الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (البلد) مكية باتفاق، وآياتها عشرون. وكلماتها اثنتان وثمانون، وحروفها ثلاثمئة وعشرون. انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ} أي: مكة. فقد أجمعوا عليه، فإن الله تعالى جعله حرما آمنا، ومثابة للناس، وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب من المسلمين، وشرفه بمقام إبراهيم، وحرم فيه الصيد، وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل وغيرها لما اجتمعت في مكة دون غيرها؛ أقسم الله بها. انتهى. جمل نقلا من الرازي. هذا؛ وقد اختلف في (لا) فقيل: صلة. قاله الأخفش؛ أي: أقسم؛ لأنه قال: بهذا البلد، وقد أقسم به في سورة (التين) في قوله:{وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} فكيف يجحد القسم به، وقد أقسم به. قال الشاعر:[الطويل]
تذكّرت ليلى فاعترتني صبابة
…
وكاد صميم القلب لا يتقطّع
أراد: وكاد صميم القلب يتقطع. وقال بعضهم {لا} ردّ لكلامهم، حيث أنكروا الحشر، والنشر، فقال: ليس الأمر كما تزعمون. وهذا قول الفراء. وقال القشيري: قوله {لا} ردّ لما توهم الإنسان المذكور في هذه السورة. المغرور بالدنيا؛ أي: ليس الأمر كما يحسبه من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. قالوا: وفائدتها تأكيد القسم، كقولك: لا والله ما ذاك! تريد والله، فيجوز حذفها لكنه أبلغ في الرد مع إثباتها. وقيل: اللام لام الابتداء، فأشبعت بالمد، فتولدت الألف، ويؤيده قراءة ابن كثير:«(لأقسم)» بغير ألف المد، ويعبر عن قراءة ابن كثير بالقصر، وعن قراءة الباقين بالمد، وعلى قراءة ابن كثير فاللام لام الابتداء، وجملة:{أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ} في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: لأنا أقسم بهذا البلد، ولو أريد به الاستقبال؛ للزمت النون، وقد جاء حذف نون التوكيد مع الفعل الذي يراد به الاستقبال، وهو شاذ. وانظر ما ذكرته في أول سورة (القيامة) إن أردت الزيادة.
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ} أي: مقيم به نازل فيه. فكأنه عظم حرمة مكة من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم مقيم بها. وقيل: {حِلٌّ} أي: حلال، فقد ذكر أهل اللغة: أنه يقال: رجل حل، وحلال، ومحل. ورجل حرام، ومحرم، وحرم. والمعنى: أحلّت لك تصنع فيها ما تريد من القتل والأسر، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها. أحل الله عز وجل له مكة يوم الفتح حتى قاتل، وأمر بقتل عبد الله بن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، قتله أبو برزة الأسلمي بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتل مقيس بن صبابة، وغيرهما، وأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم آخرين، فقال:«من دخل دار أبي سفيان؛ فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومن دخل المسجد؛ فهو آمن» . ثم قال بعد ذلك: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات، والأرض، ولم تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» .
والمعنى: أن الله تعالى لما أقسم بمكة؛ دل ذلك على عظم قدرها، وشرفها، وحرمتها، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يحلها له؛ حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا؛ وعد من الله تعالى في الماضي، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة، وخروجه منها، فكان كما وعده. انتهى. خازن.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرام، حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، وإنما أحلّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» . متفق عليه، وفي لفظ آخر:«فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله، فقولوا: إنّ الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم» . انتهى. مختصر ابن كثير.
{وَوالِدٍ وَما وَلَدَ:} قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والحسن، وأبو صالح:{وَوالِدٍ} آدم عليه السلام، {وَما وَلَدَ} أي: وما نسل من ذريته، وولده. أقسم ربهم بهم؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من التبيان، والنطق، والتدبير، وفيهم الأنبياء، والدعاة إلى الله تعالى. انتهى. قرطبي. وقال الخازن: أقسم الله بمكة لشرفها وحرمتها، وبآدم وبالأنبياء والصالحين من ذريته؛ لأن الكافر، وإن كان من ذريته؛ فلا حرمة له؛ حتى يقسم به.
