المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(إنّ)، والجملة الاسمية: {إِنّا..}. إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: (إنّ)، والجملة الاسمية: {إِنّا..}. إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية،

(إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، مستأنقة. {لِنَجْعَلَها:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، و (ها) مفعول به أول. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {تَذْكِرَةً} بعدهما، أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . {تَذْكِرَةً:}

مفعول به ثان، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هذه الفعلة فعلناها؛ لجعلها لكم تذكرة، وقيل: الجار، والمجرور متعلقان بالفعل {حَمَلْناكُمْ،} والأول أقوى. {وَتَعِيَها:}

الواو: حرف عطف. (تعيها): معطوف على ما قبله منصوب مثله، و (ها): مفعول به. {أُذُنٌ:}

فاعله. {واعِيَةٌ:} صفة {أُذُنٌ} .

‌خاتمة:

قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: لم قيل: {أُذُنٌ واعِيَةٌ} على التوحيد، والتنكير؟ قلت: للإيذان بأنّ الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت، وعقلت عن الله، فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالي بهم بالة، وإن ملؤوا ما بين الخافقين. قال أحمد محشي الكشاف: هو مثل قوله تعالى في سورة (الحشر) رقم [18]: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وقد ذكر أن فائدة التنكير والتوحيد فيه الإشعار بقلة الناظرين، انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)}

الشرح: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ..} . إلخ: الصور كهيئة البوق. قاله مجاهد، ويدل على صحته ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

ما الصّور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» . أخرجه أبو داود، والترمذي-رحمهما الله تعالى-وقال أبو هريرة-رضي الله عنه-قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض؛ خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، ينظر متى يؤمر بالنفخة» . قلت: يا رسول الله! ما الصور؟ قال: «قرن والله عظيم، والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه، كعرض السماء والأرض» . وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم؛ وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ؟!» . وكأن ذلك ثقل على أصحابه، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟ وكيف نقول؟ فقال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا-وربما قال-: توكلنا على الله» . أخرجه الترمذي. وسعة فم الصور كما بين السماء والأرض. وفيه ثقوب بعدد الأرواح كلها، وتجمع الأرواح في تلك الثقوب، فيخرج بالنفخة الثانية من كلّ ثقب روح إلى الجسد الذي نزعت منه،

ص: 118

فيعود الجسد حيا بإذن الله تعالى. انتهى. جمل نقلا عن الخطيب. وأنا أؤمن بهذا. هذا؛ وقد دلت آية (الزمر) رقم [68] على أن النفخة اثنتان: الأولى للموت، والثانية للبعث والنشور. قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} والجمهور على أنها ثلاث: الأولى: للفزع، كما قال تعالى في سورة (النمل) الآية [87]:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ..} . إلخ. والثانية: للموت، والثالثة: للإعادة، وبين الثانية، والثالثة أربعون سنة على الصحيح. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون» . قالوا: أربعون يوما؟ قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال أبو هريرة: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. «ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة» . متفق عليه. وينبغي أن تعلم: أن الذي ينفخ في الصور، إنما هو إسرافيل-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أحد الملائكة العشرة المقربين، وهو ينفخ نفختين بينهما أربعون عاما على الصحيح

إلخ.

{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ:} ورفعت الأرض من جميع جهاتها بمجرد القدرة الكاملة، أو بتوسط زلزلة، أو بريح عاصفة. {فَدُكَّتا:} فدكت الجملتان: جملة الأرضين، وجملة الجبال، فضرب بعضها ببعض؛ حتى تندق، وترجع كثيبا مهيلا، وهباء منبثا، قال تعالى في سورة (المزمل):

{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً} رقم [14]، وقال تعالى في سورة (الواقعة):{إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} . وقيل: المعنى بسطت الأرض، والجبال بسطة واحدة، فصارتا أرضا، لا ترى فيها عوجا، ولا أمتا. وألف الاثنين عائدة إلى الأرض، والجبال. هذا؛ وفي المختار: الدك الدق، وقد دكه، إذا ضربه وكسره، وسواه بالأرض، وبابه ردّ، ومنه قوله تعالى:{فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً} . قال الأخفش: هي أرض دك، والجمع: دكوك، قال الله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [143]:{جَعَلَهُ دَكًّا} قال:

ويحتمل أن يكون مصدرا، كأنه قال: دكه دكا، أو أراد: جعله ذا دك، فحذف ذا، وقرئ «(دكاء)» بالمد، أي: جعله أرضا دكاء، فحذف الأرض، لأن الجبل مذكر، فلا لبس. انتهى. بتصرف.

هذا؛ وخذ قوله تعالى في سورة (الفجر) رقم [21]: {كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} وهذا يعني:

أن الأرض يبدل شكلها، وهيئتها، كما قال تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} رقم [48] من سورة (إبراهيم).

الإعراب: {فَإِذا:} (الفاء): حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {نُفِخَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {نَفْخَةٌ:} نائب فاعل {نُفِخَ،}

ص: 119

وقرئ بنصبه على أنه مفعول مطلق، والجار والمجرور في محل نائب الفاعل. {واحِدَةٌ:} صفة {نَفْخَةٌ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {وَحُمِلَتِ:}

الواو: حرف عطف. (حملت): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محل له.

{الْأَرْضُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.

{وَالْجِبالُ} معطوف على ما قبله. {فَدُكَّتا:} الفاء: حرف عطف. (دكتا): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، وحركت بالفتح لالتقائها ساكنة مع ألف الاثنين؛ التي هي نائب فاعل، والجملة معطوفة على ما قبلها. {دَكَّةً:} مفعول مطلق. {واحِدَةٌ:} صفة {دَكَّةً} .

{وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)}

الشرح: {وَالْمَلَكُ} أي: الملائكة، و (الملك) اسم جنس بمعنى الجمع، فهو أعم من الملائكة. {عَلى أَرْجائِها:} جوانب السماء، واحدها: رجا (مقصور) لأن السماء إذا انشقت، وهي

ص: 120

مسكن الملائكة، فيلجئون إلى أطرافها وجوانبها. قال المفسرون: وذلك؛ لأن السماء مسكن الملائكة، فإذا انشقت السماء وقفوا على أطرافها فزعا مما داخلهم من هول ذلك اليوم، ومن عظمة ذي الجلال، الكبير المتعال. هذا؛ ولم يرد لفظ الأرجاء إلا في هذه السورة، ولم يستعمل هذه اللفظ إلا مجموعا، ولا يحسن المفرد (رجا) في موضع الجمع، كما لا يحسن الكوب موضع الأكواب، كما رأيت في سورة (الواقعة) رقم [18]. {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} أي:

ويحمل عرش الرحمن يوم القيامة ثمانية من الملائكة العظام فوف رؤوسهم. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين، فكانوا ثمانية» . ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي نحوه، وفي الحديث:«إن لكل ملك منهم أربعة أوجه: وجه رجل، ووجه أسد، ووجه ثور، ووجه نسر، وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس» . ولما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت: [الكامل]

رجل وثور تحت رجل يمينه

والنّسر للأخرى وليث مرصد

والشّمس تطلع كلّ آخر ليلة

حمراء يصبح لونها يتورّد

ليست بطالعة لهم في رسلها

إلا معذّبة وإلا تجلد

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق» . هذا؛ وانظر ما ذكرته في سورة (غافر) رقم [7] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وأما العرش؛ فقد قال الراغب في كتابه (مفردات القرآن): وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، لا بالحقيقة، ليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك؛ لكان حاملا له، تعالى الله عن ذلك. انتهى. خازن. وقد قال سليمان الجمل: وأما المراد به هنا؛ فهو الجسم النوراني المرتفع عن كل الأجسام، المحيط بكلها، وانظر ما ذكرته في آية الكرسي رقم [255] من سورة (البقرة).

