الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العاديات
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (العاديات) مكية في قول ابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء-رضي الله عنهم-ومدنية في قول ابن عباس، وأنس، ومالك، وقتادة-رضي الله عنهم. وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومئة وثلاثة وستون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: المراد بهذه الآيات: الخيل؛ التي تعدو في سبيل الله، فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت؛ أي: تحمحم. قال الفراء: الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس، والكلب، والثعلب. قال ابن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية رقم [72] من سورة (الحجر)، وأقسم بخيله، وصهيلها، وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال:{وَالْعادِياتِ..} . إلخ. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما أنه حكى الضبح: أح أح. قال عنترة: [مجزوء الكامل]
والخيل تكدح حين تض
…
بح في حياض الموت ضبحا
وقال آخر: [الخفيف]
لست بالتّبّع اليمانيّ إن لم
…
تضبح الخيل في سواد العراق
وقال أهل اللغة في بيان: أن العاديات الخيل: [الرجز]
وطعنة ذات رشاش واهيه
…
طعنتها عند صدور العاديه
وإنما تضبح الحيوانات المذكورة إذا تغيرت حالها من فزع، أو تعب، أو طمع. وممن قال العاديات: الخيل ابن عباس، وأنس، والحسن، ومجاهد. وهناك قول ثان: إنها الإبل. قال الشعبي: فتمارى علي، وابن عباس-رضي الله عنهما-في العاديات، فقال عليّ-رضي الله عنه: هي الإبل تعدو في الحج. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي الخيل، ألا تراه
يقول: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} فهل تثير إلا بحوافرها، وهل تضبح الإبل؟ فقال علي: ليس كما قلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزبير، أتفتي الناس بما لا تعلم، فكيف تكون الخيل العاديات ضبحا؟! إنما العاديات الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فرجعت إلى قول علي. وبه قال ابن مسعود، وعبيد بن عمير، ومحمد بن كعب القرظي، والسدي-رضي الله عنهم. ومنه قول صفية بنت عبد المطلب-رضي الله عنها:[الوافر]
فلا والعاديات غداة جمع
…
بأيديها إذا سطع الغبار
يعني: الإبل. وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الأرجل في سرعة المشي.
وقال آخر: [الطويل]
رأى صاحبي في العاديات نجيبة
…
وأمثالها في الواضعات القوامس
ومن قال: هي الإبل فقوله (ضبحا) بمعنى: ضبعا، فالحاء عنده مبدلة من العين؛ لأنه يقال:
ضبعت الإبل، وهو أن تمد أعناقها في السير. وقال المبرد: الضبع مد أضباعها في السير، والضبح أكثر ما يستعمل في الخيل، والضبع في الإبل، وقد تبدل الحاء من العين.
هذا؛ وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر، والحافر للإنسان، والشفتان للمهر. أقول: والأكثر: أن المراد الخيل. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
وقال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة لعطفها بالفاء؛ التي تقتضي التعقيب. والظاهر: أنها الخيل؛ التي يجاهد عليها العدو من الكفار، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر، وإن لم يكن فيها إلا فرسان؛ لأنه لم يذكر: أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد: أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله، بل المعلوم أنه لا يجاهد إلا على الخيل في سبيل الله، في شرق البلاد، وغربها.
{فَالْمُورِياتِ قَدْحاً:} هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها، وهذا يكون في القتال في الكرّ، والفرّ، وعلى الثاني هي أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها، فيضرب الحجر حجرا أخرى، فيوري النار. وقيل: هي النار بمنى.
{فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً:} الخيل تغير على العدو عند الصبح عن ابن عباس، وأكثر المفسرين.
