الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة سبع وتسعين وخمسمائة
[أخبار الغلاء الفاحش فِي مصر وأكل الناس بعضهم بعضا]
قال الموفّق عَبْد اللّطيف [1] : دخلت سنة سبْعٍ مفترسة لأسباب الحياة، ويئسوا من زيادة النّيل، وارتفعت الأسعار، وأقحطت البلاد، وضَوَى أَهْل السّواد والريف إِلَى أمّهات البلاد، وجلى كثير إِلَى البلاد النّائية، ومُزِّقوا كلَّ ممزَّق. ودخل منهم خلْقٌ إِلَى القاهرة، واشتدّ بهم الجوع، ووقع فيهم الموت عند نزول الشّمس الحمل. ووبيء الهواء، وأكلوا الميتات والبَعر. ثمّ تعدّوا إِلَى أكْل الصِّغار، وكثيرا ما يُعثر عليهم ومعهم صِغار مشويّون أو مطبوخون، فيأمر السّلطان بإحراق الفاعل.
رأيتُ صغيرا مشْوِيًّا مع رجلٍ وامرأة أُحضرا فقالا: نَحْنُ أبواه. فأمر بإحراقهما.
ووُجِد بمصر رَجُل قد جُرّدت عظامُه وبقي قَفَصًا. وفشا أكْلُ بني آدم واشتهر. ووُجِد كثيرا.
وحكى لي عدَّة نساء أنّه يُتوثَّب عليهنّ لاقتناص أولادهنّ ويُحامين عليهنّ بجَهْدهنّ. ولقد أُحرِق من النّساء بمصر فِي أيّامٍ يسيرة ثلاثون امْرَأَة، كلٌّ منهنّ تُقِرّ أنّها أكلت جماعة.
ورأيت امْرَأَةً أُحضِرت إِلَى الوالي وَفِي عنقها طفْلٌ مَشْوِيّ، فضُرِبت أكثر من مائتي سَوط، على أن تقرّ، فلا تخبر جوابا، بل تجدها قد انخلعت عن الطِّباع البشريَّة، ثمّ سُجِنت فماتت.
[1] في كتاب: الإفادة والإعتبار 223 وما بعدها.
وحكى لنا رجل أنّه كان له صديق، فدعاه ليأكل، فوجد عنده فقراء قدّامهم طبيخ كثير اللّحم، وليس معه خبز، فرابه ذلك، وطلب المِرْحاض، فصادف عنده خزانة مشحونة برُمم الآدميّين وباللّحْم الطَّرِيّ، فارتاع وخرج هاربا.
وقد جرى لثلاثةٍ من الأطبّاء ممّن ينتابني، أمّا أحدهم فإنّ أَبَاهُ خرج فلم يرجع. والآخر فأعطته امْرَأَة درهمين ومضى معها، فلمّا توغّلت به مضايق الطُّرق استراب وامتنع، وشنّع عليها، فتركت دراهمها وانسلّت. وأمّا الثّالث فإنّ رجلا استصحبه إِلَى مريضةٍ إِلَى الشّارع، وجعل فِي أثناء الطّريق يتصدَّق بالكِسَر ويقول: هَذَا وقت اغتنام الأجر. ثمّ أكثر حَتَّى ارتاب منه الطّبيب، ودخل معه دارا خَرِبة، فتوقّف فِي الدَّرَج، وفتح الرجل فخرج إليه رفيقه يقول: هَلْ حصل صيد ينفع؟ فجزع الطّبيب، وألقى نفسه إِلَى إصطبل، فقام إليه صاحب الإصطبل يسأله، فأخفى قصّته خوفا منه أيضا فقال: قد علمت حالك، فإنّ أَهْل هَذَا المنزل يذبحون النّاس بِالْحيَل.
ووجدنا طفيحا [1] عند عطّار عدَّة خوابي مملوءة بلحم الآدميّين فِي الملح، فسألوه فقال: خفت دوام الْجَدْب فيهزل النّاس.
وكان جماعة قد أَوَوْا إِلَى الجزيرة، فعُثِر عليهم، وطلبوا ليقتلوا فهربوا، فأخبرني الثّقة أنّ الّذي وجد في بيوتهم أربعمائة جمجمة.
