المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المعارج بسم الله الرحمن الرحيم سورة (المعارج) مكية، وآياتها أربع وأربعون، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: ‌ ‌سورة المعارج بسم الله الرحمن الرحيم سورة (المعارج) مكية، وآياتها أربع وأربعون،

‌سورة المعارج

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة (المعارج) مكية، وآياتها أربع وأربعون، وكلماتها مئتان وأربع وعشرون، وحروفها تسعمائة، وتسعة وعشرون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (3)}

الشرح: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} أي: طلب طالب نزول العذاب به وبقومه، والطالب هو النضر بن الحارث؛ حيث قال كما حكى الله عنه في سورة (الأنفال) رقم [32] قوله:{اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} . فحقق الله له ما سأل حيث قتل هو، وعقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر، ولم يقتل صبرا غيرهما.

وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري، وذلك: أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي بن أبي طالب-رضي الله عنه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» . ركب ناقته، فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح، ثم قال: يا محمد! أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا، فقبلناه منك، وأن نزكي أموالنا، فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام، فقبلناه منك، وأن نحج، فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا، أهذا شيء منك، أم من الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والله الّذي لا إله إلاّ هو، ما هو إلاّ من الله» . فولى الحارث، وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا؛ فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فو الله ما وصل إلى ناقته؛ حتى رماه الله بحجر، فوقع على دماغه، فخرج من دبره، فقتله، فنزلت:{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} . انتهى. قرطبي، ولم أره لغيره.

وقيل: إن السائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: دعا عليه الصلاة والسلام بالعقاب، وطلب أن يوقعه الله بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام إلى قوله تعالى:{فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} أي: لا تستعجل؛ فإنه قريب. والمعتمد الأول، وهو الذي أجمع عليه المفسرون.

هذا؛ وأصل «سأل» إذا كان من السؤال أن يتعدى إلى مفعولين، نحو قوله تعالى في سورة (هود) على حبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

ص: 142

رقم [46]. ويجوز أن تقتصر على مفعول واحد، كما تقتصر في: أعطيت، وكسوت، نحو قوله تعالى في سورة (الممتحنة) رقم [10]:{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} . فإذا اقتصرت على مفعول واحد؛ جاز أن يتعدى بحرف جر إلى ذلك الواحد، كما في الآية الكريمة، والتقدير:

«سأل سائل النبي بعذاب» . أي: عن عذاب. والباء بمعنى: عن، انتهى مكي بتصرف.

هذا؛ ويقرأ: «(سال سايل)» بغير همز، وفيه وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال، وهي لغة قريش، تقول العرب: سال، يسال، مثل: نال، ينال، وخاف، يخاف، والثاني: أن يكون من السيلان، ويؤيده قراءة ابن عباس-رضي الله عنهما:«(سال سيل)» قال عبد الرحمن بن زيد:

سال واد من أودية جهنم، يقال له: سائل، وهو قول زيد بن ثابت. والأول أحسن، كقول زيد بن عمرو بن نفيل القرشي في تخفيف الهمزة:[الخفيف]

سالتاني الطّلاق إذ رأتاني

قلّ ما لي قد جئتماني بنكر

وأيضا قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه: [البسيط]

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب

{واقِعٍ} أي: نازل، وكائن. {لَيْسَ لَهُ دافِعٌ:} إن العذاب واقع بهم لا محالة، سواء طلبوه، أم لم يطلبوه، إما في الدنيا بالقتل، والأسر، وإمّا في الآخرة بالنار، فلا يدفعه دافع، ولا يرده راد. {مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ذي السموات، سماها معارج؛ لأن الملائكة تعرج فيها، والمعارج: الدرجات، ومنه قوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [33]:{وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ} . وقيل: ذي الفواضل والنعم، وذلك؛ لأن إفضاله، وإنعامه مراتب، وهي تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة. هذا؛ وقرئ:«(ذي المعاريج)» بالياء، يقال: معرج، ومعراج، ومعارج، ومعاريج، مثل: مفتاح، ومفاتح، ومفاتيح.

الإعراب: {سَأَلَ:} فعل ماض. {سائِلٌ:} فاعله. {بِعَذابٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{واقِعٍ:} صفة (عذاب). هذا؛ وأجيز اعتبار الباء صلة، فيكون (عذاب) مفعولا به منصوبا، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وعليه يكون {واقِعٍ} قد أتبع على اللفظ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.

{لِلْكافِرينَ:} متعلقان ب: {سَأَلَ} على تضمينه، معنى دعا لهم، أو متعلقان ب:{واقِعٍ،} واللام للعلة، أي: نازل لأجلهم، أو هما متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل:(عذاب)، أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم.

{لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر {لَيْسَ،} تقدم على اسمها. {دافِعٌ:} اسم {لَيْسَ} مؤخر، والجملة الفعلية في محل جر صفة

ص: 143

ثانية ل: (عذاب)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، أو في محل نصب حال من الضمير المستتر بقوله:{لِلْكافِرينَ} . {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {واقِعٍ،} وعليه فجملة: {لَيْسَ لَهُ دافِعٌ} معترضة على اعتبارها مستأنفة، أو هما متعلقان ب:{دافِعٌ} أي: ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته. {ذِي:} صفة لفظ الجلالة مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و (ذي) مضاف، و {الْمَعارِجِ} مضاف إليه.

{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}

الشرح: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} أي: تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم، و (الروح) جبريل، عليه السلام. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. دليله قوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [193]:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} . وقيل: هو ملك عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. وعلى كل الأقوال أفرده بالذكر، وإن كان من جنس الملائكة؛ لشرفه، وفضله، وعلو منزلته.

{إِلَيْهِ} أي: إلى الله تعالى، أو إلى المكان، الذي هو محلهم، وهو في السماء؛ لأنها محل بره، وكرامته. وقيل: إلى عرشه. وأخر هنا، وفي سورة (القدر)، وقدم في سورة (النبأ) في قوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا..} . إلخ؛ لأن المقام هنا، وفي سورة (القدر).

يقتضي تقديم الجمع على الواحد، من حيث إنه هنا مقام تخويف، وتهويل، وفي سورة (النبأ) مقام تعظيم، وتبجيل، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ:} قال محمد بن إسحاق، ووهب، والكلبي: أي:

عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد، وجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة (السجدة) بأن المراد من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة، وقوله تعالى في (السجدة):{فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني بذلك: نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقدار ألف سنة؛ لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمئة عام. وانظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، ثم يدخلون النار للاستقرار. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال:

ص: 144

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» . فقلت: ما أطول هذا اليوم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده! إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة المكتوبة يصلّيها في الدّنيا» .

واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضي الله بين الناس» . قال:

فهذا يدل على أنه يوم القيامة، وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم:

أنه قال: «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين» . ولذلك سمّى نفسه: سريع الحساب، وأسرع الحاسبين.

وقيل: معنى ذكر {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر، قال شبرمة بن الطفيل، وقيل: هو ليزيد بن الطثرية: [الطويل]

ويوم كظلّ الرّمح قصّر طوله

دم الزّقّ عنّا واصطفاق المزاهر

وخذ قول الآخر: [الكامل]

فقصارهنّ مع الهموم طويلة

وطوالهنّ مع السرور قصار

وانظر معلقة امرئ القيس-بشرحنا، وإعرابنا-البيت رقم [54] وما بعده.

هذا؛ وأصل «سنة» : سنه، أو سنو خلاف، وجمعها على الأول: سنهات، وعلى الثاني:

سنوات، وكلاهما جمع مؤنث سالم، والنسبة إليها: سنوي، أو سنهي، وتصغيرها: سنيّة، أو سنيّهة، وتجمع بالواو والنون، أو بالياء والنون على أنها ملحقة بجمع المذكر السالم، كما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [25]:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ..} . إلخ. وكثير غيرها، وكسرت السين في:«سنين» لتدل على أنه قد جمع على غير الأصل؛ لأن كل ما جمع جمع السلامة لا يتغير فيه بناء الواحد، فلما تغير بناء الواحد في هذا الجمع بكسر أوله، وقد كان مفتوحا في الواحد؛ علم: أنه جمع على غير أصله، لذا فإنه يلحق بجمع المذكر السالم إلحاقا، ومثله:

أرضوان، وعليون، ووابلون، وأهلون، وأولو، وأولي، وألفاظ العقود: عشرون وثلاثون

إلخ.

هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله: عشرون، وثلاثون، وأربعون كلّ واحد منها موضوع على صورة الجمع لهذا العدد. فإن قال قائل: لم كسر أول عشرين، وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى ثمانين إلا ستين؟ فالجواب عند سيبويه: أن عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد، فكسر أول عشرين، كما

ص: 145

كسر أول اثنان، والدليل على هذا قولهم: ستون، وتسعون، كما قيل: ستة، وتسعة. وقال صاحب المختار: وإذا أضفته، (أي: لفظ العقود) أسقطت النون، فقلت: هذه عشروك، وعشريّ.

الإعراب: {تَعْرُجُ:} فعل مضارع. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله. (الروح): معطوف على ما قبله.

{إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية قال أبو البقاء: هي مستأنفة. {فِي يَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف، تقديره: يقع. دل عليه: واقع. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {مِقْدارُهُ:}

اسم {كانَ} والهاء في محل جر بالإضافة. {خَمْسِينَ:} خبر {كانَ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {أَلْفَ:}

تمييز، وهو مضاف، و {سَنَةٍ} مضاف إليه، وجملة:{كانَ مِقْدارُهُ..} . إلخ في محل جر صفة {يَوْمٍ} .

{فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7)}

الشرح: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً:} الصبر الجميل: هو الذي لا شكاية معه. وقال تعالى في سورة (الحجر) رقم [85]: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب معه.

وقال في سورة (المزمل) رقم [10]: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} والهجر الجميل: هو الذي لا أذية معه. وانظر (الصبر) في الآية رقم [10] من سورة (المزمل).

{إِنَّهُمْ} أي: أهل مكة. {يَرَوْنَهُ} أي: العذاب في النار، أو يوم القيامة الطويل زمانه، الشديد هوله، العظيم شأنه، القاهر سلطانه. {بَعِيداً:} بعيد الوقوع، بعيد الإمكان، {وَنَراهُ قَرِيباً:} كائنا لا محالة؛ لأن كل ما هو آت قريب. وبين {بَعِيداً} و {قَرِيباً} طباق، وهو من المحسنات البديعية. والخطاب في الآية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم، المعنى: اصبر يا محمد على أذى قومك، وتكذيبهم لك؛ حتى يحكم الله بينك، وبينهم، وهو خير الحاكمين. قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَاصْبِرْ:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وحاصلا؛ فاصبر

إلخ. (اصبر): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» ، والمتعلق محذوف، انظر تقديره في الشرح. {صَبْراً:} مفعول مطلق. {جَمِيلاً:} صفة له.

{إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَرَوْنَهُ:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعول به أول. {بَعِيداً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية، لا محل لها؛ لأنها تعليلية. {وَنَراهُ:} (الواو):

حرف عطف. (نراه): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به أول. {قَرِيباً:} مفعول به ثان، والفعل في الجملتين علمي، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

ص: 146

{يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)}

الشرح: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ:} المهل: دردي الزيت، وعكره. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: هو ما أذيب من الرصاص، والنحاس، والفضة. وقال مجاهد:{كَالْمُهْلِ:} كقيح من دم، وصديد. وخذ قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]:{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ،} وقوله تعالى في سورة (الدخان):

{كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} انظر شرحهما في محلهما. {وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ:}

كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف: عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن: العهن:

الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف، ومنه قول زهير في معلقته رقم [12]:[الطويل]

كأنّ فتات العهن في كلّ منزل

نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم

وإنما فسر (العهن) بالصوف، ووصف بالمصبوغ؛ لأن الجبال جدد بيض، وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود، فإذا بسّت وطيّرت في الجو؛ أشبهت العهن المنفوش؛ إذا طيرته الريح.

والمعنى: أن الجبال تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا. قال تعالى في سورة (المزمل): {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً،} ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا، قال تعالى في سورة (الواقعة):{وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} وانظر ما ذكرته في سورة (النمل) رقم [88] فإنه جيد جدا، والحمد لله. وقد أعدته في سورة (النبأ) برقم [20]. ومثل هذه السورة قوله تعالى في سورة (القارعة):{وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} . {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} أي: لا يسأل قريب قريبه؛ لشغله بشأن نفسه.

والمعنى: لا يسأل الحميم حميمه كيف حالك، ولا يكلمه؛ لهول ذلك اليوم، وشدته. وقيل: لا يسأله الشفاعة، ولا يسأله الإحسان إليه، ولا الرفق به، كما كان يسأله في الدنيا، وذلك لشدة الأمر، وعظيم الهول يوم القيامة. كما قال تعالى في سورة (عبس) رقم [37]:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} هذا؛ وقرئ: «(ولا يسأل)» بالبناء للمجهول على أن المعنى لا يسأل حميم عن حميمه، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يسأل عن عمله، كما قال تعالى في سورة (المدثر) رقم [38]:{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} .

تنبيه: قال تعالى في سورة (الطور) رقم [25]، وفي سورة (الصافات) رقم [50]، وفيها أيضا برقم [27]:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} وقال هنا: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً،} وقال في سورة (المؤمنون) رقم [102]: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} . وظاهر

ص: 147

الآيات يدل على التعارض، والجواب: أن آية (الطور)، وآية (الصافات) رقم [50] تنصان على أن التساؤل إنما يكون في الجنة بلا ريب بدليل الآيات التي قبلهما، والتي بعدهما، والآية هنا والتي في سورة (المؤمنون) تعارضان آية (الصافات) برقم [27]. وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في حل هذا التعارض: إن للقيامة أحوالا، ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون. هذا؛ ومخاصمة الكفار بعضهم بعضا، ولوم بعضهم بعضا يوم القيامة قد ذكر في كثير من الآيات القرآنية. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ وفي الآية الأولى تشبيه مرسل، ووجه الشبه: التلون، وفي الآية الثانية أيضا تشبيه مرسل، ووجه الشبه: التطاير، والتناثر.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بفعل محذوف، تقديره: يقع، يدل عليه {واقِعٍ} .

وقيل: متعلق ب: (نراه)، أو بالفعل {يُبَصَّرُونَهُمْ}. وقيل: هو بدل من {قَرِيباً} . وقيل: هو بدل من قوله: {فِي يَوْمٍ} على القول الأول في تعليقه. وقيل: هو بدل من الضمير في (نراه) على اعتباره عائدا على يوم القيامة. {تَكُونُ:} فعل مضارع ناقص. {السَّماءُ:} اسم {تَكُونُ} . {كَالْمُهْلِ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {تَكُونُ،} وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: مثل؛ فهي الخبر، و {تَكُونُ} مضافة، و (المهل): مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها، والجملة بعدها معطوفة عليها، وهي في محل جر مثلها. {وَلا:} (الواو): حرف عطف.

(لا): نافية. {يَسْئَلُ:} فعل مضارع. {حَمِيمٌ:} فاعل. {حَمِيماً:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ولا يسأل حميم حميما نصره، وشفاعته، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}

الشرح: {يُبَصَّرُونَهُمْ:} يرونهم، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس، فيبصر الرجل أباه، وأخاه، وقرابته، وعشيرته، فلا يسألهم، ولا يكلمهم، ويبصر حميمه، فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يتعارفون ساعة، ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. انتهى. وقد قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام في الآية رقم [45]:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ..} . إلخ، ذكرت هناك: أن هذا التعارف تعارف توبيخ، وافتضاح، يقول بعضهم لبعض:

أنت أضللتني، وحملتني على الكفر، وليس تعارف مودة، وعطف، وشفقة، ثم يفر بعضهم من بعض مخافة المظالم لبعضهم على بعض. وقال مجاهد: المعنى: يبصر الله المؤمنين الكفار في

ص: 148

يوم القيامة. فواو الجماعة عائدة على المؤمنين، والضمير المنصوب على الكافرين. وقيل: إنه يبصر المظلوم ظالمه، والمقتول قاتله. وقيل: يعرف الحميم حميمه، ومع ذلك لا يسأله عن حاله لشغله بنفسه.

{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ:} يتمنى الكافر. {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} أي: يتمنى أن يفدي نفسه من عذاب الله يوم القيامة بأعز الناس عليه، من بنيه. {وَصاحِبَتِهِ:} زوجته. {وَفَصِيلَتِهِ:}

عشيرته. {الَّتِي تُؤْوِيهِ:} تنصره، وتعينه، وتساعده في الدنيا؛ وهو ينتسب إليها. {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً:} يتمنى: أنه لو ملك هؤلاء، وكانوا تحت يده، ثم إنه يفتدي بهم جميعا. جاء بالعموم بعد الخصوص؛ لبيان هول الموقف. {ثُمَّ يُنْجِيهِ} أي: ذلك الفداء من عذاب الله تعالى يوم القيامة، وهيهات أن ينجيه! هذا؛ وهذه الآيات مثل قوله تعالى في سورة (لقمان) رقم [33]:

{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً،} وقوله تعالى في سورة (عبس): {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .

هذا؛ والمراد ب: {الْمُجْرِمُ} هنا: الكافر، وكثيرا ما يعبر القرآن الكريم عن الكافرين بالظالمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، ونحو ذلك، ويتهددهم بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات؛ فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، ولا سيما من قرأ القرآن منهم، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

هذا؛ وطبقات الناس عند العرب سبع: وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، والعشيرة. فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، والفصيلة تجمع العشائر، وليس بعد العشيرة شيء يوصف عند العرب، واستحدث اسم الأسرة، والعائلة لما يشمل الزوج، والزوجة وأولادهما الذين يعيشون في دار واحدة. وقد نظم بعض الأدباء طبقات العرب بقوله:[الخفيف]

اقصد الشّعب فهو أكثر حيّ

عددا في الحواء ثمّ القبيله

ثمّ تتلوها العمارة ثمّ ال

بطن والفخذ بعدها والفصيله

ثمّ من بعدها العشيرة لكن

هي في جنب ما ذكرنا قليله

وأخيرا خذ قول العلي القدير في سورة (الحجرات): {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

ص: 149

الإعراب: {يُبَصَّرُونَهُمْ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والهاء مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {حَمِيماً،} والتقدير: حميما مبصرين، وإنما جمع الضميران، وهما عائدان للحميمين حملا على معنى العموم؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي، أو الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في جواب سؤال، تقديره: لعل عدم السؤال؛ لكونه لا يبصره، فقيل:{يُبَصَّرُونَهُمْ} .

{يَوَدُّ:} فعل مضارع. {الْمُجْرِمُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المرفوع، أو المنصوب، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {لَوْ:} مصدرية. {يَفْتَدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {الْمُجْرِمُ،} و {لَوْ} والفعل {يَفْتَدِي} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يود المجرم افتداء نفسه.

{مِنْ عَذابِ:} متعلقان بما قبلهما، و {عَذابِ} مضاف، و {يَوْمِئِذٍ} مضاف إليه، و (إذ) مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وحركت بالكسرة، ونونت، والتنوين عوض من جملة محذوفة.

{بِبَنِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {يَفْتَدِي،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ:} معطوفان على ما قبلهما، وعلامة جر (أخيه) الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَفَصِيلَتِهِ:} الواو: حرف عطف.

(فصيلته): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة (فصيلته). {تُؤْوِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {الَّتِي،} وهو العائد، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على (بنيه). {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {جَمِيعاً:}

حال من من؛ لأنها بمعنى الجمع، وهي حال مؤكدة. {ثُمَّ:} حرف عطف، وترتيب، وتراخ.

{يُنْجِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى (من في الأرض) والهاء مفعول به، وهي عائدة على {الْمُجْرِمُ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

وقال القرطبي: أي: يخلصه ذلك الفداء فلا بدّ من هذا الإضمار.

