الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البيّنة
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (لم يكن) وتسمى سورة (البينة) وهي مدنية في قول ابن عباس، والجمهور. وقيل:
مكية في قول يحيى بن سلام، وهي ثمان آيات. وقيل: تسع. وأربع وتسعون كلمة، وثلاثمئة وتسعة وتسعون حرفا، وورد في فضلها ما روي عن أنس-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ ابن كعب-رضي الله عنه: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ قال:
وسماني لك؟! قال: «نعم» . فبكى. خرجه البخاري، ومسلم. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
وفيه من الفقه: قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع، لئلا يأنف أحد من التعلم، والقراءة على من دونه في المنزلة. انتهى. وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ-رضي الله عنه. هذا؛ ومناسبة السورة لما قبلها: أنه لما ذكر إنزال القرآن في ليلة القدر. وقال في السورة التي قبلها: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ذكر هنا: أن الكفار لم يكونوا منفكين مما هم عليه؛ حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم من الصحف المطهرة؛ التي أمر بقراءتها. انتهى.
جمل نقلا من البحر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل عليه من ربه، {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ:} يعني اليهود، والنصارى، والمشركين: وهم عبدة الأوثان؛ الذين كانوا في مكة، وحولها، وفي المدينة وما حولها من قبائل العرب، وذلك: أن الكفار كانوا جنسين: أحدهما أهل كتاب، وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود؛ فقولهم: عزير ابن الله، وتشبيههم الله بخلقه، وأما النصارى فقولهم: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، وغير ذلك، والثاني:
المشركون أهل الأوثان؛ الذين لا ينتسبون إلى كتاب، فذكر الله الجنسين في الآية الكريمة.
{مُنْفَكِّينَ} أي: منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. وقيل:{مُنْفَكِّينَ} زائلين، والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا؛ أي: ما زلت، والمضارع: لا ينفك. قال طرفة في معلقته رقم [91]: [الطويل]
فآليت لا ينفكّ كشحي بطانة
…
لعضب رقيق الشّفرتين مهنّد
وقال ذو الرّمّة-وهو الشاهد رقم [116] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
حراجيج ما تنفكّ إلا مناخة
…
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
{حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: حتى أتتهم، لفظه مضارع، ومعناه الماضي. والبينة: الحجة الواضحة، والمراد: الرسول صلى الله عليه وسلم أتاهم بالقرآن، فبين لهم ضلالتهم، وشركهم، وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا، فأنقذهم الله من الجهالة، والضلالة، ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم. والآية فيمن آمن من الفريقين.
قال الواحدي في بسيطه: وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما، وتفسيرا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الإمام فخر الدين في تفسيره: إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها.
وأنا أقول: وجه الإشكال: أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة؛ التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا؟ لكنه معلوم؛ إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول. ثم إن كلمة {حَتّى} لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي: أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال بعد ذلك: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهذا يقتضي: أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى، والثانية تناقض في الظاهر، وهذا منتهى الإشكال في ظني. قال: والجواب عنه من وجوه:
أولها، وأحسنها الذي لخصه صاحب الكشاف، وهو: أن الكفار من الفريقين: أهل الكتاب، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود؛ الذي هو مكتوب في التوراة، والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال:{وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} أي: أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق، ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى! فيرزقه الله الغنى، فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار. فيذكره ما كان يقول توبيخا، وإلزاما.
قال الإمام فخر الدين: وحاصل الجواب يرجع إلى حرف واحد، وهو أن قوله تعالى:«لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة» مذكور حكاية عنهم. {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} إخبار عن الواقع، والمعنى: الذي وقع كان بخلاف ما ادّعوا.
وثانيها: أن تقدير الآية: «لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم؛ وإن جاءتهم البينة» .
وعلى هذا التقدير يزول الإشكال، إلا أن تفسير لفظة:«حتى» بهذا ليس من اللغة في شيء.
وذكر وجوها أخر، وقال: والمختار هو الأول.
الإعراب: {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُنِ:} مضارع ناقص مجزوم ب: {لَمْ} .
