المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة التّحريم بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (التحريم) مدنية في قول - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: ‌ ‌سورة التّحريم بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (التحريم) مدنية في قول

‌سورة التّحريم

بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة (التحريم) مدنية في قول الجميع، وتسمى سورة (النّبيّ) وهي اثنتا عشرة آية، ومئتان وسبع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفا. انتهى خازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}

الشرح: اختلف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبويها، فأذن لها، فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية، فعاشرها في بيت حفصة-رضي الله عنها-فرجعت فوجدتها في بيتها، فغارت غيرة شديدة، وقالت: أدخلتها بيتي في غيابي، وعاشرتها على فراشي؟ ما أراك فعلت هذا إلا لهواني عليك! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضيا لها:«إني حرمتها عليّ، ولا تخبري بذلك أحدا!» . فلما خرج من عندها قرعت حفصة-رضي الله عنها-الجدار الذي بينها وبين عائشة؛ وكانتا متصافيتين، وأخبرتها بسر النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب رسول الله، وحلف ألا يدخل على نسائه شهرا، واعتزلهنّ، وطلق حفصة-رضي الله عنها.

وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على زوجه زينب-رضي الله عنها-فيشرب عندها عسلا، فاتفقت عائشة، وحفصة-رضي الله عنهما-على أن تقول له كل واحدة إذا دنا منها:

أكلت مغافير، وهو طعام حلو كريه الريح، فلما مر على حفصة؛ قالت له ذلك، ثم دخل على عائشة، فقالت له مثل ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا ولكني شربت عسلا عند زينب، ولن أعود» . وحلف، فنزلت الآيات.

هذا والرواية الأولى عند المفسرين أشهر في سبب النزول، وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم عليه مارية القبطية. وقد أخرجها الدارقطني عن ابن عباس-رضي الله عنهما. والرواية الثانية ذكرت في الصحيحين بأوسع من هذا، وهي أصح إسنادا من الأولى، ولكن كونها سببا للنزول مستبعد، والذي يرجح الرواية الأولى أمور:

ص: 5

الأول: أن تحريم بعض إمائه صلى الله عليه وسلم مما يبتغي به مرضاة بعض الزوجات، لا شرب العسل، أو عدمه.

الثاني: أن الاهتمام بإنزال سورة فيها الوعيد، والتهديد لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم بالطلاق، واستبدالهن بنساء خير منهن، وأن الله، وملائكته، وصالح المؤمنين عون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على وجود تنافس بينهن، وغيرة بعضهن من بعض مما أدى إلى إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا؛ حتى حرم بعض جواريه إرضاء لهن، واستكتم البعض منهن، فأفشين السر. وهذا يرجح ما ذكرناه. وقد قال العلامة ابن كثير: وكون قضية شرب العسل سببا للنزول فيه نظر، والله أعلم. انتهى. مختصر ابن كثير.

وأقول: إن رواية شرب العسل فيها اضطراب كثير، ففي رواية: أن التي شرب عندها العسل، هي زينب، وهي المشهورة، وفي رواية شرب عند حفصة. وفي رواية زينب: أن المتآمرتين عائشة، وحفصة، وفي رواية حفصة: أن المتآمرتين سودة، وأم سلمة، كما قيل: إن التي شرب عندها العسل سودة، ورواية أخرى: إنها أم سلمة، فهذا الاضطراب يضعف رواية شرب العسل، بينما تحريم مارية لا يوجد فيه هذا الاضطراب، والله أعلم.

هذا؛ ووقوع {ما} على العسل لا ريب فيه، ولا خفاء، وأما وقوعها على مارية القبطية رضي الله عنها؛ لأنها أمة تباع، وتشترى، فهي بمنزلة ما لا يعقل، وقد كثر قوله تعالى في الآيات:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} كما وقعت على الحرائر في قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [3]: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ؛} لأنهن ناقصات عقل، ولأن الزواج منهن، ودفع المهر بمنزلة الثمن لهن، والدليل على ذلك جعل عقدة الزواج بيد الرجل، والقوامة له عليها.