هذا؛ وفي كثير من الآيات قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} ولا يجوز تفسيره ب: استقر، وثبت، فيكون الله من صفات الحوادث، وإنما يؤول باستولى، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا، لا يليق به تعالى. والقول الفصل قول علي بن أبي طالب-رضي الله عنه:

الاستواء غير مجهول، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، لأنه تعالى كان، فهو على ما كان قبل خلق المكان، والزمان، لم يتغير عما كان. والمنقول عن جعفر الصادق، والحسن البصري، وأبي حنيفة ومالك-رضي الله عنهم أجمعين-يشبه ذلك. هذا؛ وهناك من يقول: استوى استواء يليق به، وهو قول السلف. هذا؛ واستوى في سورة (القصص) رقم [14] بمعنى انتهاء الشباب، وتكامل العقل.

الإعراب: {وَالْمَلَكُ:} (الواو): حرف استئناف. (الملك): مبتدأ. {عَلى أَرْجائِها:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (ها) في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

ص: 121

{وَيَحْمِلُ:} (الواو): حرف استئناف. (يحمل): فعل مضارع. {عَرْشَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَوْقَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وقال الجمل: فوقهم متعلق بمحذوف حال من العرش، والأول أقوى. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بالفعل (يحمل)، و (إذ) في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة. {ثَمانِيَةٌ:}

فاعل (يحمل)، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي معطوفة على الجملة الاسمية قبلها على رأي من يجيز عطف الفعلية على الاسمية.

{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)}

الشرح: {يَوْمَئِذٍ:} يوم ينفخ في الصور. {تُعْرَضُونَ} أي: على الله. دليله قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [48]: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا} وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما له، بل معناه الحساب، وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة. وروى الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان؛ فجدال ومعاذير، وأما الثالثة؛ فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله» . أخرجه الترمذي، وقال: ولا يصح هذا الحديث من قبل: أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. {لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} أي: الله عالم بكل شيء من أعمالكم، لا يخفى عليه شيء منها، وإن عرضكم عليه يوم القيامة للحساب والجزاء، ففيه من المبالغة في التهديد، والوعيد ما لا يخفى. وفي الجمل: وعبر عن الحساب، والجزاء بالعرض تشبيها له بعرض السلطان العسكر، والجند؛ لينظر في أمرهم، فيختار منهم المصلح للتقريب، والإكرام، والمفسد للإبعاد، والتعذيب. انتهى. والآيات التالية تشرح ذلك، وتفصله. هذا؛ وقد قال عمر-رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا، وتزينوا للعرض الأكبر.

الإعراب: {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و (إذ) في محل جر بالإضافة على مثال ما تقدم. {تُعْرَضُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية بمنزلة البدل من جملة:{وَيَحْمِلُ..} . إلخ، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {لا:} نافية. {تَخْفى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.

{مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {خافِيَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير المجرور ب: (من).

ص: 122

{فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اِقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20)}

الشرح: {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ:} فهذا تفصيل لأحوال الناس عند العرض، {كِتابَهُ بِيَمِينِهِ:}

إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. {فَيَقُولُ:} ابتهاجا، وسرورا، وذلك حين بلغ الغاية في السرور، وعلم: أنه من الناجين بإعطائه كتابه بيمينه، أحب أن يظهر ذلك لغيره؛ حتى يفرحوا له. وقيل: يقول ذلك لأهله، وأقربائه، {إِنِّي ظَنَنْتُ:} علمت، وتيقنت {أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ:} أني سألقى حسابي، وجزائي يوم القيامة، فأعددت له العدة من الإيمان، والعمل الصالح. قال الحسن: إن المؤمن أحسن الظن بربه، فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن بربه، فأساء العمل. هذا؛ و {هاؤُمُ} بمعنى: خذوا، وفيها استعمالان، وذلك: أنها تكون فعلا صريحا، وتكون اسم فعل، ومعناها في الحالين: خذوا، فإن كانت اسم فعل، وهي المذكورة في الآية الكريمة، ففيها لغتان: المد والقصر، تقول: هاء درهما يا زيد، وها درهما يا زيد، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث، وتتصل بهما كاف الخطاب اتصالها باسم الإشارة، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها، وهي (أي: الكاف) ضمير المخاطب، تقول: هاك، هاءك

إلخ، ويخلف كاف الخطاب همزة متصرفة، تصرف كاف الخطاب، فتقول: هاء يا زيد، هاء يا هند، هاؤما، هاؤن، وهي لغة القرآن. وإذا كانت فعلا صريحا، لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها؛ كان فيها ثلاث لغات: إحداها: أنها تكون مثل: عاطى، يعاطي، فيقال: هاء يا زيد، هائي يا هند، هائيا يا زيدان، أو يا هندان، هاؤوا يا زيدون، هائين يا هندات. الثانية: أن تكون مثل: هب، فيقال: ها، هئي، ها، هئوا، هأن، مثل: هب، هبي، هبا، هبوا، هبن. الثالثة: أن تكون مثل خف، أمرا من الخوف، فيقال: هأ، هائي. هاآ، هاؤوا، هأن، مثل: خف خافي، خافا، خفن. واختلف في مدلولها، فالمشهور:

أنها بمعنى خذوا، وقيل: معناها: تعالوا، فتتعدى ب:«إلى» ، وقيل: معناها القصد. انتهى.

الجمل نقلا من السمين.

عن عائشة-رضي الله عنها، قالت: ذكرت النار، فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك؟» . قلت: ذكرت النار، فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال:«أما في ثلاثة مواطن، فلا يذكر أحد أحدا: عند الميزان؛ حتى يعلم: أيخف ميزانه، أم يثقل؟ وعند تطاير الصحف؛ حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله، أم وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم؛ حتى يجوز» . رواه أبو داود، وزاد فيه الحاكم:«وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حافتاه كلاليب كثيرة، وحسك كثير، يحبس الله بها من يشاء من خلقه؛ حتى يعلم أينجو أم لا؟» .