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع اسم (يكن). {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، التقدير: كفروا بالله، ورسوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و {أَهْلِ:} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {وَالْمُشْرِكِينَ:} الواو: حرف عطف.
(المشركين): معطوف على {أَهْلِ} مجرور مثله. {مُنْفَكِّينَ:} خبر {يَكُنِ} منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وهو اسم فاعل ناقص واسمه ضمير مستتر فيه، والخبر محذوف. انظر تقديره في الشرح. وقيل: هو تام، فلا يحتاج لتقدير خبر. {حَتّى:} حرف غاية، وجر بعدها «أن» مضمرة. {تَأْتِيَهُمُ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة، والهاء مفعول به. {الْبَيِّنَةُ:}
فاعله، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{حَتّى،} والجار، والمجرور متعلقان ب:{مُنْفَكِّينَ} .
{رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}
الشرح: {رَسُولٌ مِنَ اللهِ} أي: البينة رسول مبعوث من الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. {يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً} أي: يقرأ الرسول صحفا مطهرة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: من الباطل، والكذب، والزور، والشك، والنفاق، والضلالة. فهو كقوله تعالى في سورة (عبس):{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ} فتطهير الصحف كناية عن كونها ليس فيها باطل على الاستعارة المصرحة، أو المكنية. وقيل:{مُطَهَّرَةً} لا يمسها إلا المطهرون، كما في سورة (الواقعة) رقم [79]. و (الكتب) بمعنى المكتوبات في القراطيس، فالقرآن يجمع ثمرة كتب الله المتقدمة عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان أميا؛ لكنه لما تلا مثل ما في الصحف، كان كالتالي لها، فصح نسبة تلاوة الصحف إليه، وهو أمي لا يقرأ، ولا يكتب، ولا يقرأ من كتاب، وإنما يقرأ بالوحي عن ظهر قلب. قال الصاوي-رحمه الله تعالى-: المراد بالصحف: القراطيس؛ التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب: الأحكام المكتوبة فيها. انتهى. ومعنى {قَيِّمَةٌ} مستقيمة ناطقة بالحق، والعدل، معتدلة، لا إفراط فيها، ولا تفريط.
قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [2] في وصف القرآن الكريم: {قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً..} . إلخ. هذا؛ وأصل {قَيِّمَةٌ:} قيومة، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء.
الإعراب: {رَسُولٌ:} بدل من {الْبَيِّنَةُ} بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على سبيل المبالغة.
وقال الفراء: خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي، أو هو رسول. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {رَسُولٌ} أو بمحذوف صفة له، وأجيز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من {صُحُفاً} التقدير: يتلو صحفا مطهرة منزلة من الله، يعني كانت الحال في الأصل صفة للنكرة، فلما تقدمت عليها نصبت حالا. {يَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل يعود إلى رسول، والجملة الفعلية في محل رفع صفة {رَسُولٌ}. {صُحُفاً:} مفعول به. {مُطَهَّرَةً:} صفة {صُحُفاً} . {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {كُتُبٌ:} مبتدأ مؤخر.
{قَيِّمَةٌ:} صفة {كُتُبٌ،} والجملة الاسمية في محل نصب صفة {صُحُفاً،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، أو في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُطَهَّرَةً} . هذا؛ ويجوز أن يكون النعت، أو الحال الجار، والمجرور فقط، و (كتب) فاعل به. وهو الأحسن.
انتهى. سمين.
{وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)}
الشرح: أي: وما اختلف اليهود، والنصارى في شأن محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة، الدالة على صدق رسالته، وأنه الرسول الموعود به في كتبهم. وقيل: هو القرآن الجائي به معجزة له. والآية مسوقة لغاية التشنيع على أهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم، ببيان: أن تفرقهم لم يكن إلا بعد وضوح الحق. وتبين الحال، وانقطاع الأعذار بالكلية، كقوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} الآية رقم [19] من سورة (آل عمران) وإنما خص أهل الكتاب هنا بالذكر؛ لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوته، بما يجدون في كتبهم من ذكره. انتهى. صفوة التفاسير.
