الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الجنّ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الجن) مكية في قول الجميع، وهي ثمان وعشرون آية، ومئتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمئة وسبعون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: اختلف قديما في ثبوت وجود الجن، فأنكر وجودهم معظم الفلاسفة، واعترف بوجودهم جمع منهم، وسموهم بالأرواح السفلية، وزعموا: أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية، إلا أنهم أضعف، وأما جمهور أرباب الملل، وهم أتباع الرسل، والشرائع، فقد اعترفوا بوجود الجن، لكن اختلفوا في ماهيتهم، فقيل: الجن حيوان هوائي يتشكل بأشكال مختلفة. وقيل: إنها جواهر، وليست بأجسام، ولا أعراض، ثم هذه الجواهر أنواع مختلفة بالماهية، فبعضها خيرة كريمة محبة للخيرات، وبعضها دنيئة خسيسة شريرة محبة للشرور، والآفات، ولا يعلم عدة أنواعهم إلا الله تعالى.
وقيل: إنهم أجسام مختلفة الماهية، لكن تجمعهم صفة واحدة، وهي كونهم حاصلين في الحيّز، موصوفين بالطول، والعرض، والعمق، وينقسمون إلى لطيف، وكثيف، وعلوي، وسفلي، ولا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الأجسام في الماهية، وأن يكون لها علم مخصوص، وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة، أو شاقة يعجز البشر عن مثلها، وقد يتشكلون بأشكال مختلفة، وذلك بإقدار الله تعالى إياهم على ذلك. وقيل:
إن الأجسام متساوية في تمام الماهية، وليست البنية شرطا للحياة، وهذا قول الأشعري، وجمهور أتباعه، وشذ تأويل المعتزلة من هذه الأمة، فأنكروا وجود الجن، وقالوا: البنية شرط الحياة، وأنه لا بد من صلابة البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة. وهذا قول منكر، وصاحب هذا القول ينكر خرق العادات، ورد ما ثبت وجوده بنص الكتاب، والسنة. انتهى خازن؛ علما بأن الزمخشري صرح في كشافه بوجود الجن.
هذا؛ واختلف الرواة: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجن؟ فأثبتها ابن مسعود-رضي الله عنه-فيما رواه عنه الإمام مسلم في صحيحه، وقد تقدم حديثه في تفسير سورة (الأحقاف)، عند قوله
تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} رقم [29] وأنكرها ابن عباس-رضي الله عنهما، فيما رواه عنه البخاري، ومسلم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسالات عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقيل: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسالات علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء حدث؟ فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن؛ استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم {فَقالُوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} زاد في رواية: وإنما أوحي إليه قول الجن. أخرجاه في الصحيحين.
قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس-رضي الله عنهما: هذا معناه: أنه لم يقصدهم بالقراءة، بل لما تفرقوا يطلبون الخبر، الذي حال بينهم وبين استراق السمع؛ صادف هؤلاء النفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، وعلى هذا فهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم باستماعهم، وإنما أعلمه الله عز وجل بما أوحي إليه من قوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وأما حديث ابن مسعود-رضي الله عنه-فقضية أخرى، وجن آخرون.
والحاصل من الكتاب، والسنة: العلم القطعي بأن الجن، والشياطين موجودون متعبّدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقهم وبحالهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول إلى الإنس والجن، فمن دخل في دينه؛ فهو من المؤمنين معهم في الدنيا، والآخرة، والجنة، ومن كفر به، فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها، والنار مستقره، وهذا الحديث يقتضي: أن الرجم بالنجوم لم يكن قبل البعث، وذهب قوم إلى أنه كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، وآخرون إلى أنه كان؛ لكن زاد بهذا المبعث، وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين. هذا آخر كلام القرطبي، والله أعلم. انتهى. خازن. هذا؛ وانظر ما ذكرته في سورة (الأحقاف) فإنه جيد والحمد لله.
هذا؛ وعكاظ: سويقة معروفة بقرب مكة، كان العرب يقصدونها في كل سنة مرة في الجاهلية، وأول الإسلام، وتهامة كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت تهامة، لتغير هوائها، ومكة من تهامة معدودة، ونخلة: واد من أودية مكة قريب منها.
التفسير: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أي: قل: يا محمد أوحي إليّ، {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} أي:
استمعوا إلى قراءتي القرآن. {فَقالُوا} أي: الذين استمعوا القرآن قالوا لقومهم. {إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً:} عظيما بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه، ودقة معناه، وفصاحته، وبلاغته. وانظر الفرق بين (الملائكة) و (الجن) في آخر هذه السورة.
هذا؛ وأصل الوحي: الإشارة السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل: موسى، وعيسى، ومحمد، صلّى الله عليهم، وسلم أجمعين، والوحي أيضا:
الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك. وتسخير الطير لما خلق له إلهام. والوحي إلى النحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام أيضا، كما رأيت في سورة (النحل) رقم [68]. قال تعالى في سورة (طه) رقم [50] حكاية عن قول موسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-جوابا لفرعون:{قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} هذا؛ و {نَفَرٌ} يطلق على ما دون العشرة، مثل: رهط، ومعشر، ونحو ذلك، والجمع: أنفار، والنسبة إليه نفري. وقال الزجاج: النفير جمع: نفر، كالعبيد جمع: عبد. وأما (العجب) بفتح العين، والجيم؛ فهو انفعال نفساني يعتري الإنسان عند استعظامه، أو استطرافه، أو إنكاره ما يرد عليه.