ص: 123

الإعراب: {فَأَمّا:} (الفاء): حرف تفريع، واستئناف. (أما): أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد، انظر الآية رقم [5]. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو المفعول الأول. {كِتابَهُ:} مفعول به ثان. {بِيَمِينِهِ:} متعلقان بالفعل {أُوتِيَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {فَيَقُولُ:}

(الفاء): واقعة في جواب (أمّا). (يقول): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من)، والجملة الفعلية مع مقولها في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو (من). {هاؤُمُ:} (ها): اسم فعل أمر مبني على السكون، والميم حرف دال على جماعة الذكور، والفاعل مستتر تقديره:«أنتم» . {اِقْرَؤُا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كِتابِيَهْ:} مفعول به تنازعه كلّ من {هاؤُمُ} و {اِقْرَؤُا،} فأعمل الأول عند الكوفيين لسبقه، والثاني عند البصريين لقربه، وأضمر في أحدهما على الاعتبارين، التقدير: هاؤموه اقرؤوا كتابيه، أو هاؤم اقرؤوا كتابيه. هذا؛ وعلامة نصب {كِتابِيَهْ} فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، و (الياء): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، أصله كتابي، فأدخلت عليه هاء السكت؛ لتظهر فتحة الياء، وكذا يقال في الباقي، والجملتان في محل نصب مقول القول، والجملة الاسمية: (أما من

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنِّي:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {ظَنَنْتُ:} فعل، وفاعل. {إِنِّي:} (أنّ): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {مُلاقٍ:} خبر (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، وفاعله مستتر تقديره:«أنا» ، {حِسابِيَهْ:} مفعول به مثل: {كِتابِيَهْ} فهو منصوب مثله

إلخ، و {أَنِّي مُلاقٍ..} . إلخ في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {ظَنَنْتُ،} والجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر {إِنِّي،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول أيضا.

{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)}

الشرح: {فَهُوَ:} أي: الذي أوتي كتابه بيمينه. {فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ} أي: مرضية، يرضاها صاحبها، لا يضجر منها، ولا يملها، ولا يسأمها. فهي صيغة فاعل بمعنى: مفعول، مثل:

{ماءٍ دافِقٍ} بمعنى: مدفوق، وهذا ما يسمى مجازا عقليا، فقد أسند فيه اسم الفاعل إلى ضمير العيشة إسنادا مجازيا، من إسناد ما هو بمعنى الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه. وقال الحطيئة في ذم الزبرقان بن بدر-وهو الشاهد رقم [10] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [البسيط]

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فإنه أراد: اقعد كلاّ على غيرك مطعوما، مكسوا. فقد أسند الوصف المسند للفاعل إلى ضمير المفعول، ومن هنا كان ذما، لا مديحا. {فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ:} مرتفعة المكان؛ لأنها في

ص: 124

السماء السابعة، ومرتفعة أيضا في الدرجات، والأبنية، والأشجار. {قُطُوفُها:} جمع: قطف بكسر القاف، بمعنى: مفعول، كالذبح بمعنى: المذبوح، وهو ما يجنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح فالمصدر، والقطاف بالفتح والكسر، وقت القطف. انتهى. جمل نقلا من الخطيب. {دانِيَةٌ} أي: قريبة التناول، يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع. قال تعالى في سورة (الرحمن):{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ} .

الإعراب: {فَهُوَ:} (الفاء): حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ {فِي عِيشَةٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {راضِيَةٍ:} صفة {عِيشَةٍ} . {فِي جَنَّةٍ:}

بدل مما قبلهما بدل بعض من كل، أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان. {قُطُوفُها:} مبتدأ، وها في محل جر بالإضافة. {دانِيَةٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر صفة ثانية ل:{جَنَّةٍ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدم. والجملة الاسمية: {فَهُوَ..} .

إلخ استئنافية لا محل لها.

{كُلُوا وَاِشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ (24)}

الشرح: {كُلُوا وَاشْرَبُوا..} . إلخ وقال تعالى في سورة الأعراف رقم [43]: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،} وقال جل ذكره في سورة (الزخرف) رقم [72]: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،} وقال تعالى في سورة (السجدة) رقم [19]: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بسبب أعمالهم، وليس المراد السبب الحقيقي حتى يخالف نص الحديث الشريف، وفحوى هذا: أن نص الآيات جميعا يفيد أن دخول الجنة مسبب عن الأعمال الصالحة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لن يدخل أحدا عمله الجنة» .

قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: «ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله بفضله، ورحمته، فسددوا وقاربوا» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه. والجمع بين هذه الآيات، والحديث الشريف: أن محمل الآيات على أن منازل الجنة إنما تنال بالأعمال؛ لأن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن محمل الحديث الشريف على أصل دخول الجنة. فإن قيل: آية (السجدة) صريحة بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال. أجيب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث الشريف، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة، وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد أصل الدخول، أو المراد: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله، وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخولها، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته، وفضله، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد. انتهى. حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة. ومعنى {هَنِيئاً:} لا كدر، ولا تنغيص فيه، وقيل: مأمون العاقبة من

ص: 125

التخمة والسّقم. وقيل: لا أذية فيه، ولا غائلة. وفي سورة (الطور) رقم [19]:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومثلها في سورة (المرسلات) رقم [43].

بعد هذا خذ ما يلي: عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه، قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم! تزعم: أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون، قال:«نعم، والذي نفس محمد بيده! إن أحدهم ليعطى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع» . قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى. قال:«تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم، كرشح المسك، فيضمر بطنه» . رواه أحمد، والنسائي.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يدخل الجنة ينعم، ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . أخرجه مسلم.

وعن أبي أمامة-رضي الله عنه-قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتزاور أهل الجنة؟ قال:

«نعم، إنه ليهبط أهل الجنة الدرجة العليا إلى أهل الجنة الدرجة السفلى، فيحيونهم، ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم» . رواه ابن أبي حاتم. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض، فيسير سرير هذا؛ إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعا، فيتكئ هذا، ويتكئ هذا، فيقول أحدهما لصاحبه: أتعلم متى غفر الله لنا؟ فيقول صاحبه: نعم يوم كنّا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله، فغفر لنا» . رواه ابن أبي الدنيا، والبزار.

وعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجوازبسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية» . رواه الطبراني.

هذا؛ ولا تنس الالتفات من الغيبة في الآية رقم [19] وما بعدها إلى الخطاب في هذه الآية.

الإعراب: {كُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال لهم: كلوا. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقد روعي لفظ {مَنْ} فيما تقدم، وروعي معناها في هذه الآية، وجملة:{وَاشْرَبُوا} معطوفة على ما قبلها. ومفعول الفعلين محذوف للاختصار والتعميم.

{هَنِيئاً:} حال من واو الجماعة بمعنى: مهنئين، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: هنيئا لكم الأكل، والشرب، وقيل: الفاعل (ما) المجرورة بالباء، وعليه يكون مثله قول كثير عزة:[الطويل]

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

ص: 126

فيكون مثل (ما) يرتفع بالفعل، أي: كما تقول: هنأكم ما كنتم تعملون، أو هنأكم الأكل والشرب، فعلى الأول الباء زائدة في الفاعل، وعلى الثاني الباء أصلية. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {هَنِيئاً،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {أَسْلَفْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء أسلفتموه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بإسلافكم، وهو ضعيف كما ترى. {فِي الْأَيّامِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، الذي رأيت تقديره. {الْخالِيَةِ:} صفة {الْأَيّامِ} .