وفي البيضاوي: هو كقوله تعالى: {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} رقم [89] سورة (البقرة). وإفراد أهل الكتاب بالذكر بعد الجمع بينهم وبين المشركين، للدلالة على شناعة حالهم. وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى انتهى. بتصرف. وبالجملة فقد تفرق أهل الكتاب فرقا، وشيعا كثيرة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبعده. وخذ ما يلي:
عن معاوية-رضي الله عنه-قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ألا إنّ من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وزاد فيه «وإنه سيخرج في أمتي أقوام، تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه
عرق، ولا مفصل إلاّ دخله». ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه، وزاد فيه. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟! قال: «ما أنا عليه وأصحابي» . هذا؛ وفي رواية قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين
…
إلخ».
هذا؛ وأصول الفرق الإسلامية: ستة: حرورية، قدرية، جهمية، مرجئة، رافضة، جبرية، وانقسم كل منها إلى اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين، وإنما سموا فرقا؛ لأنهم فارقوا الإجماع، والحديث الشريف بجميع رواياته معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إخبار عن غيب قد وقع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [153] من سورة (الأنعام) ففيها بحث قيّم.
وهذا؛ وأصل {أُوتُوا:} «أوتيوا» فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء، وبقيت الواو، فصار (أوتوا) ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو.
هذا؛ والكتاب في اللغة: الضم، والجمع، وسميت الجماعة من الجيش: كتيبة؛ لاجتماع أفرادها على رأي واحد، وخطة واحدة، كما سمي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضم الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه، ويرتبه، وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من العلم، مشتملة على أبواب، وفصول ومسائل غالبا. ورحم الله من يقول في مدح الكتب:[الطويل]
لنا جلساء ما يملّ حديثهم
…
ألبّاء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
…
وعقلا وتأديبا ورأيا مسدّدا
فإن قلت أحياء فما أنت كاذب
…
وإن قلت أموات فلست مفنّدا
وإني أتمثل بقول الآخر: [الخفيف]
ما تطعّمت لذّة العيش حتّى
…
صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس عندي شيء ألذّ من ال
…
علم فلم أبتغ سواه أنيسا
إنّما الذلّ في مخالطة النّا
…
س فدعهم وعش عزيزا رئيسا
ورحم الله من يقول: [الطويل]
وقائلة أتلفت في الكتب ما حوت
…
يمينك من مال فقلت دعيني
لعلّي أرى فيها كتابا يدلّني
…
لأخذ كتابي في غد بيميني
ورحم الله من يقول: [الوافر]
كتابي فيه بستاني وروحي
…
وفيه سمير نفسي والنّديم
يسالمني وكلّ الناس حرب
…
ويسليني إذا عرت الهموم
ويحيي لي تصفّح صفحتيه
…
كرام الناس إن فقد الكريم
إذا اعوجّت عليّ طريق قومي
…
فلي فيه طريق مستقيم
وبالجملة: فالكتاب هو نعم الذخر، والعدة، والشغل، والحرفة، جليس لا يضرك، ورفيق لا يملّك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر، إن ألفته؛ خلد على الأيام ذكرك، وإن درسته؛ رفع بين الخلائق قدرك.
الإعراب: {وَما:} الواو: واو الحال، أو حرف استئناف. (ما): نافية. {تَفَرَّقَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} والرابط: الواو فقط، أو هي مستأنفة، وهو الأقوى. {أُوتُوا:}
فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول به الأول.
{الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ بَعْدِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال. {ما:}
مصدرية. {جاءَتْهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به، والتاء للتأنيث حرف لا محل له.
{الْبَيِّنَةُ:} فاعله، و {ما} والفعل (جاء) في تأويل مصدر في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه.