{كَلاّ إِنَّها لَظى (15) نَزّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)}

الشرح: {كَلاّ إِنَّها لَظى:} ردع، وزجر، وتعنيف، أي: لينزجر هذا الكافر الأثيم، وليرتدع عن أعماله الأثيمة، فليس ينجيه من عذاب الله فداء، بل أمامه جهنم تتلظى نيرانها، وتلتهب، كما قال تعالى في سورة (الليل):{فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظّى} واشتقاق (لظى) من: التلظّي، والتظاء

ص: 150

النار: التهابها، وتلظّيها: تلهّبها. هذا؛ والضمير في (إنها) للنار، ولم يسبق لها ذكر، ولكنها مفهومة من المقام، {نَزّاعَةً لِلشَّوى} أي: تنزع بشدة حرها جلدة الرأس من الإنسان، كلما قلعت؛ عادت كما كانت زيادة في التنكيل، والعذاب. وخصها بالذكر؛ لأنها أشد الجسم حساسية، وتأثرا بالنار، قال الأعشى:[مجزوء الكامل]

قالت قتيلة ما له؟

قد جلّلت شيبا شواته

وقال آخر: [الطويل]

لأصبحت هدّتك الحوادث هدّة

لها فشواة الرّأس باد قتيرها

وفي الصحاح: والشّوى: جمع شواة، وهي جلدة الرأس، والشوى: اليدان، والرجلان، والرأس من الآدميين. وكل ما ليس مقتلا، قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]

فإنّ من القول التي لا شوى لها

إذا زلّ عن ظهر اللسان انفلاتها

يقول: إن من القول كلمة لا تشوي، ولكن تقتل. وقال عنترة من معلقته-وهو البيت رقم [34] -:[الكامل]

وحشيّتي سرج على عبل الشّوى

نهد مراكله نبيل المحزم

ومن شعر عمران بن حطان الخارجي على أن الشوى: القوائم، والجلود:[الطويل]

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم

بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى

وقال بعض الأئمة: الشوى: القوائم والجلود، قال امرؤ القيس:[الطويل]

سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النّسا

له حجبات مشرفات على الفال

هذا؛ والشوى: رذال المال. قال أعرابي، وقد نحر ناقة في شدة أصابتهم:

أكلنا الشّوى حتّى إذا لم ندع شوى

أشرنا إلى خيراتها بالأصابع

{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّى} أي: تدعو، وتنادي لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله، وتولى عن الإيمان، ودعاؤها أن تقول: إليّ يا مشرك! إليّ يا كافر! وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: تدعو الكافرين، والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إليّ يا كافر! إليّ يا منافق! ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب: {تَدْعُوا:} تهلك، تقول العرب: دعاك الله، أي: أهلكك الله. وقال الخليل:

إنه ليس كالدعاء: «تعالوا» ، ولكن دعوتها إياهم: تمكنها من تعذيبهم. وقيل: الداعي خزنة جهنم، أضيف دعاؤهم إليها. قال القرطبي: قلت: القول الأول هو الحقيقة حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن، والأخبار الصحيحة. انتهى. وقيل: هو مجاز عقلي عن إحضارهم، كأنها تدعوهم، فتحضرهم. أو استعارة مكنية. ولا وجه له قطعا قطعا، بل هو حقيقة، كما قال القرطبي-رحمه الله تعالى-.

ص: 151

أقول: انظر ما ذكرته في سورة (ق)[30] وما بعدها تجد ما يسرك ويشرح صدرك.

{وَجَمَعَ فَأَوْعى} أي: جمع المال، فجعله في وعائه، ومنع منه حق الله تعالى، وتشاغل به عن طاعة الله، وزهى باقتنائه على الناس، وتكبر عليهم. وكان الحسن البصري-رحمه الله تعالى- يقول: يا ابن آدم! سمعت وعيد الله، ثم أوعيت الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت الصديق رضي الله عنهما:«لا توعي؛ فيوعى عليك، ولا توكي فيوكى عليك، ولا تحصي فيحصي الله عليك» . أخرجه الشيخان.

هذا؛ و «جمع» للذوات، و «أجمع» للمعاني، يقال: جمع المال، وجمع الرجال، ونحو ذلك، ولا يقال: أجمع المال، ويقال: أجمع الأمر: إذا عزم عليه، والأمر مجمع عليه، ويقال: أجمع أمرك، ولا تدعه منتشرا. قال تعالى حكاية عن قول فرعون، وأشياعه في الآية رقم [64] من سورة (طه):{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} . ولا يقال: أجمع أعوانه، وشركاءه، وإنما يقال: جمع أعوانه، وأصدقاءه. وابن هشام قال في المغني: إن «أجمع» لا يتعلق بالذوات، بل بالمعاني، كقولك: أجمعوا على كذا، بخلاف جمع، فإنه مشترك بدليل قوله تعالى:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} رقم [60] من سورة (طه)، وقوله جل شأنه في سورة (الهمزة):{الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ} وخذ قول الحارث بن حلزة اليشكري من معلقته رقم [20] وهو ل: «أجمع» في المعاني: [الخفيف]

أجمعوا أمرهم عشاء فلمّا

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

هذا؛ وأما قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، حكاية عن قول نوح-عليه السلام:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ} . فهو على تقدير: فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم. أو يقال: سوغ ذلك العطف، ولولا العطف؛ لما ساغ. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

الإعراب: {كَلاّ:} حرف ردع وزجر، وهي هنا تحتمل أن تكون بمعنى: حقا، وعليه: تمام الكلام قوله تعالى: {يُنْجِيهِ،} وتحتمل أن تكون بمعنى: (لا) النافية، وعليه فتمام الكلام عليها، والوقف عليها تام، ويكون المعنى: ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء. {إِنَّها:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، (وها): اسمها. {لَظى:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مبتدأة لا محل لها من الإعراب. {نَزّاعَةً:} يقرأ بالرفع والنصب، فالرفع فيه خمسة أوجه: أحدها: أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير: هي نزاعة. الثاني: أن تكون خبرا ثانيا ل: (إنّ)، والثالث أن تكون بدلا من {لَظى،} والرابع: أن تكون {لَظى} بدلا من اسم (إنّ)، ونزاعة خبر (إنّ)، والخامس: اعتبار {لَظى} مبتدأ، و {نَزّاعَةً} خبرها، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ) وعليه: فالضمير ضمير القصة، والمعنى: إن القصة، والخبر لظى نزاعة للشوى. انتهى. قرطبي.

ص: 152

وعلى نصب (نزاعة) ففيها خمسة أوجه أيضا: الأول على القطع، التقدير: أعني: نزاعة.

والثاني: أنها حال من {لَظى،} مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} . والثالث: أنها حال، عاملها محذوف، التقدير: تتلظى نزاعة؛ أي: في حال نزعها للشوى. والرابع: أنها حال من فاعل {تَدْعُوا} قدمت عليه. قاله أبو البقاء. والخامس: هي حال من الضمير في {لَظى،} على أن تجعلها صفة غالبة، مثل: الحارث، والعباس. قاله أبو البقاء أيضا. {لِلشَّوى:} جار ومجرور متعلقان ب: {نَزّاعَةً،} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ وقد اعتبر ابن هشام في المغني اللام زائدة، وسماها لام التقوية، وعليه ف:(الشوى) مجرور لفظا، منصوب محلا، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [154]:{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ،} وقوله تعالى في سورة (البقرة) وغيرها: {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ،} وقوله في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [43]:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ،} وفي سورة (الأنبياء) رقم [78]: {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} وأورد ابن هشام في مغنيه قول حاتم الطائي. وقيل: قول قيس بن عاصم المنقري-وهو الشاهد رقم [398] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا فإني لست آكله وحدي

{تَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، وفاعله يعود إلى {لَظى،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر ب: {نَزّاعَةً،} فهي حال متداخلة، أو هي في محل نصب حال من {لَظى،} فتكون حالا متكررة من بعض الوجوه، أو هي في محل رفع خبر ثان، أو ثالث، أو هي مستأنفة، لا محل لها، إن أردت الإعراض عن الكلام السابق. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {أَدْبَرَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والمتعلق محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة صلة الموصول، لا محل لها. {وَتَوَلّى:} الواو: حرف عطف. وجملة (تولى) معطوفة على الجملة قبلها، لا محل لها مثلها. وجملة:{وَجَمَعَ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وكذلك جملة:{فَأَوْعى} معطوفة أيضا، وفاعلهما يعود إلى من، تقديره:«هو» .

{إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)}

الشرح: {إِنَّ الْإِنْسانَ} أي: الكافر، والمنافق، والفاسق. {خُلِقَ هَلُوعاً:} الهلع في اللغة: أشد الحرص، وأسوأ الجزع، وأفحشه، قاله الضحاك، وقتادة، ومجاهد. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: تفسيره ما بعده. وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي-رضي الله عنه: [مجزوء الكامل]

ما إن هلعت ولا جزع

ت ولا يردّ بكاي زندا

ص: 153

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «شرّ ما في الرجل شحّ هالع، وجبن خالع» . أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال أبو عبيدة: الهلوع: هو الذي إذا مسه الخير؛ لم يشكر، وإذا مسه الضر؛ لم يصبر. وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر؛ أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به، ومنعه الناس. هذا؛ و {الْخَيْرُ} المال، والصحة، والولد، والجاه، والمنصب في الدنيا. و {الشَّرُّ:}

الفقر، والمرض، وعدم الولد، والضعف، والذلة في الدنيا. ومعنى {مَسَّهُ:} أصابه، ووقع به.

هذا؛ و {الْإِنْسانَ} يطلق على الذكر، والأنثى من بني آدم، ومثله كلمة: شخص. قال تعالى:

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} ومعلوم: أن الله تعالى لم يقصد الذكور خاصة، والقرينة الآيات الكثيرة الدالة على أن المراد: الذكر، والأنثى، واللام في {الْإِنْسانَ} إنما هي لام الجنس؛ التي تفيد الاستغراق، ولذا صح الاستثناء من {الْإِنْسانَ} هنا وفي سورة (العصر) كما ستقف عليه. هذا؛ وإنسان العين: هو المثال الذي يرى فيها، وهو النقطة السوداء، والتي تبدو لامعة وسط السواد. وانظر جمع {الْإِنْسانَ} في الآية رقم [5] من سورة (الجن). وخذ قول ذي الرمة، -وهو الشاهد رقم [889] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجمّ فيغرق

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْإِنْسانَ:} اسم {إِنَّ} . {خُلِقَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى الإنسان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ}. {هَلُوعاً:} حال مقدرة؛ لأنه ليس متصفا بالصفات المذكورة وقت خلقه، ولا وقت ولاده. {إِذا} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {مَسَّهُ:} فعل ماض، والهاء في محل نصب مفعول به.

{الشَّرُّ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها. {جَزُوعاً:} خبر ل: «كان» محذوفة مع اسمها، التقدير: كان الإنسان جزوعا، والجملة الفعلية هذه جواب {إِذا} لا محل لها، وإذا ومدخولها في محل رفع خبر ثان ل:{إِنَّ،} أو هي تفسير لجملة: {خُلِقَ هَلُوعاً} كما رأيت في الشرح. هذا؛ وقيل: {جَزُوعاً} حال من الضمير في {هَلُوعاً،} وهو العامل في الحال.