وقال الراغب: العجب حالة تعرض للإنسان بسبب الشيء، وليس هو شيئا له في ذاته حالة حقيقية، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه، وحقيقة أعجبني كذا: ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه. هذا؛ والعجب بضم العين وسكون الجيم رؤية النفس، وحقيقته أن يرى الإنسان نفسه فوق غيره علما، أو ورعا، أو أدبا، أو غير ذلك، ويعتقد: أن له منزلة لا يدانيه فيها سواه، وهذا هو الكبر الذي يدخل صاحبه جهنم، وبئس المصير، وهذا لا يكون إلا من ضعيف الإيمان، وناقص العقل، وميت الضمير، والوجدان الإنساني، ورحم الله من يقول:[الكامل]
ملأى السّنابل تنحني بتواضع
…
والفارغات رؤوسهنّ شوامخ
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أُوحِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {اِسْتَمَعَ:} فعل ماض. {نَفَرٌ:} فاعله. {مِنَ الْجِنِّ:} متعلقان بمحذوف صفة {نَفَرٌ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع نائب فاعل {أُوحِيَ} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلْ أُوحِيَ..} .
إلخ ابتدائية لا محل لها من الإعراب. {فَقالُوا:} الفاء: حرف عطف. (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {سَمِعْنا:} فعل، وفاعل. {قُرْآناً:} مفعول به. {عَجَباً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {اِسْتَمَعَ نَفَرٌ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2)}
الشرح: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ:} يدعو إلى الصواب، يعني: التوحيد، والإيمان بالله، ومعرفته. والرشد: الاهتداء، والاستقامة على طريق الحق، وضده: الغي، والضلال. قال تعالى
في سورة (البقرة) رقم [256]: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} والرّشد، بفتح الشين، والرشاد: طريق الهدى والخير، قال تعالى في سورة (غافر):{وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ} رقم [38]. والراشد هو المهتدي إلى محاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق. قال تعالى في سورة (الحجرات) رقم [7]:{أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ} .
{فَآمَنّا بِهِ} أي: صدقنا، وأيقنا أنه من عند الله. {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً} أي: لن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين. قيل: كانوا يهودا. وقيل:
كانوا نصارى. وقيل: كانوا مجوسا ومشركين.
هذا؛ والغرض، بل والحكمة من الإخبار عن استماع الجن، توبيخ، وتقريع قريش، والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان؛ إذ كانت الجن خيرا منهم، وأسرع إلى الإيمان، فإنهم من حين ما سمعوا القرآن استعظموه، وآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا، واستهزؤوا، وهم يعلمون: أنه كلام معجز، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإنس، والجن؛ الذين أسرعوا إلى الإيمان، واستجابوا لله، ورسوله.
الإعراب: {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (القرآن)، ومفعوله محذوف، تقديره: يهدي الخلق، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{قُرْآناً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {إِلَى الرُّشْدِ:}
متعلقان بما قبلهما. (آمنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{سَمِعْنا..} . إلخ {بِهِ} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. (لن): حرف نفي ونصب واستقبال. {نُشْرِكَ:} فعل مضارع، منصوب ب:(لن)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» .
{بِرَبِّنا:} متعلقان بما قبلهما. و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَحَداً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وفيه اختلاف الجمل المتعاطفة في الحال، والماضي، والاستقبال.
{وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اِتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)}
الشرح: {وَأَنَّهُ تَعالى:} عظم، وتقدس، وارتفع، وعلا، وتنزه. {جَدُّ رَبِّنا:} جلال ربنا، وعظمته. ومنه قول أنس-رضي الله عنه-كان الرجل إذا قرأ (البقرة) و (آل عمران) جدّ فينا، أي: عظم قدره. وقيل: الجد: الغنى، ومنه الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . أي: لا ينفع ذا الغنى غناه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: عظمت قدرة ربنا.
وقيل: أمر ربنا. وقيل: آلاؤه، ونعماؤه على خلقه. ولا تنس: أن الجد أبو الأب، وأبو الأم.
وهو بكسر الجيم: الاجتهاد، والمثابرة على العمل، وضد الهزل أيضا، والجد بفتح الجيم:
الحظ، والبخت ضد النحس. {مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً:} زوجة. {وَلا وَلَداً:} كما يقول كفار الجن، والإنس. ومعنى الآية: تنزه جلال ربنا، وعظمته، وكبرياؤه أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما، والحاجة إليهما، والله منزه عن كل نقص.
تنبيه: يقرأ في هذه السورة، وما يعطف عليها إلى آخر السورة بفتح همزة (أنّ) عطفا على المصدر المؤول بقوله تعالى:{أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} ليكون المعطوف في محل رفع مثله، ويقرأ بكسر الهمزة عطفا على قوله تعالى:{إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً} ليكون المعطوف في محل نصب مقول القول مثله، ولا خلاف في كسر ما بعد القول، مثل قوله تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ} .
الإعراب: {وَأَنَّهُ:} الواو: حرف عطف. (أنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.
{تَعالى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو متصرف. {جَدُّ:} فاعله، وهو مضاف، و {رَبِّنا} مضاف إليه، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، والكلام معطوف على ما قبله على الاعتبارين اللذين ذكرتهما لك. {مَا:} نافية. {اِتَّخَذَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبِّنا} .