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ:} الخطاب بلفظ النبوة مشعر بالتوقير، والتعظيم، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله: (يا إبراهيم، يا نوح، يا لوط

) إلخ وإنما خاطبه بلفظ النبوة، أو الرسالة، وذلك أعظم دليل، وأكبر برهان على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين. {لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ:} الاستفهام فيه تنبيه وعتاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي، والمراد بالتحريم هنا: الامتناع من شرب العسل، أو من الاستمتاع بمارية، وهو الأولى كما قدمت، لا اعتقاد: أنها حرام بعد ما أحلها الله له: فإن هذا الاعتقاد لا يصدر منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كفر. انتهى جمل نقلا عن الخطيب. كيف لا؟ وقد قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [87]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} . انظر ما يتعلق بلفظ «التحريم» في سورة (القصص) رقم [12] فإنه جيد جدا بحمد الله تعالى، ولم أعده هنا بغية الاختصار.

{تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ} أي: تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك، والمراد: تحريمه مارية-رضي الله عنها-ابتغاء رضا حفصة، وهذا يقوي: أنها نزلت في تحريم مارية، وأما

ص: 6

تحريم العسل، فلم يقصد منه رضا أزواجه، وإنما تركه لكراهة رائحته، انظر سبب النزول المتقدم ففيه توضيح، وتفصيل للقصة.

{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية-رضي الله عنها-وإنما عاتبك رحمة بك، ونبهك لطفا منه، وفي هذا إشارة إلى أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له، وإنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه عما كان له فيه أنس ومتعة، وبئس ما قال الزمخشري في كشافه بأن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم زلة؛ لأنه حرم ما أحل الله له، فإن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة والرسالة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم تحريم للحلال كما زعم حتى تعتبر مخالفة، ومعصية، وإنما امتنع عن بعض إمائه تطييبا لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقا به، وتنويها بقدره، وإجلالا لمنصبه الرفيع أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به. هذا؛ وقد شنّ صاحب الانتصاف على الكشاف ابن المنير الإسكندري المالكي الغارة على الزمخشري، وشنع عليه، وهو محق في ذلك؛ لأن من نظر إلى لطف العقاب عرف حقيقة الأمر، والصواب. ومما يؤسف له أن البيضاوي والنسفي قد قالا بقول الزمخشري. انتهى صفوة التفاسير، وانظر شرح:{لِمَ} في سورة (الصف) رقم [2].

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو أنادي. (أيها): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بيا، (وها): حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {النَّبِيُّ:} بعضهم يعرب هذا وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، أو عطف بيان، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد: «أي» واسم الإشارة إن كان مشتقا فهو نعت، وإن كان جامدا فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع أعني:(أي) منصوب محلا، فكذا التابع، أعني:

{النَّبِيُّ} وأمثاله، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء، لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده العلامة الصبّان؛ لأنه قال: والمتجه وفاقا لبعضهم: أن ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيا للمجهول، نحو: يدعى. وهو مع ما فيه من التكلف يؤدي إلى قطع المتبوع. وقيل:

إن رفع التابع المذكور بناء؛ لأن المنادى في الحقيقة هو المحلى بأل، ولكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه توصلوا إلى ندائه ب:«أي» مع قرنها بحرف التنبيه. ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع له، والإعراب السائد الآن أن تقول: مرفوع تبعا للفظ. انتهى. جرجاوي.

ص: 7

هذا؛ والأخفش يعتبر (أيّ) في مثل هذه الآية موصولة، و {النَّبِيُّ} خبر لمبتدأ محذوف، والجملة الاسمية صلة، وعائد، التقدير:«يا من هو النبيّ» على أنه قد حذف العائد حينئذ حذفا لازما، كما في قول امرئ القيس من معلقته، وهو رقم [13]:

ألا ربّ يوم صالح لك منهما

ولا سيّما يوم بدارة جلجل

وما قاله الأخفش ضعيف، لا يعتد به عند جمهرة النحاة، والبيت هو الشاهد رقم [242] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللبيب.

