الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائدة:
هناك مداراة، ومداهنة، فالمداراة: التلطف بالإنسان لتستخرج منه الحق، أو ترده عن الباطل. والمداهنة: التلطف به لتقره على باطله، وتتركه على هواه. فالمدارة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق. وخذ قول زهير من معلقته رقم [55]:[الطويل]
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
…
يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم
وخذ هذين البيتين، وتأمل ما فيهما من الجناس التام:[السريع]
إذا رماك الدهر في معشر
…
قد أجمع الناس على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم
…
وأرضهم ما دمت في أرضهم
الإعراب: {فَلا:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ربك عالما بأحوال الناس من ضال، ومهتد؛ فلا تطع. ولذا قال الجمل: الفاء لترتيب النهي على ما ينبئ عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالهم، أو على جميع ما فصل من أول السورة. انتهى.
(لا): ناهية جازمة. {تُطِعِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» .
{الْمُكَذِّبِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب الشرط المقدر ب:«إذا» ، وكذا إن اعتبرتها مستأنفة. {وَدُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَوْ:} حرف مصدري. {تُدْهِنُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:
«أنت» ، و (لو) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ودوا مداهنتك. والجملة الفعلية تعليل للنهي، لا محل لها. {فَيُدْهِنُونَ:} (الفاء): حرف عطف.
(يدهنون): فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهم مدهنون، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل الجواب للتمني، وإن اعتبرت الفعل وحده معطوفا على ما قبله؛ فيكون داخلا في حيّز {لَوْ} .
الشرح: المشهور: أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، الذي كان يسمى: ريحانة قريش، وهو أحد الرجلين اللذين قيل فيهما في سورة (الزخرف) قوله تعالى:{وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وفيه نزل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً} الآيات من سورة (المدثر). وقيل: المراد به هنا: الأخنس بن شريق. وقيل: المراد به: الأسود بن عبد يغوث. والمعتمد الأول، فقد وصفه الله بعشر صفات قبيحة، كما ستقف عليه.
{وَلا تُطِعْ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل بأن لا يطيع، ولا يصغي لكل من يتصف بالصفات الذميمة المذكورة. {كُلَّ حَلاّفٍ:} كثير الحلف بالله، وأقبح منه الحلف بالطلاق، وهو شائع في هذه الأيام، وكثير. {مَهِينٍ:} حقير ذليل، فهو لمهانته، وحقارته يكثر الحلف ليصدق بقوله، ويرتفع شأنه، ومكانته بين الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كثرة الحلف، وشدد النكير على الذين يكثرون الحلف بالله، ولا سيما التجار، وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة يبغضهم الله: البيّاع الحلاّف، والفقير المختال، والشّيخ الزّاني، والإمام الجائر» . رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلف منفقة للسّلعة، ممحقة للكسب» . رواه البخاري، ومسلم. وعن عبد الرحمن بن شبل-رضي الله عنه-قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ التّجّار هم الفجّار» . قالوا: يا رسول الله! أليس قد أحلّ الله البيع؟ قال: «بلى، ولكنّهم يحلفون فيأثمون، ويحدّثون، فيكذبون» . رواه أحمد بإسناد جيد.
وعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم» . قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقلت:
خابوا وخسروا! ومن هم يا رسول الله؟! قال: «المسبل، والمنّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وخذ قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [223]:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وانظر ما ذكرته في سورة (المائدة) رقم [89] من النكير على الذين يفتون في كفارة اليمين بإعطاء مدّ قمح للمسكين. {هَمّازٍ:} عياب، طعان، مغتاب، قال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} سورة (الهمزة). وانظر ما أذكره هناك إن شاء الله تعالى. قال أبو العالية، وعطاء بن أبي رباح، والحسن: الهماز: الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز: الذي يذكرهم في مغيبهم. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقيل: هما سواء. قال الشاعر: [البسيط]
تدلي بودّ إذا لاقيتني كذبا
…
وإن أغب عنك كنت الهامز اللّمزه
{مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي: يمشي بين الناس بالنميمة ليفسد بينهم، وذلك بنقل الكلام من شخص إلى آخر على وجه السعاية، والإفساد بينهم، وهي من شر ما يتصف بها إنسان. وقد شدد الرسول صلى الله عليه وسلم النكير على من يتصف بتلك الصفة الدنيئة الوضيعة. وخذ ما يلي:
فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والقيام؟!» قالوا: بلى! قال: «إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» .
رواه أبو داود، والترمذي، وصححه، وزاد فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدّين» . وعن عبد الرحمن بن غنم-رضي الله عنه-يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم:
«خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة الباغون للبراء العنت» . رواه الإمام أحمد عن شهر، عنه. وعن العلاء بن الحارث-رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الهمّازون، واللّمازون، والمشّاؤون بالنميمة الباغون للبراء العنت يحشرهم الله في وجوه الكلاب» . رواه ابن حبان، وقال الشاعر:[الطويل]
ومولى كبيت النّمل لا خير عنده
…
لمولاه إلاّ سعيه بنميم
{مَنّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي: للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يمنع ولده، وعشيرته عن الإسلام، يقول: لئن دخل واحد منكم في دين محمد؛ لا أنفعه بشيء أبدا! وأولاده كانوا عشرة، منهم سيف الله، وسيف رسوله، وقد سبقه إلى الإسلام أخوه الوليد المسمى باسم أبيه. هذا؛ والخير يكون بمعنى المال، كما في قوله تعالى في سورة (العاديات):
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . ويكون بمعنى الإسلام، كما رأيت في أحد تفسيري الآية، ويكون بمعنى الطعام، كما في قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (القصص) رقم [24]:{رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} . ويكون بمعنى القوة، كما في قوله تعالى في سورة (الدخان) رقم [37]:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} . ويكون بمعنى العبادة والطاعة كقوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [73]: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ} .
{مُعْتَدٍ:} مجاوز حده في الظلم، والباطل، والاعتداء، والفجور. {أَثِيمٍ:} كثير الآثام، فهو فعيل بمعنى فعول، صيغة مبالغة، مثل حلاّف، وهمّاز، ومشّاء، ومنّاع. {عُتُلٍّ} أي: غليظ جاف. وقيل: هو الفاحش، السيئ الخلق. وقيل: هو الشديد في الخصومة بالباطل. وقيل: هو الشديد في كفره. وقيل: هو الأكول الشروب القوي الشديد، ولا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا في النار دفعة واحدة. وخذ ما يلي:
روى الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-عن حارثة بن وهب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنّة؟ كلّ ضعيف متضعّف، لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أنبئكم بأهل النّار؟ كلّ جوّاظ جعظريّ مستكبر» . فالجواظ: الأكول الشروب. والجعظري: الشديد الغليظ، ومتضعف بفتح العين، وكسرها. {زَنِيمٍ:} هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من أصلهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، قال الشاعر:[الوافر]
زنيم ليس يعرف من أبوه
…
بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم
وقال حسان بن ثابت-رضي الله عنه-يذم بعض كفار قريش: [الطويل]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم
…
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الزنيم الدّعي الفاحش اللئيم، وأنشد قول القائل:[الطويل]
زنيم تداعاه الرّجال زيادة
…
كما زيد في عرض الأديم الأكارع
هذا؛ وقد قيل: إن أم الوليد بغت به، ولم يعرف حتى نزلت الآيات. والنطفة إذا خبثت؛ خبث الناشئ منها، روي: أنه دخل على أمّه، وقال لها: إن رب محمد وصفني بعشر صفات وجدت تسعا فيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقة الأمر، وإلا ضربت عنقك، فقالت: إن أباك عنّين، وخفت أن يموت، فيصل ماله إلى غير ولده، فدعوت راعيا إلى نفسي، فأنت من ذلك الراعي. قال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحدا، ولا ذكر من عيوبه، مثل ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة، فألحق به عارا، لا يفارقه في الدنيا، ولا في الآخرة.
روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة ولد زنى، ولا ولده، ولا ولد ولده» . وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أولاد الزّنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة، والخنازير» . وقالت ميمونة أم المؤمنين-رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى، فإذا فشا فيهم ولد الزّنى، أوشك أن يعمهم الله بعقاب» .
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: أما الحديث الأول، والثاني، فما أظن أن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة-رضي الله عنها؛ ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش-رضي الله عنها-زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه؛ يقول: «لا إله إلاّ الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» . وحلّق بأصبعيه الإبهام، والتي تليها، قالت: فقلت يا رسول الله! أنهلك؛ وفينا الصالحون. قال: «نعم إذا كثر الخبث» . أخرجه البخاري أيضا، وكثرة الخبث: ظهور الزنى، وأولاد الزنى. انتهى.
أقول: ما جاء في الحديثين الأولين، يظهر: أنه لا أصل له؛ لأن ولد الزنى لا ذنب له، وقد يكون في حياته من المؤمنين الصادقين، الذين يعملون الصالحات، ويجتنبون المنهيات، فكيف يحشرون في صورة القردة، والخنازير؟ وكيف لا يدخلون الجنة؛ إن هم أطاعوا الله، واهتدوا بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟!.
قالوا: لما عاب الوليد النبيّ صلى الله عليه وسلم كاذبا باسم واحد، وهو الجنون؛ سماه الله صادقا بعشرة أسماء، فإن كان من عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة؛ كان من فضله أنّ من صلى عليه واحدة؛ صلّى الله عليه عشرا. انتهى. نسفي. هذا؛ وقيل: إن (بعد) بمعنى: «مع» أي: مع ذلك زنيم. ولا بأس به.
تنبيه: في الآية الكريمة مسألة بيانية لم يتعرض لها المفسرون ألبتة، وهي ما إذا وقعت «كل» في حيز النفي؛ كان النفي موجها إلى الشمول خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك:(ما جاء كلّ القوم، ولم آخذ كلّ الدراهم، وكلّ الدراهم لم آخذ). وإن وقع النفي في حيزها؛ اقتضى السلب عن كل فرد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين: أنسيت، أم قصرت الصلاة يا رسول الله!؟ «كلّ ذلك لم يكن». وقد يشكل على قولهم في القسم الأول قوله تعالى في هذه السورة:{وَلا تُطِعْ..} . إلخ، ومثلها في سورة (البقرة) رقم [276]، وفي سورة (الحديد) رقم [23]، وفي سورة (لقمان) رقم [18] حيث وقعت (كل) في حيز النفي، فتفيد: أن المنفي الشمول، وأن البعض ثابت له المحبة من الله.
والجواب عن الآيات: أن دلالة المفهوم إنما يعول عليها عند عدم المعارض، وهو هنا موجود إذ دل الدليل، وهو الإجماع على تحريم الاختيال، والفخر، والحلف، والكفر مطلقا، ومستند هذا الإجماع: الأحاديث الشريفة الكثيرة. هذا؛ ويعبر عما تقدم بسلب العموم وعموم السلب.
الإعراب: {وَلا:} (الواو): حرف عطف. (لا): ناهية جازمة. {تُطِعْ:} فعل مضارع، مجزوم ب:(لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {حَلاّفٍ} مضاف إليه، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: كل شخص حلاف. {مَهِينٍ،} {هَمّازٍ،} {مَشّاءٍ:} صفات للموصوف المحذوف. {بِنَمِيمٍ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مَشّاءٍ} . {مَنّاعٍ:} صفة أخرى. {لِلْخَيْرِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مَنّاعٍ} . {مُعْتَدٍ،} {أَثِيمٍ،} {عُتُلٍّ:} صفات للموصوف المحذوف.
{بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق ب: {زَنِيمٍ} الذي هو الصفة العاشرة للموصوف المحذوف، و {بَعْدَ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.
الشرح: المعنى: لأن كان صاحب مال وبنين يفجر، ويفتري ويقول في القرآن ما يقول، ويزعم أنه أساطير الأولين، وكان الأحرى به أن يقابل النعمة بالشكر، لا بالجحود والتكذيب وقرئ (أن) بفتح الهمزة وكسرها، كما قرئ «(أأن)» على الاستفهام. إذا تتلى عليه قال
…
إلخ: أي: إذا قرئ عليه القرآن قال: مستهزئا ساخرا: إنها خرافات، وأباطيل المتقدمين اختلقها محمد ونسبها إلى الله. {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ:} هذا وعيد وتهديد من الله لذلك الكافر الفاجر، والمعنى: سنجعل له علامة على خرطومه، أي: أنفه، ونسود وجهه في الآخرة، فيعرف بسواد وجهه، كما قال تعالى
في سورة (الرحمن): {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ} وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبّة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبّة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء؛ أي: ألصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير:[الكامل]
لمّا وضعت على الفرزدق ميسمي
…
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
قال الزمخشري: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه، لتقدمه له، ولذلك جعلوه مكان العز، والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف، وحمي أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه. فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال، والإهانة؛ لأن السمة على الوجه شين وإذلال، فكيف بها على أكرم موضع منه؟!. انتهى.
وفيه استعارة فائقة حيث استعار الخرطوم للأنف؛ لأن أصل الخرطوم للفيل، واستعارته؛ لأنف الإنسان تجعله في غاية الإبداع؛ لأن الغرض الاستهانة به، والاستخفاف.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معنى {سَنَسِمُهُ:} سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وهذا هو المعتمد. هذا؛ وانظر شرح {أَساطِيرُ} في سورة (الأحقاف) رقم [17]، أو في سورة (المطففين) رقم [13]. وانظر شرح {الْأَوَّلِينَ} فيهما أيضا.
الإعراب: {أَنْ} حرف مصدري ونصب. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل نصب ب: {أَنْ،} واسمه ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى الموصوف بالصفات المتقدمة.
{ذا:} خبر {كانَ} منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذا:} مضاف، و {مالٍ:} مضاف إليه. {وَبَنِينَ:} الواو: حرف عطف. (بنين): معطوف على {مالٍ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، و {أَنْ} و {كانَ} في تأويل مصدر في محل جر بلام تعليل محذوفة، التقدير: لكونه. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: يكفر؛ لكونه ذا مال وبنين. ودل على هذا المحذوف قوله تعالى: {إِذا تُتْلى..} . إلخ، ولا يجوز تعليق الجار والمجرور ب:{تُتْلى} ولا ب: {قالَ؛} لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها؛ لأنها مضافة إلى الجملة التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف، والفعل {قالَ} جواب الجزاء، ولا يعمل فيما قبل الجزاء، وعلى قراءة الاستفهام (أأن) لا يتغير التقدير، والتعليق، كما ذكرت، وأما قراءة كسر الهمزة فتكون:«(إن)» شرطية، و {كانَ} فعل شرطها، وجوابها محذوف، التقدير:
إن كان كذا؛ يكفر، ويجحد. دل عليه ما بعده، وعليه فالجملة الشرطية مستأنفة، ومرتبطة بما بعدها. هذا؛ وأجاز بعضهم تعليق {أَنْ كانَ..}. إلخ بعد تأويله بمصدر بقوله:{مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ} وأجاز أبو علي تعليقه ب: {عُتُلٍّ،} وهذان القولان ضعيفان. تأمل.
{إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {تُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {آياتُنا:}
نائب فاعل {تُتْلى،} و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الموصوف بالصفات السابقة، {أَساطِيرُ:} خبر لمبتدأ محذوف التقدير: هي أساطير، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {أَساطِيرُ:} مضاف، و {الْأَوَّلِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون بدل من التنوين في الاسم المفرد. {سَنَسِمُهُ:}
(السين): حرف تنفيس، واستقبال. (نسمه): فعل مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. {عَلَى الْخُرْطُومِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة.
الشرح: {إِنّا بَلَوْناهُمْ:} يريد أهل مكة. والابتلاء: الاختبار، والامتحان، يكون بالخير، والشر. قال تعالى في حق بني إسرائيل:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} سورة (الأعراف) رقم [168]. والمعنى: أعطينا أهل مكة أموالا، وأولادا؛ ليشكروا، لا ليبطروا، فلما بطروا، وعادوا محمدا صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع، والقحط؛ حتى أكلوا الجيف، وأوراق الشجر، وذلك حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» . {كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ} أي: المعروف خبرها عندهم.
روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: {الْجَنَّةِ} بستان في اليمن، يقال له: الضروان، دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، وكان لرجل يؤدي حق الله فيه، فمات فورثه أولاده الثلاثة، وكان الأب يترك للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل إذا طرح من فوق النخل على البساط، وكل شيء سقط من المنجل إلى البساط، فهو أيضا للمساكين، وإذا حصدوا زرعهم، فكل شيء تعداه المنجل، فهو للمساكين أيضا، وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا، فلما مات الأب، وورثه بنوه الثلاثة، قالوا: والله إن المال قليل، وإن العيال كثير، وإنما كان هذا الأمر يفعله الأب لمّا كان المال كثيرا، والعيال قليلا، فأما إذا قل المال، وكثر العيال؛ فإنا لا نستطيع أن نفعل ما كان يفعله أبونا، فتحالفوا بينهم يوما أن يغدوا غدوة قبل خروج الناس من بيوتهم، فذلك قوله تعالى:{إِذْ أَقْسَمُوا} أي: تحالفوا. {لَيَصْرِمُنَّها:} ليقطعن ثمر الجنة.
والصرم: القطع. قال عنترة من معلقته رقم [21]: [الكامل]
هل تبلغنّي دارها شدنيّة
…
لعنت بمحروم الشّراب مصرّم
أراد بشدنية: ناقته التي يركبها في أسفاره، وأراد بمصرم: مقطوع لبنها. {مُصْبِحِينَ} أي: إذا أصبحوا قبل أن يخرج إليهم المساكين، فلا يعلمون بقطع ثمرها. {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يتركون شيئا للمساكين من ثمر الجنة، وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: ولا يقولون: إن شاء الله. وسمي استثناء، وإن كان شرطا صورة؛ لأنه يؤدى مؤدّى الاستثناء من حيث: إن معنى قولك: لأخرجن إن شاء الله، لا أخرج إلا أن يشاء الله، والآيات التالية تشرح الواقعة، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج: أن أبا جهل قال يوم بدر:
خذوهم أخذا، فاربطوهم في الحبال، ولا تقتلوا منهم أحدا، فنزلت:{إِنّا بَلَوْناهُمْ..} . إلخ، يقول في قدرتهم عليهم كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة. انتهى. أسباب النزول للسيوطي، وإذا اعتمدنا: أن السورة مكية، لا يبقى لهذا الكلام معنى. تأمل.
الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا) اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {بَلَوْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل على الاعتبارين. {كَما:} (الكاف): حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {بَلَوْنا:} فعل، وفاعل. {أَصْحابَ:} مفعول به، وهو مضاف إليه، و {الْجَنَّةِ} مضاف إليه، و (ما) المصدرية والفعل {بَلَوْنا} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، التقدير: بلوناهم بلاء مثل بلائنا أصحاب الجنة. وإن اعتبرت (ما) موصولا اسميا، فيكون التقدير: بلوناهم بلاء مثل الذي بلونا به أصحاب الجنة. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم، وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها.
{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل {بَلَوْنا،} وقال الجمل: {إِذْ} تعليلية، أو ظرفية بنوع تسمح؛ لأن الإقسام كان قبل ابتلائهم. {أَقْسَمُوا:}
فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{لَيَصْرِمُنَّها:} (اللام): واقعة في جواب القسم. (يصرمنها): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة، المدلول عليها بالضمة فاعله، (وها): مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها. {مُصْبِحِينَ:} حال من فاعل {لَيَصْرِمُنَّها} منصوب، وعلامة نصبه الياء. {وَلا:} الواو: حرف عطف، أو حالية، أو استئناف. (لا): نافية. {يَسْتَثْنُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية
معطوفة على جملة جواب القسم. وقال الجمل: وجوز بعضهم الحالية، وهي أظهر في المعنى.
وقال الجلال: مستأنفة، وأرى صحة عطفها على جواب القسم؛ ولا سيما إذا كان المعنى: لا يتركون شيئا للمساكين. تأمل، وتدبر.
{فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}
الشرح: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} أي: نزل عليها عذاب {مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ،} ولا يكون الطائف إلا في الليل. قاله الفراء، وقال به الخازن. ورد بقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [201]:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} والطائف في الشر. {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي: فأصبحت جنتهم محترقة سوداء كالليل المظلم، كما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [42]:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ..} . إلخ. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما:
كالرماد الأسود، قال: الصريم الرماد الأسود بالغة خزيمة. قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-:
أي: أصبحت كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء. فعيل بمعنى مفعول، أو كالليل باحتراقها واسودادها، أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس، سميا بالصريم؛ لأن كلا منهما ينصرم عن صاحبه، وهذا يعني: أن الصريم من الأضداد يقع على الأسود، والأبيض، وانظر الأضداد في سورة (التكوير) إن شاء الله تعالى.
فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاك والمعاصي! إنّ العبد ليذنب الذنب، فيحرم به رزقا، قد كان هيّئ له» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أخرجه ابن أبي حاتم. انتهى. مختصر ابن كثير.
وفي هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا قبل فعلهم، ونظيره قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [25]:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ،} وعن أبي بكر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» . قلت: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال: «إنّه كان حريصا على قتل صاحبه» . رواه البخاري، وهذا محمول على العزم المصمم، أما ما يخطر بالبال من غير عزم؛ فلا يؤاخذ به. انتهى. قرطبي. انظر ما ذكرته في سورة (البقرة) رقم [283] وخذ قول الفرزدق:[الطويل]
ولست بمأخوذ بلغو تقوله
…
إذا لم تعمّد عاقدات العزائم
الإعراب: {فَطافَ:} (الفاء): حرف عطف. (طاف): فعل ماض. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {طائِفٌ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان ب: {طائِفٌ،} أو بمحذوف صفة له، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل
لمفعوله. وفاعله مستتر فيه. {وَهُمْ:} (الواو): واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {نائِمُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {لَيَصْرِمُنَّها،} والرابط: الواو، والضمير، وعليه فالجملة الفعلية معترضة بين الحال وصاحبها.
{فَأَصْبَحَتْ:} (الفاء): حرف استئناف، (أصبحت): فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، واسمه مستتر تقديره:«هي» ، يعود إلى {الْجَنَّةِ}. {كَالصَّرِيمِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (أصبح). هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: مثل؛ فهي الخبر، وتكون مضافة، و (الصريم) مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها.
{فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اُغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22)}
الشرح: {فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ:} فنادى بعضهم بعضا في الصباح، أو عند الصباح. {أَنِ اغْدُوا:}
باكروا. {عَلى حَرْثِكُمْ} أي: الزروع، والثمار، والأعناب الموجودة في الجنة. ولم يقل: إلى حرثكم؛ لأن الغدو إليه؛ ليصرموه كان غدوا عليه. أو ضمن الغدو معنى الإقبال، أي: فأقبلوا على حرثكم مبكرين. انتهى. نسفي. وفي البيضاوي: وتعدية الفعل ب: {عَلى} إما لتضمنه معنى الإقبال، أو لتشبيه الغدو للصرام بغدو العدو المتضمن الاستيلاء. {إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ:} تريدون قطع ثمار بستانكم.
الإعراب: {فَتَنادَوْا:} (الفاء): حرف عطف، (تنادوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق.
{مُصْبِحِينَ:} حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَقْسَمُوا..} . إلخ وما بينهما اعتراض لبيان ما نزل بتلك الجنة. قاله سليمان الجمل. {أَنِ:} حرف تفسير. {اُغْدُوا:}
فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مفسرة لقوله:
(تنادوا) لا محل لها مثلها. هذا؛ وأجاز السمين وغيره اعتبار (أن) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بالغدو، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وأعتمد الأول؛ لأن {أَنِ} مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه. {عَلى حَرْثِكُمْ:}
متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَنِ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صارِمِينَ:} خبر (كان)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها، لا محل لها مثلها، وهي في المعنى في محل نصب مفعول به ل:(تنادوا).
الشرح: {فَانْطَلَقُوا:} خرجوا من بيوتهم مبكرين. {وَهُمْ يَتَخافَتُونَ} أي: يتناجون فيما بينهم، بحيث لا يسمعون أحدا كلامهم. وهو من: خفت، يخفت: إذا سكن، ولم يبين، كما قال دريد بن الصمة:[الطويل]
وإنّي لم أهلك سلالا ولم أمت
…
خفاتا وكلاّ ظنّه بي عوّدي
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس؛ حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء، والمساكين؛ ليحضروا، كما قد رأيت فيما سبق، {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أي: كان يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم مسكينا يدخلها عليكم! قال الجمل نقلا عن شيخه: أصل الكلام: أن لا تدخلوها مسكينا، فأوقع النهي على دخول المساكين؛ لأنه أبلغ؛ لأن دخولهم أعم من أن يكون بإدخالهم، أو بدونه. انتهى.
{وَغَدَوْا} أي: ساروا إليها غدوة. {عَلى حَرْدٍ} أي: على قصد، وقدرة في أنفسهم، ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، والحرد: القصد، ومنه قول الراجز:[الرجز]
أقبل سيل جاء من عند الله
…
يحرد حرد الجنّة المغلّه
قال المبرد: المغلة: ذات الغلة. وقال غيره: المغلة: التي يجري الماء في أصولها. هذا؛ والحرد: الغصب، ومنه قول الشاعر:[الرجز]
إذا جياد الخيل جاءت تردي
…
مملوءة من غضب وحرد
هذا؛ وقال الأصمعي: رجل حريد، أي: فريد وحيد. قال: والمنحرد: المنفرد في لغة هذيل: وأنشد لأبي ذؤيب: [البسيط]
كأنه كوكب في الجوّ منحرد
وقال الأزهري: {حَرْدٍ} اسم قريتهم. وقال السدي: اسم جنتهم، وفيه لغتان: حرد، وحرد، ومعنى {قادِرِينَ} أي: في زعمهم على جنتهم، وثمارها، فلا يحول بينهم، وبينها أحد.
والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَانْطَلَقُوا:} (الفاء): حرف عطف. (انطلقوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة (تنادوا
…
) إلخ. {وَهُمْ:} (الواو): واو الحال، (هم):
مبتدأ. {يَتَخافَتُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر
المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
{أَنْ:} تحتمل المفسرة، والناصبة. {لا:} نافية. {يَدْخُلَنَّهَا:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل لها، و (ها): مفعول به {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِسْكِينٌ:} فاعل {لا يَدْخُلَنَّهَا} والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبارها مفسرة للمخافتة، وعلى اعتبار {أَنْ} مصدرية، تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن
…
إلخ، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يَتَخافَتُونَ}. {وَغَدَوْا:} (الواو): حرف عطف، (غدوا): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (انطلقوا
…
) إلخ. {عَلى حَرْدٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قادِرِينَ:} حال من واو الجماعة. هذا؛ وأجيز اعتبار (غدوا) ناقصا، والواو اسمه، و {قادِرِينَ} خبره، والجار والمجرور {عَلى حَرْدٍ} متعلقين ب:{قادِرِينَ،} كما أجيز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر (غدوا) واعتبار {قادِرِينَ} خبرا ثانيا، وعلى اعتبار (غدوا) تاما يجوز اعتبار الجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال من واو الجماعة، و {قادِرِينَ} حال ثانية، أو هي حال متداخلة من ضمير الحال الأولى.
{فَلَمّا رَأَوْها قالُوا إِنّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}
الشرح: أي: فلما رأوا جنتهم بعد أن وصلوا إليها، وأشرفوا عليها، وهي على الحالة؛ التي قال الله عز وجل قد استحالت عن تلك النضارة، والزهوة، وكثرة الثمار، إلى أن صارت سوداء مدلهمة، لا ينتفع بشيء منها؛ فاعتقدوا: أنهم قد أخطؤوا الطريق، ولهذا قالوا:{إِنّا لَضَالُّونَ} أي: قد سلكنا إليها غير الطريق، فتهنا عنها، ثم تيقنوا: أنها هي، فقالوا:{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: بل هذه هي، ولكن نحن لا حظ لنا، ولا نصيب، حيث حرمنا هذه الجنة، بسبب منعنا المساكين منها، ومن دخولها.
الإعراب: {فَلَمّا:} (الفاء): حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب. وهي عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني، وجماعة ظرف زمان بمعنى: حين، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {رَأَوْها:} فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، و (ها): مفعوله، واكتفى الفعل به؛ لأنه بصري، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه
بالفعل، (ونا): اسمها. حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَضَالُّونَ:} (اللام): هي المزحلقة. (ضالون): خبر (إنّ) مرفوع
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ جواب (لمّا)، لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {مَحْرُومُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28)}
الشرح: {قالَ أَوْسَطُهُمْ} أي: أعدلهم، وأعقلهم، وأفضلهم. وقيل: أوسطهم سنا. {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ:} فهذا يدل على أنه نبههم، ووعظهم قبل إقدامهم على ما صنعوا من حرمان المساكين من جنة أبيهم. {لَوْلا تُسَبِّحُونَ:} هلا تذكرون الله، وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وسوء عملكم! قال لهم ذلك حين عزموا على ذلك: اذكروا الله، وانتقامه من المجرمين، وتوبوا من هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى الإعراض عنها قبل حلول النقمة. فعصوه، فذكرهم ذلك. هذا؛ وقال البيضاوي: أو المعنى: لولا تستثنون، فسمى الاستثناء تسبيحا، لتشاركهما في التعظيم، أو لأنه تنزيه عن أن يجري في ملكه ما لا يريده. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {أَوْسَطُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَلَمْ:}
(الهمزة): حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {أَقُلْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{لَوْلا:} حرف تحضيض. {تُسَبِّحُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: ألم أقل لكم: إن ما فعلتموه لا ينبغي أن يكون، واستغفروا ربكم وتوبوا إليه من هذه النية الخبيثة، والكلام كله في محل نصب مقول الأول، والجملة الفعلية:{قالَ أَوْسَطُهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا..} . إلخ: اعترفوا بالمعصية، وهي خبث النية، وسوء العمل، ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل بهم من إهلاك جنتهم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:
معناه: نستغفر الله من ذنوبنا. {إِنّا كُنّا ظالِمِينَ} أي: لأنفسنا بمنعنا المساكين حقوقهم في ثمار الجنة وزرعها. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ:} يلوم بعضهم بعضا، يقول هذا لهذا: أنت رغبتنا في جمع المال، ثم نادوا على أنفسهم بالويل، والثبور، وعظائم الأمور. وهو ما في الآية التالية.