ثمّ ساق غير حكاية، وقال: وجميع ما شاهدناه لم نتقصّده ولا تتبّعنا مظانّه، وإنّما هُوَ شيء صادفناه اتّفاقا.
وحكى لي من أثق به أنّه اجتاز على امرأةٍ وبين يديها ميّت قد انتفخ وانفجر، وهي تأكل من أفخاذه، فأنُكِر عليها، فزعمت أنّه زوجها.
ثُمَّ قال: وأشباه هذا كثير جدّا.
[1] في الأصل: «صفيح» .
وممّا شاع أيضا نبْش القبور، وأكل الموتى، فأخبرني تاجر مأمون حين ورد من الإسكندريّة بكثرة ما عاين لها من ذلك، يعني من أكل بْني آدم، وأنّه عاينَ خمس أرؤس صغار مطبوخة فِي قدْر. وهذا المقدار كافٍ، واعتقد أنّي قد قصّرت.
وأمّا موت الفقراء جوعا فشيءٌ لا يعلمه إلّا اللَّه تعالى، فالّذي شاهدنا بالقاهرة ومصر وهو أنّ الماشي لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميّت، أو مَن هُوَ فِي السّياق، وكان يُرفع من القاهرة كلّ يوم من المَيْضَأة ما بين مائة إلى خمسمائة.
وأمّا مصر فليس لموتاها عدد، يُرْمَون ولا يُوارَون، ثمّ عجزوا عن رميهم، فبقوا فِي الأسواق والدّكاكين.
وأمّا الضّواحي والقرى، فهلك أهلها قاطبة إلّا من شاء اللَّه. والمسافر يمرّ بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، وتجد البيوت مفتَّحَة وأهلها موتى. حدَّثني بِذَلِك غير واحد.
وقال لي بعضهم إنّه مرّ ببلدٍ ذكرنا أنّ فيها أربعمائة نَوْل للحياكة، فوجدناها خرابا، وأنّ الحائك فِي جورة حياكته ميّت، وأهله موتى حوله، فحضرني قوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ 36: 29 [1] قال: ثمّ انتقلنا إِلَى بلدٍ آخر، فوجدناه ليس به أنيس، واحتجنا إِلَى الإقامة به لأجل الزّراعة، فاستأجرنا من ينقل الموتى ممّا حولنا إِلَى النَّيل، كلّ عشرة بدرهم. وخُبِّرت عن صيادٍ بفُوهة تِنِّيس أَنَّهُ مرّ به في بعض يوم اربعمائة آدميّ يقذف بهم النّيل إِلَى البحر. وأمّا أَنَا فمررت على النّيل، فمرّ بي فِي ساعة نحو عشرة موتى.
وأمّا طريق الشّام فصارت منزرعة ببني آدم، وعادت مأدبة بلحومهم للطّير والسِّباع. وكثيرا ما كَانَت المرأة تتخلّص من صبيتها في الزّحام،
[1] سورة يس، الآية 29.
فينتظرون حتّى يموتوا، وأمّا بيع الأحرار فشاع وذاع، وعرض عليّ جاريتان مراهقتان بدينار واحد. وسألتني امْرَأَة أن أشتري ابنتها وقالت: جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم. فعرّفتها أنّ هذا حرام فقالت: خذها هديَّة. وقد أُبيع خلْقٌ، وجُلِبوا إِلَى العراق، وخُراسان. هَذَا، وهم عاكفون على شهواتهم، منغمسون فِي بحر ضلالاتهم، كأنَّهم مُسْتَثْنَوْن. وكانوا يزْنون بالنّساء حتّى إنّ منهم مَن يقول إنّه قنص خمسين بِكْرًا، ومنهم من يقول سبعين. كلّ ذلك بالكسْر.
وأمّا مصر فخلا مُعْظمها، وأمّا بيوت الخليج وزقاق البركة والمقْس وما تاخم ذلك، فلم يبق فيها بيتٌ مسكون، ولم يبق وقود النّاس عِوْض الأحطاب إِلَى الخشب من السّقوف والبيوت الخالية. وقد استغنى طائفة كبيرة من النّاس فِي هَذِهِ النَّوبة.