وقيل: {جَزُوعاً} صفة {هَلُوعاً} وعلى هذين القولين، فإذا الأولى متعلقة ب:{جَزُوعاً،} والثانية متعلقة ب: {مَنُوعاً} ولا تنس المقابلة في الآيتين. والمعتمد الأول بلا ريب، والجملة:{وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها على جميع الاعتبارات بلا فارق بينهما.

هذا؛ وذكرت لك أن {جَزُوعاً} حال مقدرة؛ إذ الحال بالنسبة للزمان على ثلاثة أقسام: حال مقارنة، وهي الغالبة، نحو قوله تعالى حكاية عن قول امرأة إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} . وحال مقدرة، وهي المستقبلة نحو قوله

ص: 154

تعالى: {فَادْخُلُوها خالِدِينَ} . ومنها الحال في هذه الآية، كما رأيت، وحال محكية، وهي الحال الماضية، نحو: جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة، وهي التي تذكر توطئة للصفة بعدها، بمعنى: أن المقصود: الصفة، وهذا كثير في القرآن الكريم، خذ قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} .

هذا؛ والحال أيضا على نوعين: إما مؤسسة، وإما مؤكدة. فالمؤسسة هي التي لا يستفاد معناها بدونها، نحو جاء زيد ضاحكا ونحوه، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع مبينة هيئة فاعل، أو مفعول. والمؤكدة، وهي التي يستفاد معناها بدونها، وإنما يؤتى بها للتوكيد، وهذه ثلاثة أنواع.

الأول: ما يؤتى بها لتوكيد عاملها، وهي التي توافقه معنى فقط، أو معنى، ولفظا، فالأول كقوله تعالى:{فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها،} وقوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} الأولى من سورة (النمل)، والثانية مذكورة في سورة (الشعراء) وغيرها. والثاني نحو قوله تعالى:

{وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} .

النوع الثاني: ما يؤتى بها لتوكيد صاحبها، نحو قوله تعالى:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} رقم [99] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

النوع الثالث: ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين، نحو قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [91]:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ} وقولك: (هو الحقّ صريحا، أو بيّنا) وقول سالم بن دارة اليربوعي-وهو الشاهد رقم [385] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار؟

وهناك الحال اللازمة في قراءة من قرأ قوله تعالى في سورة (ص) رقم [29]: «(كتاب أنزلناه إليك مباركا)» بالنصب؛ لأن البركة لا تفارق الكتاب، وهو القرآن.

{إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}

الشرح: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ:} قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة بعد ذكر المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل لمضادة تلك الصفات لها؛ من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف

ص: 155

من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار الآجل على العاجل، وتلك ناشئة من الانهماك في حب العاجل، وقصور النظر عليه. انتهى. هذا؛ وفسر الجلال {الْمُصَلِّينَ} بالمؤمنين؛ لأن الصلاة الشرعية المقبولة عند الله تستلزم الإيمان، وبدون الإيمان، لا تكون صحيحة، ولا مقبولة.

{الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ:} مواظبون على أداة الصلاة، لا يشغلهم عنها شاغل؛ لأن نفوسهم صافات من أكدار الدنيا بتعرضهم لنفحات الله. وقيل: معناه يحافظون على أوقاتها، وواجباتها. قاله ابن مسعود-رضي الله عنه. وقيل: المراد بالدوام هنا السكون، والخشوع، كقوله تعالى في سورة (المؤمنون):{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} قاله عقبة ابن عامر-رضي الله عنه. وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة، فإن الذي لا يطمئن في ركوعه، وسجوده؛ لم يسكن فيها، ولم يدم، بل ينقرها نقر الغراب، فلا يفلح في صلاته. وخذ ما يلي:

فعن أبي مسعود البدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجزئ صلاة الرجل حتّى يقيم ظهره في الركوع والسّجود» . رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

وعن أبي قتادة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسوأ الناس سرقة الّذي يسرق من صلاته» . قالوا: يا رسول الله! كيف يسرق من الصلاة؟ قال: «لا يتمّ ركوعها، ولا سجودها» . أو قال: «لا يقيم صلبه في الركوع، والسّجود» . رواه أحمد، والطبراني، وغيرهما.

وعن علي-رضي الله عنه-قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ؛ وأنا راكع، وقال:«يا عليّ مثل الّذي لا يقيم صلبه في صلاته كمثل حبلى حملت، فلمّا دنا نفاسها؛ أسقطت، فلا هي ذات حمل، ولا هي ذات ولد» . رواه أبو يعلى، وغيره.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رجلا دخل المسجد؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلّى، ثمّ جاء فسلّم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«وعليك السّلام، ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ» . فصلى ثم جاء فسلام، فقال:«وعليك السّلام، ارجع، فصلّ، فإنك لم تصلّ» . فصلى، ثم جاء، فسلام، فقال:«وعليك السّلام، ارجع، فصلّ، فإنك لم تصلّ» . فقال في الثانية، أو في التي تليها: علمني يا رسول الله! وفي رواية: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني! فقال: «إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة، فكبّر، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع؛ حتى تطمئنّ راكعا، ثمّ ارفع حتّى تستوي قائما، ثمّ اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئنّ جالسا، ثم اسجد حتّى تطمئنّ ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها» . رواه البخاري، ومسلم.

وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصّلاة، وأوّل ما يحاسب به الصلاة، ويقول الله: انظروا

ص: 156

في صلاة عبدي، فإن كانت تامة؛ كتبت تامة، وإن كانت ناقصة؛ يقول: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن وجد له تطوع تمت الفريضة من التطوع. ثم يقول: انظروا هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كانت ناقصة يقول: انظروا هل لعبدي صدقة؟ فإن كانت له صدقة تمّت زكاته». رواه أبو يعلى.

ويمكن قياس الصيام، والحج على الصلاة، والزكاة، والمراد بالتطوع: النوافل، والسنن؛ التي يفعلها المسلم زيادة على الفرائض، فالنبي صلى الله عليه وسلم جزاه الله عنا خير الجزاء، وجزاه الله عنا ما هو أهله سنّ لنا السنن ورغبنا في التطوع حبا منه في زيادة الخير لنا، وتكثير حسناتنا، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه خمس مرات هل يبقى من درنه شيء» . قالوا: لا يبقى من درنه شيء! قال:

«فكذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا» . رواه الستة ما عدا أبا داود.

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} أي: في أموالهم نصيب معين فرضه الله في أموالهم، وهو الزكاة؛ التي فرضها الله في أموال الأغنياء للفقراء والمساكين، فالله يقول في حديث قدسي:

«الأغنياء وكلائي، والفقراء عيالي، فإذا بخل وكلائي على عيالي؛ أذقتهم عذابي، ولا أبالي» .

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر ما يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا، وعروا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم، ألاّ وإنّ الله سيعذّبهم عذابا أليما، ويحاسبهم حسابا عسيرا» . ونحن لو تأملنا حق التأمل في هذا الحديث؛ لوجدنا أن مسؤوليتنا كبرى أمام دولة الفقراء، وأن إهمالهم يجر إلى شر مستطير في الدنيا، وفي الآخرة، أما في الدنيا فإن الفقراء إذا رأوا في الأغنياء شحا مطاعا، وبخلا سائدا، فإنهم يبغضونهم، ويتمنون هلاك المال الذي بأيديهم. وأما في الآخرة؛ فإن الفقير الجائع، والمسكين العاري سيتعلق بالغني، ويأخذ بتلابيبه، ويقول: يا رب هذا الغني البخيل أغلق بابه دوني، ومنعني عطفه، فخذ لي يا رب بحقي منه! فلا يتركه حتى يوجب له النار.

روى الطبراني عن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقول الفقير: يا رب هذا الغني منعني حقي، وحرمني. فيقول الله عز وجل:

وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأبعدنّهم». ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .

{لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ:} السائل: هو الذي يسأل الناس لفاقته، و (المحروم) هو الذي حرم المال لسبب من الأسباب. وأظهر الأقوال فيه: أنه العفيف المتعفف ذو العيال؛ لأنه قرن بالسائل، والمتعفف لا يسأل، ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل، وإنما يفطن له متيقظ، قال تعالى في سورة (البقرة) [273]:{لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي}

ص: 157

الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وانظر ما ذكرته في الآية رقم [19] من سورة (الذاريات) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ:} يؤمنون، ويوقنون بيوم القيامة، وما فيه من البعث بعد الموت والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، ثم إلى الجنة، أو إلى النار، ومن صدق، واعتقد بيوم الدين؛ صرف ماله في مرضاة الله، وأتعب نفسه بطاعة الله في الليل، والنهار. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:(يوم الدين) يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرا؛ فشر إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره، ثم قال:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . هذا؛ والدينونة: المجازاة والمكافأة، ومنه: كما تدين تدان.

{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ:} خائفون على أنفسهم من عذاب الله، يرجون الثواب، ويخافون العقاب. {إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ:} يعني: إن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي، واجتنب المحظورات بالكلية كما ينبغي، بل قد يكون وقع منه تقصير من الجانبين، فلا جرم ينبغي أن يكون العبد بين الخوف، والرجاء، خائفا من عقابه، طامعا في رحمته تعالى.

الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الْمُصَلِّينَ:} مستثنى من {الْإِنْسانَ} وساغ ذلك؛ لأن (أل) فيه للجنس، وهي تفيد الاستغراق، والمعنى: إن كل إنسان خلق هلوعا، و {الْمُصَلِّينَ} منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب بدلا من {الْمُصَلِّينَ،} أو هو صفة له، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هم الذين، وتكون الجملة الاسمية في محل نصب حال من {الْمُصَلِّينَ،} أو من الضمير المستتر فيه، والرابط: الضمير فقط.

{هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عَلى صَلاتِهِمْ:} متعلقان ب:

{دائِمُونَ} بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {دائِمُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيه. {فِي أَمْوالِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {حَقٌّ:} مبتدأ مؤخر. {مَعْلُومٌ:} صفته، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {لِلسّائِلِ:} متعلقان ب: {مَعْلُومٌ،} أو بمحذوف صفة ثانية ل: {حَقٌّ} . {وَالْمَحْرُومِ:} الواو:

حرف عطف. (المحروم): معطوف على ما قبله.

{وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله أيضا. {يُصَدِّقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِيَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (يوم) مضاف، و {الدِّينِ} مضاف إليه. (الذين) معطوف على ما قبله. {هُمْ:} مبتدأ.

