الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام؛ هي مكية، وهي ثمان وعشرون آية، ومئتان، وأربع وعشرون كلمة، وتسعمئة وتسعة وتسعون حرفا.
نوح اسمه: السكن. وقيل: عبد الغفار، وسمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، وهو ابن لملك. وقيل: لامك بن متوشلخ، بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، بن يرد، بن مهلايل، بن أنوش، بن قينان، بن شيث، بن آدم. وكان نوح نجارا، واختلفوا في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: أخسأ يا قبيح، فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني، أم عبت الكلب؟! وهو أول رسول بعث بشريعة بعد آدم، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وفي شريعته حرم الزواج بالأخت، التي لم تكن توءما مع أخيها كما كان في ذرية آدم قبل نوح، وكان أول من عذبته أمته لردهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام؛ حيث عم الطوفان الأرض، ولم يبق بشر بعده إلا الذين حملوا في السفينة، وكان أطول الأنبياء عمرا، عمّر ألفا وخمسين سنة. وقيل: أكثر، لم تنقص قوته، ولم يشب، ولم تسقط له سن، وصبر على أذى قومه طول عمره، حتى أذن الله له في الدعاء عليهم، حيث قال:{وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} رقم [36] من سورة (هود) وكان أبواه مؤمنين بدليل دعوته لهما بالمغفرة في الآية الأخيرة من هذه السورة، وكانت ولادته بعد مضي ألف وستمائة واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم من الجنة إلى الأرض، وكان مولده بعد وفاة آدم بمئة وستة وعشرين عاما، قاله الجرجاوي في إعرابه لشواهد ابن عقيل. وهو غير مسلم له.
فقد روى البخاري عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة-رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله! أنبي كان آدم؟ قال: «نعم مكلّم» . قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال:
«عشرة قرون» . انتهى «النبوة والأنبياء للصابوني» .
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً:} بعثنا نوحا رسولا إلى قومه. هذا؛ وقوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: نفر، ورهط، ومعشر
…
إلخ، فإن المفرد لهذه الأسماء إنما هو: رجل، وجمعها: أقوام، وأراهط، ومعاشر. هذا؛ وقوم يطلق على الرجال دون النساء بدليل قوله تعالى في سورة (الحجرات) رقم [11]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} . وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري
…
أقوم آل حصن أم نساء؟
وربما دخل فيه النساء على سبيل التبع للرجال، مثل هذه الآية؛ لأن إرسال الرسل لأقوامهم يعم الرجال، والنساء، وإن كل لفظ (قوم) في القرآن، إنما يراد به الرجال، والنساء، وهو يذكر، ويؤنث. قال تعالى في غير ما آية:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وتأنيثه باعتبار المعنى، وهو: أنهم أمة، وطائفة، وجماعة، وسموا قوما؛ لأنهم يقومون مع داعيهم بالشدائد، والمتاعب، إما بالمعاونة على كشفها، وإما بالمضايقة والإيذاء إن عارضوه، وهذا حال أعداء الخير، والإصلاح في كل زمان ومكان.
{أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ:} خوفهم عقاب الله، وانتقامه منهم؛ إن هم أصروا على الكفر.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:} عذاب الآخرة، أو الطوفان، فكان يدعو قومه، وينذرهم، فلا يرى منهم مجيبا، وكانوا يضربونه؛ حتى يغشى عليه، فيقول:«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» .
هذا؛ وأتى، يأتي يستعمل لازما، إن كان بمعنى: حضر، وأقبل، مثل قولك: حضر زيد، وقوله تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} . ويستعمل متعديا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ، وهو ما في الآية الكريمة، ومثلها كثير، ومثل أتى: جاء في التعدي واللزوم، فمن المتعدي قوله تعالى:
{إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ،} ومن اللازم قوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} .
هذا؛ و {عَذابٌ} اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر: تعذيب؛ لأنه من: عذب، يعذب بتشديد الذال فيهما. وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: سلام، وعطاء، ونبات ل: سلّم، وأعطى، وأنبت.
أما قوله تعالى: {إِنّا أَرْسَلْنا} فإن ظاهره يفيد الجمع، أو الجماعة، وهذا التعبير كثير في كتاب الله، فقد قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في كتابه:(الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح): قوله تعالى: «جعلنا، وهبنا، نحن، إنا» . لفظ يقع في جميع اللغات على من له شركاء، وأمثال، وعلى الواحد المطاع، الذي له أعوان يطيعونه؛ وإن لم يكونوا له شركاء، ولا
نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة، وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: فعلنا، وإنا، ونحن
…
إلخ، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك؛ فمالك الملك رب العالمين، ورب كل شيء ومليكه هو أحق أن يقول: فعلنا، ونحن، وإنا
…
إلخ، مع أنه ليس له شريك، ولا مثل، بل له جنود السموات والأرض.