وقال الفراء: وصلحت (ما) للناس كقوله في سورة (النساء) رقم [3]: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} وقوله تعالى في سورة (الليل): {وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} والله هو الخالق للذكر، والأنثى. وقيل: ما مع ما بعدها في موضع المصدر؛ أي: ووالد وولادته، كقوله تعالى في سورة (الشمس):{وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها} . وقال عكرمة، وسعيد بن جبير:{وَوالِدٍ} يعني: الذي يولد له. {وَما وَلَدَ} يعني: العاقر الذي لا يولد له. وقاله ابن عباس-رضي الله عنهما-و (ما) على هذا نفي. وهو بعيد، ولا يصح إلا بإضمار الموصول؛ أي: ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين. انتهى. قرطبي.
هذا؛ وقال الزمخشري، والنسفي، وغيرهما: نظير قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ} في الاستقبال قوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [3]: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أقول: إذ المعنى: أنت ستحل حرمة هذا البلد، وإنك ستموت، وإنهم سيموتون. وقال البيضاوي: وإيثار (ما) على «من» لمعنى التعجب، كما في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [36]:{وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} أي: وضعت (ما) مكان: «من» لإفادة التعجب؛ لأن (ما) لغير العاقل، و «من» للعاقل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ} أي: في شدة، وعناء من مكابدة الدنيا، وأصل الكبد: الشدة، ويقال: كابدت هذا الأمر؛ أي: قاسيت شدته. قال لبيد بن ربيعة-رضي الله عنه: [المنسرح]
يا عين هلاّ بكيت أربد إذ
…
قمنا وقام الخصوم في كبد
قال يمان: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق. وقيل:
يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة. قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطا، وشدّ رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام؛ الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع، والأحزان، ثم يكابد المعلم، وصولته، والمؤدب، وسياسته، والأستاذ، وهيبته، ثم يكابد شغل الترويج، والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم، والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر، والهرم، وضعف الركبة، والقدم في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغمّ الدّين، ووجع السنّ، وألم الأذن. ويكابد محنا في المال، والنفس، مثل الضرب، والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك في القبر، وضغطة القبر، وظلمته، ثم البعث، والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. انتهى. قرطبي.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: الكبد: الاستواء، والاستقامة، فعلى هذا يكون المعنى: خلقنا الإنسان منتصبا، معتدل القامة، وكل شيء من الحيوان يمشي منكبا. وقيل: منتصبا في بطن أمه، فإذا أذن الله في خروجه، انقلب رأسه إلى أسفل. انتهى. خازن، والمعتمد الأول.
الإعراب: {لا:} انظر الكلام عليها في الشرح. {أُقْسِمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر وجوبا، تقديره:«أنا» . {بِهذَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه مقحم بين الجار، والمجرور. {الْبَلَدِ:} صفة، أو بدل من اسم الإشارة. {وَأَنْتَ:} الواو: واو الاعتراض. (أنت): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {حِلٌّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معترضة بين الاسمين المتعاطفين، وقيل: هي في محل نصب حال من
{الْبَلَدِ} . قاله أبو حيان، وغيره. {بِهذَا:} جار ومجرور متعلقان ب: {حِلٌّ} . {الْبَلَدِ:} صفة، أو بدل، أو عطف بيان. {وَوالِدٍ:} الواو: حرف عطف. (والد): معطوف على {الْبَلَدِ} . {وَما:}
الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {الْبَلَدِ} أيضا. {وَلَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما) والمفعول محذوف، وهو العائد، والجملة صلة:(ما) التقدير: والذي ولده.
{لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل. {الْإِنْسانَ:} مفعول به. {فِي كَبَدٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقال أبو البقاء. متعلقان بمحذوف حال؛ أي: مكابدا. والجملة الفعلية جواب القسم الأول، واعتبار الواوين الأخيرين للعطف أولى من اعتبارهما للقسم؛ لاحتياج كل واحد منهما إلى جواب، ولا جواب إلا للأول، كما ترى في أول سور كثيرة. ومثل ذلك قول أبي صخر الهذلي-وهو الشاهد رقم [80] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
أما والّذي أبكى وأضحك والّذي
…
أمات وأحيا والّذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى
…
أليفين منها لا يروعهما الذّعر
الشرح: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ..} . إلخ: قال الكلبي: نزلت الآية في رجل من بني جمح، كان يقال له: أبو الأشد، اسمه: أسيد بن كلدة بن جمح، كان شديدا قويا، يضع الأديم العكاظي تحت قديمه، ويقول: من أزالني عنه، فله كذا، وكذا! فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مات على كفره، وكذلك كان ركانة بن هاشم بن عبد المطلب مثلا في البأس، والشدة، وقد أسلم-رضي الله عنه. وانظر شرح (يحسب) في الآية رقم [3] من سورة (القيامة).