وكانوا إذا أرادوا الغارة؛ سروا ليلا، ويأتون العدو صبحا؛ لأن ذلك وقت غفلة الناس، ومنه قوله تعالى:{فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ} رقم [177] من سورة (الصافات). وقيل: لعزهم أغاروا نهارا. وعلى قول علي-رضي الله عنه: الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من مزدلفة إلى منى، والإغارة سرعة السير.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} أي: غبارا. يعني: الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به، والضمير في (به) يرجع إلى المكان، أو إلى الموضع الذي تقع فيه الإغارة. وإذا علم المعنى جاز أن يكنّى بما لم يجر له ذكر بالتصريح، كما قال تعالى:{كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ} رقم [26] من سورة (القيامة)، انظر شرحها، ففيه الكفاية. وعلى قول علي-رضي الله عنه-يثور الغبار في ذلك المكان من أخفاف الإبل.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أي: فوسطن بركبانهن العدوّ؛ أي: الجمع الذي أغاروا عليهم. وعلى قول علي-رضي الله عنه. (فوسطن به جمعا) يعني: مزدلفة سميت: جمعا لاجتماع الناس فيها. وانظر ما ذكرته في أول سورة (الشمس) بشأن المقسم به؛ تجد ما يسرك.
هذا؛ وتفرد البيضاوي بقوله: ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ، الموريات بأفكارهنّ أنوار المعارف، المغيرات على الهوى، والعاديات إذا ظهر لهنّ مبدأ أنوار القدس، فأثرن به شوقا، فوسطن به جمعا من جموع العليين. انتهى.
الإعراب: {وَالْعادِياتِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم. {ضَبْحاً:}
مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تضبح ضبحا، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من العاديات. {فَالْمُورِياتِ:} الفاء: حرف عطف. (الموريات): معطوف على (العاديات) وفاعلهما مستتر فيه. {قَدْحاً:} مفعول به للموريات. {فَالْمُغِيراتِ:} معطوف على ما قبله. وفاعله مستتر فيه. {صُبْحاً:} ظرف زمان متعلق ب: (المغيرات). هذا؛ وقيل: {صُبْحاً:} مصدر في موضع الحال، مثل قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً} لأنه بمعنى: غائرا. وقيل:
{قَدْحاً} منصوب على الحال أيضا، فالمعنى: قادحات.
(أثرن): فعل ماض مبني على السكون، والنون فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نَقْعاً:} مفعول به. هذا؛ والفعل (أثرن) معطوف على الأسماء السابقة. وهو عطف فعل على اسم، وساغ ذلك؛ لأن الأسماء السابقة في تقدير الفعل؛ إذ المعنى: التي تعدو، والتي توري، والتي تغير، والتي تثير. أو المعنى: اللاتي عدون، واللاتي قدحن، واللاتي أغرن، واللاتي أثرن. هذا؛ وقال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته رقم [95]:[الوافر]
وأنّا الشّاربون الماء صفوا
…
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
إذ المعنى: وأنا الذين يشربون الماء، ويشرب
…
إلخ. هذا؛ وقال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
واعطف على اسم شبه فعل فعلا
…
وعكسا استعمل تجده سهلا
قال ابن عقيل-رحمه الله تعالى-في شرح هذا البيت: يجوز أن يعطف الفعل على الاسم المشبه للفعل، كاسم الفاعل، ونحوه. ويجوز أن يعطف على الفعل الواقع موقع الاسم اسم،
فمن الأول قوله تعالى: {وَالْعادِياتِ..} . إلخ الآيات؛ التي نحن بصدد شرحها. وقوله تعالى في سورة (الحديد) رقم [18]: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ..} . إلخ وقال: ومن الثاني قول الشاعر: [الطويل]
فألفيته يوما يبير عدوّه
…
ومجر عطاء يستحقّ المعابرا
ف: «مجر عطاء» معطوف على: «يبير» ، وقول الشاعر:[الرجز]
بات يعشّيها بعضب باتر
…
يقصد في أسوقها وجائر
ف: «جائر» معطوف على: «يقصد» . {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في الإعراب والتقدير، و {جَمْعاً} مفعول به. وأغرب مكي كل الغرابة حيث قال: حال. وقاله أبو البقاء أيضا.
الشرح: {إِنَّ الْإِنْسانَ:} اللام للجنس؛ أي: جنس الإنسان. وقيل: المراد: الكافر.
{لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لكفور جحود لنعم الله. وكذلك قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-. وقال: يذكر النقم، وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه:[السريع]
يا أيها الظّالم في فعله
…
والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتّى متى؟
…
تشكو المصيبات وتنسى النّعم
وروى أبو أمامة الباهلي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكنود: هو الذي يأكل، ويمنع رفده، ويضرب عبده» . الرفد بكسر الراء: العطاء، والصلة. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بشراركم؟» . قالوا: بلى يا رسول الله! قال:
«من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده» . خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أيضا: أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي.