أقول: و (نا) هذه تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، كما يزعم الملحدون والكافرون، فالله لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم بها العبد، ذكرا كان، أو أنثى، فيقول: أخذنا، وأعطينا
…
إلخ، وليس معه أحد، والغاية من هذا الكلام الرد على النصارى الذين يدخلون الشبهة على السذج من المسلمين بأن الإله ثلاثة أقانيم:
الأب، والابن، وروح القدس، ويدعمون شبهتهم هذه بالألفاظ الموجودة في القرآن، والتي ظاهرها يفيد الجمع. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمه، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {إِلى قَوْمِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {نُوحاً،} والهاء في محل جر بالإضافة. {أَنْ:} حرف تفسير. {أَنْذِرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر وجوبا، تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية مفسرة للإرسال، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت {أَنْ} مصدرية فتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بالإنذار، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا}. {قَوْمَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل {أَنْذِرْ} . {أَنْ يَأْتِيَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والهاء مفعول به. {عَذابٌ:} فاعله. {أَلِيمٌ:} صفة {عَذابٌ،} و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {قَبْلِ} إليه.
الشرح: {قالَ يا قَوْمِ:} أضافهم إلى نفسه، إظهارا للشفقة، وفي سورة (الشعراء) رقم [106]:{إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ؛} لأنه كان مولودا فيهم. {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: بين الإنذار، موضح لحقيقة الأمر، أنذركم، وأخوفكم عقاب الله وانتقامه، فأمري واضح، ودعوتي ظاهرة، وقد ذكرت لك أن نوحا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أول نبي أرسل بشريعة.
ويقال له: شيخ المرسلين؛ لأنه أطولهم عمرا، فقد مكث في قومه كما قص علينا القرآن الكريم:
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً} رقم [14] من سورة (العنكبوت) يدعو قومه إلى الله، ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل، كما قص علينا القرآن الكريم:{وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ} رقم [40] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وقد أفرد القرآن الكريم قصته في هذه السورة من بدء الدعوة إلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل العظام من أولي العزم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين.
{أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ:} أمر بعبادة الله، وتقواه، وطاعته، أما العبادة؛ فهي غاية الخضوع، والتذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذا يحرم السجود لغير الله تعالى. هذا؛ وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود.
هذا؛ والله علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به؛ لتخلف شروط الإجابة؛ التي أعظمها أكل الحلال. ولم يسم به أحد سواه، قال تعالى في سورة (مريم) رقم [65]:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل أحد تسمى الله غير الله؟! وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين وثلاثمائة وستين موضعا.
(اتقوه): خافوا عقابه، وانتقامه. هذا؛ والتقوى حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتحرز من المهالك في الدنيا والآخرة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] من سورة (الحجرات) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَأَطِيعُونِ:} فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، فإني رسول الله إليكم، وإنما أضافها إلى نفسه؛ لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة، فإنها لا تكون إلا لله عز وجل.
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي: جميع ذنوبكم على اعتبار {مِنْ} صلة في الإيجاب، وهذا يجيزه الأخفش. وقيل: لا يصح اعتبارها صلة، وهي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي على أصلها، وذلك أن الله يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام، فإذا أسلموا، وانقادوا لشريعة نوح عليه السلام جرت عليهم أحكام شريعته. ومثل هذه الآية الآية رقم [31] من سورة (الأحقاف)، انظرها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: ينسئ في أعماركم، ومعناه أن الله تعالى كان قد قضى قبل خلقهم: أنهم إن آمنوا؛ بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا؛ عوجلوا بالعذاب، والعقاب. أقول: فيكون هذا من القضاء المعلق. انظر ما ذكرته في سورة (الرعد) رقم [41] ويشير له هلاك الكافرين منهم بالغرق، ونجاة المؤمنين منهم بواسطة
السفينة، وبقاؤهم إلى انتهاء آجالهم، وهو ما وقع، وحصل. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية، فلا يعاقبكم بالقحط، وغيره، فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات، والشدائد إلى انتهاء آجالكم. وعلى هذا قيل:{أَجَلٍ مُسَمًّى} عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا، ولا حرقا، ولا قتلا. ذكره الفراء، وعلى القول الأول:{أَجَلٍ مُسَمًّى} عند الله.