{لِمَ} اللام: حرف جر. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل جر باللام، والسكون هو الألف المحذوفة للفرق بين الخبر، والاستخبار، والجار والمجرور متعلقان بما بعدهما. {تُحَرِّمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» .

{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وجملة:{أَحَلَّ اللهُ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: تحرم الذي، أو شيئا أحله الله. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لِمَ تُحَرِّمُ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {تَبْتَغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل تحرم المستتر، والرابط الضمير فقط. {مَرْضاتَ:} مفعول به، وهو مضاف {أَزْواجِكَ:} مضاف إليه من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ:} مستأنفة لا محل لها.

{قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}

الشرح: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ..} . إلخ: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب العام؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم: يا فلان! افعلوا كذا، إظهارا لتقدمه، واعتبارا لترؤسه، وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وسادا مسد جميعهم، ومعنى {فَرَضَ:} بين، وأوجب وشرع لكم تحليل أيمانكم، وهو ما ذكر في سورة (المائدة) قوله تعالى:{فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ} .

هذا؛ وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والأصل: تحللة، فنقلت حركة اللام الأولى إلى الحاء بعد سلب سكونها، فسكنت، ثم أدغمت اللام. {وَاللهُ مَوْلاكُمْ:} متولي أموركم، وناصركم على أعدائكم. {وَهُوَ الْعَلِيمُ:} بما يصلحكم، فيشرعه لكم. {الْحَكِيمُ} فيما أحل، وفيما حرم.

هذا؛ وقد اختلف: هل كفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: «هي عليّ حرام؟» فقد قال الحسن البصري رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفّر؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وكفارة اليمين في

ص: 8

هذه السورة إنما أمر الله بها الأمة. والأصح: أنه صلى الله عليه وسلم كفّر، فقد قال زيد بن أسلم، ومقاتل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية-رضي الله عنها.

بقي أن تعرف الحكم في لفظ التحريم بالنسبة لعامة الأمة، مثل أن يقول الرجل: أنت عليّ حرام، أو عليّ الحرام، فقد نقل القرطبي-رحمه الله تعالى-عن العلماء فيه ثمانية عشر قولا، والخازن قد اختصر الكلام في ذلك؛ حيث قال: اختلف العلماء في لفظ التحريم، فقيل: ليس هو بيمين، فإن قال لزوجته: أنت عليّ حرام، أو قال: حرمتك، أو أنت محرمة عليّ، أو عليّ الحرام، فإن نوى طلاقا؛ فهو طلاق، وإن نوى ظهارا؛ فهو ظهار، وإن نوى تحريم ذاتها، أو أطلق؛ فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ ولا تحرم عليه؛ لأن الأعيان وما ألحق بها لا توصف بالتحريم، وإن قال لطعام، أو لباس، أو مكان: حرمته على نفسي، أو هو محرم عليّ، فلا شيء عليه، وهذا قول أبي بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة والتابعين-رضي الله عنهم أجمعين- وإليه ذهب الشافعي-رضي الله عنه. وإن لم ينو شيئا؛ ففيه قولان للشافعي: أحدهما: أنه يلزمه كفارة اليمين. والثاني: لا شيء عليه، وأنه لغو، فلا يترتب عليه شيء من الأحكام.

وذهب جماعة إلى أنه يمين، فإن قال ذلك لزوجته، أو جاريته، فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها كما لو حلف: أنه لا يطؤها، وإن حرم طعاما؛ فهو كما لو حلف أن لا يأكله، فلا كفارة عليه ما لم يأكله، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأصحابه.