{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25)}

الشرح: {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ:} لما ذكر الله حال أهل السعادة، وهم الذين آمنوا، وعملوا الصالحات في الآيات السابقة؛ ذكر في هذه الآيات أهل الشقاوة، وهم الذين كفروا، وعملوا المعاصي، والمنكرات، وهذا من باب المقابلة، وقد جرت سنة الله في كتابه: أنه لم يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولم يذكر الجنة؛ إلا ويذكر النار، ولم يذكر الإيمان، وأهله، ومآلهم؛ إلا ويذكر الكفر، وأهله، ومآلهم؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا. هذا؛ وذكر القرطبي نقلا عن الضحاك: أن آيات أهل السعادة نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.

وقاله مقاتل، وأن آيات أهل الشقاوة نزلت في أخيه الأسود بن عبد الأسد، ويكون الأخوان سببا في نزول هذه الآيات، والمعنى يعم جميع أهل السعادة، وأهل الشقاوة بلا ريب، لأن خصوص السبب، لا يمنع التعميم، وقد ذكرته مرارا.

وفي زيني دحلان: وعبد الله أول من يأخذ بيمينه، والأسود أول من يأخذه بشماله، وهو أول قتيل يوم بدر من المشركين. {أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ:} قيل: تكون يده اليسرى خلف ظهره، ثم يعطى كتابه بها، قال تعالى في سورة (الانشقاق):{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} . {فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ} أي: يقول إذا رأى قبائح أعماله: يا ليتني لم أعط كتابي. قال المفسرون: وذلك لما يحصل له من الخجل، والافتضاح، فيتمنى عندئذ: أنه لم يعط كتاب أعماله، ويندم أشد الندم، ويتحسر أعظم التحسر.

الإعراب: {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ:} الإعراب مثله في الآية رقم [19] بلا فارق. {يا لَيْتَنِي:}

(يا): حرف تنبيه، وقيل: أداة نداء، والمنادى محذوف، تقديره: يا هؤلاء ونحوه، والأول أقوى في مثل هذه الآية. (ليتني): حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل نصب اسمها.

{لَمْ:} حرف نفي وقلب وجزم. {أُوتَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم ب: {لَمْ} وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، ونائب الفاعل مستتر فيه وجوبا،

ص: 127

تقديره: «أنا» ، وهو المفعول الأول. {كِتابِيَهْ:} مفعول به ثان منصوب مثل سابقه، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، والهاء للسكت حرف لا محل له

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (ليت)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة: (يقول

) إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو {مَنْ،} والجملة الاسمية معطوفة على مثلها في الآية رقم [19].

{وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)}

الشرح: {وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ} أي: لم أعلم، أيّ شيء حسابي؛ لأنه لا طائل، ولا حاصل له، وإنما كله عليه، لا له. {يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ:} تمنى: أنه لم يبعث للحساب. والمعنى:

يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت القاضية عن كل ما بعدها، والقاطعة للحياة، أي: لا أحيا بعدها، قال قتادة: تمنى الموت، ولم يكن شيء أكره منه إليه، أي: من الموت في الدنيا، لأنه رأى تلك الحالة أشنع، وأمر مما ذاقه من الموت. {ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ} أي: لم يدفع عني مالي، وغناي شيئا من العذاب. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ} أي: زال عني ملكي، وسلطاني، ونسبي، وجاهي، فلا معين، ولا مجير، ولا صديق، ولا نصير. أو زال عني قوتي، وتسلطي على الناس، وبقيت ذليلا فقيرا حقيرا. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: ضلت عني حجتي. أي:

بطلت حجتي؛ التي كنت أحتج بها في الدنيا. هذا؛ وانظر شرح (سلطان) في سورة (الذاريات) رقم [38].

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه رجل تسمى ملك الأملاك، ولا ملك إلا الله» . أخرجه مسلم، وعن فناخسرو الملقب بالعضد: أنه لما قال: [الرمل]

عضد الدولة وابن ركنها

ملك الأملاك غلاب القدر

لم يفلح بعده، وجن، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية:«هلك عني سلطانيه» . هذا؛ والتمني: طلب المستحيل، كما في الآية رقم [25 و 27] وكقول أبي العتاهية الصوفي-وهو في «فتح القريب المجيب» و «فتح رب البرية» -:[الوافر]

ألا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

وأما الترجي؛ فهو طلب المتوقع حصوله، كقولك: لعل الغائب قادم، أو للتعليل كقوله تعالى في سورة (طه) رقم [44]:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} .

ص: 128

الإعراب: {وَلَمْ:} (الواو): حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {أَدْرِ:} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {حِسابِيَهْ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، أصله:

حسابي، فأدخلت عليه هاء السكت، لتظهر فتحة الياء، وكذا يقال في:«ماليه سلطانية» : هذا؛ ويجوز اعتبار (ما) خبرا مقدما، و (حسابي) مبتدأ مؤخر، بل هو الأولى؛ لأن (ما) مبهمة نكرة، و (حسابي) معرفة بلا ريب. وقل مثله في {مَا الْحَاقَّةُ} و {مَا الْقارِعَةُ} والجملة الاسمية:{ما حِسابِيَهْ} في محل نصب سدت مسد مفعولي الفعل: (أدري) المعلق عن العمل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ} فهي في محل رفع مثلها.

{يا لَيْتَها:} (يا): حرف تنبيه، وقيل: أداة نداء، والمنادى محذوف، التقدير: يا هؤلاء، وهو ضعيف كما ذكرته سابقا. (ليتها): حرف مشبه بالفعل. و (ها): اسمها. وهو عائد على غير مذكور، التقدير: يا ليت الموتة الأولى التي كانت في الدنيا. {كانَتِ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى ما ذكرته، وقدرته، والتاء للتأنيث حرف لا محل له.

{الْقاضِيَةَ:} خبر {كانَتِ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (ليت)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {ما:} نافية. {أَغْنى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.

{عَنِّي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مالِيَهْ:} فاعل {أَغْنى} مرفوع مثل {حِسابِيَهْ،} ومفعوله محذوف، تقديره: شيئا. هذا؛ وقيل: {ما} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل {أَغْنى،} و {عَنِّي} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلتها، التقدير: ما أغنى عني الذي ثبت، واستقر: أنه لي وهو ضعيف معنى. هذا؛ ويجوز اعتبار (ما) الأولى استفهامية في محل نصب مفعول به مقدم، وقيل: في محل نصب مفعول مطلق. وعلى الاعتبارين؛ فالجملة فعلية، وهي في محل نصب مقول القول. {هَلَكَ:} فعل ماض. {عَنِّي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{سُلْطانِيَهْ:} فاعل مرفوع مثل {حِسابِيَهْ،} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول أيضا.