{صاحِبَةً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {وَلَداً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {رَبِّنا} وساغ مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف كجزئه، وهو سائغ، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]
ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ما له أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
هذا؛ وقيل: إن جملة: {مَا اتَّخَذَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إن)، و (إن) جملة {تَعالى جَدُّ رَبِّنا} معترضة بين اسم أن وخبرها، ولا بأس به، فهو في قوة الأول. هذا؛ وقيل: في الجملة المعترضة استعارة تصريحية، ولا أرى له وجها صحيحا.
{وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (4)}
الشرح: {وَأَنَّهُ:} الحال، والشأن. {كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا:} جاهلنا، قيل: هو إبليس في قول مجاهد، وابن جريج، وقتادة. ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل:
المشركون من الجن. قال قتادة: عصاه سفيه الجن، كما عصاه سفيه الإنس. هذا؛ والشطط والاشتطاط: الغلو في الكفر، وهو الجور، أو الكذب، وأصله: البعد، فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق. قال الشاعر:[الطويل]
بأيّة حال حكّموا فيك فاشتطّوا
…
وما ذاك إلاّ حيث يمّمك الوخط
يممك: قصدك، والوخط: الطعن بالرمح، ومن معانيه أيضا: الشيب. وقال أعشى بني قيس بن ثعلبة: وهو من الأول: [البسيط]
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط
…
كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل
هذا؛ وسفه نفسه سفها، وسفاهة: استمهنها، وأذلها، واستخف بها. قال المبرد، وثعلب -رحمهما الله-: سفه بالكسر متعد، وبالضم لازم، ويشهد له ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«الكبر أن تسفه الحقّ، وتغمص الناس» . والأول من باب طرب، والثاني من باب ظرف.
هذا؛ وجاء في المختار: وقولهم: سفه نفسه، وغبن رأيه، وبطر عيشه، وألم بطنه، ووفق أمره، ورشد أمره، كان الأصل: سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حوّل الفعل إلى الرّجل؛ انتصب ما بعده بوقوع الفعل عليه؛ لأنه صار في معنى: سفّه نفسه بالتشديد، هذا قول البصريين، والكسائي، ويجوز عندهم تقديم المنصوب، كما يجوز غلامه ضرب زيد. وقال الفراء: لما حوّل الفعل من النفس إلى صاحبها؛ خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفه فيه، وكان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا؛ لأن المفسّر لا يكون إلا نكرة، ولكنه ترك على إضافته، ونصب كنصب النكرة تشبيها بها، ولا يجوز عنده تقديمه؛ لأن المفسّر لا يتقدم، ومثله قولهم: ضقت به ذرعا، وطبت به نفسا، والمعنى: ضاق ذرعي به، وطابت نفسي به. انتهى. بحروفه.
الإعراب: (أنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {يَقُولُ:}
فعل مضارع. {سَفِيهُنا:} تنازعه الفعلان {كانَ} ويقول، فالأول يطلبه اسما له، والثاني يطلبه فاعلا له، فإن أعطيته للأول؛ أضمرت في الثاني فاعلا له، وإن أعطيته للثاني؛ أضمرت في الأول اسما له، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه وانظر الآية رقم [7]. هذا؛ وأجاز مكي اعتبار اسم {كانَ} ضميرا يعود على اسم (أنّ) فتبقى الجملة الفعلية خبرا لها، وعليه فلا تنازع في العمل. و (نا) ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {عَلَى اللهِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {شَطَطاً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ في محل نصب خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر أنّ، وأنّ واسمها، وخبرها معطوف على سابقه على الوجهين المعتبرين فيه.
{شَطَطاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: قولا شططا.
{وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (5)}
الشرح: {وَأَنّا ظَنَنّا:} حسبنا. {أَنْ لَنْ تَقُولَ:} قال الجمل-رحمه الله تعالى-: هذا اعتذار من هؤلاء النفر عما صدر منهم قبل الإيمان من نسبة الولد، والصاحبة إليه تعالى. ومحصل الاعتذار: أنهم يقولون: إنا ظننا، واعتقدنا: أن أحدا لا يكذب على الله، وأن ما قاله سفهاؤنا
من نسبة الصاحبة، والولد إليه حقّ، وصدق، فلما سمعنا القرآن وأسلمنا؛ علمنا: أنه كذب.
انتهى. هذا؛ وإن الظن في الشريعة قسمان: محمود، ومذموم، فالمحمود منه: ما سلم معه دين الظان، ودين المظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده بدليل قوله تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الآية رقم [12] من سورة (الحجرات)، وقوله تعالى في سورة (النور) رقم [12]:{ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً،} وقوله تعالى في سورة (الفتح) رقم [12]: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} . هذا؛ وينبغي للإنسان أن يحسن ظنه بالناس، ولا يسيء ظنه بهم استجابة لأمر الله تعالى في آية (الحجرات):{اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} إلا إذا ظهر من أحدهم ما يخالف الشرع الشريف. ولا يسيء الظن بهم إلا الذي أعماله سيئة. قال الشاعر: [الطويل]
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
…
وصدّق ما يعتاده من توهّم
وكذلك ينبغي للمسلم أن يحسن ظنه بالله تعالى بأن الله يرحمه، ويعفو عنه، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي
…
» إلخ، ولكن ينبغي أن يقرن حسن ظنه بالله بحسن العمل، وإلا فهو ظن خاطئ، وزعم فاسد، ففي الحديث الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«ليس الإيمان بالتمنّي، ولا بالتحلّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، إن قوما ألهتهم الأمانيّ؛ حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله، كذبوا! لو أحسنوا الظنّ؛ لأحسنوا العمل» . ومفرد {الْإِنْسُ} إنسان، انظر الآية رقم [19] من سورة (المعارج)، وانظر الكلام على الجن في الآية الأخيرة من هذه (السورة) ولا تنس الطباق بين (الإنس) و (الجن).