والمشهور: أن لفظ التحريم كناية عند الشافعي، فإن نوى الطلاق؛ كان طلاقا، وإن لم ينوه كان عليه كفارة يمين. وهو طلقة بائنة عند أبي حنيفة. وذكر القرطبي: أن المشهور من مذهب مالك: أنه في المدخول بها ثلاث، وفي غير المدخول بها طلقة واحدة.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: «إذا حرم الرجل امرأته، فهي يمين يكفرها» ، وقرأ قوله تعالى:{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} متفق عليه، وعنه أيضا: أنه أتاه رجل، فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حراما، فقال: كذبت، ليست عليك بحرام، ثم تلا قوله تعالى:

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ} عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة. أخرجه الدارقطني.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فَرَضَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {تَحِلَّةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أَيْمانِكُمْ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَاللهُ:} (الواو): واو الحال. (الله): مبتدأ. {مَوْلاكُمْ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط:

الواو والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها.

ص: 9

{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}

الشرح: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ:} هي حفصة بنت عمر. {حَدِيثاً:} هو تحريم مارية-رضي الله عنها-وأن أبا بكر، وأباها يكونان خليفتين من بعده. فقد قيل: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيرة في وجه حفصة؛ أراد أن يرضيها، فأسرّ لها بشيئين: بتحريم مارية على نفسه، وأن الخلافة بعده في أبي بكر، وعمر-رضي الله عنهما. وقال لها:«لا تخبري بذلك أحدا» .

وقيل: قال لها: «لا تخبري عائشة بذلك» .

{فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي: أخبرت عائشة بما أسر إليها لمصافاة بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم. {وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ} أي: أطلعه الله على أنها قد نبأت به عائشة، وكان ذلك بواسطة جبريل الأمين، عليه ألف صلاة وألف سلام. {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي: عرّف الرسول صلى الله عليه وسلم حفصة: أنها أفشت بعض السر، وهو تحريم مارية-رضي الله عنها. ولم يخبرها:

أنها أفشت البعض الآخر، وهو الخلافة، والولاية من بعده لأبي بكر وأبيها، فأعرض عن ذلك تكرما. قاله السدي. وقال الحسن البصري: ما استقصى كريم قط. أي: ما بالغ في العتاب.

وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام. انتهى. وهذا؛ لأن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب. وقد كره الرسول أن ينتشر أمر الخلافة بين الناس.

{فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ} أي: فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حفصة بأنها قد أفشت سره. {قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا} أي: قالت حفصة: يا رسول الله من أخبرك: أني أفشيت السر؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة: أن عائشة هي التي كاشفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قد استكتمتها، فقالت:{مَنْ أَنْبَأَكَ} على سبيل التثبت، فأخبرها: أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به، فسكتت، وسلمت، وهو صريح قوله:{نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ} بسرائر العباد، {الْخَبِيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وخبير بالتدابير الظاهرة، والباطنة، وخبير بحاجات العباد، وفاقتهم، وخبير بنياتهم، وأقوالهم، وأفعالهم.

هذا؛ وكان من نتيجة ما فعلت حفصة أن غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وطلقها، فلما بلغ عمر-رضي الله عنه-ذلك؛ قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طلّقك رسول الله صلى الله عليه وسلم! فجاء جبريل، عليه السلام، وأمره بمراجعتها. وقيل: لم يطلقها، وإنما همّ بطلاقها، فأتاه جبريل. وقال له:

لا تطلقها؛ فإنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة، واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية؛ حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم.