هذا؛ و (سبحان) اسم مصدر. وقيل: هو مصدر، مثل: غفران. وليس بشيء؛ لأن الفعل:
سبّح بتشديد الباء، والمصدر: تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله مثل معاذ الله، وقد أجري علما على التسبيح بمعنى: التنزيه على الشذوذ في قول الأعشى: [السريع]
قد قلت لمّا جاءني فخره
…
سبحان من علقمة الفاخر
وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة بقوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} وقد نزه الله ذاته في كثير من الآيات بنفسه تنزيها يليق بجلاله، وعظمته.
وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجري بوجوه الإعراب، من رفع وجر، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجئ من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، ولم ينصرف؛ لأن آخره زائدتين: الألف والنون. ومعناه التنزيه، والبراءة لله عز وجل من كل نقص، فهو ذكر لله تعالى، لا يصلح لغيره، وقد روي عن طلحة الخير بن عبيد الله، أحد العشرة المبشرين بالجنة-رضي الله عنهم-أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: «تنزيه الله من كلّ سوء» . والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل؛ الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر له من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها. فوقع: «سبحان الله» مكان قولك: «تنزيها لله» . وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف، وليس بشيء.
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، كما رأيت في الشرح، وهو مضاف، و {رَبِّنا} مضاف إليه من إضافة اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، (ونا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، ونا في محل نصب اسمها. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا):
اسمها. {ظالِمِينَ:} خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والكلام:
{سُبْحانَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{فَأَقْبَلَ:} (الفاء): حرف عطف. (أقبل) فعل ماض. {بَعْضُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بما قبلهما. {يَتَلاوَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ،} والرابط: الضمير.
{قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا طاغِينَ (31)}
الشرح: {قالُوا:} حين رأوا ما حل بجنتهم من الهلاك: {يا وَيْلَنا:} يا هلاكنا! دعوا على أنفسهم بالويل، والثبور، وعظائم الأمور. {إِنّا كُنّا طاغِينَ:} ظالمين، متجاوزين ما كان يفعله
آباؤنا؛ حيث منعنا حق الفقراء والمساكين في ثمار هذه الجنة، وزروعها. وقيل: معناه: طغينا في نعم الله تعالى، فلم نشكرها؛ حيث لم نصنع فيها ما كان يصنعه آباؤنا من قبلنا؛ حتى أصابنا ما أصابنا. فقد استعظموا جرمهم ورجعوا إلى أنفسهم بالندامة، والملامة.
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. (يا): أداة نداء، والمنادى محذوف، كأنهم قالوا لبعضهم: يا هؤلاء ويلا لنا! فلما أضاف؛ حذف اللام الثانية، وعليه ف:(ويلا) مصدر مفعول مطلق فعله محذوف، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. وهذا قاله الجلال، وأيده سليمان الجمل، وقول لمكي. وأجيز اعتبار (ويلنا): منادى، فيكون المعنى قالوا: تعال يا ويل هذا زمانك، وإبانك! وقال الكوفيون: إن (وي) كلمة برأسها، و (لنا) جار ومجرور متعلقان به. ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد، وهو أن يكون التقدير: يا عجب لنا. لأن (وي) تفسر بمعنى: أعجب منا. انتهى. جمل، وعليه: يكونون قد نادوا العجب، وهو كلام لا معنى له. {إِنّا كُنّا طاغِينَ:} مثل إعراب: {إِنّا كُنّا ظالِمِينَ} في الآية [29] بلا فارق، والكلام في محل نصب مقول القول.
{عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)}
الشرح: {عَسى رَبُّنا:} هذا رجوع منهم إلى الرجاء، والطمع في فضل الله، وكرمه، وجوده، روي: أنهم أبدلوا خيرا منها. وقال القرطبي: تعاقدوا، وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها؛ لنصنعن كما صنعت آباؤنا، فدعوا الله، وتضرعوا، فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها.
وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: إن القوم أخلصوا، وعرف الله منهم صدقهم، فأبدلهم جنة، يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة، فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقال الحسن: قول أهل الجنة: {إِنّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ} لا أدري إيمانا كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين؛ إذا أصابتهم الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب أهل الجنة، أهم من أهل الجنة، أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا، والكثير يقولون: إنهم تابوا، وأخلصوا.
أقول: والمعتمد: أنهم كانوا من أهل الإيمان، وما قول ابن مسعود-رضي الله عنه-عنك ببعيد، وذكر بعض السلف: أن هؤلاء كانوا من أهل اليمن. وقيل: كانوا من أهل الجنة.
تنبيه: معنى {راغِبُونَ} راجعون، وعدّي ب:{إِلى} وهو إنما يتعدى ب: «عن» أو ب: «في» لتضمينه معنى الرجوع. وينبغي أن تعلم: أن «رغب» وما يتصرف منه يتغير معناه بتغير الجار الذي يتعلق به، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [127]:{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فإن التقدير: في أن، أو عن أن تنكحوهن، والأول يدل على الرغبة فيهن، والثاني يدل على عدم الرغبة فيهن، ولذا كان قول القائل وهو الشاهد رقم [925] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -محتملا للمدح والذم: [الطويل]
ويرغب أن يبني المعالي خالد
…
ويرغب أن يرضى صنيع الألائم
حيث حذف الجار قبل «أن» في الموضعين، وهو محتمل؛ لأن يكون:«في» أو «عن» في الموضعين، فإن قدر «في» . أولا و «عن» . ثانيا كان مدحا، وإن عكس كان ذما، ولا يجوز أن يقدر فيهما معا (في)، أو (عن) للتناقض كما هو ظاهر بأدنى تأمل، ومثل هذا الفعل:«ادعى» يقال: ادّعى فلان في بني هاشم: إذا انتسب إليهم، وادّعى عنهم: إذا عدل بنسبه عنهم، ومثله أيضا:«عدل» و «مال» و «انحرف» وغير ذلك كثير، وهذا مما يدل على اتساع اللغة العربية، وشمولها.
الإعراب: {عَسى:} فعل ماض جامد، يدل على الرجاء، مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {رَبُّنا:} اسم {عَسى} و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يُبْدِلَنا:} فعل مضارع منصوب بأن، والفاعل يعود إلى ربنا، و (نا) مفعول به أول، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب خبر {عَسى} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {خَيْراً:} مفعول به ثان.
{مِنْها:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْراً} . {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {إِلى رَبِّنا:} متعلقان بما بعدهما، و (نا): في محل جر بالإضافة
…
إلخ. {راغِبُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو
…
إلخ، والجملة الاسمية تعليل للرجاء، وهي من جملة القول.
{كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)}
الشرح: {كَذلِكَ الْعَذابُ} أي: عذاب الدنيا، وهلاك الأموال. عن ابن زيد. وقيل: إن هذا؛ وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب والقحط، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا. {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ..} . إلخ، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا: ليقتلن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة؛ حتى يطوفوا بالبيت، ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم؛ فأخلف ظنهم، وأسروا، وقتلوا، وهزموا كأهل هذه الجنة لمّا خرجوا عازمين على الصرام، فخابوا. انتهى. قرطبي. أقول:
قد تقدم: أن السورة مكية، فيبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة يوم بدر، والأولى حملها على ما أصاب قريشا من الجدب، والقحط. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ والمراد ب: {الْآخِرَةِ} الحياة؛ التي تكون بعد الموت، وما فيها من نعيم مقيم، أو عذاب أليم، وهي الحياة الثانية الأبدية التي تكون بعد البعث والنشور، وبعد الحساب والجزاء، وهي في الجنة لمن آمن، وعمل صالحا، وفي النار لمن كفر، وعمل سيئا. ورحم الله من قال:[البسيط]
الموت باب وكلّ الناس داخله
…
فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟
ورحم الله من أجابه بقوله:
الدار جنة عدن إن عملت بما
…
يرضي الإله وإن خالفت فالنار
هما محلاّن ما للناس غيرهما
…
فانظر لنفسك ماذا أنت مختار
الإعراب: {كَذلِكَ:} (الكاف): حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْعَذابُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَلَعَذابُ:}
(الواو): حرف عطف. (اللام): لام الابتداء. (عذاب): مبتدأ، وهو مضاف، و {الْآخِرَةِ} مضاف إليه. {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من العذاب؛ فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط: الواو، وإعادة {الْعَذابُ} بلفظه. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب {لَوْ} محذوف، التقدير: لو كانوا يعلمون العذاب الأليم؛ لآمنوا، وسارعوا إلى ما يرضي الله تعالى. و {لَوْ} ومدخولها كلام معترض في آخر الكلام، مفاده: بيان شدة العذاب في الآخرة. لا محل له.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ (34)}
الشرح: المعنى: إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه، كما يشوب جنات الدنيا. ولما نزلت هذه الآية، وسمعها كفار قريش؛ قالوا: إن صح أنا نبعث، كما يزعم محمد، ومن معه؛ لم يكن حالنا، وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا، ولم يفضلونا! وهذا ظن منهم: أن السعيد في الدنيا سعيد في الآخرة بعد الموت. وقد حكى القرآن الكريم مثل هذا عن الكافر العاص بن وائل، وذلك في سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً} . هذا؛ والعندية عندية تشريف، وتكريم، لا عندية مكان، وتقريب.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لِلْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر ثان، أو بالخبر المحذوف نفسه، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. وأجاز أبو البقاء اعتباره متعلقا بمحذوف حال من {جَنّاتِ،} و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في
محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {جَنّاتِ:} اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {جَنّاتِ} مضاف، و {النَّعِيمِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {أَفَنَجْعَلُ..} . إلخ: استفهام إنكاري توبيخي، ورد لقولهم: لو كان ما يقوله محمد حقا، فنحن نعطى في الآخرة خيرا مما يعطى هو ومن معه كما في الدنيا، وكأن العبارة مقلوبة، والأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين؟؛ لأنهم جعلوا أنفسهم كالمسلمين، بل أفضل؟! فالمناسب: أن الإنكار متوجه لجعلهم المذكور. تأمل. انتهى. جمل. هذا؛ وفحوى هذه الآية مثل قوله تعالى في سورة (الحشر) رقم [20]: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ..} . إلخ، وقوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [100]:{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} وفي سورة (السجدة) رقم [18]: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} وفي سورة (ص) رقم [28]: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ} وفي سورة (الجاثية) رقم [21]: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ..} . إلخ.
{ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين المطيعين الممتثلين أمر الله فيما أمر، وفيما نهى عنه.
وفي الآية التفات إلى الخطاب بعد التكلم فيما قبلها، وانظر الالتفات في سورة (الملك)[20].
{أَمْ لَكُمْ كِتابٌ} أي: منزل من عند الله. {فِيهِ تَدْرُسُونَ:} تقرؤون فيه: أن المسلم مثل المجرم، والمطيع مثل العاصي، فهو كقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [156 و 157]:{أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} . {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ} أي: لكم في هذا الكتاب ما تختارون، وما تشتهون. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {أَفَنَجْعَلُ:} (الهمزة): حرف استفهام توبيخي. (الفاء): حرف عطف. (نجعل):
فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» . {الْمُسْلِمِينَ:} مفعول به أول. {كَالْمُجْرِمِينَ:}
(الكاف): اسم بمعنى مثل مبنية على الفتح في محل نصب مفعول به ثان، والكاف مضاف، و (المجرمين) مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة؛ إذ التقدير: أنحيف في الحكم، فنجعل المسلمين كالمجرمين؟! والكلام مستأنف، لا محل له. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ،
والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من واو الجماعة. {تَحْكُمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها أيضا. وقيل: حالية. ولا وجه له؛ لأنها إنشائية، والإنشاء لا يقع حالا.
{أَمْ:} حرف عطف بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، {كِتابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {تَدْرُسُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الضمير. ويجوز اعتبارها في محل رفع صفة {كِتابٌ} . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له ألبتة. {لَما:} (اللام): لام الابتداء. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ} مؤخر. {تَخَيَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) والعائد محذوف، التقدير: إن لكم فيه للذي تتخيرونه فيه، وقد حذفت تاء المضارعة من أوله.
هذا؛ والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل {تَدْرُسُونَ} وكان حق همزة {إِنَّ} أن تفتح، والمعنى عليه؛ ولكنها كسرت لدخول لام الابتداء في خبرها، ولام الابتداء من المعلقات عن العمل، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
وكسروا من بعد فعل علّقا
…
باللاّم كاعلم إنّه لذو تقى
{أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)}
الشرح: {أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ} أي: عهود، ومواثيق. {عَلَيْنا بالِغَةٌ:} البالغة: المؤكدة بالله تعالى، والمعنى: ألكم عهود، ومواثيق على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة، وأن تكونوا في الآخرة كما كنتم في الدنيا منعمين مرفهين مع إصراركم على الكفر، ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! {إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ} به لأنفسكم: أنه واجب على الله أن ينيلكم إياه.
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى بل، وهمزة الاستفهام. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَيْمانٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {عَلَيْنا:}
جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {أَيْمانٌ} . {بالِغَةٌ:} صفة ثانية ل: {أَيْمانٌ} . {إِلى يَوْمِ:}
متعلقان ب: {بالِغَةٌ،} أو بمحذوف صفة ثالثة ل: {أَيْمانٌ} . التقدير: أيمان ثابتة إلى يوم القيامة.
وأجاز الزمخشري، والجمل تعليقهما بالخبر المحذوف؛ الذي تعلق به {لَكُمْ،} التقدير: ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة، لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكّمناكم، وأعطيناكم ما تحكمون، و {يَوْمِ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {أَيْمانٌ:} حرف مشبه بالفعل. {لَكُمْ:} جار
ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {أَيْمانٌ} مقدم. {لَما:} (اللام): لام الابتداء. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم {أَيْمانٌ} مؤخر، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: إن لكم للذي تحكمونه، والجملة الاسمية هذه جواب {أَيْمانٌ؛} لأنه بمعنى القسم، لا محل لها.