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.
{ظَنَنّا:} فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف ناصب. {تَقُولَ:} فعل مضارع. {الْإِنْسُ:} فاعله.
{وَالْجِنُّ:} معطوف على ما قبله. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل {تَقُولَ،} أو هما متعلقان بمحذوف حال من {كَذِباً} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» ، {كَذِباً:} مفعول به، أو نعت مفعول مطلق محذوف، التقدير قولا كذبا، وجملة:{لَنْ تَقُولَ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع معطوف على مثله في الآية رقم [1]، وعلى قراءة كسر الهمزة فالجملة معطوفة على:
{إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
{وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6)}
الشرح: كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر، فأمسى في أرض قفر؛ قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن، وجوار منهم حتى يصبح. روى البغوي
بإسناد الثعلبي عن كردم بن أبي السائب الأنصاريّ-رضي الله عنه-قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي، فقال: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه، يقول: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم، ولم تصبه كدمة، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ..} . إلخ، انتهى خازن وقرطبي وغيرهما. وخذ ما يلي:
حدث بعض الصحابة-رضوان الله عليهم-قال: خرجت في طلب إبل لي، فأدركتها، ثم أردت النوم-وكنا إذا نزلنا بواد قلنا: نعوذ بعزيز هذا الوادي-فتوسدت ناقتي، وقلت: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فإذا هاتف يقول:[الرجز]
ويحك عذ بالله ذي الجلال
…
ومنزل الحرام والحلال
ووحّد الله ولا تبالي
…
ما كيد ذي الجنّ من الأهوال
إذ تذكر الله على الأحوال
…
وفي سهول الأرض والجبال
قد صار كيد الجنّ في سفال
…
إلا النبي وصالح الأعمال
فقلت له: [الرجز]
يا أيّها القائل ما تقول؟
…
أرشد عندك أم تضليل؟
فقال: [الرجز]
جاء رسول الله بالخيرات
…
جاء بياسين وحاميمات
وسور بعد مفصلات
…
يأمر بالصّلاة والزكاة
ويزجر الأقوام عن مناة
…
قد كنّ في الإسلام منكرات
فقلت: أما إنه لو كان لي من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي؛ لأتيته حتى أسلم، فقال: أنا أؤديها، فركبت بعيرا منها، ثم قدمت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (وفي رواية: فوافيت الناس في صلاة الجمعة) فبينا أنا أنيخ راحلتي؛ إذ خرج إليّ أبو ذر-رضي الله عنه، فقال لي: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخلت، فلما رآني؛ قال:«فما فعل الرجل؟» . وفي رواية: «ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدّي إبلك، أما إنه قد أداها سالمة!» . وقد قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الناس قبل بعثته من أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ..} . إلخ.
هذا؛ و {رِجالٌ} جمع: رجل، وهو مأخوذ من الرجولة بمعنى الشهامة، والحمية، والنخوة، ومن لم يتصف بذلك؛ فليس رجلا بالمعنى الصحيح، والمرأة مأخوذة من المرء، وهو الرجل؛ لأن حواء أخذت من ضلع آدم، كما رأيت فيما سبق؛ لذا جعلت نهمتها في الرجل، وأما الرجل فقد جعلت نهمته في التراب، أي: حطام الدنيا؛ لأن آدم خلق من تراب. ونص الآية صريح على أن لفظ الرجال يطلق على الجن خلافا لمن منع ذلك.
{فَزادُوهُمْ رَهَقاً} أي: زاد الجن الإنس رهقا، أي: خطيئة، وإثما. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والرهق: الإثم في كلام العرب، وغشيان المحارم. ورجل رهق: إذا كان كذلك، قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام في حق الذين أحسنوا الحسنى:{وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} رقم [26]، وقال في حق الذين كسبوا السيئات:{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} رقم [27] منها أيضا. هذا؛ وقال الأعشى: [البسيط]
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
…
هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا؟
يعني: إثما، وأضيفت الزيادة إلى الجن؛ إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد: المعنى: زاد الإنس الجن طغيانا، وتمردا بهذا التعوذ؛ حتى قالت عظماء الجن: سدنا الإنس، والجن. ولا شك أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر، وشرك.
الإعراب: {وَأَنَّهُ:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.