ص: 10

هذا؛ والأفعال: نبّأ، وأنبأ، وخبّر، وأخبر، وحدّث تتعدى لاثنين: إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفا، وقد يحذف الأول للدلالة عليه. وقد جاءت الاستعمالات الثلاث في هذه الآية، فقوله تعالى:{فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ} تعدّى لاثنين، حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، أي: نبّأت به غيرها، وقوله تعالى:{فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ} ذكرهما، وقوله:{مَنْ أَنْبَأَكَ هذا} ذكرهما، وحذف الجار، فالأول تعدّى إلى مفعول صريح، وإلى الثاني بحرف الجر، والفعل الثاني مثله، والثالث تعدّى إلى مفعولين صريحين، وهذا إذا لم يدخل:(نبأ، وأنبأ) على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد، وبمفعولين، فإذا دخلا على المبتدأ والخبر تعدّى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفاعيل، ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث؛ لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل، فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر، وانظر شرح (النبأ) في الآية رقم [4] من سورة (القمر). ومثال دخول أحدهما على المبتدأ والخبر قولك: نبأت زيدا عمرا منطلقا. أو أنبأت زيدا عمرا مجتهدا، ففي المثالين يجب نصب ثلاثة مفاعيل. والله ولي التوفيق. ومن ذلك قول النابغة الذبياني-وهو الشاهد رقم [20] من كتابنا:

«فتح رب البرية» إعراب شواهد جامع الدروس العربية-: [الكامل]

نبّئت زرعة، والسّفاهة كاسمها

يهدي إليّ غرائب الأشعار

وأيضا قوله-وهو الشاهد رقم [12] من الكتاب المذكور-: [البسيط]

نبّئت أنّ أبا قابوس أو عدني

ولا قرار على زأر من الأسد

وأيضا قول قيس بن الملوح-وهو الشاهد رقم [118] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللبيب-: [الطويل]

ونبّئت ليلى أرسالات بشفاعة

إليّ فهلا نفس ليلى شفيعها

الإعراب: {وَإِذْ:} (الواو): حرف عطف. (إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت، أو هو مفعول به لهذا المحذوف. {أَسَرَّ:} ماض. {النَّبِيُّ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذ) إليها، والكلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له. {إِلى بَعْضِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {حَدِيثاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، و {بَعْضِ} مضاف، و {أَزْواجِهِ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {حَدِيثاً:} مفعول به.

{فَلَمّا:} (الفاء): حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول:

حرف وجوب لوجوب، وهي عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة ظرف زمان بمعنى:«حين» تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني.

ص: 11

{نَبَّأَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {بَعْضِ أَزْواجِهِ،} والمفعول الأول محذوف. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل مفعوله الثاني، التقدير: نبأت غيرها به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. (أظهره): فعل ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها. {عَرَّفَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {النَّبِيُّ}. {بَعْضَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محل لها. وجملة:{وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ:} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَلَمّا:} (الفاء): حرف استئناف. (لمّا): مثل سابقتها. {نَبَّأَها:} فعل ماض، وها: مفعوله الأول، والفاعل يعود إلى {النَّبِيُّ} أيضا. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل مفعوله الثاني، والجملة الفعلية، قل فيها ما قلته بسابقتها. {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل تقديره:«هي» ، والجملة الفعلية جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَنْبَأَكَ:}

فعل ماض، والكاف مفعول به أول، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر مبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {نَبَّأَنِيَ:} ماض، والنون للوقاية، والياء مفعول به أول، والثاني محذوف، تقديره: نبأني به. {الْعَلِيمُ:} فاعله.

{الْخَبِيرُ:} بدل منه، وقيل: صفة له. ولا وجه له قطعا؛ لأنهما اسمان من أسماء الله الحسنى.

والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ} مستأنفة لا محل لها.

{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)}

الشرح: {إِنْ تَتُوبا:} الخطاب لعائشة، وحفصة-رضي الله عنهما. خاطبهما بطريق الالتفات؛ ليكون أبلغ في معاتبتهما، وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإيذاء لسيد الأنبياء. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} أي: فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الطاعة، والإخلاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوجبتما أن تتوبا، وذلك بأن سركما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريم مارية-رضي الله عنها. والواجب عليكما حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.

{وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ} أي: وإن تتعاونا على إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى ما يسوءه، والأصل:«وإن تتظاهرا عليه» فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، وهذا الحذف كثير في القرآن الكريم، فعن ابن عباس

ص: 12

-رضي الله عنهما-قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله عز وجل فيهما: {إِنْ تَتُوبا..} . إلخ حتى حج، وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق؛ عدل، وعدلت معه بالإداوة (ركوة ماء) فتبرز (خرج إلى الفضاء ليقضي حاجته) ثم أتاني، فصببت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ..} . إلخ؟ قال عمر-رضي الله عنه: واعجبا لك يابن عباس! قال الزهري: كره منه ما سأله عنه، ولم يكتمه، قال: هما عائشة، وحفصة.

{فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ:} وليه، وناصره، فلا يؤثر عليه ذلك التظاهر، والتعاون منكما عليه.

{وَجِبْرِيلُ:} أفرده بالذكر مع دخوله في الملائكة المذكورين بعده تعظيما له، وإظهارا لمكانته عند الله تعالى، فيكون قد ذكر مرتين: مرة بالإفراد، ومرة في العموم، ووسّط صالح المؤمنين بين جبريل، والملائكة تشريفا لهم، واعتناء بشأنهم، وإشادة بفضل الصلاح، وختم الآية بذكر الملائكة الأبرار، أعظم المخلوقات، وجعلهم ظهراء للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك أفخم به صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ الملائكة بمثابة جيش جرار، يملأ القفار، نصرة للنبي المختار، صاحب الأنوار صلى الله عليه وسلم، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ سيد الخلق، وحبيب الحق بعد ذلك؟! هذا؛ ويستدل بهذه الآية على عظم كيد النساء، كما قال تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام حكاية عن قول العزيز:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} رقم [28]، بينما وصف الله عز وجل كيد الشيطان بالضعف، وذلك بقوله جلت قدرته، وتعالت حكمته في سورة (النساء) رقم [76]:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} . ولا تنس: أن الكلام في الآية مسوق للمبالغة، وإلا؛ فكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا.

هذا؛ والمراد ب: (صالح المؤمنين) أبو بكر، وعمر-رضي الله عنهما؛ لأنهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا للنبي صلى الله عليه وسلم عليهما، وقيل:(صالح المؤمنين): علي-رضي الله عنه.

وقيل: خيار المؤمنين، و (صالح) اسم جنس لا جمع، ولذلك يكتب من غير واو بعد الحاء كما هو في رسم مصحف الإمام، وجوزوا أن يكون جمعا بالواو والنون، وحذفت النون للإضافة، وكتب دون واو اعتبارا بلفظه؛ لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين، نحو:{وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ} رقم [24] من سورة (الشورى)، وقوله تعالى:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ..} . إلخ من سورة (القمر) رقم [6]، وقوله تعالى في سورة (العلق){سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ،} وانظر ما ذكرته في «الصلاح» في سورة (النمل) رقم [19]، وفي سورة (الصافات) رقم [112]، وفي سورة (المنافقون) رقم [10].

هذا؛ و {ظَهِيرٌ} فعيل يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، فهو هنا بمعنى ظهراء، كقوله تعالى:{وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} رقم [69] من سورة (النساء). هذا؛ والمفسرون يذكرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر أزواجه شهرا، وأشيع: أنه طلق أزواجه. ويذكرون: أن

ص: 13

عمر-رضي الله عنه-استأذن على الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فلم يؤذن له، ثم أذن له، ويختمون القصة بنزول قوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ..} . إلخ الآية رقم [28] من سورة (الأحزاب) وما بعدها، ولا أعتمده، وإنما أعتمد أنهما واقعتان، لا واقعة واحدة: الأولى كانت عامة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألنه الزيادة في النفقة، وهذه خاصة بحفصة، وعائشة حينما تآمرتا عليه، وكشفتا سره. والله ولي التوفيق.

