقيق. وهذا يعني أن العلماء المسلمين سبقوا علماء الغرب مثل: "آدم سميث" في كتابة "ثروة الأمم سنة 1776" وغير من مؤسسي علم الاقتصاد في الغرب بأكثر من أربعة قرون في دراسة القضايا الكبرى في مجال الاقتصاد. وقد تعرض ابن خلدون لهذه القضايا الاقتصادية في أكثر من فصل من فصول مقدمته** وسوف نعرض لأهم جوانب الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون في نقاط:
أولا: ناقش ابن خلدون قضية الأساس الذي يقوم عليه المجتمع وهو في نظره تقسيم العمل وتلبية حاجات الناس لعجز الفرد عن تلبية جميع حاجاته، وهو يحاول تفسير التطور الاجتماعي على أساس اقتصادي. فهو يحدثنا عن انتقال المجتمع من البساطة إلى التعقيد من ناحية البنية والتركيب. ويقابل هذا التطور مراحل معينة في أسلوب استغلال موراد البيئة الطبيعية. فالمرحلة الأولى للمجتمعات هي رحلة الزراعة البدائية، تليها مرحلة الرعي والزراعة المتقدمة، ثم تليها مرحلة الصناعة والتجارة، وتقترب هذه المراحل التطورية عند ابن خلدون من تلك التي عرضها الاقتصادي الألماني "فردريدك ليست" ويربط ابن خلدون كل مستوى اقتصادي
* تقم بها الدكتور محمد علي نشأت.
** ارجع إلى الفصول الآتية في مقدمة ابن خلدون: "فصل في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو" و"فصل في معنى التجارة ومذاهبها وأصنافها"، و"فصل في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة وأيهم ينبغي له اجتناب حرفه" و"فصل في نقل التاجر للسلع" و"فصل في الاحتكار" و"فصل في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص" و"فصل في أن الصنائع لا بد لها من المعلم" و"فصل في أن الصنائع إنما تكتب بكمال العمران الحضري وكثرته" وغير هذه الفصول مما ورد في الفصل الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق -ارجع إلى مقدمة ابن خلدون.
بمستوى أخلاقي معين. فالبدو أقرب إلى الشجاعة والتضامن والعصبية والأخلاق الحميدة بالمقارنة بأهل الحضر. وهو بهذا التحليل سبق "فردناند تونيز" في التفرقة بين خصائص المجتمع المحلي "الجمنشافت" والمجتمع العام "الجزلشفات".
ثانيا: وقد تعرض ابن خلدون لكثير من القضايا الاقتصادية كالعرض والطب وما يطلب عليه الآن نظرية القيمة، فقد أكد أن العمل هو الأساس الأول للقيمة، وقد سبق بهذا الرأي العديد من النظريات الحديثة، يقول ابن خلدون:"لا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب وممول لأنه إذا كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان يتعلق بالحيوانات والنبات والمعدن ففيه من العمل الإنساني كما نراه وإلا لم يحصل به انتفاع".
ثالثا: بحث ابن خلدون ما يطلق عليه اليوم "المستوى العام للأسعار" فارجع تقدير إلى تفاوت الثروة من بلد لآخر.
رابعا: قسم السلع التجارية إلى ضرورية وكمالية وتوصل إلى نسبية هذا التصنيف وارتباطه بدرجة التقدم والعمران. فالبلاد التي تبلغ درجة أعلى من الحضارة تنقلب الكماليات فيها إلى ضرورات.
خامسا: قدم ابن خلدون تفسيرا اجتماعيا للتقدم الاقتصادي "تقدم الزراعة والتجارة والصناعة وارتفاع الأجور وكثرة عرض السلع" حيث ذهب إلى أن التقدم الاقتصادي يقوم على عاملين: الأول تكاثر السكان، الثاني تقسيم العمل، أي توزيع الاختصاصات وتزايد حجم التخصص والتكامل. وقد سبق بهذا الرأي "آدم سميث" a.smith الذي ينسب إليه تأسيس علم الاقتصاد في العالم الغربي.
سادسا: ناقش ابن خلدون مسألة حرية التداول التجاري وموقف الدولة من النشاط الاقتصادي وحدود تدخلها. فقد كان من أنصار الحرية التجارية -مع الالتزام بالضوابط الإسلامية- وعارض تدخل الدولة بشكل
كبير في النشاط الاقتصادي للأفراد ونادى بعدم الإسراف في فرض ضرائب، ويؤكد ابن خلدون أن من واجب الدولة أن تتأكد أن "الضرائب" لا تثمر إذا هي فرضت فرضا تعسفيا وأن الضرائب المعتدلة أعظم حافظ على العمل الاقتصادي.