{كانَ:} فعل ماض ناقص. {رِجالٌ:} اسم {كانَ} . {مِنَ الْإِنْسِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {رِجالٌ} . {يَعُوذُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ}. {بِرِجالٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنَ الْجِنِّ:} متعلقان بمحذوف صفة {رِجالٌ} . وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر أن، و (أنه كان
…
) إلخ معطوف على الكلام قبله على الوجهين المعتبرين فيه. {فَزادُوهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {رَهَقاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (7)}
الشرح: هذا من قول الله تعالى للإنس، لا من قول الجن. والمعنى: أن الجن ظنوا كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم. أو المعنى: ظن الجن كما ظننتم يا معشر قريش أن لن يبعث الله أحدا بعد موته، ولكنّ الجن لما سمعوا القرآن؛ اهتدوا، وأقروا بالبعث؛ فهلا أقررتم مثلهم؟! ففيه توبيخ شديد للمنكرين البعث من البشر، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَأَنَّهُمْ:} الواو: حرف عطف. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.
{ظَنُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه، وجر. و (ما): مصدرية. {ظَنَنْتُمْ:} فعل، وفاعل، و (ما) والفعل (ظنّ) في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: ظنوا ظنا كائنا مثل ظنكم، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها. {أَنْ:} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف ناصب. {يَبْعَثَ:} فعل مضارع منصوب ب: (لن). {اللهُ:} فاعله. {أَحَداً:} مفعول به، وجملة:{لَنْ يَبْعَثَ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و {أَنْ} المخففة واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي الظن، والمسألة من باب التنازع؛ لأن {ظَنُّوا} يطلب مفعولين، و {ظَنَنْتُمْ} كذلك، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول، أو من إعمال الأول للحذف من الثاني، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه، والثاني أولى عند البصريين لقربه، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز]
إن عاملان اقتضيا في اسم عمل
…
قبل فللواحد منهما العمل
والثّاني أولى عند أهل البصره
…
واختار عكسا غيرهم ذا أسره
وجملة: {ظَنُّوا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، والمصدر المؤول؛ والأحرى: والكلام:
(أنهم ظنوا
…
) إلخ معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه.
{وَأَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8)}
الشرح: {وَأَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ} أي: قصدنا، وطلبنا السماء، كما جرت عادتنا باستراق السمع، فاللمس مستعار للطلب، يقال: لمسه والتمسه، وتلمسه، كطلبه، واطلبه، وتطلبه، قال الشاعر وهو يزيد بن الحكم الكلابي:[الطويل]
مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا
…
إلى نسب في قومه غير واضع
{فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} أي: حفظة من الملائكة، جمع: حارس، مثل: ركب جمع راكب، وخدم جمع خادم، ولذلك وصف ب:(شديد) لو ذهب إلى معناه؛ لقيل: شدادا، مثل قولنا: السلف الصالح، بمعنى الصالحين. (شهبا): جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم، وجمع الحرس: أحراس. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [32] -وهو الشاهد رقم [472] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا
…
عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.
{لَمَسْنَا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ). {السَّماءَ:} مفعول به، و {وَأَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ} معطوف على المصدر المؤول في الآية الأولى، فهو في محل رفع مثله، وعلى قراءة الآية بكسر الهمزة فالجملة معطوفة على قوله:{إِنّا سَمِعْنا..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {فَوَجَدْناها:} الفاء: حرف عطف. (وجدناها): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {مُلِئَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {السَّماءَ} تقديره:«هي» . {حَرَساً:} تمييز.
وقيل: حال، ولا وجه له. {شَدِيداً:} صفة {حَرَساً} . {وَشُهُباً:} معطوف على: {حَرَساً} وجملة: {مُلِئَتْ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ثان، وأجيز اعتبارها في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الضمير فقط، وتقدر:«قد» قبلها لتقربها من الحال، وهذا على تأويل (وجدناها) ب:«صادفناها» . فيكون قد اكتفى بمفعول واحد.
الشرح: {وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها:} من السماء. {مَقْعَدِ:} مواضع، ومراكز. {لِلسَّمْعِ:}
للاستماع، واستراق السمع من الملائكة. {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ:} فمن يحاول استراق السمع في هذه الأيام. {يَجِدْ لَهُ..} . إلخ: أي: يجد شهابا ينتظره بالمرصاد يحرقه، ويهلكه. وقيل: شهابا من الكواكب، ورصدا من الملائكة. وانظر الآية رقم [27] الآتية.
تنبيه: اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذلك أمر حدث بمبعثه؟ فقال قوم: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى، ومحمد-عليهما الصلاة والسّلام- خمسمئة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، وحرست بالملائكة، والشهب. وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين، ورموا بالشهب.