الشرح: {وَما أُمِرُوا} أي: أمر الذين تفرقوا بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وهم: اليهود، والنصارى أمروا في التوراة، والإنجيل. {إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ} أي: أن يعبدوا الله، ويوحدوه وحده، ولا يشركوا معه أحدا في العبادة، ويخلصوا له في الطاعة. {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ:} انظر {الدِّينَ} في الآية رقم [17] من سورة (الانفطار). هذا؛ والعبادة: غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذا يحرم السجود لغير الله تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: «أنا والإنس في نبأ عظيم! أخلق ويعبد غيري، وأرزق؛ ويشكر غيري» . هذا؛ وقد أمر الله بالإخلاص؛ لأنه رأس العبادات في التوحيد، واتباع الأوامر، واجتناب النواهي، كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة (الزمر) رقم [3]:{أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} أي: من الشرك والرياء والنفاق. وقال جل ذكره في سورة (غافر) رقم [14]: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (14) وخذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:
فعن أنس-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ فارقها؛ والله عنه راض» . رواه ابن ماجه، والحاكم.
وعن ثوبان-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء» . رواه البيهقي. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» . رواه ابن حبان. وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الرياء وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تزيّن بعمل الآخرة وهو لا يريدها، ولا يطلبها لعن في السموات والأرض» . رواه الطبراني في الأوسط، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدّنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من الّلين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله عز وجل: أبي يفترّون أم عليّ يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيران» . رواه الترمذي. والأحاديث في ذلك في الترغيب والترهيب للحافظ المنذري-رحمه الله تعالى-كثيرة.
{حُنَفاءَ:} مسلمين. وقيل: مخلصين. وهو جمع، مفرده: حنيف. وتكرر الكلام على إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بأنه كان حنيفا، وفسر بحقه بأنه مائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. قال الشاعر:[الوافر]
ولكنّا خلقنا إذ خلقنا
…
حنيفا ديننا عن كلّ دين
هذا؛ والحنف: الميل في القدمين. هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: ولفظة «حنفاء» من الأضداد تقع على الاستقامة، وعلى الميل. أقول: وهذا يكون بالمعنى المأخوذ منه، وهو الميل، وقد ذكرت لك فيما مضى: أن الفعل: مال يتغير معناه بتغير الجار تقول: ملت إليه، وملت عنه.
وفي الخطيب: {حُنَفاءَ:} مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصل الحنف في اللغة الميل، وخصه العرب بالميل إلى الخير، وسمّوا الميل إلى الشر إلحادا، والحنيف المطلق هو الذي يكون متبرئا عن أصول الملل الخمسة: اليهود، والنصارى، والصابئين، والمجوس، والمشركين، وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات، وعن توابعها من الخطأ، والنسيان إلى العمل الصالح، وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات، وهو المقام الأول من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله، وهو ما لا يعني إلى ما يعني، وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول، وهو مقام الزهد، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص الناظر أحدها إلى الحق، والثاني إلى الخلق. انتهى.
وفي الرازي: واعلم: أن الكمال في كل شيء إنّما يحصل إذا حصل الأصل، والفرع معا.
فقوم بالغوا بالأعمال التي هي الفروع، ولم يحكموا الأصول، وهم اليهود، والنصارى،
والمجوس، وقوم حصّلوا الأصول دون الفروع. وهم المرجئة؛ الذين قالوا: لا يضر الذنب مع الإيمان. والله خطّأ الفريقين في هذه الآية، وبين أنه لا بدّ من الإخلاص في قوله:{مُخْلِصِينَ} ولا بدّ من العمل في قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ} انتهى. كله من الجمل.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: يؤدوها على الوجه الأكمل من إتمام ركوعها، وسجودها، وخشوعها، وطهارتها في أوقاتها. ومن لم يؤدها على الوجه الأكمل يقال: صلى، ولا يقال:
أدى الصلاة. {وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ} أي: يعطوها لمستحقيها كاملة في آخر حولها. {وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: الملة المستقيمة، والشريعة المتبوعة. والإشارة إلى الإخلاص، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وإنما أضاف (الدين) إلى {الْقَيِّمَةِ،} وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث {الْقَيِّمَةِ} ردا إلى الملة. وقيل: الهاء في {الْقَيِّمَةِ} للمبالغة كعلامة. وقيل: (القيمة): الكتب التي جرى ذكرها؛ أي: وذلك دين أصحاب الكتب القيمة. وقيل: {الْقَيِّمَةِ} جمع: القيم، والقيم والقائم:
واحد. قال تعالى في سورة (يوسف) رقم [40]، وفي سورة (التوبة) رقم [36] وفي سورة (الروم) رقم [30]:{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ومعنى {الْقَيِّمُ} المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. وانظر سورة (الكهف) رقم [2] وانظر شرح {الصَّلاةَ} و {الزَّكاةَ} في الآية رقم [13] من سورة (المجادلة).