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً} أي: كثيرا مجتمعا، أنفقته في وجوه الخير. وكان كاذبا؛ حيث أنفقه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي وجوه الشر، والطغيان، والفساد، والظلم، والعصيان، والسمعة، والرياء، وغير ذلك مما كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم، ومعالي، ومفاخر. وقرئ {لُبَداً} بقراءات كثيرة، وهو من تلبّد الشّيء: إذا اجتمع. وانظر شرح الآية رقم [19] من سورة (الجن) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{أَيَحْسَبُ} أي: الإنسان. {أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أي: بل علم الله-عز وجل-ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكته، وأنفقته في وجوه الخير. ومن حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-الذي
خرجه مسلم، والنسائي، والترمذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد
…
إلخ ورجل تعلم العلم، وعلمه
…
إلخ، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها، إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنّك فعلت ذلك؛ ليقال: هو جواد. فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه؛ حتّى ألقي في النّار». هذا الحديث مذكور بطوله في كتاب:«الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري، باب: الترهيب من الرياء.
وعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟» . رواه البيهقي، والترمذي.
وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بابن آدم كأنه بذخ، فيوقف بين يدي الله، فيقول الله له: أعطيتك، وخوّلتك، وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: يا ربّ! جمعته، وثمّرته، فتركته أكثر ما كان فأرجعني آتك به، فيقول له: أين ما قدمت؟ فيقول: يا ربّ جمعته، وثمرته، فتركته أكثر ما كان، فأرجعني آتك به، فإذا هو عبد لم يقدّم خيرا، فيمضى به إلى النّار» . رواه الترمذي.
الإعراب: {أَيَحْسَبُ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. (يحسب): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ}. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَقْدِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} . {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَحَدٌ:} فاعل {يَقْدِرَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ،} و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل (يحسب)، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الإنسان. {أَهْلَكْتُ:} فعل، وفاعل. {مالاً:} مفعول به. {لُبَداً:}
صفة له، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل (يحسب)، والرابط: الضمير فقط. {أَيَحْسَبُ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي.
(يحسب): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ}. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن، التقدير: أنه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَهُ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والهاء مفعول به، {أَحَدٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ،} و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي (يحسب)، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وهي بمنزلة البدل مما قبلها.
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)}
الشرح: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ:} يبصر بهما المرئيات، شققناهما؛ وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب، لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئا، وقدرنا البياض، والسواد، والسمرة، والزرقة، وغير ذلك على ما ترون، وأودعنا البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها. وانظر شرح (العين) في سورة (الدهر) رقم [6]. {وَلِساناً:} يترجم به عما في ضميره.
{وَشَفَتَيْنِ:} يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النطق، والأكل، والشرب، والنفخ، وغير ذلك، وهما زينة الوجه، والفم، والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه، ونحصي عليه ما عمله.
قال أبو حازم-رضي الله عنه، وهو آخر الصحابة موتا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول: أي ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك؛ فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق. وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك؛ فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك؛ فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق» .
{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} يعني: الطريقين: طريق الخير، وطريق الشر؛ أي: بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد: الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود-رضي الله عنهما وغيرهما. وروى قتادة-رحمه الله تعالى-قال: ذكر لنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أيها الناس إنما هما النجدان، نجد الخير، ونجد الشرّ، فلم تجعل نجد الشر أحبّ إليك من نجد الخير؟» . وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان، وهو قول سعيد بن المسيب، والضحاك، وروي أيضا عن ابن عباس، وعلي-رضي الله عنهما؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد، ورزقه. والأول هو المعتمد.