{إِنَّ أَجَلَ اللهِ} أي: الأجل الذي قدره، وقضاه. {إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ} أي: إذا جاء الأجل المقدر عند الله لا يؤخر، فبادروا بالإيمان قبل الموت؛ تسلموا من العذاب. قال الزمخشري:
فإن قلت: كيف قال: {وَيُؤَخِّرْكُمْ} مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى مثلا: أن قوم نوح إن آمنوا؛ عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم؛ أهلكهم الله على رأس تسعمائة سنة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، أي: إلى وقت سماه الله، وضربه أمدا تنتهون إليه، لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف، ثم أخبر: أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر، كما يؤخر هذا الوقت، ولم تكن لكم حيلة، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم، وحيث يمكنكم الإيمان. انتهى.
تنبيه: قال تعالى هنا: {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} ومثله في سورة (النحل) رقم [61] وغيرها كثير، وقال تعالى في كثير من السور:{لِأَجَلٍ مُسَمًّى} فإن قلت: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلاّ، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع، ضيق العطن، ولكنّ المعنيين؛ أعني الانتهاء، والاختصاص كل منهما ملائم لصحة الغرض؛ لأن قولك:«يجري إلى أجل مسمى» معناه:
يبلغه، وينتهي إليه. وقولك:«يجري لأجل مسمّى» تريد: لإدراك أجل مسمّى، وتجعل الجري مختصا بآخر الشهر، فكلا الموضعين غير ناب به موضعه، انتهى. كشاف في غير هذا الموضع.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (نوح)، تقديره:«هو» . (يا): أداة نداء تقوم مقام أدعو. (قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول:(يا قومي)، ومنهم من يثبتها ويحركها بالفتحة، فيقول:(يا قومي)، ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول:(يا قوما)، ومنهم من يحذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول:(يا قوم).
قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
واجعل منادى صحّ إن يضف ليا
…
كعبد عبدي عبد عبدا عبديا
ويزاد سادسة، وهي لفظ القطع (يا قوم) بضم الميم، ففي الحديث الشريف، «يقول: يا ربّ، يا ربّ». وقرئ في سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:
(قال ربّ السجن أحبّ إليّ) رقم [33]. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم ضمير متصل
في محل نصب اسمها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {نَذِيرٌ} بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {نَذِيرٌ:} خبر (إنّ). {مُبِينٌ:} صفة {نَذِيرٌ،} والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ يا قَوْمِ..} . إلخ مستأنفة.
{أَنِ:} حرف تفسير. {اُعْبُدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية تفسير للإنذار، لا محل لها، وإن اعتبرت {أَنِ} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بالعبادة، والجار والمجرور متعلقان ب:{نَذِيرٌ،} والأول أقوى معنى.
{وَاتَّقُوهُ:} الواو: حرف عطف. (اتقوه): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله. {وَأَطِيعُونِ:} الواو:
حرف عطف. (أطيعون): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به، والفعلان:(اتقوا) و (أطيعوا) معطوفان على {اُعْبُدُوا} على الوجهين المعتبرين فيه.
{يَغْفِرْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وهو عند الجمهور مجزوم بشرط محذوف، التقدير: إن تعبدوا، وتتقوا، وتطيعوا؛ يغفر، والفاعل يعود إلى (الله)، تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للطلب. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{مِنْ ذُنُوبِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل مفعول به؛ إذ التقدير: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وإن اعتبرت الباء صلة ف:{ذُنُوبِكُمْ} مجرور لفظا منصوب محلا، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَيُؤَخِّرْكُمْ:} معطوف على ما قبله، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والكاف مفعول به.
{إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال، أو بمحذوف صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: يؤخركم تأخيرا ممتدا إلى أجل. {مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَجَلٍ:} اسم {إِنَّ،} وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.
{إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {أَجَلَ اللهِ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {لا:} نافية. {يُؤَخَّرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {أَجَلَ اللهِ،} والجملة الفعلية جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، ومفيدة للتعليل لا محل لها. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمها، والجملة الفعلية بعدها في محل نصب خبرها، وجملة:{كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لا محل
لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال؛ لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف، التقدير: لو كنتم تعلمون لآمنتم، ولو ومدخولها كلام معترض في آخر الآية، وهو من جملة مقول القول.