وأمّا النّيل فإنّه اخترق فِي برهوده اختراقا كبيرا، وصار المقياس فِي أرض جرز، وانحسر الماء عَنْهُ نحو الجزيرة، وظهر فِي وسطه جزيرة عظيمة ومقطَّعات أبنية، وتغيّر رِيحه وطعمه، ثمّ تزايد التّغيُّر، ثُمَّ انكشف أمره عن خُضْرة طحلبيَّة، كلما تطاولت الأيّام ظهرت وكثُرت كالّتي ظهرت فِي البيت من السّنة الخالية.
ولم تزل الخضرة تتزايد إِلَى أواخر شعبان، ثمّ ذهبت، وبقي فِي الماء أجزاء نباتيّة منبتة، وطاب طعمه وريحه، ثمّ أَخَذَ يُنْمَى ويقوى جرْيه إِلَى نصف رمضان، فقاس ابن أبي الردار قاع البركة فكان ذراعين، وزاد زيادة ضعيفة إِلَى ثامن ذي الحجَّة، ثمّ وقف ثلاثة أيّام، فأيقن النّاس بالبلاء، واستسلموا للهلاك، ثُمَّ إنّه أَخَذَ فِي زيادات قويَّة، فبلغ فِي ثالث ذي الحجَّة خمسة عشر ذراعا، وستة عشر إصبعا، ثُمَّ انحطَّ من يومه، ومسّ بعض البلاد تحلة القسم، وأَرْوَى الغربيَّة ونحوها، غير أنّ القرى خالية كما قال تعالى:
فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ 46: 25 [1] . وزرع الأمراء بعض البلاد. ونهاية سعر الإرْدبّ خمسة دنانير. وأمّا بقُوص، والإسكندريَّة فبلغ ستَّة دنانير.
[1] سورة الأحقاف، الآية 25.
ودخلت سنة ثمانٍ وتسعين والأحوال على حالها أو فِي تَزَيُّد إِلَى زُهاء نصف السّنة. وتناقص موت الفقراء لقلّتهم، لا لارتفاع السّبب الموجب، وتناقص أكْل الآدميّين ثُمَّ عُدِم، وقَلَّ خطْفُ الأطعمة من الأسواق لفناء الصّعاليك، ثُمَّ انحطّ الإردبّ إِلَى ثلاثة دنانير لقلَّة النّاس، وخفّت القاهرة.
وحُكي لي أنّه كان بمصر سبعمائة مَنْسَج للحُصْر، فلم يبْق إلّا خمسة عشر منسجا، فقِسْ على هَذَا أمر باقي الصُّنّاع من سائر الأصناف.
وأمّا الدّجاج فعُدِم رأسا، لولا أنّه جُلِب من الشّام. وحُكي لي أنّ رجلا جلب من الشّام دجاجا بستّين دينارا، باعها بنحو ثمانمائة دينار، فلمّا وجد البيض بيع بيضة بدرهم، ثمّ كثُر.
وأمّا الفراريج فاشتُرِيّ الفَرُّوج بمائة درهم، ثمّ أبيع بدينارٍ مُدَيدة.
وقال فِي أمر الخراب: فأمّا الهلاليّة، ومُعظم الخليج، وحارة السّاسة، والمقْس، وما تاخم ذلك، فلم يبق فيها أنيس، وإنّما ترى مساكنهم خاوية على عروشها.
قال: والّذي تحت قلم ديوان الحشريّة فِي الموتى وضمّته المَيْضأة فِي مدَّة اثنتين وعشرين شهرا مائة ألف وأحد عشر ألفا إلّا شيئا يسيرا.
قلت: هَذَا فِي القاهرة.
قال: وهذا مع كثرته نَزْرٌ فِي جَنْب ما هلك بمصر والحواضر، وكلّه نَزْرٌ في جنب ما هلك بالإقليم.
وسمعنا من الثِّقات عن الإسكندريّة أنّ الْإِمَام صلّى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأنّ ترِكةً انتقلت فِي مدَّة شهر إِلَى أربعة عشر وارثا. وأنّ طائفة يزيدون على عشرين ألفا انتقلوا إِلَى بَرْقة وأعمالها، فعمروها وقطنوا بها، وكانت مملكة عظيمة خربت فِي زمان خلفاء مصر على يد الوزير اليازوريّ، ونزح عَنْهَا أهلها.
ومن عجيبٍ لشيخٍ من أطبّاء اليهود ممّن ينتابني أنّه استدعاه رجل ذو