بعد هذا: أما قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} حيث جمع القلب، وهما ثنتان بلا ريب، كما رأيت. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: ولم يقل: فقد صغى قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما؛ لأنه لا يشكل. وقال الجلال: ولم يعبر بالجمع لاستثقال الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة. وقال مكي-رحمه الله تعالى-: وإنما جمع القلب، وهما اثنتان؛ لأن كل شيء ليس في الإنسان منه غير واحد، إذا قرن به مثله فهو جمع. وقيل:

لأن التثنية جمع؛ لأنها جمع شيء إلى شيء. وقد تكلم السيوطي-رحمه الله تعالى-على هذه المسألة في كتابه: (همع الهوامع) الذي شرحت شواهده، وأعربتها، وأرجو الله أن يمتن عليّ بالتوفيق لطباعته، وها أنذا أنقل لك ما قاله بالحرف؛ لتكون على بينة من أمرك.

قال-رحمه الله تعالى-: الأصل في كلام العرب دلالة كل لفظ على ما وضع له، فيدل المفرد على المفرد، والمثنى على اثنين، والجمع على جمع، وقد يخرج الكلام عن هذا الأصل، وذلك قسمان: مسموع، ومقيس.

فالأول: ما ليس جزءا مما أضيف إليه: سمع: ضع في رحالهما، يريد في اثنين. وديناركم مختلفة أي: دنانيركم مختلفة. وعيناه حسنة، أي: حسنتان. وأورد أربعة أبيات شعرية شواهد لذلك، قال: ومنه: لبيك وإخوته، فإنه مثنى وضع موضع الجمع. وقالوا: شابت مفارقه، وليس له إلا مفرق واحد. وعظيم المناكب، وغليظ الحواجب، والوجنات، والمرافق، وعظيمة الأوراك. فكل هذا مسموع لا يقاس عليه، وقاسه الكوفيون وابن مالك إذا أمن اللبس، وهو ماش على قاعدة الكوفيين من القياس على الشاذ، والنادر، قال أبو حيان: ولو قيس شيء من هذا، لالتبست الدلالات، واختلطت الموضوعات.

والثاني: ما أضيف إلى متضمنه. وهو مثنى لفظا، نحو قطعت رؤوس الكبشين، أي:

رأسيهما، أو معنى نحو قول الشاعر:[الطويل]

رأيت بني البكري في حومة الوغى

كفاغري الأفواه عند عرين

فإن مثل ذلك ورد فيه الجمع، والإفراد، والتثنية. فمن الأول قوله تعالى:{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما،} وقوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [38]: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} . ومن الإفراد: قراءة الحسن قوله تعالى في سورة (طه) رقم [121] وفي ثلاث آيات من سورة

ص: 14

(الأعراف): {فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما} ومن التثنية قراءة من قرأ: «(بدت لهما سوءتاهما)» ، وقراءة الجمهور من الأول {سَوْآتُهُما} فطرد ابن مالك قياس الجمع، والإفراد أيضا لفهم المعنى، وخص الجمهور القياس بالجمع، وقصروا الإفراد على ما سمع، وورد، وإنما وافق الجمهور على قياس كراهة اجتماع تثنيتين مع فهم المعنى، ولذلك شرط أن لا يكون لكل واحد من المضاف إليه إلا شيء واحد؛ لأنه إن كان له أكثر؛ التبس، فلا يجوز في:«قطعت أذني الزيدين» الإتيان بالجمع، ولا الإفراد للإلباس، وأورد ستة أبيات شعرية شاهدا لذلك.

فإن فرق متضمناهما، -كقوله تعالى:{عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فقال ابن مالك- أيضا بقياس الجمع، والإفراد. وخالفه أبو حيان؛ لأن الجمع إنما قيس هناك كراهة اجتماع تثنيتين، وقد زالت بتفريق المتضمنين، قال: فالذي يقتضيه النظر الاقتصار على التثنية، وإن ورد جمع، أو إفراد؛ اقتصر فيه على مورد السماع. قال: وأما الآية فليس المراد فيها باللسان الجارحة، بل المراد الكلام، أو الرسالة، فليس جزءا من داود، ولا من عيسى، عليهما الصلاة والسّلام. انتهى.