وقال الزمخشري: والصحيح: أنه كان قبل المبعث، وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية قال بشر بن أبي خازم:[الكامل]
والعير يرهقها الخبار، يتبعه
…
نقع يثور تخاله طنبا
وقال أوس بن حجر، وهو جاهلي:[الكامل]
وانقضّ كالدّرّيّ يتبعه
…
نقع يثور تخاله طنبا
وهذا قول الأكثرين، وقد أنكر الجاحظ البيتين، وقال: كل شعر روي فيه فهو مصنوع، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح، لقوله تعالى:{فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} وهذا إخبار عن الجن: أنه زيد في حرس السماء؛ حتى امتلأت منهم، ولما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه؛ إذ رمي بنجم، فقال:«ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟» . قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أو يولد عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنها لا ترمى لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربّنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء؛ سبّح حملة العرش، ثم سبّح أهل كلّ سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربّكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كلّ سماء، حتى ينتهي الخبر إلى هذه، فتتخطّف الجنّ، فيرمون، فما جاؤوا به فهو حقّ، ولكنهم يزيدون فيه»
قال الحافظ: فلو قال قائل: كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر، بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟! فالجواب: أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة، كما ينسى إبليس في كل وقت: أنه لا يسلم، وأن الله تعالى قال له:{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ} [35] من سورة (الحجر)، ورقم [78] من سورة (ص)، ولولا هذا لما تحقق التكليف. وأحسن من هذا ما ذكرته في سورة (الملك) رقم [5]. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، ونا: اسمها. {كُنّا:}
فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {نَقْعُدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {مَقْعَدِ} كان نعتا له، على مثال ما رأيت في الآية رقم [5]. {مَقْعَدِ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. {لِلسَّمْعِ:} متعلقان بالفعل {نَقْعُدُ،} والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنّا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها كلام معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه. {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (من): اسم شرط جازم، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَسْتَمِعِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، والمفعول محذوف، يدل عليه المقام. {الْآنَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {يَجِدْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» . {لَهُ:}
جار ومجرور في محل نصب مفعول به ثان، تقدم على الأول. أو هما متعلقان بمحذوف حال من {رَصَداً} كان صفة له، وعلقهما الجمل ب:{رَصَداً} نفسه. {شِهاباً:} مفعول به. {رَصَداً:}
صفة {شِهاباً،} والجملة الفعلية: {يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، وخبر المبتدأ، الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية معترضة بين المتعاطفات، كما هو ظاهر.
تنبيه: أمّا {الْآنَ} في هذه الآية، وأمثالها، فهي كلمة ملازمة للظرفية الزمانية غالبا، مبنية على الفتح دائما؛ لتضمنها معنى الإشارة، وألفها منقلبة عن واو، لقولهم في معناها: الأوان.
وقيل: عن ياء؛ لأنه من آن يئين: إذا قرب. وقيل: أصله أوان، قلبت الواو ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد، والسواد. وقيل: حذفت الألف، وغيرت الواو إلى الألف، كما قالوا: راح، ورواح، استعملوه مرة على: فعل، ومرة على: فعال، كزمن، وزمان. وقال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في كتابه شذور الذهب: والآن اسم لزمن حضر جميعه، أو بعضه: فالأول نحو قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [71]: {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} .
والثاني: نحو قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} وقد تعرب كقول أبي صخر الهذلي: [الطويل]
لسلمى بذات الخال دار عرفتها
…
وأخرى بذات الجزع آياتها سطر
كأنّهما ملآن لم يتغيّرا
…
وقد مرّ للدّارين من بعدنا عصر
أصله: «كأنهما من الآن» فحذف نون (من) لالتقائها ساكنة مع لام الآن، ولم يحركها لالتقاء الساكنين، كما هو الغالب، وأعرب (الآن) فخفضه بالكسرة. انتهى. وقد اختلف في علة بنائه اختلافا كثيرا. انظر:«همع الهوامع» .
{وَأَنّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)}
الشرح: قال الجن حينما حرست السموات من استراقهم السمع، ورموا بالشهب: لا نعلم نحن معشر الجن ما الله فاعل بسكان الأرض، ولا نعلم: هل امتلاء السموات بالحرس، والشهب لعذاب يريد الله أن ينزله بأهل الأرض، أم يريد الله بهم خيرا، وفلاحا، ونجاحا، بأن يبعث فيهم رسولا مرشدا يرشدهم إلى الحق والصواب، وإلى الطريق المستقيم؟ وهذا من أدب الجن حيث نسبوا الخير إلى الله، ولم ينسبوا الشر إليه صراحة، وأين هذا من قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (الشعراء) رقم [80]:{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ،} ومثله قول الخضر-عليه السلام-في سورة (الكهف) رقم [79]: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها،} وقوله في سورة (الكهف) أيضا رقم [82]: {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} حيث نسب العيب لنفسه، وبلوغ الأشد إلى الله تعالى؛ لأنه خير لهما، ورحمة من الله.
هذا؛ وخذ قوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [50]: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} .
قال ابن زيد: قال إبليس: لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا، أو يرسل رسولا إليهم؟ والمعتمد: أنه من قول الجن كما قدمته. قال ابن كثير: وقد
كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب، فأخذوا يضربون مشارق الأرض، ومغاربها، فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا: أن هذا هو الذي حفظت السماء من أجله، فدنوا منه حرصا على سماع القرآن، ثم أسلموا.
هذا؛ ولا شك: أنه لما حدث هذا الأمر، وهو كثرة الشهب في السماء، والرمي بها؛ هال ذلك الإنس، والجن، وانزعجوا له، وظنوا: أن ذلك لخراب العالم، فأتوا إبليس، فحدثوه بالذي كان من أمرهم، فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها، فأتوه، فشمها، فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين، فقدموا مكة، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بأصحابه. ولا تنس ما ذكرته لك: أن الرمي كان في الجاهلية قبل الإسلام، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد فيه زيادة لفتت نظر الإنس، والجن إلى ذلك، والله أعلم بمراده.