هذا؛ وأصل النجد: الطريق المرتفع، استعير كل منهما لسلوك طريق السعادة، وسلوك طريق الشقاوة. قال تعالى في سورة (الدهر) رقم [3]:{إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً} فالنجد: العلو، وجمعه: نجود، ونجد، وأنجد، وأنجاد، ونجاد، وجمع النجود: أنجدة، ومنه سميت نجد في الجزيرة العربية لارتفاعها عن انخفاض تهامة. قال امرؤ القيس:[الطويل]
فريقان منهم جازع بطن نخلة
…
وآخر منهم قاطع نجد كبكب
هذا؛ واستعارة الطريق المرتفع للخير لا غبار عليه، وهو ظاهر، ولكن كيف يستعار للشر، وهو هبوط، وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال؟! والجواب: أنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب، وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودا، وهبوطا، وإسفافا. وهذه هي بلاغة القرآن، وروعته؛ التي أخرست الفصحاء، وأسكتت البلغاء. هذا؛ والشفة محذوفة اللام، أصلها: شفهة، بدليل تصغيرها على شفيهة، وجمعها: شفاه، ويقال: شفهات، وشفوات،
والهاء أقيس، والواو أعم تشبيها بالسنوات، وشافهته: كلمته من غير واسطة. قال السمين: ولا تجمع بالألف، والتاء استغناء بتكسيرها عن تصحيحها.
هذا؛ واللسان آلة النطق، كما هو معروف، ومعلوم، وقد أطلقه الله على القرآن بكامله، وذلك بقوله عز وجل:{وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} الآية رقم [103] من سورة (النحل)، كما أطلقه العرب على كلمة السوء، كما في قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [330] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
لسان السّوء تهديها إلينا
…
وحنت وما حسبتك أن تحينا
وأطلقه العرب على القصيدة من الشعر كما في قول الشاعر: [المتقارب]
أتتني لسان بني عامر
…
فجلّى أحاديثها عن بصر
وقد يجعل كناية عن الكلمة الواحدة، كما في قول الأعشى؛ وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر:[البسيط]
إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها
…
من علو لا عجب منها ولا سخر
قال الجوهري: يروى: من علو بضم الواو، وفتحها، وكسرها. أي: أتاني خبر من أعلى، والتأنيث للكلمة، وقد أطلقه الله على القرآن بكامله كما رأيت. كما أطلقه على الثناء الجميل، والذكر الحسن في قوله جلت قدرته:{وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} الآية رقم [50] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.
هذا؛ واللسان يؤنث، فيجمع على: ألسن كذراع، وأذرع، ويذكر فيجمع على: ألسنة، كحمار وأحمرة، وتصغيره على التذكير: لسين، وعلى التأنيث: لسينة.
هذا؛ واللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، وله في الخير مجال، وفي الشر ميدان، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه، ويكفه عن كل ما تخشى غائلته، وهو أعصى الأعضاء على الإنسان؛ لأنه لا تعب في إطلاقه، ولا مشقة في تحريكه. وقد تساهل الناس في الاحتراز على آفاته، والحذر من مصائده، وحبائله، لذلك حذرت الأحاديث الشريفة من شطحاته، وسقطاته؛ ليسلم للمسلم عرضه، وينجو من آثامه بدينه، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الثرثرة، والتشدق، وحث على الصمت، والتعقل؛ لأن اللسان ترجمان، يعبر عن مستودعات الضمائر، ويخبر عن مكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على ردّ شوارده، والأحاديث في ذلك كثيرة، أكتفي بما يلي:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ-رضي الله عنه: «أنت سالم ما سكت، فإذا تكلّمت؛ فعليك، أو لك» . وعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: «أمسك
عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك». رواه أبو داود، والترمذي. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي» . رواه الترمذي، والبيهقي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يزلّ بها في النار أبعد ما بين المشرق، والمغرب» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
الإعراب: {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{نَجْعَلْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَيْنَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
{وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ:} معطوفان على {عَيْنَيْنِ} منصوبان مثله. {وَهَدَيْناهُ:} الواو: حرف عطف.
(هديناه): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {النَّجْدَيْنِ:}
مفعول به ثان، أو هو منصوب بنزع الخافض.
{فَلا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}
الشرح: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ:} فهلا الذي أنفق ماله في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، هلا أنفقه فيما ينجيه يوم القيامة من عذاب الله، وسخطه. والاقتحام: الدخول في الأمر الشديد. قال محيي السنة:
ذكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة. وقال صاحب الفرائد: هذا تنبيه على أن النفس لا توافق صاحبها في الإنفاق لوجه الله ألبتة، فلا بد من التكليف، وتحمّل المشقة، والذي توافقه النفس هو الافتخار، والمراءاة، والعقبة في الأصل: الطريق الصعب في الجبل، واقتحامها مجاوزتها، وقد استعيرت هنا للأعمال الصالحة؛ لأنها تصعب، وتشق على النفوس، ففيه استعارة تبعية. وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ بين أيديكم عقبة كؤودا، لا ينجو منها إلاّ كلّ مخفّ» . رواه البزار بإسناد حسن، فالعقبة في هذا الحديث مستعارة لأهوال يوم القيامة، وأهمها: الجواز على الصراط. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخرج رجل شيئا من الصّدقة؛ حتى يفكّ عنها لحيي سبعين شيطانا» . أخرجه الإمام أحمد عن بريدة-رضي الله عنه.
