الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النّصر
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (النصر) مدنية بالإجماع، وتسمى سورة (التوديع) وهي ثلاث آيات، وسبع عشرة كلمة، وسبعة وسبعون حرفا. انتهى. خازن. قال القرطبي: وهي آخر سورة نزلت جميعا. قاله ابن عباس في صحيح مسلم، أقول: نزل بعدها آيات متفرقات، وآخر آية نزلت على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم آية (البقرة) وهي قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {إِذا جاءَ..} . إلخ: يعني: إذا جاءك النصر يا محمد نصر الله، ومعونته على من عاداك، وهم قريش. ومعنى مجيء النصر: أن جميع الأمور مرتبطة بأوقاتها، يستحيل تقدمها عن وقتها، أو تأخرها عنه، فإذا جاء ذلك الوقت المعين؛ حضر معه ذلك الأمر المقدر. فلهذا المعنى. قال:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} يعني: فتح مكة في قول جميع المفسرين، والفرق بين النصر والفتح: أن النصر هو الإعانة، والإظهار على الأعداء، وهو تحصيل المطلوب، وهو كالسبب للفتح، ولهذا بدأ بذكر (النصر) وعطف عليه (الفتح). وقيل: النصر: هو إكمال الدين، وإظهاره، والفتح هو الإقبال الذي هو تمام النعمة. انتهى. خازن.
هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: و {إِذا} بمعنى قد؛ أي: قد جاء نصر الله؛ لأن نزولها بعد الفتح، ويمكن أن يكون معناه: إذا يجيئك. أقول: ولا وجه له، بل إن التعبير على حقيقته، وهو من التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، وهذا كثير مستعمل في القرآن الكريم، وقد نبهت إليه مرارا.
{وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً} أي: زمرا، وأرسالا، القبيلة بأسرها، والقوم بأجمعهم من غير قتال. قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة؛ قالت العرب بعضها لبعض: إذا أظفر الله محمدا بأهل الحرم، وكان قد أجارهم من أصحاب
الفيل؛ فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا، بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا، واثنين، اثنين. وقيل: أراد ب: {النّاسَ} أهل اليمن. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرقّ أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» . متفق عليه. ودين الله هو الإسلام، وإضافته إليه تشريفا، وتعظيما له، كبيت الله، وناقة الله. فقد ذكر: أنه ورد من اليمن سبعمئة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وبكى عمر، وابن عباس-رضي الله عنهما.
روى الحافظ البيهقي-رحمه الله تعالى-عن ابن عباس-رضي الله عنهما: قال: لما نزلت: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة-رضي الله عنها-وقال: «إنّه قد نعيت إليّ نفسي» . فبكت، ثم ضحكت. وقالت: أخبرني: أنه نعيت إليه نفسه، فبكيت، ثم قال:«اصبري فإنك أوّل أهلي لحاقا بي» . فضحكت. انتهى. والمحفوظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمها سرا أولا، وثانيا، ولم تخبر بذلك إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وعاشت بعده ستة أشهر فقط. وروى الحديث النسائي بنحو رواية البيهقي.
فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ النّاس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا» . أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وهذا حاصل، وواقع في هذا الزمن، وما بعده أعظم حتى يتحقق قوله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ» . هذا؛ وانظر شرح {أَفْواجاً} في الآية رقم [18] من سورة (النبأ).
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: إذا صليت فأكثر من التسبيح، والتحميد. والتسبيح: هو التنزيه، والتقديس للملك الجليل؛ أي: نزهه عما لا يليق بجلاله وعظمته مع شكرك له. {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: سل الله الغفران، روى الأئمة (واللفظ للبخاري) عن عائشة-رضي الله عنها. قالت: ما صلى صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه سورة: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول: «سبحانك ربّنا وبحمدك، اللهمّ اغفر لي» . وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه، وسجوده:«سبحانك اللهمّ ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» . وفي غير البخاري: وقالت أم سلمة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم، ولا يقعد، ولا يجيء، ولا يذهب إلا قال:
«سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه» . قال: «فإني أمرت بها» . ثم قرأ: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها. وقال أبو هريرة-رضي الله عنه: اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة حتى تورمت قدماه، ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة-رضي الله عنه: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قطّ أشدّ اجتهادا في أمور الآخرة، ما كان منه عند نزولها.
وقال مقاتل: لما نزلت؛ قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر، وعمر، وسعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهم أجمعين-ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس-رضي الله عنه،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عم؟» . قال: نعيت إليك نفسك. قال: «إنه لكما تقول» . فعاش بعدها ستين يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا.
وفي البخاري، وغيره عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان عمر-رضي الله عنه يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا، ومن أبنائنا من هو مثله، فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها فقالوا: أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يابن عباس؟! قلت:
ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله. فقال:{إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ..} . إلخ فذلك علامة موتك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ..} . إلخ فقال عمر-رضي الله عنه: تلومونني عليه؟! وفي البخاري: فقال عمر-رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تقول.
فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار، وقد غفر الله له ما تقدم، وما تأخر من ذنبه؟ فالجواب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهمّ اغفر لي خطئي، وعمدي، وجهلي، وهزلي، وكلّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخّرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، إنك على كل شيء قدير» . فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه؛ لعظم ما أنعم الله به عليه. ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. وقيل: الاستغفار تعبد يجب إتيانه، لا للمغفرة، بل تعبدا.
وقيل: ذلك تنبيه لأمته؛ لكيلا يأمنوا، ويتركوا الاستغفار.
{إِنَّهُ كانَ تَوّاباً} أي: على المسبحين، والمستغفرين. يتوب عليهم، ويرحمهم، ويقبل توبتهم، و (توّاب): كثير قبول التوبة من عباده، أو الرجاع على عباده بالرحمة، والمغفرة، فهو صيغة مبالغة، وتوبة العبد: رجوعه عن المعصية إلى الطاعة، وقرع باب ربه بالندم، والإنابة.
وانظر الاستغفار في الآية رقم [10] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وشرح {كانَ} برقم [10] منها.
هذا؛ وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله، وأتوب إليه» . قالت: فقلت: يا رسول الله! أراك تكثر من قول:
(سبحان
…
) إلخ فقال: «خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول:
سبحان
…
إلخ». فقد رأيتها: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ..} . إلخ.
وقال ابن عمر-رضي الله عنهما: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} من الآية رقم [3] من سورة (المائدة) فعاش بعدها النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة (آخر سورة النساء) فعاش بعدها خمسين يوما، ثم
نزل قوله تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ..} . إلخ آخر سورة (التوبة) فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزل قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ..} . إلخ رقم [281] من سورة (البقرة) فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل: عاش سبعة أيام. وقيل: غير ذلك. والمشهور: أن سورة (النصر) نزلت قبل فتح مكة، وكانت بشارة بفتحها، وهذا من أعلام النبوة.
هذا؛ وقال الرازي-رحمه الله تعالى-: اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لوجوه: أحدها: أنهم عرفوا ذلك لما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب نزول السورة، وذكر التخيير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته:«إن عبدا خيره الله تعالى بين الدنيا، وبين لقائه، فاختار لقاء الله تعالى» . فقال أبو بكر-رضي الله عنه: فديناك بأنفسنا، وأموالنا، وأولادنا، وآبائنا. ثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر، والفتح، ودخول الناس في الدين أفواجا، دل ذلك على حصول الكمال، والتمام، وذلك يعقبه الزوال، والنقصان، كما قيل:[المتقارب]
إذا تمّ أمر بدا نقصه
…
توقّع زوالا إذا قيل تم
وقال الرندي: [البسيط]
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان
…
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
ثالثها: أنه تعالى أمره بالتسبيح، والحمد، والاستغفار مطلقا، واشتغاله بذلك يمنعه من اشتغاله بأمر الأمة، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم، وكمل، وذلك يقتضي انقضاء الأجل؛ إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة، وذلك غير جائز. انتهى. جمل نقلا من الرازي. أقول: التعبير بقوله: كالمعزول من الرسالة غير جيد قطعا؛ لأن العزل يقتضي إبداله بغيره، وهذا مستحيل قطعا، وأبدا.
تنبيه: والتعبير ب: {جاءَ نَصْرُ اللهِ} مستعار؛ لأن المقدر متوجه من الأزل لوقته، فكأنه سائر نحوه، فشبه حصول المقدورات، ووقوعها عند حضور أوقاتها بمجيئها إليها، فأطلق اسم المجيء على ذلك الحصول، ثم اشتق منه لفظ جاء، فيكون استعارة تبعية بالحرف.
هذا؛ والفعل: «جاء» يستعمل لازما إن كان بمعنى: أقبل، ووصل، كما في هذه السورة، ويستعمل متعديا إن كان بمعنى: بلغ، كما في قوله تعالى:{إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ} ومثله:
«أتى» يكون لازما، ومتعديا.
الإعراب: {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَ:} فعل ماض. {نَصْرُ:} فاعله، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية
ابتدائية لا محل لها، و {إِذا:} متعلقة بالفعل {جاءَ} ولا يجوز تعليقها بالفعل (سبّح)؛ لأنه لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها. (الفتح): معطوف على ما قبله. (رأيت الناس): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {يَدْخُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {النّاسَ} إن كانت رأى بصرية، أو مفعول ثان إن كانت علمية. {أَفْواجاً:} حال من واو الجماعة. {فَسَبِّحْ:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا:} (سبح): فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، والجملة جواب (إذا) لا محل لها.
{بِحَمْدِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و (حمد): مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
(استغفره): فعل أمر، وفاعله مستتر، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{إِنَّهُ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» . {تَوّاباً:} خبرها، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية، لا محل لها؛ لأنها تعليل للأمر. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (النصر) بعونه، وتوفيقه.
والحمد لله رب العالمين.