الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الليل
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الليل) وهي مكية. وقيل: مدنية، وهي إحدى وعشرون آية، وإحدى وسبعون كلمة، وثلاثمئة وعشرة أحرف. قال الرازي-رحمه الله تعالى-: نزلت في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-وإنفاقه المال على المسلمين، وفي أمية بن خلف، وبخله، وكفره بالله. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. انتهى. جمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى} أي: غطى كل شيء بظلمته، كلّ ما بين السماء والأرض. وحذف المفعول للتعميم، وللعلم به، فقد أقسم الله بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه، ويسكن الخلق فيه عن التحرك، ويغشاهم النوم؛ الذي جعله الله راحة لأبدانهم، وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى؛ لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعايشهم، وتتحرك الطير من أوكارها، والهوام من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلا؛ لتعذر المعاش، ولو كان كله نهارا؛ لبطلت الراحة. فكانت المصلحة في تعاقبهما. انتهى. جمل نقلا من الخطيب.
أقول: وهذا كله يتجلى في قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [12]، وفي سورة (الروم) رقم [23]، وفي سورة (النمل) رقم [86]، وفي سورة (غافر) رقم [61]، وفي سورة (يونس) رقم [67] انظر شرحها في محالها.
{وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} أي: ومن خلق، فعلى هذا يكون قد أقسم بنفسه تعالى، وتكون (ما) قد أطلقت على الله تعالى. والمعنى: والقادر العظيم الذي قدر على خلق الذكر، والأنثى من ماء واحد؛ إن أريد به جنس الذكر، والأنثى. وقيل: هما آدم، وحواء، وتكون (ما) قد أطلقت عليهما معا. وإنما أقسم بهما؛ لأنه تعالى ابتدأ خلق آدم من طين، وخلق منه حواء من غير أم.
أقول: والأحسن التعميم لجميع الذكور، والإناث المخلوقات؛ لقوله تعالى في سورة (الذاريات) رقم [49]:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} انظر شرحها هناك تجد ما يسرك.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ:} عملكم؛ إذ السعي العمل، فساع في فكاك نفسه، وساع في هلاكها. يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الناس غاديان: فمبتاع نفسه، فمعتقها، وبائع نفسه، فموبقها» . {لَشَتّى:}
مختلف. واحده: شتيت، مثل: مريض، ومرضى، وإنما قيل للمختلف: شتى؛ لتباعد ما بين بعضه، وبعضه، والشتان: الافتراق. قال تعالى في وصف المنافقين: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} رقم [14] من سورة (الحشر) والمعنى: إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض؛ لأن بعضه ضلالة، وبعضه هدى؛ أي: فمنكم مؤمن، وبر، وكافر، وفاجر، ومطيع، وعاص، ومختلف الجزاء أيضا، فمنكم مثاب بالجنّة، ومنكم معاقب بالنار. وقيل: أي: لمختلف الأخلاق، فمنكم راحم، ومنكم قاس، ومنكم حليم، ومنكم طائش، ومنكم جواد، ومنكم بخيل
…
إلخ.
الإعراب: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى:} انظر إعراب {وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها} في سورة (الشمس) ففيها الكفاية. {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} انظر إعراب {وَالسَّماءِ وَما بَناها} في سورة (الشمس) مع العلم:
أن (ما) إن كانت بمعنى: «من» فهي كناية عن الله تعالى، و {الذَّكَرَ} مفعول به، وإن كانت كناية عن المخلوق، فهي مصدرية، و {الذَّكَرَ} بدل من «من». انتهى. أبو البقاء. هذا؛ وأجاز الفراء خفض {الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} على البدل من (ما) وجعلها بمعنى «الذي». مكي. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.
{سَعْيَكُمْ:} اسم {إِنَّ،} والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله.
{لَشَتّى:} اللام: هي المزحلقة. (شتى): خبر {إِنَّ} مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية جواب القسم:{وَاللَّيْلِ..} . إلخ وما عطف عليه. وانظر تفصيل الإعراب في سورة (الشمس) وسورة (المرسلات) و (الذاريات).
{فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاِتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)}
الشرح: {فَأَمّا مَنْ..} . إلخ: بيان، وتفصيل لتلك المساعي المختلفة، وتبيين لأحكامها، و {مَنْ أَعْطى} يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى. يقال: فلان أعطى الطاعة، وأعطى البيعة. وقيل: معنى الإعطاء: إنفاق المال في جميع وجوه الخير، من عتق الرقاب، وفك الأسارى، وتقوية المسلمين على عدوهم. انتهى. جمل نقلا من الرازي.
هذا؛ وقال ابن مسعود-رضي الله عنه-وعامة المفسرين: نزلت الآيات الثلاث في أبي بكر رضي الله عنه-فقد كان ينفق المال في عتق العجائز، والنساء. فقال له أبوه أبو قحافة: أي بني! لو أنك عتقت رجالا يمنعونك، ويقومون معك! فقال: يا أبت! إنما أريد ما أريد، فهو يعني-رضي الله عنه-رضا الله. ومعنى {أَعْطى} أنفق، وبذل المال في وجوه الخير، ومعنى (اتقى) أي: محارم الله؛ التي نهى عنها، فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى} أي: بالخلف من الله تعالى على عطائه. وهو اختيار الطبري. وقيل: صدق بلا إله إلا الله. وقيل: صدق بموعود الله تعالى.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى} أي: نرشده لأسباب الخير، والصلاح؛ حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد ابن أسلم-رحمه الله تعالى-:{لِلْيُسْرى} للجنة. وفي الصحيحين، والترمذي عن علي-رضي الله عنه-قال: كنا في جنازة بالبقيع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس، وجلسنا معه، ومعه عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء، فقال:«ما من نفس منفوسة إلاّ قد كتب مدخلها» . فقال القوم: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا؛ فمن كان من أهل السعادة؛ فهو يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاوة؛ فإنه يعمل للشقاوة؟! قال:«بل اعملوا، فكلّ ميسّر، أمّا من كان من أهل السعادة، فإنه ييسّر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فإنّه ييسّر لعمل الشقاء، ثم قرأ {فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» }. وسأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: العمل فيما جفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم في شيء يستأنف؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير» . قالا: ففيم العمل؟! قال: «اعملوا فكلّ ميسّر لعمله الذي خلق له» . قالا:
فالآن نجدّ ونعمل. وانظر ما ذكرته في سورة (هود) رقم [105]، وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكا تلفا» . أخرجه مسلم، وغيره. وروي من حديث أبي الدرداء-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلّهم إلا الثقلين: اللهمّ أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا» . فأنزل الله تعالى ذلك في القرآن {فَأَمّا مَنْ أَعْطى..} . إلخ الآيات. انتهى. قرطبي.
هذا؛ و (اتقى) أصله (اوتقى) قلبت الواو تاء، وأدغمت التاء في التاء، مثل: اتصل، أصله:
أوتصل، واتقى ماض من التقوى، وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي: الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا، والآخرة. وانظر ما وصف الله به المتقين في أول سورة (البقرة).
الإعراب: {فَأَمّا:} انظر سورة (الضحى). {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَعْطى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} تقديره: «هو» ، وحذف مفعولاه. قال ابن هشام في المغني:
ويجوز حذف مفعولي {أَعْطى،} نحو: {فَأَمّا مَنْ أَعْطى} وثانيهما فقط، نحو:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} سورة (الضحى) وأولهما فقط، خلافا للسهيلي، نحو {حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} سورة (التوبة) رقم [29]. وينبغي أن تعلم: أنه لا يحذف المفعولان، أو أحدهما إلا إذا دل دليل على ذلك.
قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: [الرجز]
ولا تجز هنا بلا دليل
…
سقوط مفعولين أو مفعول
قال ابن عقيل-رحمه الله تعالى-: وهذا الذي ذكره المصنف هو الصحيح من مذاهب النحويين، فإن لم يدل دليل على الحذف؛ لم يجز لا فيهما، ولا في أحدهما
…
إلخ. {وَاتَّقى:}
الواو: حرف عطف. (اتقى): فعل ماض معطوف على ما قبله، فهو مثله في محل جزم، والفاعل يعود إلى {مَنْ} أيضا، ومفعوله محذوف أيضا. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، وإعرابها ظاهر إن شاء الله تعالى. {فَسَنُيَسِّرُهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
السين: حرف تنفيس، واستقبال، وهي تفيد التحقيق، والتأكيد في حقّ الله تعالى. (نيسره): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط. {لِلْيُسْرى:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح عند المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا؛ فهي مبتدأ، وجملة:{أَعْطى..} . إلخ صلتها، وجملة:{فَسَنُيَسِّرُهُ..} . إلخ خبرها، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. ويقال: الفاء واقعة في جواب (أما). والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، ومفرعة عما قبلها لا محل لها.
{وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاِسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)}
الشرح: {وَأَمّا مَنْ بَخِلَ:} بماله، فلم ينفقه في وجوه الخير، والطاعة. {وَاسْتَغْنى} أي: عن فضل الله تعالى، وثوابه، فلم يرغب فيه. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى} أي: فلم يؤمن، ولم يثق بما وعد الله به المحسنين من الثواب الكريم، والأجر الجزيل على إنفاق المال في وجوه الخير. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} أي: فسنهيئه للشر بأن نجريه على يديه؛ حتى يعمل بما لا يرضي الله، فيستوجب بذلك النار. وقيل: نعسر عليه أن يأتي خيرا. وفي الآية دليل لأهل السنة، وصحة قولهم في القدر، وأن التوفيق، والخذلان، والسعادة، والشقاوة بيد الله تعالى، ووجوب العمل بما سبق له في الأزل. انتهى. خازن.
هذا؛ وقد قال الزمخشري بقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى} والمعنى: فسنلطف به، ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه، وأهونها من قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} وقال بقوله تعالى هنا: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى:} فسنخذله، ونمنعه الألطاف؛ حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه، وأشده من قوله تعالى:{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} .
قال أحمد بن المنير: ألا يطيل لسانه هاهنا على أهل السنة، ولكن قصره الحق، فتراه يؤول الكلام، بل يعطله؛ لأنه يحمله على ما لا يحتمله، وعلى كلامه في أمثالها روعة السارق الخائف.
هذا؛ وقال الفراء: يقول القائل: كيف قال: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} وهل في العسرى تيسير؟! فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} رقم [21] من سورة (آل عمران)، و [34] من سورة (التوبة)، و [24] من سورة (الانشقاق)، والبشارة في الأصل على المفرح والسار، فإذا جمع في كلامين: هذا خير، وهذا شر؛ جاءت البشارة فيهما جميعا، وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين: هذا خير، وهذا شر؛ جاء التيسير جميعا. انتهى. قرطبي. هذا؛ ولقد تكلمت على البخل، والبخلاء فيما تقدم كثيرا. انظر آخر سورة (محمد صلى الله عليه وسلم والآية رقم [11] و [15] من سورة (الحديد) والآية رقم [9] من سورة (الحشر) وخذ ما يلي في حق السخاء.
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السخيّ قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار. ولجاهل سخيّ أحبّ إلى الله من عالم بخيل» . رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن كلّ جواد في الجنة حتم على الله وأنا به كفيل، ألا وإنّ كلّ بخيل في النار حتم على الله، وأنا به كفيل» . قالوا: يا رسول الله! من الجواد، ومن البخيل؟ قال:«الجواد من جاد بحقوق الله عز وجل في ماله. والبخيل من منع حقوق الله، وبخل على ربّه، وليس الجواد من أخذ حراما، وأنفق إسرافا» . رواه الأصبهاني.