هذا؛ وقال الفراء والزجاج: وذكر (لا) مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد (لا) مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع؛ حتى يعيدوها في كلام آخر، كقوله تعالى في سورة (القيامة) رقم [31]:{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى،} وقوله تعالى في كثير من السور: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله الآتي:{ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ}
آمَنُوا قائما مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة، ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا، ولا سلم. هذا؛ وقيل: معنى {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ:} فلم يقتحم العقبة، ومنه قول زهير في معلقته رقم [40]:[الطويل]
وكان طوى كشحا على مستكنّة
…
فلا هو أبداها ولم يتقدّم
أي: فلم يبدها، ولم يتقدم. وكذا قال المبرد، وأبو علي الفارسي:(لا) بمعنى: «لم» .
وقال ابن هشام في المغني: فإن (لا) فيه مكررة في المعنى؛ لأن المعنى: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا؛ لأن ذلك تفسير للعقبة.
{وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي: أي شيء العقبة تفخيما لشأنها، وتعظيما لقدرها. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد كل عاقل يهمه أمر دينه، وآخرته. قال يحيى بن سلام-رحمه الله تعالى-:
بلغني: أن كل شيء في القرآن: {وَما أَدْراكَ} فقد أدراه إياه، وعلمه. وكل شيء قال:{وَما يُدْرِيكَ} فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة-رحمه الله تعالى-: كل شيء قال فيه: {وَما أَدْراكَ} فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه:{وَما يُدْرِيكَ} فإنه لم يخبر به. وانظر شرح (درى) في آخر سورة (الانفطار) تجد ما يسرك.
{فَكُّ رَقَبَةٍ:} فكها: خلاصها من الأسر. وقيل: من الرق. وقد رغب القرآن، وحثّ الرسول صلى الله عليه وسلم على تحرير الرق. وخذ من ذلك ما يلي: فعن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة؛ أعتق الله بكلّ إرب (عضو) منها إربا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج» . فقال علي بن الحسين-رضي الله عنهما: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد: نعم، فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفا، فلما قام بين يديه؛ قال: اذهب فأنت حرّ لوجه الله.
أخرجه الشيخان، وغيرهما. وعند مسلم: أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.
وعن عمرو بن عبسة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى مسجدا؛ ليذكر الله فيه؛ بنى الله له بيتا في الجنة. ومن أعتق نفسا مسلمة؛ كانت فديته من النار. ومن شاب شيبة في الإسلام؛ كانت له نورا يوم القيامة» أخرجه الإمام أحمد.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام، فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث؛ أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم. ومن شاب شيبة في سبيل الله؛ كانت له نورا يوم القيامة.
ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدوّ، أصاب، أو أخطأ؛ كان له عتق رقبة. ومن أعتق رقبة مؤمنة؛ أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار. ومن أعتق زوجين في سبيل الله؛ فإنّ للجنة ثمانية أبواب، يدخله الله من أيّ باب شاء منها». أخرجه الإمام أحمد.
تنبيه: يطعن المستشرقون، والملحدون من أبناء المسلمين في الإسلام، وينعتونه بالقسوة، وبأنه عمل على تكديس الرق، وتكريسه، ويستدلون على ذلك بما كان عند الخلفاء، والأثرياء من العبيد والسراري الكثيرة، والجواب، بل والردّ المفحم لهم، والحجر الذي يلقى في حلوقهم: أن الإسلام لم يبتدع الرق، ولم يعمل على تشجيعه، وإنما جاء؛ والبشرية غارقة بمآسي الرقيق، فلو دعا الإسلام من أول نشأته إلى تحرير الرق؛ لنفر منه الأثرياء، وذوو الجاه، والسلطان.