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)}

الشرح: {خُذُوهُ:} يقول الله تعالى لخزنة النار. {فَغُلُّوهُ} قيل: يبتدره مئة ألف ملك، ثم تجمع يده إلى عنقه، وهو قوله عز وجل:{فَغُلُّوهُ} أي: شدوه بالأغلال. {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي:

أدخلوه معظم النار؛ لأنه كان يتعاظم في الدنيا. يقال: صلى النار، وصلاه النار، وصلي فلان

ص: 129

النار (بالكسر)، يصلى صليا؛ أي: احترق. وقال الجوهري: يقال: صليت الرجل نارا: إذا أدخلته النار، وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الاحتراق، قلت: أصليته بالألف، وصليته تصلية، ويقال: صلي بالأمر: إذا قاسى حره، وشدته، واصطليت بالنار، وتصليت بها:

إذا استدفأت بها، وفلان لا يصطلى بناره: إذا كان شجاعا لا يطاق. هذا؛ وتقديم الجحيم يفيد الحصر، فيكون المعنى: ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى.

{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ:} وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة، {ذَرْعُها} أي: مقدارها، والذرع: التقدير بالذراع من اليد، أو غيرها. {سَبْعُونَ ذِراعاً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: بذراع الملك. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعا، كل ذراع سبعون باعا، كل باع أبعد ما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة، وقال الحسن: الله أعلم أيّ: ذراع؟

وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رضاضة مثل هذه (وأشار إلى مثل الجمجمة) أرسالات من السماء إلى الأرض (وهي مسيرة خمسمئة سنة) لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسالات من رأس السلسة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها، أو أصلها» . رواه أحمد والترمذي، والبيهقي. هذا؛ والجمجمة: قدح من خشب، وجمعه: جماجم، والجمجمة: الرأس، وهو أشرف الأعضاء.

هذا؛ وقد جاء ذرعها هنا بمعنى: المقدار، ويأتي الذرع بمعنى: الوسع، والطاقة، انظر الآية رقم [33] من سورة (العنكبوت)، أو الآية رقم [77] من سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام وفي كلتيهما قوله تعالى:{وَلَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} .

{فَاسْلُكُوهُ} أي: أدخلوه فيها. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: تدخل في دبره، وتخرج من منخريه. وقيل: تدخل في فيه، وتخرج من دبره، فينادي أصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون:

لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت؟ فينادي أصحابه: أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا، والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم.

(وفي زاده): ثم إن كلمة {ثُمَّ} والفاء الواقعين في الجملة الأخيرة، إن كانتا لعطف جملة:

{فَاسْلُكُوهُ} لزم اجتماع حرفي العطف على معطوف واحد، فينبغي أن تكون كلمة {ثُمَّ} لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل قوله:(خذوه) أي: قيل لخزنة جهنم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} ثم قيل لهم: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها..} . إلخ، وتكون الفاء لعطف المقول على المقول، وثم لعطف القول على القول. انتهى. جمل.

أقول: وإذا اعتبرنا الفاء صلة؛ فلا حاجة إلى هذا التقدير، وإلى هذه الدندنة، ويكون الجار، والمجرور {فِي سِلْسِلَةٍ} متعلقين بالفعل (اسلكوه) ولا غضاضة في ذلك.

ص: 130

هذا؛ و {ثُمَّ} حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كل منها خلاف مذكور في مغني اللبيب، وقد تلحقها تاء التأنيث الساكنة، كما تلحق (رب) و (لا) العاملة عمل «ليس» ، فيقال: ثمت، وربت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهن بالفتح.

هذا؛ و «ثم» هذه غير «ثمّ» بفتح الثاء، فإنها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [64]:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} . وهي ظرف لا يتصرف، ولا يتقدمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة.

الإعراب: {خُذُوهُ:} فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق، كأنه قيل: وما فعل به بعد هذا التحسر الصادر منه، فقيل: يقال من قبل الله للزبانية: {خُذُوهُ..} . إلخ. انتهى. جمل. وجملة: (غلوه) معطوفة على ما قبلها بالفاء العاطفة، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {الْجَحِيمَ:} ظرف مكان متعلق بما بعده، فهو منصوب، أو هو منصوب بنزع الخافض. وقيل: مفعول به لفعل محذوف، يفسره المذكور، ولا وجه له ألبتة. {صَلُّوهُ:} أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {فِي سِلْسِلَةٍ:} متعلقان بالفعل بعدهما. {ذَرْعُها:} مبتدأ، و (ها): في محل جر بالإضافة. {سَبْعُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل جر صفة {سِلْسِلَةٍ}. {ذِراعاً:} تمييز. {فَاسْلُكُوهُ:} (الفاء): حرف صلة، وجملة:

(اسلكوه) معطوفة ب: {ثُمَّ} على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)}

الشرح: {إِنَّهُ} أي: الذي أوتي كتابه بشماله. {لا يُؤْمِنُ:} لا يصدق، ولا يوقن. {بِاللهِ الْعَظِيمِ:} صاحب العظمة والكبرياء. وفيه إشعار بأنه هو المستحق لجميع المحامد، والجدير بتلبية جميع المطالب، والابتعاد عن جميع المناهي التي نهى عنها. {وَلا يَحُضُّ:} ولا يحث، بل يبخل ويأمر غيره بالبخل، كما قال تعالى في سورة (الحديد) رقم [24]:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ} . هذا؛ والحض: طلب الشيء بحثّ، وإزعاج. {عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ:} على إطعام المسكين. ف: {طَعامِ} اسم مصدر استعمل مكان المصدر، واسم المصدر ما نقص عن حروف فعله لفظا، وتقديرا من غير تعويض، مثل عطاء، فإنه اسم مصدر ل: أعطى، يعطي إعطاء، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [20]:{كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} وقال الكميت-وهو الشاهد رقم [531] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الوافر]

ص: 131

أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المئة الرّتاعا

ولعل تخصيص الأمرين: الإيمان بالله، والحض على إطعام المسكين بالذكر؛ لأن أقبح العقائد الكفر بالله، وأشنع الرذائل البخل، وقسوة القلب.

الإعراب: {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ}. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» .

{بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْعَظِيمِ:} صفة لفظ الجلالة، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} والجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية هذه تعليلية، لا محل لها من الإعراب. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية، {يَحُضُّ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {عَلى طَعامِ:}

متعلقان بما قبلهما، و {طَعامِ} مضاف، و {الْمِسْكِينِ} مضاف إليه، من إضافة اسم المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: ولا يحض على طعامه، أي: إطعامه المسكين.

{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)}

الشرح: {فَلَيْسَ لَهُ:} للذي أوتي كتابه بشماله. {الْيَوْمَ:} يوم القيامة. {هاهُنا:} عرصات القيامة. {حَمِيمٌ:} قريب. أي: ليس له قريب يرق له، ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم، وهو الماء الحار، كأنه الصديق الذي يرق له، ويحترق قلبه عليه. ولا يكون للكافر في الآخرة قريب، ولا صديق؛ لأن الأقرباء يتحاشونه، ويفرون منه. {وَلا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ:} فعلين من الغسل، فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم، وفروجهم.