هذا؛ والإرادة: نزوع النفس، وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه. ويقال للقوة التي هي مبدأ النزوع. والأول مع الفعل، والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذا اختلف في معنى إرادته سبحانه وتعالى، فقيل: إرادته لأفعاله: أنه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها، فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته. وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل، والوجه الأصلح، وهذا الأخير هو المقبول؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر. هذا؛ ولم يرد لفعل الإرادة، ولا لفعل المشيئة أمر فيما أعلم، فهما ناقصا التصرف، وقد كثر حذف مفعول هذين الفعلين حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل هذه الآية، وقوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا} رقم [17] من سورة (الأنبياء)، وقال الشاعر الخزيمي:[الطويل]
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع
وقيد بعضهم حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» ، وليس كذلك.
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {لا:}
نافية. {نَدْرِي:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر وجوبا، تقديره:«نحن» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَشَرٌّ:} الهمزة: حرف استفهام. (شر): أجيز فيه وجهان: أحسنهما الرفع على أنه نائب فاعل بفعل محذوف، التقدير:
أأريد شر؟ والثاني: أنه مبتدأ سوغ الابتداء به، وهو نكرة تقدم الاستفهام عليه. {أُرِيدَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (شر)، والجملة الفعلية مفسرة على الوجه الأول ب:(شرّ)، وفي محل رفع خبره على الوجه الثاني فيه. {بِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {أَمْ:} حرف عطف. {أَرادَ:} فعل ماض. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَبُّهُمْ:} فاعل (أراد)، والهاء في محل جر
بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {رَشَداً:} مفعول به. وجملة:
{أَرادَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وهذا هو الذي رجح اعتبار (شر) نائب فاعل بفعل محذوف لتتعادل الجملتان، وتكون {أَمْ} متصلة. هذا؛ والكلام:{أَشَرٌّ..} . إلخ في محل نصب سد مسد مفعولي الفعل: {نَدْرِي،} والجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر (أن)، و (أن) واسمها، وخبرها معطوف على ما قبله من كلام على الوجهين المعتبرين فيه.
{وَأَنّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَمِنّا دُونَ ذلِكَ كُنّا طَرائِقَ قِدَداً (11)}
الشرح: {وَأَنّا مِنَّا الصّالِحُونَ:} الكاملون في الصلاح، العاملون بما يرضي الله. {وَمِنّا دُونَ ذلِكَ} أي: الذين ليس صلاحهم كاملا، أو الذين ليس لهم صلاح، وهم الكفار. {كُنّا طَرائِقَ قِدَداً} أي: فرقا شتى، وأديانا مختلفة، وأهواء متباينة، ومنه قول الشاعر:[البسيط]
القابض الباسط الهادي بطاعته
…
في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى: لم يكن جميع الجن كفارا، بل كانوا مختلفين، منهم كفار، ومنهم مؤمنون صالحاء، ومنهم مؤمنون غير صالحاء على حد قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [32]:{فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} . وقال المسيب: كنا مسلمين، ويهود، ونصارى، ومجوس. وقال السدي: في الجن مثلكم قدرية ومرجئة، وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية، أقول: وهذا يحتمل أن يكون بعد الرسالة المحمدية، وأما قبل الرسالة فهم كما قال المسيب؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى، وعيسى-على نبينا، وعليهما، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام-بدليل ما حكى الله من قولهم في سورة (الأحقاف) رقم [30]:{مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} .
و (الطرائق): جمع: الطريقة، وهي مذهب الرجل، أي: كنّا فرقا مختلفة. وخذ قوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [17]: {وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ} و (القدد): نحو من الطرائق، وهو توكيد لها، واحدها: قدّة، يقال: لكل طريق قدّة، وأصلها من: قد السيور، وهو قطعها. قال لبيد-رضي الله عنه-يرثي أخاه أربد:[المنسرح]
لم تبلغ العين كلّ نهمتها
…
ليلة تمسي الجياد كالقدد
وقال آخر: [الرمل]
ولقد قلت وزيد حاسر
…
يوم ولّت خيل عمرو قددا
والقدّ بالكسر: سير يقدّ من جلد مدبوغ، ويقال: ماله قدّ، ولا قحف، فالقدّ: إناء من جلد، والقحف: من خشب، وانظر ما ذكرته بشأن {الصّالِحِينَ} في سورة (المنافقون) رقم [10]. هذا؛
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال: سمعت بعض الجن؛ وأنا في منزل لي بالليل ينشد: [الطويل]
قلوب براها الحبّ حتى تعلّقت
…
مذاهبها في كلّ غرب وشارق
تهيم بحبّ الله والله ربّها
…
معلّقة بالله دون الخلائق
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا) اسمها. {مِنَّا:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الصّالِحُونَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها معطوف على ما قبله على الوجهين المعتبرين فيه. (منّا): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم أيضا. {دُونَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف، التقدير: ومنا فريق كائن دون ذلك، أو ومنا ناس دون ذلك، على حد قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [168]:{مِنْهُمُ الصّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} . هذا؛ وقال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في كتابه الشذور: «دون» اسم مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر، وبني على الفتح لإبهامه، وإضافته إلى مبني، وهو اسم الإشارة. ولو جاءت القراءة برفع {دُونَ} لكان ذلك جائزا، كما قال الشاعر:[الطويل]
ألم تريا أنّي حميت حقيقتي
…
وباشرت حدّ الموت والموت دونها