الشرح: {قالَ} أي: نوح. {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي:} إلى الإيمان بك، والإقرار بواحدانيتك، والاعتراف بألوهيتك. {لَيْلاً وَنَهاراً:} دائبا بلا فتور؛ سرا، وجهرا، ولا تنس الطباق بين {لَيْلاً} و (نهارا). {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً} أي: تباعدا من الإيمان كما قال تعالى في سورة (المدثر):
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ،} ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن الدعاء سببا للفرار في الحقيقة، وهو كقوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [125]:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} والقرآن لا يكون سببا لزيادة الرجس.
هذا؛ وزاد، يزيد: ضد نقص، ينقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين كما في الآية الكريمة. وقولك: زاد الله خالدا خيرا، بمعنى جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والبر مدا، فدرهما، ومدا تمييز. ومثله قل في: نقص، فمن المتعدي لمفعولين قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .
أما (الليل) فهو واحد بمعنى الجمع، واحدته: ليلة، مثل: تمر، وتمرة، وقد جمع على:
ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال. والليل الشرعي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أحد قولين في اللغة، والقول الآخر: من غروبها إلى طلوعها.
هذا؛ والنهار ضد الليل، وهو لا يجمع كما لا يجمع العذاب، والسراب، فإن جمعته قلت في الكثير: نهر بضمتين كسحاب وسحب، وأنشد ابن كيسان:[الرجز]
لولا الثّريدان لمتنا بالضّمر
…
ثريد ليل وثريد بالنّهر
وفي القليل: أنهر، والنهار: من طلوع الشمس، أو من طلوع الفجر على ما تقدم في نهاية الليل إلى غروب الشمس، وقد يطلق عليهما اسم: اليوم، كما ستعرفه في الآية رقم [9] من سورة (المدثر). هذا؛ والنسبة إلى النهار: نهاريّ، كما تجيء النسبة إليه على صيغة فعل فتستعمل للنسب. ويستغنى بها عن يائه، فيقال: نهر، ومنه قول الشاعر، وهو من شواهد ابن عقيل على ألفية ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]
لست بليليّ ولكنّي نهر
…
لا أدلج اللّيل ولكن أبتكر
هذا؛ والليل يطلق على الحبارى، أو على فرخها، وفرخ الكروان، والنهار يطلق على فرخ القطا. انتهى. قاموس، وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]
إذا شهر الصّيام إليك وافى
…
فكل ما شئت ليلا أو نهارا
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (نوح)، تقديره:«هو» . {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وانظر إعراب {يا قَوْمِ} في الآية رقم [2] فهو مثله. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {دَعَوْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ).
{قَوْمِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَيْلاً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {وَنَهاراً:} معطوف عليه. {فَلَمْ:} الفاء: حرف عطف. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَزِدْهُمْ:} فعل مضارع مجزوم بلم، والهاء مفعول به أول. {دُعائِي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم
…
إلخ. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِراراً:} مفعول به ثان، وفي الأصل مستثنى ب:{إِلاّ،} والمفعول الأول محذوف، التقدير: فلم يزدهم دعائي شيئا إلا فرارا، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{دَعَوْتُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، والكلام:
{رَبِّ إِنِّي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ رَبِّ إِنِّي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ:} للإيمان بك. {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي: ليتوبوا عن كفرهم، فتغفر لهم، فذكر المسبّب الذي هو حظهم خالصا، وهو المغفرة للذنوب، ورضاء علام الغيوب؛ ليفوزوا بجنات النعيم. {جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} أي: سدوا آذانهم بأصابعهم؛ لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه. والمراد رؤوس الأصابع؛ لأن الأصابع لا توضع كاملة، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء، وهذا يسمى المجاز المرسل في علم البيان، ومثله قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [19]:{يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} . {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} أي: غطوا رؤوسهم بثيابهم، وسدوا آذانهم؛ لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، أو لئلا يروني، والظاهر: أن ذلك حقيقة، فقد سدوا مسامعهم؛ حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه، وتغطوا بثيابهم؛ حتى لا ينظروا إليه، كراهة وبغضا من سماع النصح، ورؤية الناصح. ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عما دعاهم إليه، فهم بمنزلة من سد سمعه، ومنع بصره. {وَأَصَرُّوا} أي:
استمروا على الكفر، والطغيان، والفساد. قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: الإصرار: من أصر الحمار على العانة، إذا أصر أذنيه، وأقبل عليها يكدمها، ويطردها. استعير للإقبال على المعاصي، والإكباب عليها. {وَاسْتَكْبَرُوا} أي: أعرضوا عن الإيمان، واستنكفوا عن اتباع الحق، والانقياد له، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط عنادهم، وعتوهم، واستكبارهم.