فإن قلت: ما التوفيق بين ما هنا، وبين قوله تعالى في محل آخر:{إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ،} وفي موضع آخر: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ،} وفي موضع آخر: {أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النّارَ؟} قلنا: لا منافاة؛ إذ يجوز أن يكون طعامهم جميع ذلك، أو أن العذاب أنواع، والمعذبين طبقات، فمنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، ومنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة النار، ولكل باب منهم جزء مقسوم. انتهى. جمل نقلا من كرخي. {لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ:}

الكافرون أصحاب الخطايا.

الإعراب: {فَلَيْسَ:} (الفاء): حرف استئناف. (ليس): فعل ماض ناقص. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (ليس) مقدم. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف حال من {حَمِيمٌ} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. {هاهُنا:} (الهاء): حرف تنبيه. (هنا): اسم

ص: 132

إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من {حَمِيمٌ}. {حَمِيمٌ:} اسم (ليس) مؤخر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): نافية. {طَعامٌ:} معطوف على {حَمِيمٌ} . {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ غِسْلِينٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {طَعامٌ} .

{لا:} نافية. {يَأْكُلُهُ:} فعل مضارع، والهاء في محل نصب مفعول به. {إِلاَّ:} حرف حصر.

{الْخاطِؤُنَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جر صفة {غِسْلِينٍ} .

{فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}

الشرح: {فَلا أُقْسِمُ:} (لا): نافية. والكلام على ظاهره من النفي لظهور الأمر، واستغنائه عن التحقيق بالقسم. أو المعنى: فأقسم، و (لا) مزيدة، والمعنى: أقسم بالأشياء كلها ما ترون، وما لا ترون، فهو إقسام بالأشياء كلها على الشمول، والإحاطة؛ لأنها لا تخرج إلا من قسمين:

مبصر، وغير مبصر. وقيل: بل المراد: الدنيا، والآخرة، والأجسام، والأرواح، والإنس، والجن، والخلق، والخالق، والنعم الظاهرة، والباطنة. وقيل: هو رد لكلام سبق، أي: ليس الأمر كما يقوله المشركون.

وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: سبب ذلك: أن الوليد بن المغيرة، قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة بن أبي معيط: كاهن. وعلى هذا فالوقف على (لا) ثم يبتدأ بما بعدها، ويكون المعنى: ليس الأمر كما يزعمون. وقيل: (لا) بمعنى: ألا للتنبيه، ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وإنه ليس بشعر، ولا بسحر، ولا كهانة كما زعموا. ويقرأ:

«(فلأقسم)» بغير ألف بعد اللام على التحقيق. وهو فعل حال، ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلا أنا أقسم بذلك، ولو أريد به الاستقبال؛ للزمت النون. وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يريد به الاستقبال، وهو شاذ. انتهى.

هذا؛ وقال ابن هشام في المغني: اختلف في (لا) في مواضع من التنزيل، أهي نافية، أم زائدة؟ أحدها: قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} فقيل: هي نافية، واختلف هؤلاء في منفيها على قولين: أحدهما: أنه شيء تقدم، وهو ما حكي عنهم كثيرا من إنكار البعث، فقيل لهم:

ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم، قالوا: وإنما صح ذلك؛ لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة، وجوابه في سورة أخرى، نحو قوله تعالى في سورة (الحجر) الآية رقم [6]:{وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ،} وجوابه قوله تعالى في سورة (ن): {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} .

ص: 133

والثاني: أن منفيها أقسم، وذلك على أن يكون إخبارا، لا إنشاء، واختاره الزمخشري.

قال: والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له، بدليل قوله تعالى في سورة (الواقعة):

{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فكأنه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام، أي: أنه يستحق إعظاما فوق ذلك. وقيل: زائدة. واختلف هؤلاء في زيادتها على قولين: أحدهما: أنها زيدت توطئة، وتمهيدا لنفي الجواب، والتقدير: لا أقسم بيوم القيامة لا يتركون سدى، ومثله قوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [65] من سورة (النساء)، وأيضا قول امرئ القيس-وهو الشاهد رقم [456] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [المتقارب]

فلا وأبيك ابنة العامريّ

لا يدّعي القوم أنّي أفرّ

ورد بقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ..} . الآيات، فإن جوابه مثبت، وهو قوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ،} ومثله قوله تعالى في سورة (الواقعة): {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} .

والثاني: أنها زيدت لمجرد التوكيد، وتقوية الكلام، كما في قوله تعالى:{لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ} رقم [29] من سورة (الحديد)، وردّ بأنها لا تزاد صدرا، بل حشوا، كما أن زيادة (ما) و (كان) كذلك، نحو قوله تعالى:{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} رقم [159] من سورة (آل عمران)، وقوله تعالى:{أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} رقم [78] من سورة (النساء)، ونحو:(زيد كان فاضل) وذلك؛ لأن زيادة الشيء تفيد اطراحه، وكونه أول الكلام يفيد الاعتناء به، قالوا: ولهذا نقول: بزيادتها في نحو قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ} سورة (المعارج)، وقوله تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} لوقوعها بين الفاء، ومعطوفها بخلاف هذا. وأجاب أبو علي بما تقدم من أن القرآن كالسورة الواحدة. انتهى. بحروفه. هذا؛ ولا تنس طباق السلب بين الآيتين.

{إِنَّهُ} أي: القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ:} يريد جبريل الأمين، قاله الحسن، والكلبي، ومقاتل، دليله قوله تعالى في سورة (التكوير):{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} وقال الكلبي أيضا، والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله الآتي:{وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ} وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عز وجل، ونسب القول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه تاليه، ومبلغه، والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك. انتهى. قرطبي. ومعنى {كَرِيمٍ} أي: على الله، والكريم من كل نوع ما يجمع فضائله، وهو صفة لكل ما يرضي في بابه، يقال: وجه كريم؛ أي: مرضي بحسنه، وجماله. وكتاب كريم: مرضي في معانيه، وفوائده، ونبات كريم:

مرضي فيما يتعلق به من المنافع، قال تعالى:{كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . ومثله لفظ:

{وَعَبْقَرِيٍّ} المذكور في سورة (الرحمن).

ص: 134

الإعراب: {فَلا:} (الفاء): حرف استئناف. (لا): نافية، أوصلة، أو هي (لا) الابتداء حسب ما رأيت في الشرح. {أُقْسِمُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وهي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف على اعتبار (لا) للابتداء، كما رأيت في الشرح. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء تبصرونه. {وَما:} (الواو):

حرف عطف. (ما): معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثله. {لا:} نافية، والجملة الفعلية بعدها صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: والذي، أو وشيء لا تبصرونه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَقَوْلُ:} (اللام): هي المزحلقة. (قول):

خبر (إنّ)، وهو مضاف، و {رَسُولٍ} مضاف إليه. من إضافة المصدر لفاعله. {كَرِيمٍ:} صفة {رَسُولٍ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُ..} . إلخ جواب القسم، لا محل لها.

{وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)}

الشرح: {وَما هُوَ} أي: القرآن. {بِقَوْلِ شاعِرٍ:} كما تزعمون؛ لأنه مباين لأوزان الشعر كلها. {قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ} أي: قلما تؤمنون بهذا القرآن. قال مقاتل بن سليمان: يعني بالقليل: أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله؛ بمعنى: أنهم لا يؤمنون به أصلا. والعرب تقول: (قلما يأتينا) يريدون: لا يأتينا. انتهى. صفوة التفاسير. {وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ} أي: وليس القرآن بقول كاهن؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم يسب الشياطين، ويشتمهم، فكيف ينزلون على من يشتمهم بشيء. {قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} أي: لا تتذكرون ألبتة، فحذفت إحدى التاءين. وهذا كثير في القرآن الكريم.

وفي الجمل نقلا من أبي السعود: ذكر الإيمان مع نفي الشعر، والتذكر مع نفي الكهانة؛ لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين، لا ينكره إلا معاند كافر بخلاف مباينته للكهانة، فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلى الله عليه وسلم، وتذكر معاني القرآن المنافية لطريقة الكهانة، ومعاني أقوالهم.

هذا؛ وجمع {شاعِرٍ} شعراء، والأصل في فعلاء أن يكون جمع فعيل. مثل: ظريف، وظرفاء، وشريف، وشرفاء؛ لأن فعيلا إنما يقع لمن قد كمل ما هو فيه، فلما كان «شاعر» إنما يقال لمن عرف بالشعر شبه بفعيل، ودخلت ألف التأنيث الممدودة تأنيث الجماعة، كما تدخل الهاء في صياقلة، وزنادقة، وصيادلة. وقال الأخفش:{شاعِرٍ} مثل: لابن، وتامر، أي:

صاحب شعر، وصاحب لبن، وصاحب تمر، وقد سمي الشاعر شاعرا؛ لفطنته، وشدة ذكائه، وهو الفقيه أيضا، والشاعر مأخوذ من قولهم: ما شعرت بهذا الأمر، أي: ما فطنت له. وقوله تعالى في كثير من الآيات في حق الكافرين والمنافقين والفاسقين: {وَما يَشْعُرُونَ} أي: لا

ص: 135

يفطنون، ولا يتدبرون ما يقع بهم من الخزي، والنكال في الدنيا والآخرة. وانظر ما ذكرته بشأن الشعر، والشعراء في الآية رقم [224] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك.

وفي مختصر ابن كثير: قال عمر-رضي الله عنه: خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة (الحاقة)، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، وقال: فقلت: هذا والله شاعر! كما قالت قريش، قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ} قال: فقلت: هو كاهن. قال: فقرأ: {وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)} إلى آخر السورة، قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.

فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب-رضي الله عنه.

انتهى.

الإعراب: {وَما:} (الواو): واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {هُوَ:}

ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِقَوْلِ:} (الباء): حرف جر صلة. (قول): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، و (قول): مضاف، و {شاعِرٍ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (قول رسول كريم) والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها معطوفة على قوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ؛} فلا محل لها مثلها. {قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ} انظر إعراب مثل هذه الجملة في الآية رقم [23] من سورة (الملك). فهو مثلها بلا فارق.

{وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {بِقَوْلِ كاهِنٍ:} معطوف على {بِقَوْلِ شاعِرٍ} فهو مثله في إعرابه، وتقديره: ولا يجوز اعتبار (لا) نافية حجازية، تعمل عمل «ليس» واسمها محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ لأنها لا تعمل في المعارف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}

الشرح: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي: هذا القرآن منزل من رب العالمين، وليس كما يقولون:

هو سحر، أو شعر، أو كهانة، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه شيء نافع. وقال ابن زيد: زعم كفار قريش: أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى: أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى في سورة (الشعراء):{وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} .

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ} أي: تكلف، وأتى بقول من قبل نفسه، وسمى الافتراء: تقولا؛ لأنه قول متكلف، وسمى الأقوال المفتراة: أقاويل تحقيرا بها، كأنه جمع أفعولة من القول،

ص: 136

كالأضاحيك جمع: أضحوكة، والأعاجيب جمع: أعجوبة. وقال الزمخشري: التقول افتعال القول؛ لأن فيه تكلفا من المفتعل، انتهى. والأقاويل جمع: أقوال، وأقوال جمع: قول، فهو إذا جمع الجمع.

{لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي: لأخذناه، وعاقبناه وانتقمنا منه بالقوة. وعبر عن القوة، والقدرة باليمين؛ لأن قوة كل إنسان في ميامنه. قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهما. ومنه قول الشماخ:[الوافر]

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

وعرابة-رضي الله عنه-رجل من الأنصار من الأوس اشتهر بالكرم في عصره مثل: عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وقيس بن سعد بن عبادة من الأنصار من الخزرج. وفي كتاب قصص العرب حكاية عن كرم هؤلاء الثلاثة. وقول الخازن:«عرابة ملك اليمن» لا وجه له ألبتة، وقال شاعر آخر:[الطويل]

ولمّا رأيت الشمس أشرق نورها

تناولت منها حاجتي بيميني

أي: قوتي، وقدرتي، وقال السدي، والحكم:{بِالْيَمِينِ:} بالحق، والاستحقاق. وفسروا قول الشماخ بذلك. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب، كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه، والمعنى لأخذنا منه يمينه، والمراد باليمين: الجارحة، كما يفعل بالمقتول صبرا، يؤخذ بيمينه، ويضرب بالسيف في عنقه مواجهة، وهو أشد، وعليه: فالباء زائدة، وعلى الأول فالباء أصلية، وفيه تأويل اليمين بالقدرة، والقوة، وهو مذهب الخلف، ومذهب السلف يقولون: لله يمين تليق به لا نعلمها. ومذهب الخلف أحكم، ومذهب السلف أسلم.

{ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ:} المعنى لأهلكناه، فكنى بقطع الوتين عن الموت، والإهلاك، والوتين: عرق يتعلق به القلب إذا انقطع؛ مات صاحبه. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما وأكثر الناس. قال الشاعر يخاطب ناقته: [الوافر]

إذا بلّغتني وحملت رحلي

عرابة فاشرقي بدم الوتين

وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر، وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه. وقال الكلبي: إنه عرق بين العلباء، والحلقوم، والعلباء: عصب العنق، وهما علباوان بينهما ينبت العرق. ويجمع على: وتن، وأوتنة. هذا؛ ونقل الصابوني من ظلال القرآن لشهيد الإسلام سيد قطب في كتابه:«النبوة والأنبياء» ما يلي:

وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرهيب لمن يفتري على الله في شأن العقيدة، وهي الحد الذي لا هوادة فيه، يجيء لتقرير الاحتمال الواحد، الذي لا احتمال غيره، وهو صدق الرسول

ص: 137

صلّى الله عليه وسلّم، وأمانته فيما بلغه إليهم، أو يبلغه. ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية: أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق فيما بلغهم، وأنه لو تقول بعض الأقاويل، التي لم يوح بها إليه؛ لأخذه الله، فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات، ولما كان هذا لم يقع، فهو صلى الله عليه وسلم لا بدّ صادق. انتهى.

ولقد اشتهر الرسول صلى الله عليه وسلم منذ الصغر بالصدق، والأمانة؛ حتى كان المشركون يسمونه:

الصادق الأمين، فيقولون: جاء الصادق الأمين. وذهب الصادق الأمين، وهكذا كان النبي الكريم قبل البعثة علما بين قريش في صدقه، وأمانته، وعلو مكانته.