وبلسان ربيعة، ومضر: الكفور. وبلسان كنانة: البخيل السيئ الملكة. وقاله مقاتل. وقال الشاعر: [الطويل]
كنود لنعماء الرجال ومن يكن
…
كنودا لنعماء الرجال يبعّد
وقال إبراهيم بن هرمة: [الوافر]
دع البخلاء إن شمخوا وصدّوا
…
وذكرى بخل غانية كنود
وقيل: الكنود: قليل الخير، مأخوذ من الأرض الكنود، وهي التي لا تنبت شيئا. وقال الفضيل بن عياض: الكنود هو الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، وضده: الشكور؛ الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة. وقيل غير ذلك.
{وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: وإن الله عز وجل لشهيد على الإنسان بما يصنع. وعليه أكثر المفسرين. وقال الحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي-رضي الله عنهم: أي: وإن الإنسان لشاهد على نفسه بما يصنع؛ أي: شاهد بلسان حاله، ظاهر ذلك عليه في أقواله، وأفعاله، كما قال تعالى:{شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} رقم [17] من سورة (التوبة).
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ:} وإن الإنسان بلا خلاف. {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي: المال، ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [180]:{إِنْ تَرَكَ خَيْراً} أي: مالا، والخير يكون بمعنى الطعام، كما في قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} رقم [24] من سورة (القصص). والخير يكون بمعنى القوة، كما قال تعالى في سورة (الدخان) رقم [37]:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} . ويكون بمعنى العبادة، كقوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [73]:{وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} وقال عدي: [المنسرح]
ماذا ترجّي النفوس من طلب ال
…
خير وحبّ الحياة كاربها
أي: غامها. من: كربه الأمر: اشتد عليه. {لَشَدِيدٌ:} لقوي في حبه للمال. وقيل: المعنى:
لبخيل. ويقال للبخيل: شديد، ومتشدد. قال طرفة بن العبد في معلقته رقم [71]:[الطويل]
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
…
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
قال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: سمى الله المال: خيرا؛ وعسى أن يكون شرا، وخيرا، ولكن الناس يعدونه خيرا، فسمّاه الله خيرا لذلك، وسمى الله الجهاد سوءا. فقال في سورة (آل عمران) رقم [174]:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} على ما يسميه الناس سوءا؛ أي: يتخوفون منه.
بعد هذا فقد قال الإمام الفخر-رحمه الله تعالى-: لما ذكر الله المقسم به، وهو ثلاثة أمور، ذكر المقسم عليه، وهو أمور ثلاثة أيضا: أولها قوله: {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ،} وثانيها قوله: {وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ،} ثالثها قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . وقوله: {أَفَلا يَعْلَمُ..} .
إلخ شروع في تخويف الإنسان بعد تعديد قبائح أفعاله عليه، فأقسم بثلاثة على ثلاثة. انتهى.
جمل، والله أعلم بمراده.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْإِنْسانَ:} اسم {إِنَّ} . {لِرَبِّهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله
مستتر فيه. {لَكَنُودٌ:} اللام: هي المزحلقة. (كنود): خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية جواب القسم، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {وَإِنَّهُ:} الواو:
حرف عطف. (إنه): حرف مشبه بالفعل. والهاء اسمها. {لِحُبِّ:} متعلقان ب: (شديد)، و (حب): مضاف، و {الْخَيْرِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف.
{لَشَدِيدٌ:} اللام: هي المزحلقة. (شديد): خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا. هذا؛ واللام بقوله (لحب) تسمى لام التقوية، انظر ما ذكرته في إعراب قوله تعالى في سورة (البروج) رقم [16]:{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} تجد ما يسرك. ولا تنس: أن التأكيد ب: (إنّ) واللام في الآيات الثلاث إنما هو زيادة في التقرير، والبيان، وهذا من مباحث علم المعاني.