ص: 158

{مِنْ عَذابِ:} متعلقان ب: {مُشْفِقُونَ} بعدهما، و {عَذابِ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مُشْفِقُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عَذابِ:} اسم {إِنَّ،} وهو مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه

مثل سابقه. {غَيْرُ:} خبر {إِنَّ،} وهو مضاف، و {مَأْمُونٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ عَذابَ..} . إلخ معترضة بين المتعاطفات، ومفيدة للتعليل.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)}

الشرح: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ:} جمع: فرج، وهو اسم لسوأة الرجل، والمرأة، وحفظه:

التعفف عن الحرام، وعن كل ما لا يحل من زنى ولواط، واستمناء باليد، ومتعة.

أما الزنى فهو من أفظع الجرائم خطرا، وأشدها ضررا على الأعراض، والأنساب، والأخلاق، والعادات، لذلك سماه الله فاحشة، وساء سبيلا. قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [32]:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً،} وما فشا الزنى في أمة من الأمم إلا ضاع مجدها، وذهب عزها، وفشت فيها الأمراض، والأوبئة الفتاكة، لذلك وضع الله عز وجل للزاني عقوبتين: عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، أما عقوبة الدنيا؛ فالجلد لمن لم يتزوج، والرجم بالحجارة لمن كان متزوجا؛ حتى يموت، أما الجلد؛ فقد ثبت بقوله تعالى في سورة (النور) رقم [2]:{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ..} . إلخ، وأما الرجم؛ فقد ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه الصحيحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثّيّب الزّاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة» . رواه الستة ما عدا ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه.

أما عقوبة الآخرة فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جبريل، وميكائيل أخذا بيده حتى أصعداه جبلا، فإذا أصوات، وعواء، فاطلع فإذا رجال، ونساء عراة، يأتيهم اللهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم؛ صرخوا من شدة حره، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ما هذا يا جبريل؟» . قال: «هؤلاء الزّناة والزّواني، عقابهم كذلك إلى يوم القيامة» . ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رجالا، ونساء بين أيديهم لحم نضيج في قدر، فقال:«ما هذا يا جبريل؟» . قال: «هذا مثل الرجل من أمتك يترك زوجته الحلال الطيب، ويبيت عند أخرى يزني بها، ومثل المرأة من أمتك تترك زوجها الحلال الطيب، وتأتي آخر خبيثا مثلها، يزني بها» .

ص: 159

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عفّوا عن نساء النّاس؛ تعفّ نساؤكم، وبرّوا آباءكم، تبرّكم أبناؤكم

إلخ». رواه الحاكم، ومثله في الطبراني. من رواية ابن عمر رضي الله عنهما. فالكيل الذي تكيل به للناس يكال لك به، وكما تدين تدان، فمن زنى بنساء الناس لا بد أن يدان من قريباته. وخذ ما يلي:

حكي: أنه كانت امرأة صالحة، زوجها صائغ، ولها رجل سقّاء ينقل لها الماء منذ ثلاثين سنة، لا ينظر إليها، فناولها يوما الماء، وقبض على يدها قبضا شديدا، فلما جاء زوجها؛ قالت له: هل وقع منك اليوم ذنب؟ قال: لا! غير أن امرأة اشترت مني سوارا، فلما رأيت يدها أعجبتني، فقبضت على يدها قبضا شديدا! فقالت له: قد وقع القصاص في زوجتك! فلمّا كان الغد جاء السقاء معتذرا، فقالت له: لا بأس عليك، إنما الفساد من زوجي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [32] من سورة (الإسراء) تجد ما يسرك.

ومتى عف المرء عن نساء الناس؛ ظهرت أمارات عفته في تصرفاته، واستقامته، بل، وفي نظراته، وحركاته، وسكناته، وفاحت رائحة عفته؛ حتى لكأن زوجته تشمها، وتحس بها، فتزداد عفة على عفة، ووفاء لزوجها، وإرضاء لربها، وظهر أثر ذلك في الاحترام المتبادل، والمحبة الصادقة، والعشرة الطيبة، ورفرف على البيت علم الطهارة، والسعادة، أما إذا لم يعف الزوج عن نساء الناس، وتدنس بالزنى، والفجور، وأفسد امرأة غيره، ولم تمتلئ نفسه بالعفة، والطهارة؛ فإن شؤم ذلك يتعدى إلى زوجته، ويحملها على أن تنظر إلى غيره من الرجال الأجانب، وتتصل بمن تهوى، وتحملها الغيرة على الانتقام من زوجها، فتسلك ما سلك من طريق الخيانة، والفجور، فيكون هذا الزوج الدنيء متسببا في فساد امرأته. وكما تدين تدان.

أما اللواط؛ فإنه عمل قوم لوط، كما رأيت في سورة (الأعراف)، وسورة (الحجر)، وسورة (هود)، وسورة (الشعراء) و (النمل) وغير ذلك، وهو كبيرة من الكبائر، التي تستوجب غضب الله في الدنيا، وعقابه في الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شدد النكير على من اقترف هذه الجريمة، أو يقترفها وإليك نبذة من أحاديثه الشريفة في ذلك:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يصبحون في غضب الله، ويمسون في سخط الله» . قلت: من هم يا رسول الله؟! قال: «المتشبّهون من الرّجال بالنّساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال، والذي يأتي البهيمة، والذي يأتي الرجال» . رواه الطبراني.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل، والمفعول به» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه. أقول: المفعول به يقتل إذا كان مطاوعا، وباختياره، أما إذا كان مكرها؛ فلا إثم، ولا قتل له، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم هذه الجريمة؛ حتى عمل الرجل مع امرأته، فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-أن

ص: 160

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هي اللّوطيّة الصّغرى» . يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها. رواه أحمد، والبزار. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود. وهذا محمول على المستحل، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [5] من سورة (المؤمنون).

وأما الاستمناء باليد، ويطلق عليه في هذه الأيام اسم: العادة السرية؛ فقد قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز؛ قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} إلى قوله: {العادُونَ} . وهذا؛ لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول الشاعر:[البسيط]

إذا حللت بواد لا أنيس له

فاجلد عميرة لا داء ولا حرج

فقد أجمع العلماء على تحريمه. وقال بعضهم: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها إبليس حين نزل إلى الأرض، وأجراها بين الناس، وكان الإمام أحمد-رضي الله عنه-على ورعه يجوزه؛ لأنه فضلة في البدن، يجوز إخراجها لحاجة، كالفصد، والحجامة؛ لكن بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنى، وأن يفقد مهر حرة، أو ثمن أمة، وأن يفعله بيده، وبالجملة فإن فعله حرام، ومضر بالصحة كما ثبت طبيا، ولو قام الدليل على جوازه؛ لكان ذو المروءة يعرض عنه لدناءته، ومع هذا فالدليل ضعيف، وهو عار بالرجل الدنيء، فكيف بالرجل الشريف؟ سئل عطاء عنه، فقال: مكروه، سمعت: أن قوما يحشرون، وأيديهم حبالى، فأظن أنهم هؤلاء. وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: عذّب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.

وأما المتعة؛ فهي عقد مؤقت يعقده الرجل على امرأة، يحل له زواجها شرعا بأجر معين مقبوض، فإذا انتهت المدة المتعاقد عليها؛ تخلصت منه بدون طلاق؛ لأنها كالمستأجرة، وقد كان للمتعة في التحليل، والتحريم أحوال، فمن ذلك: أنها كانت مباحة، ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، ثم حللها في غزوة فتح مكة، ثم حرمها تحريما قاطعا، أما قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [23]:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} هذه الآية التي يستدل بها من يبيح المتعة منسوخة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيّها الناس إني كنت قد أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا إنّ الله حرّم هذا إلى يوم القيامة» . مع أن الآية ليست دليلا قاطعا للمتعة؛ لأن الاستمتاع بالعقد الدائم أولى بالاعتبار، ولفظ الأجور مراد به المهور التي تدفع للنساء على سبيل العطية، والهدية، والإكرام، كما قال تعالى في سورة (النساء) رقم [4]:{وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً..} . إلخ. والمتمتع بها عند من يقول بالمتعة لا نفقة لها، وإنما تنفق على نفسها من الأجرة التي تقبضها لقاء التمتع بها.

ص: 161

ويقال: إن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-كان يقول بالمتعة، ويحلها، ثم رجع إلى التحريم حينما بلغه أحاديث النهي، وتأكد من صحتها، ويتعلق من يبيح المتعة بذلك المروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما. ويروي: أن المأمون العباسي أباحها للمجاهدين، وهم بعيدون عن أهليهم، فدخل عليه العالم الجليل يحيى بن أكثم-رحمه الله تعالى-وهو يرتعد غضبا، فقال المأمون: ما للإمام يشتاط غضبا؟ فقال الإمام العظيم: كيف لا أشتاط غضبا، وقد انتهكت حرمات الله، وأحلّ ما حرم الله ورسوله؟! فقال المأمون: ومن فعل ذلك؟ فقال: أمير المؤمنين فعل ذلك! قال: وكيف كان ذلك؟! قال: ألم تحل المتعة وقد حرمها الله ورسوله إلى يوم القيامة؟ قال المأمون: أليست تحل بعقد شرعي، ومهر، ورضا، واختيار مع رشد، وعقل؟ قال:

يا أمير المؤمنين! فالله يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أهي زوجة ترث، وتورث؟ قال: لا. قال: أيلحق الولد بالتمتع بالمرأة، إذا كان بعيدا عن البلد المتمتع بها؟ قال: لا. قال: أهي أمة في ملك اليمين؟ قال: لا. قال: هي إذا محرمة إذا كانت ليست زوجة بالمعنى الصحيح، ولا أمة بملك اليمين. فرجع المأمون-رحمه الله تعالى-عن تحليلها، واستغفر الله.

وأخيرا أقول: تأباها المروءة والشرف، فأي: رجل فيه شيء من ذلك، ثم هو يرضى أن يسلم أخته، أو بنته لشخص أياما معدودة يستمتع بها، ثم هو يردها له، وقد تكون حملت منه بولد؟! ثم ما مصير هذا الولد؟ هل هو لقيط، أو ابن زنى، أو هو ولد شرعي؟ فيجب أن يرث من والده وينتسب إليه، وهل يتأتى هذا في نكاح المتعة؟!