سابعا: يؤكد ابن خلدون أن التعاون عملية اجتماعية أساسية في حياة البشر. ويعد هذا المفكر من أنصار نظرية تفسير المجتمع بحاجة الأفراد إلى التعاون لسد احتياجاتهم الاقتصادية والبيولوجية والدفاعية. يقول ابن خلدون في هذا الصدد: إن قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجاته من الغذاء غير موفية له عادة حياته منه
…
فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه كي لا يحصل الموت له ولهم
…
كذلك فإن الواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة الواحد من الحيوانات المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة، ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها، فلا بد في ذلك من التعاون عليه بأبناء جنسه. وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، ولا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك على مدى حياته ويبطل نوع البشر. ويؤكد ابن خلدون أن ظاهرة السلطة أمر حتمي في شئون البشر. فمتى تحققت الضرورة الاجتماعية عند الناس وتجمعوا من أجل إتمام حكمة الله في خلق الجنس البشري، لا بد من وجود السلطة من أجل تنظيم علاقاتهم تنظيما يكفل استمرار المجتمع والتعاون. ويتجسد قيام السلطة في قيام الملك*.
* ترتبط فكرة ابن خلدون عن السلطة بنظريته في العصبية، حيث قرر ابن خلدون في المقدمة الأولى من الباب الأول ثلاثة مبادئ أساسية وهي:
أولا: ضرورة الاجتماع للبشر واستحالة معيشتهم منفردين.
ثانيا: ضرورة وجود الوازع.
ثالثا: عدم ضرورة وجود الشرع للبشر وإمكان دفع العدوان بالعصبية وسطوة الملك وهو يستدل على هذا المبدأ الثالث بأن أهل الكتاب والمتبعين للأديان السماوية قليلون بالنسبة للمجوس الذين ليس لهم كتاب منزل، ومع هذا فقد كانت لهم الدول والمجتمعات فضلا عن الآثار. وهو يميز بين نوعين من الوازع: الأول هو الوازع الديني، والثاني أطلق عليه الوازع السلطاني. وتعد نظرية ابن خلدون في العصبية أساس ما يطلق عليه اليوم علم الاجتماع السياسي.
لكن ابن خلدون ينبه إلى أن تدخل الدولة بشكل سافر في النشاط الاقتصادي للأفراد وقيامها بمصادرة أموالهم والتعسف في تقييد النشاط الاقتصادي -كما هو حادث الآن في الدول الماركسية- أمر يؤدي إلى خراب الدولة.
ثامنا: لم يغفل ابن خلدون عن العلاقة التفاعلية بين الإنسان والبيئة الطبيعية وهو ما يطلق عليه الآن الأيكولوجيا الإنسانية human ecology. وقد سبق ابن خلدون المفكر الفرنسي "مونتسكيو" في معالجة أثر العوامل الجغرافية على العمران في أكثر من موضع في مقدمته مثل: "المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار والأنهار والأقاليم، والمقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير في أخلاق البشر"
…
إلخ. وبهذا يكون ابن خلدون سبق النظريات الأيكولوجية الحديثة في بيان العلاقة التفاعلية بين الإنسان والبيئة وأثر البيئة على لون الناس وأخلاقهم ونظامهم الإنتاجي. وقد عالج بشكل ممتاز العلاقة بين النمو السكاني والنمو العمراني، وبين هذين المتغيرين جملة وبين الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية. يقول في ذلك: ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثم زاد الترف تبعا للكسب وزادت عوائده وحاجاته واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمتها وتضاعف الكسب في المدينة. وقد سبق ابن خلدون بهذا بعض آراء "أميل دوركيم" في رسالته للدكتوراه عن "تقسيم العمل الاجتماعي" هذه هي بعض إسهامات أحد علماء المسلمين يتضح منها إمكانية اعتباره مؤسس علمي الاجتماع والاقتصاد معًا، خاصة وأنه أشار إلى أهمية الدراسة الموضوعية للمجتمع استنادا إلى الملاحظة والمقارنة من
أجل الكشف عن القوانين التي تحكم الحياة الاجتماعية أو السنن الاجتماعية، خاصة وأنه كان يؤمن أن الظواهر الاجتماعية لا تخضع في نشأتها وتطورها لعامل الصدفة، وإنما تخضع لقوانين وسنن محددة يكن اكتشافها، وقد كان هدفه من كل هذا التوصل إلى التاريخ الصحيح الخالي من الأخطاء والأغلاط التي حفلت بها الروايات التاريخية في عصره.