أقول: ولم يذكر السيوطي-رحمه الله تعالى-أرجح الأوجه الثلاثة في الثاني، وهو ما أضيف إلى متضمنه، وهي جمع المضاف، وبقاء المضاف إليه على تثنيته، وبقاء كل من المضاف، والمضاف إليه على تثنيته، فأرجحها الوجه الأول، وهذه لغة القرآن، كما رأيت، وهو متفق على رجحانه عند جميع النحاة، واختلف في الوجهين الآخرين: فذهب ابن مالك إلى رجحان الثاني على الثالث، وذهب أبو حيان إلى العكس، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار» وقد أطلت عليك الكلام في ذلك بغية الإفادة، والله ولي التوفيق، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَتُوبا:} فعل مضارع، فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله. {إِلَى اللهِ} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: يتب الله عليكما. {فَقَدْ:} (الفاء): حرف تعليل. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {صَغَتْ:} ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، التي هي حرف لا محل له. {قُلُوبُكُما:}

فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة المفيدة للتعليل، لا محل لها، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ} إعرابها مثل سابقتها، وجواب الشرط محذوف أيضا، والتقدير: وإن تظاهرا عليه؛ فلا يعدم ناصرا، ولن يعدم من يظاهره من الله، والملائكة، وصالحاء المؤمنين.

ص: 15

{فَإِنَّ:} (الفاء): حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {هُوَ:} ضمير فصل لا محل له. {مَوْلاهُ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، و {مَوْلاهُ} خبره، فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ).

{وَجِبْرِيلُ:} معطوف على محل اسم (إنّ) قبل دخول الناسخ، وهذا أجازه البعض دون البعض، وما بعده معطوف عليه؛ فيكون المعنى، والتقدير: فيكونون ناصرين النبي صلى الله عليه وسلم. والخبر عن الكل هو قوله: {مَوْلاهُ} فيقدر بعد كل واحد منها. وفي السمين: ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {مَوْلاهُ،} ويكون (جبريل) مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و {ظَهِيرٌ} خبر الجميع، فتختص الولاية بالله، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين: مرة بالتنصيص عليه، ومرة بدخوله في عموم الملائكة. انتهى. كما أجيز الوقف على (جبريل) واعتبار ما بعده مبتدأ، واعتبار {ظَهِيرٌ} خبرا عنهما، كما أجيز الوقف على {الْمُؤْمِنِينَ،} وما بعده جملة مستأنفة. وقال مكي-رحمه الله تعالى-: إلا أن المتعارف الوقف على {مَوْلاهُ} عند القراء، ويكون (جبريل) ابتداء يبتدأ به.

{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق ب: {ظَهِيرٌ} بعده، و {بَعْدَ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{ظَهِيرٌ:} رأيت الاعتبارات التي قيلت فيه.

{عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)}

الشرح: {عَسى رَبُّهُ:} {عَسى} من الله تفيد تحقيق الوقوع، وتأكيده، وليست على بابها من الرجاء. وقال ابن عرفة: و {عَسى} هنا للتخويف، لا للوجوب. {إِنْ طَلَّقَكُنَّ:} هذا وعد من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن، والله عليم، وخبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن، وتحذيرا، فهو كقوله تعالى في آخر سورة (محمد صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} وهو من باب الفرض، والتقدير. ثم وصف الله عز وجل هؤلاء الزوجات اللاتي سيبدله بهن بما يلي:

{مُسْلِماتٍ} أي: مطيعات خاضعات مستسلمات لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله.

{مُؤْمِناتٍ:} مصدقات بالله، ورسوله، مصدقات بما أمرن به، وبما نهين عنه. {قانِتاتٍ:}

مطيعات. والقنوت: الطاعة، والخضوع. وقيل: مصليات في الليل. {تائِباتٍ:} من ذنوبهن، راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركات لمحابّ أنفسهن. {عَبَّدْتَ:} كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. {سائِحاتٍ:}

صائمات، قيل للصائم: سائح لأن السائح، لا زاد معه، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما

ص: 16