تنبيه: أقول: إنه قد فشا في هذه الأيام زنى بشرف، وفخر، وترضى به المرأة، وهي مرفوعة الرأس، ويقره زوجها، وهو شامخ الأنف، ذلك هو تلقيح المرأة من مادة رجل أجنبي غير زوجها، الذي ثبت عقمه، فهو يقر الدياثة بنفسه ما دام يأخذها بيده إلى طبيب قذر، لا يعرف للمروءة سبيلا، ولا للشهامة طريقا، ويكون شريكا للرجل في الدياثة، والحرمان من جنة النعيم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ثلاثة حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاقّ لوالديه، والدّيّوث الذي يقر في أهله الخبث» . رواه الإمام أحمد، والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

تنبيه: قد تحرم الزوجة (أي: إتيانها) لعارض حيض، أو نفاس، وقد صرحت به آية البقرة رقم [222]:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ..} .

إلخ. هذا؛ وإجراء (ما) وهي لغير العاقل على الإماء، وهنّ عاقلات؛ لأنهن ناقصات عقل، ولأنهن يبعن، ويشترين، كالبهائم، كما أطلقت على النساء الحرائر في قوله تعالى في سورة (النساء) [3]:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} للسبب الأول فقط.

ص: 162

{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي: على إتيان أزواجهم، وإمائهم؛ إذا كان الإتيان على وجه أذن فيه الشرع، دون الإتيان في الدبر، أو في حال الحيض، والنفاس، فإنه محظور، فلا يجوز، ومن فعله فإنه ملوم، ومن أتى امرأته الحائض في أول الحيض؛ فيجب عليه أن يتصدق بدينار، ومن أتاها في آخر الحيض؛ فليتصدق بربع دينار. {فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ} أي: المتجاوزون الحد من الحلال إلى الحرام، وذلك مما يوجب الحد على الزاني، واللائط، والتعزيز على إتيان البهيمة، وإتيان المرأة في دبرها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ..} . إلخ، وإعرابها مثلها بلا فارق. هذا؛ وقال السمين: اللام في {لِفُرُوجِهِمْ} زائدة، وعليه فهو مفعول مقدم ل:{حافِظُونَ،} فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وزيادة اللام هذه على قول السمين، مثل قول ابن هشام بزيادتها في قوله تعالى في سورة (البروج):{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} والآية رقم [16] من هذه السورة، ونحو ذلك، وقد سماها ابن هشام لام التقوية. هذا؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [4]:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ} . {إِلاّ:} حرف حصر. {عَلى أَزْواجِهِمْ:}

في تعليقهما أوجه: أحدها: أنهما متعلقان ب: {حافِظُونَ} على تضمينه معنى: ممسكون، أو قاصرون. الثاني: أنهما متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال، التقدير: حافظون فروجهم في كل حال؛ إلا في حال إتيانهم أزواجهم، أو إماءهم. الثالث: أنهما متعلقان بمحذوف يدل عليه: {غَيْرُ مَلُومِينَ} وكأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم. والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {أَزْواجِهِمْ} . {مَلَكَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {أَيْمانُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: أو الذي ملكته أيمانهم. {فَإِنَّهُمْ:} (الفاء): حرف تعليل. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {غَيْرُ:} خبر (إنّ)، و {غَيْرُ} مضاف، و {مَلُومِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية تعليل لنفي الحرج والمؤاخذة، وهو ما تضمنه الاستثناء.

{فَمَنِ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِبْتَغى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره:«هو» . {وَراءَ:} مفعول به على تفسيره ب: «سوى» ، وظرف مكان متعلق بما قبله على تفسيره ب:«بعد» ونحوه. وقال الزجاج: التقدير: فمن ابتغى ما بعد ذلك. وعليه:

فالمفعول محذوف، و {وَراءَ} متعلق بمحذوف صلة المفعول المحذوف المقدر ب:«ما» ، و {وَراءَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف

ص: 163

حرف خطاب لا محل له. {فَأُولئِكَ:} (الفاء): واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له من الإعراب. {هُمْ:}

ضمير فصل لا محل له. {العادُونَ:} خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز اعتبار الضمير مبتدأ ثانيا و {العادُونَ} خبره، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية: (أولئك

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب، وقيل: هما معا وهو المرجح لدى المعاصرين.

هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، وخبره الجملة الاسمية: (أولئك

) إلخ، وزيدت الفاء في خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32)}

الشرح: (الأمانات): جمع أمانة، وهي تشمل الودائع، التي يضعها أصحابها عند غيرهم؛ ليحفظوها لهم. وتشمل أيضا: جميع التكاليف الإلهية، التي كلف الله بها عباده المؤمنين.

وتشمل كذلك جميع جوارح الإنسان من عين، وأذن، ويد

إلخ، وتشمل جميع المعاملات من بيع، وشراء

إلخ، وتشمل جميع النعم، التي أنعم الله بها على العبد من ولد، وزوجة

إلخ، لذا كانت مسؤوليتها كبرى أمام رب العالمين، وثقيلة أبت السموات، والأرض، والجبال أن تتحملها. خذ قول العزيز الحكيم في سورة (الأحزاب) رقم [72]:{إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .

وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأمانة، وشدد النكير على من يتساهل فيها، ويخونها. فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا صلاة لمن لا طهور له، ولا دين لمن لا صلاة له

إلخ». رواه الطبراني. وعن علي-رضي الله عنه وكرم الله وجهه-: قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلع علينا رجل من أهل العالية، فقال:

يا رسول الله! أخبرني بأشدّ شيء في هذا الدّين، وألينه؟ فقال:«ألينه شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمدا رسول الله، وأشدّه يا أخا العالية الأمانة، إنه لا دين لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له» . رواه البزار. واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الخيانة في الأمانة من علامات الساعة الصغرى.

فعن عمران بن حصين-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون، ولا يستشهدون، ويخونون ولا

ص: 164

يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن». رواه البخاري، ومسلم، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:

«إذا ضيّعت أمتي الأمانة؛ فانتظر السّاعة» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «تحلّ عرا الإسلام عروة عروة، فأول عروة يحلّونها الحكم بكتاب الله وآخر عروة يحلّونها الصلاة» . وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي ربّ كيف؛ وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثّل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها، فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظنّ: أنّه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين. ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، وأشياء عدّدها، وأشدّ ذلك الودائع». قال زاذان: فأتيت البراء بن عازب، فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا، قال: صدق، أما سمعت الله يقول:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} . رواه أحمد، والبيهقي موقوفا على ابن مسعود-رضي الله عنه.

هذا؛ وأما العهد؛ فإنه يشمل جميع الوعود، التي يقطعها العبد على نفسه لغيره من الناس، ويشمل جميع العقود التي يعقدها العبد مع غيره، مثل عقد النكاح، ونحوه، وأيضا الصنائع، والأسرار، وغير ذلك. ولقد أحسن القرطبي-رحمه الله تعالى-إذ قال: والأمانة، والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه، ودنياه قولا، وفعلا.

ومعنى {راعُونَ} قائمون بحفظها، ورعايتها، وأصله: راعيون، فحذفت الضمة التي على الياء لاستثقالها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو التي هي علامة الجمع، وهذا في الجمع، كما تحذف من المفرد لالتقائها مع التنوين. هذا؛ ويقرأ:«(لأمانتهم)» بالإفراد، وقراءة حفص بالجمع. قال مكي بن أبي طالب القيسي:(أمانة) مصدر، وحق المصادر ألا تجمع؛ لأنها كالفعل، يدل على القليل، والكثير من جنسه، ولكنه لما اختلفت أنواع الأمانة لوقوعها على الصلاة، والزكاة، والتطهر، والحج، وغير ذلك من العبادات؛ جاز جمعها؛ لأنها لما اختلفت أنواعها شابهت المفعول به. فجمعت كما يجمع المفعول به. هذا؛ وانظر ما ذكرته بشأن الوعد، والعهد في سورة (الصف) رقم [3] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} (الواو): حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح معطوف على مثله في الآية رقم [23] على جميع الاعتبارات فيه. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لِأَماناتِهِمْ:} متعلقان ب: {راعُونَ} بعدهما. وقل في اللام مثل ما رأيت بقوله: {لِفُرُوجِهِمْ} . {وَعَهْدِهِمْ:} الواو: حرف عطف. (عهدهم): معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، {راعُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها.

ص: 165

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)}

الشرح: الشهادة من جملة الأمانات، وخصها بالذكر من بينها إبانة لفضلها؛ لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي إهمالها تضييع الحقوق، وإبطالها، وقرئ:«(بشهادتهم)» و (بشهاداتهم) بالجمع لاختلاف أنواعها، كما في جمع: الأمانة. انتهى. كشاف. هذا؛ وكتمان الشهادة، أي: الامتناع عن أدائها كشهادة الزور، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [282]:{وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كتم شهادة إذا دعي إليها كان كمن شهد بالزّور» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط.

هذا؛ ويؤخذ مما تقدم: أن شهادة الزور وكتمان شهادة الحق سواء في الإثم، وقد قرن الله تعالى شهادة الزور بعبادة الأوثان في الآية رقم [30] من سورة (الحج) فقال جل ذكره:

{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وأيده النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أيمان بن خريم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا، فقال:«أيّها النّاس عدلت شهادة الزّور الإشراك بالله، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ..}. إلخ» . أخرجه الترمذي، وأخرجه أبو داود عن خزيمة بن فاتك بنحوه. وعن أبي بكرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟!» . (ثلاثا) قلنا: بلى يا رسول الله! قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، (وكان متكئا فجلس فقال): «ألا وقول الزور، وشهادة الزور» . فما زال يكررها؛ حتى قلنا: ليته سكت! أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الطير لتضرب بمناقيرها، وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة، وما يتكلّم به شاهد الزور، ولا تفارق قدماه على الأرض، حتى يقذف به في النار» . رواه الطبراني.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح معطوف على ما قبله. {هُمْ:} مبتدأ. {بِشَهاداتِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{قائِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ} صلة الموصول، لا محل لها، تأمل، وتدبر.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}

الشرح: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ:} فيراعون شروطها، ويكملون فرائضها، وسننها.

وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا باعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها. وفي نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى. وهي تقديم الضمير، وبناء الجملة عليه،

ص: 166

وتقديم الجار والمجرور على الفعل، وجعل بعض الجمل اسمية مفيدة للدوام والثبات، وبعضها فعلية مفيدة للاستمرار التجددي.