ولكنه عمل على تحرير الرقيق بشتى الوسائل، وفتح أبوابا كثيرة لتحريره، لم نجد ذلك في اليهودية، ولا في النصرانية، ولا في المجوسية، وغيرها من الدّيانات على ممر العصور، وقد جعل الإسلام تحرير الرقيق أول ما يجب في الكفارات لمن كان يملك رقيقا، أو قدر على شرائه، وذلك في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في رمضان، ونحو ذلك، كما حث على مكاتبة الرقيق؛ التي ذكرتها لك في سورة (النور). هذا بالإضافة إلى الترغيب في عتق الرقيق احتسابا لوجه الله. والأحاديث التي ذكرتها لك أكبر شاهد على ذلك، ولا يفوتني أن أذكر: أن الإسلام قد أمر سيد العبد أن يحسن معاملته، وأن يرفق به، وأن يتلطف بمخاطبته. وقد ذكرت نبذة عن ذلك في سورة (النور).
الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف استئناف. (لا): حرف نفي، وذكرت في الشرح أنها بمعنى هلاّ. {اِقْتَحَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ}. {الْعَقَبَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف استئناف، بل واعتراض. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {أَدْراكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (ما)، تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول. {مَا الْعَقَبَةُ:}
مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعول {أَدْراكَ} الثاني، المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. وقال زاده: في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني، والثالث ل:(أدرى)؛ لأنه بمعنى: أعلم، والجملة الفعلية:{أَدْراكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَكُّ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي فك، والجملة الاسمية تفسير ل:{الْعَقَبَةَ،} و {فَكُّ} مضاف، و {رَقَبَةٍ} مضاف إليه. من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: فكك رقبة. هذا؛ ويقرأ «(فكّ رقبة)» على أنه فعل ماض، فتكون الجملة فعلية مفسرة لما قبلها، كما يقرأ (أطعم) على أنه فعل ماض أيضا، وعليه فالجملة الفعلية بدل من قوله:{فَلا اقْتَحَمَ} .
الشرح: {ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: مجاعة. والسغب: الجوع، والساغب: الجائع، وأنشد أبو عبيدة:[الطويل]
فلو كنت جارا يا بن قيس بن عاصم
…
لما بتّ شبعانا وجارك ساغبا
يريد فلو كنت جارا قائما بحق الجوار؛ لما حدث هذا؛ أي: شبعك، وجوع الجار. هذا؛ والمسغبة، والمقربة، والمتربة مفعلات من: سغب: إذا جاع، وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي، والمسغبة
…
إلخ: كل واحد منها مصدر ميمي على وزن: مفعلة.
هذا؛ ووصف اليوم بذي مسغبة، كقولهم: همّ ناصب؛ أي: ذو نصب. هذا؛ وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي: الأعمال أفضل؟ قال: «إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته، أو كسوت عورته، أو قضيت حاجة له» . رواه الطبراني، وعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أطعم مؤمنا حتّى يشبعه من سغب، أدخله الله بابا من أبواب الجنة، لا يدخله إلاّ من كان مثله» . أخرجه الطبراني، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان» .
{يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ} أي: قرابة. يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي. يخبرنا الله جلت قدرته أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله. وخذ ما يلي:
فعن سلمان بن عامر-رضي الله عنه-قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة، وصلة» . أخرجه النسائي، والترمذي، وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما رجل أتاه ابن عمّه يسأله من فضله، فمنعه، منعه الله فضله يوم القيامة» . أخرجه الطبراني. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة على ذي الرّحم الكاشح» .
وخذ قول زهير في معلقته رقم [51]. [الطويل]
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
…
على قومه يستغن عنه ويذمم
وعن سهل بن سعد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» . (وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما) رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له، أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنّة» . (وأشار مالك بالسبابة والوسطى) رواه مسلم، ومالك، ومعنى «له»: بينه وبينه قرابة بأن يكون جدا، أو عما، أو أخا، أو نحو ذلك من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات فتقوم الأم مقامه، أو ماتت الأم فيقوم أبوه في التربية مقامها، ومعنى «لغيره»: بأن يكون غريبا عن الكافل، فيحضنه ويكفله، ولا قرابة بينهما، وقد يكون ثوابه أكثر، وأجره أعظم بلا ريب، ولا شك.
{أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ} أي: لا شيء له؛ حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب، وترب: إذا افتقر. قال الهذلي: [الطويل]