روي: أن رجلا من سادات قريش لقي أبا جهل في أحد طرق مكة، فاستوقفه، ثم قال له:

يا أبا الحكم! ليس هنا أحد غيرك وغيري، أنشدك بالله هل محمد صادق أم كاذب؟! فأجابه أبو جهل بكل صراحة: والله إن محمدا صادق، وما كذب قط! فقال: فما يمنعكم من اتباعه؟! فقال أبو جهل: تنافسنا نحن وبنو هاشم، وتنازعنا الزعامة، والفخر، أطعموا، فأطعمنا، وسقوا، فسقينا، وأجاروا، فأجرنا، حتى كنا كفرسي رهان، ثم زادوا علينا، فقالوا: بعث منا نبي، فمن أين نأتيهم بنبي؟ والله نؤمن به، ولا نتبعه. وفي هذا أنزل الله جل ثناؤه تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة (الأنعام) [33]:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} انظر شرحها هناك.

وحين سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قبل إسلامه عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: ما عرفنا عليه كذبا قط. فأجابه هرقل بقوله: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله! وهذا لعمر الحق هو المنطق السديد والقول الحميد!.

الإعراب: {تَنْزِيلٌ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو تنزيل، أو هذا تنزيل. {مِنْ رَبِّ:}

متعلقان به؛ لأنه مصدر، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {وَلَوْ:} (الواو): حرف استئناف، وقيل:

حرف عطف، والأول أقوى. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَقَوَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَسُولٍ كَرِيمٍ} تقديره:«هو» . وقال أبو حيان: يعود على المتقول المضمر وليس عائدا على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بَعْضَ:} مفعول به، وقيل: نائب مفعول مطلق، ولا وجه له. وهو مضاف، و {الْأَقاوِيلِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَأَخَذْنا:} (اللام): واقعة في جواب (لو). (أخذنا): فعل، وفاعل. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {بِالْيَمِينِ:} متعلقان بما قبلهما

ص: 138

أيضا، وقال الجمل: متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، وعلى التفسير الثاني فالباء حرف جر صلة، و (اليمين) مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {ثُمَّ:} حرف عطف، وجملة:{لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}

الشرح: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} أي: مانعين يحجزوننا عن عقوبته، والمعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم، لا يتكلم بالكذب علينا لأجلكم مع علمه: أنه لو تكلمه؛ لعاقبناه، ولا يقدر أحد على دفع عقوبتنا عنه. هذا؛ و {أَحَدٍ} في معنى الجمع، فلذلك نعت بالجمع، أي: فما منكم قوم يحجزوننا عنه، كقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [285]:{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ؛} لأن «بين» لا تقع إلا على اثنين، فما زاد. والمعنى: أن محمدا صادق بار راشد، مؤيد بالمعجزات الباهرات، والدلالات القاطعات. {وَإِنَّهُ} أي: القرآن. {لَتَذْكِرَةٌ:} لعظة بالغة. {لِلْمُتَّقِينَ:}

وخص المتقون بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظ القرآن، وإرشاداته دون غيرهم، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ} سورة (فصلت)[44].

الإعراب: {فَما:} (الفاء): حرف عطف، وتفريع. (ما): نافية مهملة، أو هي حجازية عاملة عمل «ليس». {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، أو في محل نصب خبر (ما) تقدم على اسمها. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَحَدٍ:} مبتدأ مؤخر، أو اسم (ما) مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {حاجِزِينَ:} صفة {أَحَدٍ} مجرور مثله تبعا للفظه، وعلامة جره الياء

إلخ، ولو أتبع على المحل؛ لكان حاجزون بالواو والنون، وانظر الشرح لتسويغ وصف {أَحَدٍ} به. هذا؛ وجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من {أَحَدٍ،} و {حاجِزِينَ} خبر (ما)، وهو قول الجلال، وأبي حيان. وأبو البقاء قال بالوجهين. والجملة الاسمية: (ما منكم

) إلخ معطوفة على جواب (لو) لا محل لها مثله.

{وَإِنَّهُ:} (الواو): حرف عطف. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمها.

{لَتَذْكِرَةٌ:} (اللام): هي المزحلقة. (تذكرة): خبر (إن). {لِلْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان ب:

(تذكرة)، أو بمحذوف صفة لها، والجملة الاسمية معطوفة على جواب القسم، وما بينهما اعتراض. قاله الجمل نقلا عن شيخه. وأرى صحة اعتبار الجملة في محل نصب حال من أحد الضمائر العائد على القرآن، والرابط: الواو، والضمير، وما بينهما اعتراض.

ص: 139

{وَإِنّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50)}

الشرح: {وَإِنّا لَنَعْلَمُ:} علما أزليا قديما. {أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ:} يكذبون بالقرآن، ويكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزلنا الكتب، وأرسلنا الرسل، ليظهر لكم في عالم الشهادة، ما كنا نعلمه في الأزل من تكذيب، وتصديق، تستحقون به الثواب، أو العقاب، فلذلك وجب في الحكمة أن نعيد الخلق، إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت، لنحكم بينهم، فنجازي كلا بما يليق به إظهارا للعدل. انتهى. جمل نقلا من الخطيب. وهذا يعني: أن الخطاب للخلق أجمعين، وهو لا ينسجم مع الكلام الأول الموجه لكفار قريش، كما هو واضح.

{وَإِنَّهُ} أي: القرآن. {لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ} أي: الإيمان بالقرآن حسرة على الكافرين يوم القيامة. والمعنى: أنهم يندمون على ترك الإيمان به؛ لما يرون من ثواب من آمن به، وعمل بمقتضاه. وقال ابن جرير: وإن التكذيب لحسرة على الكافرين. والأول أقوى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِنّا:} (الواو): حرف عطف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَنَعْلَمُ:} (اللام): هي المزحلقة. (نعلم): فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور.

{مُكَذِّبِينَ:} اسم (إنّ) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول نعلم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها، وإعراب:{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ} مثل إعراب {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} بلا فارق، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها أيضا.

{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}

الشرح: {وَإِنَّهُ} أي: القرآن. {لَحَقُّ الْيَقِينِ} أي: الخبر الصدق الحق؛ الذي لا مرية فيه، ولا شك، ولا ريب. هذا؛ وجاز إضافة (الحق) ل:{الْيَقِينِ،} وهما واحد؛ لاختلاف لفظهما.

قال المبرد: هو كقولك: عين اليقين، ومحض اليقين. وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما فهو من باب إضافة الشيء لنفسه عند الكوفيين. وعند البصريين: هو على حذف المضاف إليه، وإقامة الصفة مقامه، التقدير، حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين، وانظر (الواقعة) رقم [95].

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي: نزه الله تعالى عن السوء. وقيل: معناه: فصلّ بذكر ربك العظيم، وبأمره. وعن عقبة بن عامر الجهني-رضي الله عنه-قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» . ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» . أخرجه أبو داود، وأحمد، وابن ماجه.

ص: 140