هذا؛ وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف قال: {عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} ثم قال:

{عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ؟} قلت: معنى إدامتهم عليها أن يواظبوا على أدائها، وألا يتركوها في وقت من الأوقات، وألا يشتغلوا عنها بغيرها إذا دخل وقتها، والمحافظة عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها، وهو أن يأتي بها العبد على أكمل الوجوه. وهذا إنما يحصل بأمور ثلاثة: منها ما هو سابق للصلاة، كاشتغاله بالوضوء، وستر العورة، وإرصاد المكان الطاهر للصلاة، وقصد الجماعة، وتعلق القلب بدخول وقتها، وتفريغه عن الوسواس، والالتفات إلى ما سوى الله عز وجل.

وأما الأمور المقارنة للصلاة؛ فهي: ألا يلتفت في الصلاة يمينا، ولا شمالا، وأن يكون حاضر القلب في جميعها بالخشوع، والخوف، وإتمام ركوعها، وسجودها. وأما الأمور الخارجة عن الصلاة؛ فهي: أن يحترز عن الرياء، والسمعة خوف أن لا تقبل منه، مع الابتهال، والتضرع إلى الله تعالى في سؤال قبولها، وطلب الثواب. فالمداومة على الصلاة ترجع إلى نفسها، والمحافظة عليها ترجع إلى أحوالها، وهيئاتها.

{أُولئِكَ} أي: الموصوفون بالصفات المذكورة. {فِي جَنّاتٍ مُكْرَمُونَ:} جديرون بالإكرام في جنات النعيم. هذا؛ وفي صدر سورة (المؤمنون) قوله تعالى بعد ذكر هذه الصفات، أو ما يقاربها:{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ} .

خاتمة: قال ابن العربي-رحمه الله تعالى-: من غريب القرآن: أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن، التي هي محتملة لهم، فإنها عامة فيهم، إلا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} (29) فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات بدليل قوله تعالى: {إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (30) وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر، كآيات الإحصان، عموما وخصوصا، وغير ذلك من الأدلة.

أقول وهذا شيء نوهت عنه كثيرا، وذكرت: أن المدح، والذم، والترغيب، والترهيب بلفظ المذكر يدخل تحته النساء إلحاقا؛ إذ ما من شك أن في النساء متقيات، ومؤمنات، وصالحات، وخبيثات، وفاسقات

إلخ، والتعبير بلفظ المذكر، إنما هو من باب تغليب المذكر على المؤنث. خذ قوله تعالى في آخر سورة (التحريم) في مدح مريم على نبينا، وحبيبنا، وعليها، وعلى ابنها ألف صلاة، وألف سلام:{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على ما قبله. {هُمْ:} مبتدأ.

{عَلى صَلاتِهِمْ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {يُحافِظُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:«هم يحافظون على صلاتهم» . صلة الموصول، لا محل لها،

ص: 167

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{فِي جَنّاتٍ:} متعلقان بمحذوف خبر أول، أو هما متعلقان بما بعدهما. {مُكْرَمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير، واسم الإشارة، وهي حال مقدرة، انظر أنواع الحال في الآية رقم [19].

{فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37)}

الشرح: {فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا:} رسم في المصاحف حرف الجر مفصولا عن المجرور اتباعا لرسم مصحف عثمان-رضي الله عنه. كما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [49]:

{وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ} . {قِبَلَكَ:} حولك، ونحوك، وجهتك. {مُهْطِعِينَ:} قال الأخفش: مسرعين، ومنه قوله تعالى في سورة (القمر):{مُهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ..} . إلخ، وقوله عز وجل في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ..} . إلخ رقم [43] قال الشاعر: [الوافر]

بمكّة أهلها ولقد أراهم

إليه مهطعين إلى السّماع

وذكرته في سورة (إبراهيم) وسورة (القمر) كما يلي: [الوافر]

بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السّماع

والمعنى فما بالهم مسرعين مقبلين نحوك مادين أعناقهم، ومديمين النظر إليك متطلعين إليك؟ نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون كلامه، ويستهزئون به، ويكذبونه، فقال الله-جل وعلا-: ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك، وهم لا ينتفعون بما يسمعون منك. انتهى خازن. وقال القرطبي: نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين كانوا يحضرونه عليه السلام، ولا يؤمنون به. وقول الخازن أولى بالاعتبار؛ لأن السورة مكية، ولم يكن في مكة قبل الهجرة منافقون.

هذا؛ وفي القاموس: هطع، كمنع هطعا وهطوعا: أسرع مقبلا خائفا، أو أقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه، وأهطع: مد عنقه، وصوب رأسه، كاستهطع، وكأمير: الطريق الواسع، وكمحسن: من ينظر في ذل، وخضوع، لا يقلع بصره، أو الساكت المنطلق إلى من هتف به، وبعير مهطع: في عنقه تصويب خلقة. انتهى.

{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ} أي: عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا، وجماعات، ف:

(أل) بدل من الضمير المحذوف؛ إذ التقدير: عن يمينك، وعن شمالك، وهذا مشهور في ضمير

ص: 168

الغيبة، كما في قوله تعالى في سورة (النازعات):{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى} و {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} إذ التقدير: هي مأواه. هذا؛ و {عِزِينَ} جماعات في تفرقة، قاله أبو عبيدة. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خرج على أصحابه، فرآهم حلقا، فقال:«ما لي أراكم عزين؟ ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها؟» . قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمّون الصفوف الأول، ويتراصّون في الصّفّ» . رواه أحمد، والنسائي، ومسلم عن جابر بن سمرة-رضي الله عنه.

وقال الشاعر: [الوافر]

ترانا عنده، والليل داج

على أبوابه حلقا عزينا

أي: متفرقين، وقال آخر:[المتقارب]

كأنّ الجماجم من وقعها

خناطيل يهوين شتّى عزينا

الخناطيل: لا واحد لها من جنسها، وهي جماعات من الوحش، والطير. وقال آخر:[الوافر]

فلمّا أن أتين على أضاخ

ضرحن حصاه أشتاتا عزينا

أضاخ بالضم: جبل، يذكر، ويؤنث. وقيل: هو موضع في البادية، يصرف ولا يصرف.

ومعنى ضرحن: نحين، ودفعن. وقال الكميت:[الوافر]

ونحن وجندل باغ تركنا

كتائب جندل شتّى عزينا

وقال عنترة: [الوافر]

وقرن قد تركت لديّ ملقى

عليه الطير كالعصب العزين

هذا؛ وواحد {عِزِينَ} عزة: جمع بالواو والنون، أو بالياء والنون، ليكون ذلك عوضا مما حذف منها؛ إذ أصلها: عزهة، فاعتلت، كما اعتلت «سنة» فيمن جعل أصلها: سنهة، ثم حذفت الهاء. قال مكي: وإنما جمع بالواو والنون؛ لأنه مؤنث لا يعقل، ليكون ذلك عوضا مما حذف منه. وقيل: أصلها: عزوة، من: عزاه، يعزوه: إذا أضافه إلى غيره، فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى. والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح: والعزة: الفرقة من الناس، والهاء عوض من الياء، والجمع: عزى على: فعل، وعزون (بضم العين، وكسرها) ولم يقولوا:

عزات، كما قالوا: ثبات. هذا؛ ومثل {عِزِينَ} في المعنى والمفردة والإعلال {عِضِينَ} من قوله تعالى في سورة (الحجر) رقم [91]: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} وأيضا (ثبة) وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، مثل: عزة، وعضة في المعنى، والإعلال، والتصريف فتجمع على ثبين مثل: عزين، وعضين، وقد جاءت (ثبات) بالألف والتاء في قوله تعالى من سورة (النساء) رقم [71]:{فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} وجاءت بالياء والنون في قول عمرو بن كلثوم من معلقته [53]: [الوافر]

ص: 169

فأمّا يوم خشيتنا عليهم

فتصبح خيلنا عصبا ثبينا

هذا؛ ومثلهن: قلة، وهي خشبة يلعب بها الصبيان، فيقال في جمعها: قلات، وقلين. قال عمرو بن كلثوم من معلقته [106]:[الوافر]

وما منع الظعائن مثل ضرب

ترى منه السّواعد كالقلينا

وتصغير الأربعة: عزيّة، وعضيّة، وثبيّة، وقليّة.

الإعراب: {فَما لِ:} (الفاء): حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (للّذين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها.

{قِبَلَكَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مُهْطِعِينَ،} وأجيز تعليقه بمحذوف حال من واو الجماعة. {عَنِ الْيَمِينِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {وَعَنِ الشِّمالِ:} معطوفان على ما قبلهما.

{عِزِينَ:} حال من واو الجماعة أيضا. قال الجمل: فالأربعة أحوال من الموصول، واعتبرتها أنا حالا من واو الجماعة أيضا، العائدة على الموصول، والمعنى واحد، ثم قال الجمل:{عِزِينَ} حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} . وقيل: حال من الضمير في {مُهْطِعِينَ} فتكون حالا متداخلة، و {عَنِ الْيَمِينِ} يجوز أن يتعلق ب:{عِزِينَ؛} لأنه بمعنى: متفرقين. قاله أبو البقاء، وأن يتعلق ب:{مُهْطِعِينَ،} وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي:«كائنين عن اليمين» قاله أبو البقاء أيضا. انتهى بتصرف.

{أَيَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)}

الشرح: قال المفسرون: كان المشركون يتجمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم، ويستمعون كلامه، فيكذبونه، ويكذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة؛ لندخلنها قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا؛ لنعطين أكثر منه، فنزلت الآية. انتهى. قرطبي، وغيره. هذا؛ والطمع: نزوع النفس إلى الشيء، والحرص على حصوله. وهو مذموم؛ إن كان في أمور الدنيا، وصارفا عن الآخرة. وطمع، يطمع من باب: سلم، يسلم. ويقال: طمع فيه طمعا، وطماعية، فهو طمع على وزن: فعل. ويقال في التعجب: طمع الرجل (بضم الميم) أي: صار كثير الطمع، وامرأة مطماع: تطمع ولا تمكن.

الإعراب: {أَيَطْمَعُ:} (الهمزة): حرف استفهام إنكاري توبيخي. (يطمع): فعل مضارع.

{كُلُّ:} فاعله، وهو مضاف، و {اِمْرِئٍ} مضاف إليه. {أَنْ يُدْخَلَ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ويقرأ بالبناء للمعلوم منصوب ب:{أَنْ،} والفاعل، أو ونائب الفاعل يعود إلى

ص: 170

{كُلُّ امْرِئٍ،} و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بدخول. والجار والمجرور متعلقان بالفعل (يطمع). {جَنَّةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {نَعِيمٍ} مضاف إليه، وجملة:{أَيَطْمَعُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{كَلاّ إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}

الشرح: {كَلاّ:} لا يدخلون جنة النعيم، فهو ردع لهم، وزجر عن طمعهم في دخولها.