وعن عمر-رضي الله عنه وأرضاه-قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى بعث حبيبي جبريل عليه الصلاة والسلام إلى إبراهيم عليه السلام، فقال له: يا إبراهيم! إني لا أتّخذك خليلا على أنّك أعبد عباد لي، ولكن اطلعت على قلوب المؤمنين، فلم أجد قلبا أسخى من قلبك» . رواه الطبراني وابن حبان.
وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، عن الله تعالى؛ قال:«إن هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلح له إلاّ السخاء، وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه» . رواه الطبراني في الأوسط.
ومعلوم: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صفوة الصفوة من سادة العرب، والمثل الأعلى للإنسانية الكاملة الفياضة بالخير، والرحمة، والجود، والعطاء، فكل العالمين دونه في النبل، والكمال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، لا جرم كان أجود الناس، وأكثرهم عطاء، وأبذلهم للخير، والمال، وكيف لا يكون كذلك؛ وروحه أقوى الأرواح، ونفسه أحسن النفوس، ومزاجه أعدل الأمزجة، وعليه أنزل:{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكانت الأموال تأتيه من كل فج عميق بكثرة، فلا يقوم من مجلسه؛ حتى يفرقها كلها في وجوه الخير، والبر، والإحسان، ولا يرد
سائله إلا بحاجته، أو بميسور من القول، وإن رجلا أتاه، فسأله، فأعطاه غنما تسد ما بين جبلين، فرجع إلى قومه. وقال: أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وما سئل شيئا قط، فقال: لا. وجاء رجل فسأله، فقال:«ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء؛ قضيناه» . فقال عمر-رضي الله عنه: يا رسول الله! ما كلفك الله ما لا تقدر عليه!. فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالا! فتبسم صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه.
وقال الإمام علي-رضي الله عنه: إذا أقبلت عليك الدنيا؛ فأنفق منها، فإنها لا تفنى. وإذا أدبرت عنك؛ فأنفق منها فإنها لا تبقى. وقيل في المعنى:[البسيط]
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة
…
فليس ينقصها التبذير والسّرف
وإن تولّت فأحرى أن تجود بها
…
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وأكتفي بما تقدم، ولو شئت لعملت من ذلك صفحات.
وإعراب الآيات الثلاث مثل إعراب ما قبلهن، بلا فارق، ولا تنس المقابلة بين الآيات، والطباق بين (اليسرى) و (العسرى)، وكل ذلك من المحسنات البديعية.
الشرح: {وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ:} الذي جمعه من حلال، وحرام، ثم بخل به في وجوه الخير، والإحسان. {إِذا تَرَدّى} أي: مات، يقال: ردي الرجل، يردى ردى: إذا هلك. وقيل: تردى سقط في جهنم. وقيل: سقط في القبر، و (ما) تحتمل النفي، والاستفهام. انظر الإعراب، ومثله في سورة:(المسد) قوله تعالى: {ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ} .
{إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى} أي: إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة، فالهدى بمعنى:
بيان الأحكام. قاله الزجاج؛ أي: علينا البيان، بيان الحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، وذلك: أن الله تعالى عرفهم ما للمحسن من اليسرى، وما للمسيء من العسرى، أخبرهم: أن بيده الإرشاد والهداية وعليه تبيين طريقها. وقيل: معناه: إن علينا للهدى، والإضلال، فاكتفى بذكر أحدهما. والمعنى: أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي، وأصرف أعدائي عن العمل بطاعتي.
{وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى} أي: لنا ما في الدنيا، والآخرة، فمن طلبهما من غير مالكهما؛ فقد أخطأ الطريق، فهو كقوله تعالى في سورة (النجم):{فَلِلّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى،} وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [134]: {مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} والمعنى: إن الأمر كله لله، مالك الدنيا، والآخرة، فهو المتصرف فيهما، تصرف الملاك، يعطي من يشاء،
ويمنع من يشاء، لا راد لعطائه، ولا معطي لما منع. هذا؛ والمراد ب:(الأولى) الحياة الدنيا الحاضرة؛ التي يحياها الإنسان؛ وهو حي، والمراد ب:(الآخرة) الحياة التي تكون بعد الموت، وما فيها من عذاب، أو نعيم، والآخرة: الحياة الثانية الأبدية التي تكون بعد الموت، وما فيها من البعث، والنشور، والحساب، والجزاء، وهي في الجنة لمن آمن، وعمل صالحا، أو في النار لمن كفر، وعمل سيئا.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {يُغْنِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مالُهُ:}
فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والمفعول محذوف، التقدير: وما يغني عنه ماله شيئا.