هذا؛ وأصل (يقيمون): «يؤقومون» حذفت الهمزة للتخفيف، حملا على المبدوء بهمزة المضارعة، مثل أأقوم الذي حذفت همزته الثانية للتخلص من ثقل الهمزتين، فصار:(يقومون) ثم يقال في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو، وهي الكسرة إلى القاف قبلها، فصار:
(يقومون) ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهذا الإعلال يجري في كل فعل ثلاثي، مزيدة الهمزة في أوله، مثل: أجاب يجيب، وأكرم يكرم
…
إلخ، كما حذفت الهمزة الثانية من يؤمنون؛ لأن ماضيه آمن، وأصله: أأمن والمضارع يؤأمن، فحذفت من الأول، وتسهل في الثاني، وقد يجيء على القياس، وهو الأصل المهجور، كما في الثاني، كما في قول أبي حيان الفقعسي:[الرجز]
فإنّه أهل لأن يؤكرما
ولا تنس: أن هذه الهمزة المزيدة، تحذف من اسمي الفاعل، والمفعول المأخوذين من الفعل الثلاثي المزيدة فيه الهمزة، وذلك مثل: مكرم، ومكرم، والقياس مؤكرم ومؤكرم، وقس على ذلك، وأصل (يؤتون):(يؤأتون)؛ لأن الماضي: آتى، فحذفت الهمزة لثقل الهمزتين، فصار:(يؤتون).
الإعراب: {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {أُمِرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6] من
سورة (المنافقون). {إِلاّ:} حرف حصر. {لِيَعْبُدُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة بعد لام التعليل والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار، والمجرور متعلقان بالفعل {أُمِرُوا} وهما في محل نصب مفعوله الثاني. هذا؛ ويجوز اعتبار اللام صلة، والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به ثان محلا، وفي محل جر لفظا باللام، وهناك قول ثالث: أن اللام بمعنى: «أن» الناصبة، وأنها ناصبة للفعل بنفسها. قال الفراء: العرب تجعل لام كي في موضع «أن» في (أراد، وأمر). وإليه ذهب الكسائي أيضا.
هذا؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [26]: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ،} والآية رقم [71] من سورة (الأنعام): {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} والآية رقم [8] من سورة (الصف):
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ،} وأيضا الآية رقم [33] من سورة (الأحزاب). ومثل ذلك كله قول كثير عزة-وهو الشاهد رقم [394] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما
…
تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
{اللهَ:} منصوب على التعظيم. {مُخْلِصِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه. {اللهَ:} جار ومجرور متعلقان به. {الدِّينَ:} مفعول به ل: {مُخْلِصِينَ} . {حُنَفاءَ:} حال ثانية، أو حال من الضمير المستتر ب:{مُخْلِصِينَ} فهي حال متداخلة. {وَيُقِيمُوا} و {وَيُؤْتُوا:} معطوفان على (يعبدوا) منصوبان مثله. {الصَّلاةَ} و {الزَّكاةَ:}
مفعول بهما. {وَذلِكَ:} الواو: حرف استئناف. (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الدِّينَ:} خبره، وهو مضاف، و {الْقَيِّمَةِ:} مضاف إليه، وهناك صفة محذوفة، التقدير: دين الملة القيمة، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال. ولا وجه له.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ: هذا شروع في بيان مقر الأشقياء، وجزاء السعداء، وحكم على الكفار من الفريقين بأمرين: الخلود في النار، وكونهم شرّ البرية، وبدأ بأهل الكتاب؛ لأنهم كانوا يطعنون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فجنايتهم أعظم؛ لأنهم أنكروه مع العلم به في كتبهم، و {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} ظاهره العموم. وقيل: شر البرية الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر من هؤلاء، كفرعون، وعاقر ناقة صالح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. انتهى. جمل.