{إِنّا خَلَقْناهُمْ مِمّا يَعْلَمُونَ} أي: من الأشياء المستقذرة: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. نبه الله الناس على أنهم خلقوا من أصل واحد، وشيء واحد، وإنما يتفاضلون بالمعرفة، ويستوجبون الجنة بالإيمان، والطاعة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش؛ قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصق يوما في كفه، ووضع عليها إصبعه: يقول الله عز وجل: يا بن آدم! أنّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك، وعدّلتك، ومشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت، ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي؛ قلت: أتصدّق، وأنى أوان الصّدقة؟! أخرجه ابن الجوزي في تفسيره بلا إسناد. انتهى. خازن.

وقال قتادة في هذه الآية: إنما خلقت يابن آدم من قذر فاتّق الله! وروي: أن مطرّف بن عبد الله ابن الشّخّير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في حلة، ويمشي الخيلاء، فقال له: يا أبا عبد الله! ما هذه المشية التي يبغضها الله، ورسوله؟ فقال له: أما تعرفني؟ قال: بلى أعرفك، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول، وعذرة، ففيم الخيلاء، وعلام التكبر؟! فبهت المهلب، وألقى حلته إلى خادمه. وقال الأحنف بن قيس: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟ وخذ قول محمود الورّاق-رحمه الله تعالى-: [المنسرح]

عجبت من معجب بصورته

وكان في الأصل نطفة مذره

وهو غدا بعد حسن صورته

يصير في اللّحد جيفة قذره

وهو على تيهه ونخوته

ما بين ثوبيه يحمل العذره

وقال آخر: [البسيط]

هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة؟

وهو بخمس من الأوساخ مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك

والعين مرمصة والثغر ملهوب

يابن التراب ومأكول التراب غدا

قصّر فإنك مأكول ومشروب

ص: 171

وقيل: معناه: إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو: الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب.

{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ:} هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [115]: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فالمراد بهما: ناحيتا الأرض، وله سبحانه الأرض كلها، لا يختص به مكان، دون مكان، وقال تعالى في سورة (الرحمن) رقم [17]:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وقال هنا: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} فقد جمع المشرق، والمغرب، كما ترى باعتبار مشارق الشمس، ومغاربها في السنة، وهي ثلاثمئة وخمس وستون كوة في مطلعها، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع كل يوم في كوة منها، وتغرب في كوة، ولا تطلع، ولا تغرب في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل، قال أمية بن أبي الصلت-الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

«آمن شعره، وكفر قلبه» -. [الكامل]

رجل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصد

والشّمس تطلع كلّ آخر ليلة

حمراء يصبح لونها يتورّد

ليست بطالعة لهم في رسلها

إلاّ معذّبة وإلاّ تجلد

قال عكرمة: قلت لابن عباس: يا مولاي! أتجلد الشمس؟ فقال: إنما اضطره الروي إلى الجلد. لكنها تخاف العقاب. انتهى. قرطبي. وانظر سورة (المزمل) رقم [9] لشرح المشرق والمغرب.

{إِنّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} المعنى: إنا لقادرون على إهلاكهم، وعلى أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لنا، وهي كقوله تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم رقم [38]:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} . {وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: لا يفوتنا شيء نريده، ولا يمتنع منا أحد مهما أوتي من القوة، والجاه، والعظمة، والسلطان في الدنيا. أو المعنى: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاكهم، وإبدالهم بأمثالهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {كَلاّ:} حرف ردع، وزجر. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليه. {خَلَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للردع، والزجر، لا محل لها. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف. التقدير:

من الذي، أو شيء يعلمونه. {فَلا أُقْسِمُ:} انظر الآية رقم [38] من سورة (الحاقة)، فالإعراب واحد، لا يتغير. {بِرَبِّ:} متعلقان بما قبلهما، و (ربّ) مضاف، و {الْمَشارِقِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْمَغارِبِ:} معطوف على ما قبله. {إِنّا:} (إنّ):

ص: 172

حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، {لَقادِرُونَ:} خبر (إنّ)، واللام هي المزحلقة، والجملة الاسمية جواب القسم، لا محل لها. {عَلى:} حرف جر. {أَنْ نُبَدِّلَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ} والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، و {أَنْ نُبَدِّلَ} في تأويل مصدر في محل جر ب:{عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب: (قادرون). {خَيْراً:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب:

{خَيْراً} . {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع اسم (ما). {بِمَسْبُوقِينَ:} (الباء): حرف جر صلة.

(مسبوقين): خبر (ما)، مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {نُبَدِّلَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)}

الشرح: {فَذَرْهُمْ:} اتركهم، وأعرض عنهم. وهذا الفعل ناقص التصرف، لا يأتي منه غير المضارع، والأمر. انظر ما أذكره في سورة (الضحى) إن شاء الله تعالى. {يَخُوضُوا:} في باطلهم. {وَيَلْعَبُوا} في دنياهم. وهذا على جهة الوعيد؛ أي: واشتغل أنت بما أمرت به، ولا يهمنك شركهم. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بضمير الغيبة أهل مكة. {حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي: يوعدون يوم القيامة. وهو دليل واضح على أن قولهم محض جهل، واتباع هوى، وأنهم مطبوع على قلوبهم، معذبون في الآخرة، فما لهم من شفيع ولا ناصر ينصرهم. قيل: إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. هذا؛ والآية مذكورة في سورة (الزخرف) برقم [83] بحروفها، وما يشبهها في سورة (الطور) برقم [45] وانظر سورة (المدثر) رقم [45].

الإعراب: {فَذَرْهُمْ:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (ذرهم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية، لا محل لها؛ لأنها جواب شرط يقدر ب:«ما» التقدير: ما دمنا قادرين على أن نبدل خيرا منهم؛ فذرهم. {يَخُوضُوا:}

فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، والمعنى لا يؤيد تقدير «إن» الشرطية. {وَيَلْعَبُوا:}

معطوف عليه مجزوم مثله، وعلامة جزمهما حذف النون؛ لأنهما من الأفعال الخمسة، والواو فاعلهما، والألف للتفريق. والجملة الأولى لا محل لها؛ لأنها واقعة جوابا للطلب. {حَتّى:}

حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يُلْقُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل {يُلْقُوا} في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بأحد الأفعال الثلاثة على التنازع؛ لأن كل واحد يصلح للتعليق به. {يَوْمَهُمُ:} مفعول به، والهاء في محل جر

ص: 173

بالإضافة. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة {يَوْمَهُمُ} . {يُوعَدُونَ:}

فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي يوعدونه.

{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)}

الشرح: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ} أي: القبور، جمع جدث، وقرئ بالفاء:«(من الأجداف)» ذكره الزمخشري، يقال: جدث، وجدف، واللغة الفصيحة الجدث بالثاء، والجمع: أجدث وأجداث. قال المتنخل الهذلي: [الوافر]

عرفت بأجدث فنعاف عرق

علامات كتحبير النّماط

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (يس) رقم [51]: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ،} وقال في سورة (القمر) رقم [7]: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ} .

{سِراعاً:} مسرعين، جمع سريع، فالمصدر قام مقام «مسرعين» والمصدر لا يثنى، ولا يجمع.

وخروجهم من القبور مسرعين إنما هو إجابة للداعي، وهو إسرافيل عليه السلام، وانظر ما ذكرته في سورة (ق) رقم [44] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ:} النصب: ما نصب، فعبد من دون الله. وفيه لغات. ضم النون مع سكون الصاد، وفتحها. قال الأعشى من قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم مشهورة، ومسطورة:[الطويل]

وذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه

لعافية والله ربّك فاعبدا

وفتح النون مع سكون الصاد، وفتحها، والنّصب: جمع النّصب، مثل: رهن، ورهن، والأنصاب: جمع نصب، فهو جمع الجمع. وقيل: النصب، والأنصاب واحد. وقيل: النصب جمع: نصاب، وهو حجر، أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [3]:

{وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ،} وقال تعالى في الآية رقم [90] منها أيضا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . هذا؛ والنصب: الشر، والبلاء، ومنه قوله تعالى في سورة (ص) رقم [41]:{وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} . {يُوفِضُونَ:} يسراعون، والإيفاض: الإسراع. قال الشاعر: [المتقارب]

فوارس ذبيان تحت الحديد

كالجنّ يوفضن من عبقر

وقال الليث: وفضت الإبل، تفض، وفضا، وأوفضها صاحبها، فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم، يقال: وفض، وأوفض، واستوفض بمعنى: أسرع، ولم يرد هذا اللفظ في غير هذه السورة.

ص: 174

الإعراب: {يَوْمَ:} بدل من {يَوْمَهُمُ،} أو هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني: يوم، ومثله في سورة (الطور) رقم [46] {يَخْرُجُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، ويقرأ بالبناء للمعلوم، والمجهول، والواو فاعله، أو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {مِنَ الْأَجْداثِ:} متعلقان بما قبلهما. {سِراعاً:} حال من واو الجماعة. {كَأَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {إِلى نُصُبٍ:} متعلقان بما بعدهما.

{يُوفِضُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (كأنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب حال ثانية من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط، أو من الضمير في (سراعا) فتكون حالا متداخلة.

{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)}

الشرح: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ:} انظر الآية رقم [43] من سورة (ن). {ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ:} يعني: يوم القيامة الذي كانوا يوعدون في الدنيا، وكانوا لا يصدقونه، ولا يؤمنون به.

الإعراب: {خاشِعَةً:} حال من واو الجماعة. {أَبْصارُهُمْ:} فاعل ب: {خاشِعَةً} وهي سببية، والهاء في محل جر بالإضافة، وينبغي أن تعلم: أن {خاشِعَةً} في الأصل صفة {أَبْصارُهُمْ} فلما تقدم النعت المنعوت انتصب، ومثله قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [3]:{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} .

{تَرْهَقُهُمْ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به. {ذِلَّةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {ذلِكَ:} اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الْيَوْمُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة.

{الَّذِي:} صفة: {الْيَوْمُ} . {كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه. {يُوعَدُونَ:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانُوا،} والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذي كانوا يوعدونه.

انتهت سورة (المعارج) بحمد الله وتوفيقه شرحا وإعرابا.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 175