الرواية (دونها) بالرفع. انتهى. وقال الجمل نقلا عن السمين: فيه وجهان: أحدهما: أن {دُونَ} بمعنى: «غير» أي: ومنا غير الصالحين، وهو مبتدأ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [94]:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيمن نصب على أحد الأقوال، وإلى هذا نحا الأخفش، الثاني: أن {دُونَ} على بابها من الظرفية، وأنها صفة لموصوف محذوف، تقديره: ومنا فريق، أو فوج دون ذلك، وحذف الموصوف مع «من» التبعيضية كثير، كقولهم: منا ظعن، ومنا أقام، أي: منا فريق. انتهى. و {دُونَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{مِنَّا الصّالِحُونَ} وما عطف عليها في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها معطوف على ما قبله. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {طَرائِقَ:} خبرها، وهو على تأويل: ذوي طرائق، أو في طرائق. {قِدَداً:} صفة لها، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا)، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها لتقربها من الحال، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
تنبيه: ما تقدم هو الإعراب الظاهر، والأصح: أن مضمون الجار والمجرور {مِنَّا} مبتدأ، و {الصّالِحُونَ} هو الخبر؛ لأن (من) الجارة دالة على التبعيض، أي: بعضهم الصالحون، وجمع
الضمير يؤيد ذلك، ويؤيده عطف (كثير) عليه في الآية رقم [66] من سورة (المائدة)، وعطف (أكثرهم) عليه في الآية رقم [110] من سورة (آل عمران)، وخذ قول الحماسي:[الكامل]
منهم ليوث لا ترام وبعضهم
…
ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب
حيث قابل لفظ «منهم» بما هو مبتدأ، أعني لفظة «بعضهم» وهذا مما يدل على أن مضمون «منهم» مبتدأ. هذا؛ وليوث: جمع: ليث، وهو السبع. لا ترام: لا تقصد. قمشت: جمعت من هنا، وهناك، والمراد: رذالة الناس. والقمش الرديء من كل شيء.
{وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)}
الشرح: {وَأَنّا ظَنَنّا:} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: الظن بمعنى العلم، واليقين بخلافه في الآية رقم [5] ورقم [7]. وقال الجمل: أي: علمنا، وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك، وسلطانه لن نفوته بهرب، ولا غيره. انتهى. {أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ:}
والمعنى: تيقنا، وتأكدنا أننا لن نعجز الله، ولن نفوته أينما كنا سواء في الأرض، أو حاولنا الهرب إلى السماء، فإن الله قادر على عذابنا؛ إن عصيناه أينما كنا، وأينما ذهبنا.
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {ظَنَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (أنّ)، والمصدر المؤول منها، ومن اسمها، وخبرها في محل رفع معطوف على مثله في الآية رقم [1]، وعلى قراءة كسر الهمزة فالجملة الاسمية معطوفة على:{إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} فهي مثلها في محل نصب مقول القول. {أَنْ:} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نُعْجِزَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ} والفاعل مستتر فيه تقديره: «نحن» . {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: كائنين في الأرض، والجملة الفعلية:{لَنْ نُعْجِزَ..} . إلخ في محل رفع خبر (أن) المخففة من الثقيلة، وهي واسمها المحذوف وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {ظَنَنّا،} وجملة: {وَلَنْ نُعْجِزَهُ} معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها. {هَرَباً:} حال من الفاعل المستتر، فهو مصدر بمعنى: هاربين.
الشرح: {وَأَنّا لَمّا سَمِعْنَا الْهُدى} أي: القرآن. {آمَنّا بِهِ:} صدقنا به، وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ:} وينفذ لأوامره، وينزجر عن معاصيه، وزواجره. {فَلا يَخافُ بَخْساً:} نقصا من حسناته، {وَلا رَهَقاً:} ظلما بالزيادة في سيئاته. وانظر {رَهَقاً} في الآية رقم [6].
الإعراب: {وَأَنّا:} الواو: حرف عطف. (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها.
{لَمّا:} حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة ظرف زمان بمعنى: حين، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {سَمِعْنَا:}
فعل، وفاعل. {الْهُدى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار {لَمّا} حرفا. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية جواب {لَمّا} لا محل لها، و (لما) ومدخولها في محل رفع خبر (أنّ)، و {وَأَنّا لَمّا..} . إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة على الوجهين المعتبرين فيه.
{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (من): اسم شرط جازم، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُؤْمِنْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» .
{بِرَبِّهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية. {يَخافُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى من أيضا. {بَخْساً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف.
(لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {رَهَقاً:} معطوف على {بَخْساً،} وجملة: (لا يخاف
…
) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، التقدير: فلا هو يخاف، وعليه فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية: (من
…
) إلخ مستأنفة ومفرعة عما قبلها، لا محل لها.
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: أي: فائدة في رفع الفعل يخاف، وتقدير مبتدأ قبله، حتى يقع خبرا له، ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف، قلت: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه هو المختص بذلك دون غيره. انتهى. ولولا تقدير مبتدأ قبل الفعل، لقيل: فلا يخف. هذا؛ وقرأ الأعمش «(فلا يخف)» على النهي.
الشرح: {وَأَنّا مِنَّا..} . إلخ: أي: وأنا بعد سماعنا القرآن منا من أسلم، وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنا من جار عن الحق، وكفر. يقال: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل، فالأول من الثلاثي، والثاني من الرباعي، واسم الفاعل من الأول: قاسط، كما في الآية الكريمة