الشرح: {أَفَلا:} الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام؛ أي: أيفعل ما يفعل من القبائح، فلا يعلم إذا بعثر ما في القبور؟! هذا تهديد، ووعيد. هذا؛ والهمزة في الكلمة {أَفَلا} ومثلها {أَفَلَمْ} و {أَوَلَمْ} ونحوهما للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء، والواو؛ لأنهما حرفا عطف، وكذا تقدم على «ثمّ» تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} وقوله جل شأنه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالت حكمته: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما هو قياس أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ} وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف جماعة، أولهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدمة في محلها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، فيقولون: التقدير في {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ..} . إلخ، {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ..}. إلخ: أمكثوا، فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم، فنضرب عنكم
…
إلخ؟! أتؤمنون في حياته، فإن مات
…
إلخ؟ ويضعفه ما فيه من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع. انتهى. مغني بتصرف.
هذا؛ والفعل {يَعْلَمُ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
لعلم عرفان وظن تهمه
…
تعدية لواحد ملتزمه
بخلافه من العلم اليقيني، فإنه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ، وخبر، وأيضا: فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلقها الذوات دون النسب، بخلاف العلم، فإن متعلقه المعاني،
والنسب. وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى: أنك عرفت ذاته، ولم ترد أنك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى لم يتجاوز مفعولا؛ لأن المعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك، وإذا قلت: علمت زيدا قائما؛ لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة. تأمل، وتدبر.
{بُعْثِرَ:} البعثرة بالعين، والبحثرة بالحاء: استخراج الشيء، واستكشافه. وانظر قوله تعالى في سورة (الانفطار):{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} . وقال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه.
وقال الفراء: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: «(بحثر)» بالحاء مكان العين، وحكاها الماوردي عن ابن مسعود-رضي الله عنه-وهما بمعنى. {ما فِي الْقُبُورِ:} من الموتى، وهذا على الأغلب، وهناك من هو في جوف الطير، وجوف السمك، وهناك من أحرق، وصار رمادا، فلم يدفن، كما هو معلوم لدى كل إنسان.
هذا؛ وقال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: فإن قيل: لم قال: {ما فِي الْقُبُورِ؟} ولم يقل: من في القبور، ثم قال بعد ذلك:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ؟} أجيب عن الأول بأن ما في الأرض غير المكلفين أكثر، فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء، بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء. انتهى. أقول: وهذا؛ لأن (من) للعاقل، و (ما) لغيره.
{وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ} أي: أخرج، وجمع بغاية السهولة ما في الصدور من خير، وشر، وإيمان، وكفر مما يظن مضمره: أنه لا يعلمه أحد أصلا، وظهر مكتوبا في صحائف الأعمال.
وهذا يدل على أن الإنسان يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. انتهى. خطيب.
أقول: انظر قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [284]: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} . ولا تنس: أنه خص أعمال القلوب بالذكر، وترك أعمال الجوارح؛ لأنها تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا تحقق البواعث، والإرادات في القلوب؛ لما حصلت أعمال الجوارح.
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ:} عالم لا يخفى عليه منهم خافية. وهو عالم بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، وعالم بما يصنعون، ومجازيهم عليه أوفر الجزاء. وإنما خص علمه بهم في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة؛ لأنه يوم الجزاء بقصد الوعيد، والتهديد، وهو تضمين معنى (خبير).
الإعراب: {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: عاطفة على محذوف. انظر تقديره في الشرح. (لا): نافية. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ} تقديره:
«هو» . {إِذا:} ظرف مجرد عن الشرطية، العامل فيه ما دل عليه قوله:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} ولا يعمل فيه {يَعْلَمُ؛} لأن الإنسان لا يراد منه العلم، ولا يقصد منه في ذلك الوقت،
وإنما يراد منه، وهو في الدنيا، ولا يجوز أن يكون ظرفا ل:{بُعْثِرَ؛} لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا لقوله:(خبير)؛ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها
…
إلخ. انتهى.
جمل بتصرف. {بُعْثِرَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل. {فِي الْقُبُورِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير:
يوجد في الصدور، وجملة:{بُعْثِرَ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، والكلام:{أَفَلا يَعْلَمُ..} . إلخ كله مستأنف، لا محل له، وجملة:{وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وهي مثلها في إعرابها.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّهُمْ:} اسم {إِنَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {رَبَّهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: (خبير) بعدهما.
{يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق ب: (خبير) أيضا. و (إذ) في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة التقدير: يوم إذ بعثر ما في القبور، ولا تمنع لام الابتداء من عمل ما بعدها فيما قبلها. (خبير): خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (العاديات) شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.