هذا؛ وإن اعتبرت (ما) اسم استفهام، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
وقيل: في محل نصب مفعول مطلق لما بعده، التقدير: أي إغناء يغني؟ والجملة على الوجهين فعلية، وهي مستأنفة، لا محل لها. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {يُغْنِي} . {تَرَدّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل مستتر، يعود إلى {مَنْ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. هذا؛ وإن اعتبرت إذا شرطية، فالفعل {تَرَدّى} شرطها، وجوابها محذوف، دلّ على ما قبلها.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {لَلْهُدى:} اللام: لام الابتداء. (الهدى): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.
الشرح: {فَأَنْذَرْتُكُمْ} أي: حذرتكم، وخوفتكم، والخطاب لأهل مكة، وهو عام إلى يوم القيامة؛ لأن خصوص السبب، لا يمنع التعميم. {تَلَظّى:} تتوهج، وتتوقد، وأصله: تتلظى، فحذفت إحدى التاءين. ومثله كثير في الآيات القرآنية، والتظاء النار: التهابها، وتلظّيها: تلهبّها.
وخذ ما يلي:
عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهون أهل النّار عذابا رجل في أخمص قدميه جمرتان، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل بالقمقم» . رواه الشيخان.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» . رواه مسلم.
{لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى} أي: لا يحترق فيها، ويقاسي حرها إلا الشقي، وهو:{الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى} أي: كذب محمدا صلى الله عليه وسلم، وأعرض عن الإيمان، وعن العمل بما يوجبه هذا الإيمان
بالجوارح، والأعضاء. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلاّ شقيّ» . قيل: ومن الشقي؟ قال: «الذي لا يعمل بطاعة الله» . أخرجه الإمام أحمد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى» . قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني؛ فقد أبى» . أخرجه البخاري، وأحمد عن أبي هريرة-رضي الله عنه. انتهى. مختصر ابن كثير. ولا تنس: أن الأشقى الكافر يصلى نار جهنم خالدا مخلدا، والأشقى الفاسق المسلم يصلاها مؤقتا بحسب جريمته؛ التي عملها في الدنيا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وإن الزمخشري شذ في تفسير الأشقى، فصفعه ابن المنير كعادته. جزاه الله خيرا!.
الإعراب: {فَأَنْذَرْتُكُمْ:} الفاء: حرف استئناف. (أنذرتكم): فعل، وفاعل، ومفعوله الأول.
{ناراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {تَلَظّى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {ناراً،} تقديره: «هي» ، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {ناراً}. {لا:} نافية. {يَصْلاها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، و (ها): مفعول به. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْأَشْقَى:}
فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{ناراً} أو هي في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {الْأَشْقَى،} أو بدل منه، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير:
أذم، أو أعني الذي. وهذان الوجهان على القطع. {كَذَّبَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى (18)}
الشرح: {وَسَيُجَنَّبُهَا:} وسيزحزح عن النار، ويكون بعيدا عنها التقي، النقي، المتقي، الخائف. هذا؛ وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله {الْأَتْقَى} و {الْأَشْقَى} أي: التقي، الشقي، ويوضع أفعل موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى: كبير، وقوله تعالى في سورة (الروم) رقم [27]:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . وقال الشافعي-رضي الله عنه، وعزاه القرطبي سهوا لطرفة بن العبد:[الطويل]
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت
…
فتلك سبيل لست فيها بأوحد