الشرح: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ} أي: اسأل يا محمد هؤلاء المتقولين بأن لهم في الآخرة مثل ما للمؤمنين من النعيم المقيم، والعزة، والكرامة: أي واحد كافل لهم ذلك الذي يتمنونه؟! و {زَعِيمٌ} بمعنى: كفيل، وضامن. وقد جاء اللفظ في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [72]:{قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} .
{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ} أي: لهم ناس يشاركونهم في هذا القول، ويذهبون مذهبهم فيه. وقيل:
المعنى: ألهم شهداء يشهدون بصدق ما ادعوه؟! وفيه نوع من السخرية، والتهكم بهم، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول، ويرفضها المنطق، وتأباها العدالة الإلهية. {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ:}
يشهدون على ما زعموا. فهذا أمر تعجيز؛ لأن أحدا لا يسلم لهم هذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به، ولا كفيل يضمن لهم ما ادعوه.
قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وقد نبه الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل، أو نقل يدل عليه الاستحقاق، أو وعد، أو محض تقليد على الترتيب، تنبيها على مراتب النظر، وتزييفا لما لا سند له. انتهى.
الإعراب: {سَلْهُمْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول.
{أَيُّهُمْ:} اسم استفهام مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {زَعِيمٌ} بعدهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل لها. {زَعِيمٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني ل:(سل) المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، والجملة الفعلية:{سَلْهُمْ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها مبتدأة، أو مستأنفة.
{أَمْ:} حرف عطف بمعنى بل، وهمزة الاستفهام. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شُرَكاءُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها من جمل.
{فَلْيَأْتُوا:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (اللام): لام الأمر، (يأتوا): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان لهم شركاء؛ فليأتوا
…
إلخ. {بِشُرَكائِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر
بالإضافة. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو اسمه، والألف للتفريق. {صادِقِينَ:} خبر {كانُوا} منصوب
…
إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية معترضة في آخر الكلام لا محل لها.
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)}
الشرح: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} أي: عن أمر فظيع، قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
هي أشد ساعة في يوم القيامة، تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر فظيع عظيم، يحتاج فيه إلى الجد، ومقاساة الشدة: شمّر عن ساقك؛ إذا قام في ذلك الأمر. ويقال إذا اشتد الأمر في الحرب: كشفت الحرب عن ساق. وسئل ابن عباس-رضي الله عنهما-عن هذه الآية، فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن، فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب؛ أما سمعتم قول الشاعر:[الرجز]
سنّ لنا قومك ضرب الأعناق
…
وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هو يوم كرب، وشدة. وأنشد أهل اللغة أبياتا في هذا المعنى فمنها قول حاتم الطائي:[الطويل]
فتى الحرب إن عضّت به الحرب عضّها
…
وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
وقال الراجز: [الرجز]
قد كشفت عن ساقها فشدّوا
…
وجدّت الحرب بكم فجدّوا
وقال آخر: [الرجز]
عجبت من نفسي ومن إشفاقها
…
ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها
…
حمراء تبري اللّحم عن عراقها
العراق: العظم بغير لحم. ومن ذلك قول جرير: [الطويل]
ألا ربّ ساهي الطرف من آل مازن
…
إذا شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
وقد كثر مثل هذا في كلام العرب؛ حتى صار كالمثل يضرب للأمر العظيم الشديد.
والأصل فيه: أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه، فإن الله عز وجل يتعالى عن الأعضاء، والتبعيض، وأن
يكشف، ويتغطى. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل. وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عَنْ ساقٍ} قال: «يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا» .
وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا ابن منيع، قال: حدثنا هدبة، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عدي بن زيد، عن عمارة القرشي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: حدثني أبي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة مثّل لكلّ قوم ما كانوا يعبدون في الدّنيا، فيذهب كلّ قوم إلى ما كانوا يعبدون، ويبقى أهل التوحيد، فيقال لهم: ما تنظرون، وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا ربّا كنّا نعبده في الدنيا، ولم نره، قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقال: فكيف تعرفونه، ولم تروه؟ قالوا:
لا شبيه له، فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله تعالى، فيخرّون له سجدا، وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر، فينظرون إلى الله تعالى، فيريدون السجود، فلا يستطيعون، فذلك قوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ..} . إلخ، فيقول الله تعالى: عبادي! ارفعوا رؤوسكم، فقد جعلت بدل كلّ رجل منكم رجلا من اليهود، والنصارى في النار». قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه-فقال: الله الذي لا إله إلاّ هو لقد حدّثك أبوك بهذا الحديث! فحلف له ثلاثة أيمان، فقال-رضي الله عنه: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إليّ من هذا!.
وفي الكشاف: فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} في معنى: يوم يشتد الأمر، ويتفاقم، ولا كشف ثمّ ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثمّ، ولا غل، وإنما هو مثل في البخل. وأما من شبّه؛ فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان. والذي غره منه حديث ابن مسعود-رضي الله عنه:«يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون؛ فيخرون سجدا، وأما المنافقون؛ فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأن فيها السّفافيد» . ومعناه: يشتد أمر الرحمن، ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، انتهى. وهذا الحديث مشهور يروى عن أبي سعيد الخدري وغيره، وهو عند الشيخين من قول النبي صلى الله عليه وسلم، والسفافيد جمع: السفود وزن التنور، وهو الحديدة التي يشوى بها اللحم.
وجملة القول: إن الآية من المتشابهات، وفيها مذهبان: مذهب السلف، ومذهب الخلف، فالسلف يقولون: لله ساق تليق به لا نعرفها، ومذهب الخلف التأويل كما رأيت فيما سبق، ومذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم.
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل {فَلْيَأْتُوا،} أو هو متعلق بفعل محذوف، تقديره:
اذكر يوم. وقال أبو البقاء: وقيل: العامل فيه {خاشِعَةً} . انتهى. ولا وجه له. {يُكْشَفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، {عَنْ ساقٍ:} متعلقان بالفعل {يُكْشَفُ،} وهما في محل رفع نائب فاعله،
والجملة الفعلية في محل جر بإضافة يوم إليها. {وَيُدْعَوْنَ:} (الواو): حرف عطف، (يدعون):
فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {إِلَى السُّجُودِ:} متعلقان بما قبلهما. {فَلا:} (الفاء): حرف عطف. (لا): نافية، {يَسْتَطِيعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها
…
إلخ.
الشرح: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ:} الخشوع في البصر: الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز، والذل يتبين في نظر الإنسان، فهو من المجاز العقلي. قال تعالى في سورة (القمر) الآية رقم [7]:{خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ،} وقال في سورة (النازعات): {أَبْصارُها خاشِعَةٌ} يقال: خشع، واختشع: إذا ذل، وخشع ببصره، أي: غضه. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ:} تغشاهم ذلة، ويقال: أرهقه طغيانا، أي: أغشاه إياه، وأرهقه إثما؛ حتى رهقه، أي: حمله إثما؛ حتى حمله، وأرهقه عسرا: كلفه إياه، يقال: لا ترهقني، لا أرهقك الله! أي: لا تعسرني، لا أعسرك الله.
انتهى. مختار، وفي سورة (عبس):{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ،} وفي سورة (يونس) على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام قوله تعالى في حق المحسنين:{وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} رقم [26]، وفي حق المسيئين:{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} رقم [27]. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وذلك حين يرفع المؤمنون رؤوسهم، ووجوههم أشد بياضا من الثلج، وتسود وجوه المنافقين والكافرين؛ حتى ترجع أشد سوادا من القار. والرهق: الغشيان، ومنه: غلام مراهق، إذا غشي الاحتلام. ورهقه بالكسر يرهقه رهقا غشيه.
{وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} أي: في الدنيا، كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة، وذلك: أنهم كانوا يسمعون: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلا يجيبون، قاله إبراهيم التيمي، وسعيد بن جبير، رحمهما الله تعالى. {وَهُمْ سالِمُونَ:} معافون أصحّاء.
قال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات! وكان الربيع بن خثيم قد فلج، وكان يهادى به بين الرجلين إلى المسجد، فقيل له: يا أبا يزيد! لو صليت في بيتك؛ لكانت لك رخصة، فقال: من سمع: حي على الفلاح؛ فليجب؛ ولو حبوا.
هذا؛ ودعوتهم إلى السجود يوم القيامة ليست تكليفا، وإنما هي توبيخ على تركهم السجود في الدنيا حين كانوا سالمين من العلل، والموانع من السجود.
أقول: رحم الله الإمام أحمد حيث أوجب الصلاة في الجماعة إلا لعذر، وهو ما تؤيده الأحاديث الصحيحة، وخذ منها ما يلي: فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: «من سمع النّداء، فلم يمنعه من اتباعه عذر» -قالوا: وما العذر؟ قال: «خوف، أو مرض- لم تقبل منه الصّلاة الّتي صلّى» . رواه أبو داود، وابن ماجه.
وعن معاذ بن أنس-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجفاء كلّ الجفاء، والكفر، والنّفاق: من سمع منادي الله ينادي إلى الصّلاة، فلا يجيبه» . رواه الإمام أحمد. وفي رواية للطبراني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بحسب المؤمن من الشقاء، والخيبة أن يسمع المؤذن يثوّب بالصّلاة، فلا يجيبه» .
وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: أتى ابن أم مكتوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنّ منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع الأذان، قال:«فإن سمعت الأذان، فأجب؛ ولو حبوا، أو زحفا» . رواه أحمد، والطبراني، وابن حبان.
الإعراب: {خاشِعَةً:} حال من واو الجماعة. {أَبْصارُهُمْ:} فاعل ب: {خاشِعَةً،} والهاء في محل جر بالإضافة. وينبغي أن تعلم: أن {خاشِعَةً} في الأصل صفة {أَبْصارُهُمْ} فلما تقدم النعت المنعوت انتصب، ومثله قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [3]:{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} . {تَرْهَقُهُمْ:}
فعل مضارع، والهاء مفعول به. {ذِلَّةٌ:} فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {وَقَدْ:} (الواو): واو الحال. (قد): حرف تحقيق، يقرب الماضي من الحال. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية: (قد كانوا
…
) إلخ في محل نصب حال أخرى من الضمير المنصوب، فهي حال متداخلة، والجملة الاسمية:{وَهُمْ سالِمُونَ} في محل نصب حال أيضا من واو الجماعة. فهي حال متداخلة أيضا، والرابط فيها وفيما قبلها: الواو، والضمير.
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)}
الشرح: {فَذَرْنِي:} فدعني. فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد لكل كفار قريش، ومن على شاكلتهم من المكذبين إلى يوم القيامة. {وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ} المراد به: القرآن، والمعنى:
خل بيني، وبين المكذبين بالقرآن، لا تشغل بالك بهم، ولا تهتم بشأنهم، وكلهم إليّ، فإني أكفيك إياهم! والخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ:} قال الأزهري:
سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون، وذلك: أن الله تعالى يفتح عليهم من أبواب النعم ما يغتبطون به، ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون. هذا؛ وأصل الاستدراج: الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة. قال الضحاك: المعنى: كلما جددوا لنا معصية؛ جددنا لهم نعمة، أي: فيظنوا أن تواتر النعم لطف من الله تعالى بهم، فيزدادون بطرا، وانهماكا في الضلال؛ حتى يحق عليهم العذاب.
أقول: وهو فحوى قوله تعالى في سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} رقم [75]. وعن عقبة بن عامر-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحبّ، وهو مقيم على معصيته فذلك منه تعالى استدراج» . ثم تلا قوله تعالى: {فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ..} . إلخ رقم [44] من سورة (الأنعام)، ذكره البغوي بغير سند، وأسنده الطبري. هذا؛ وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه.
{مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ:} أنه استدراج، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، كما قال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [55]:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ،} فعلى المسلم الكامل إذا تجددت له نعمة؛ أن يقابلها بالشكر، وإذا أذنب ذنبا؛ أن يعاجله بالاستغفار، والتوبة.
الإعراب: {فَذَرْنِي:} (الفاء): هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: إذا كانت أحوالهم كذلك؛ فذرني ومن يكذب
…
إلخ. (ذرني): فعل أمر، والفاعل تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» ، كما رأيت. {وَمَنْ:} (الواو): حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على ياء المتكلم، أو على أنه مفعول معه، والأول أرجح، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
والعطف إن يمكن بلا ضعف أحقّ
…
والنصب مختار لدى عطف النّسق
{يُكَذِّبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِهذَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف للتنبيه مقحم بينهما. {الْحَدِيثِ:} صفة اسم الإشارة، أو بدل منه. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ:} (السين): حرف تنفيس، واستقبال. (نستدرجهم): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، ولا تنس: أنه روعي معنى (من) بالضمير المنصوب، وروعي لفظها بإرجاع فاعل {يُكَذِّبُ} إليها. {مِنْ حَيْثُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و {حَيْثُ} مبني على الضم في محل جر ب:{مَنْ} . {لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {حَيْثُ} إليها.
{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}
الشرح: {وَأُمْلِي لَهُمْ:} أمهلهم، والإملاء: الإمهال. {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ:} إن أخذي شديد قوي لمن خالف أمري، وكذب رسلي، واجترأ على معصيتي. وإنما سمى الله عز وجل إحسانه:
كيدا، كما سماه: استدراجا؛ لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسان في الظاهر، وبلاء في الباطن، ظاهره إحسان، وباطنه خذلان؛ لأن المقصود معاقبتهم، وتعذيبهم به. ويطلق على مثاله اسم: المجاز المرسل.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن مكري شديد، وفي المختار: الكيد: المكر، وربنا جل علاه منزه عن المكر والكيد، وإنما الكلام من باب المشاكلة، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ الله ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» . ثم قرأ قوله تعالى في سورة (هود): {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . أخرجه الشيخان.
الإعراب: {وَأُمْلِي:} (الواو): حرف عطف. (أملي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ..} . إلخ عطف تفسير. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {كَيْدِي:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {مَتِينٌ:} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليلية، لا محل لها.
تنبيه: في الآيتين التفات من تكلم المفرد، إلى تكلم الجماعة، ثم إلى تكلم المفرد، انظر الالتفات في سورة (الملك) رقم [20]. هذا؛ والآيتان مذكورتان في سورة (الأعراف) برقم [182 و 183].
الشرح: هذا الكلام في المعنى مرتبط بقوله سابقا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ} . والمعنى:
أتطلب منهم يا محمد أجرا، ومكافأة على ما تدعوهم إليه من الإيمان، أو على التبليغ، والإنذار؟! وهو استفهام إنكاري على منع الحصول، والوقوع من أصله، ليس شيء من ذلك قطعا! {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} يعني: أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم، فمنعهم من الإيمان.
والمغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه، والمعنى: ألزمهم مغرم ثقيل فدحهم، فزهدهم ذلك في اتباعك؟! الواقع ليس شيء من هذا! بل يستولون بمتابعتك على خزائن الدنيا، ويكونون سادة العالم، وفي الآخرة يفوزون بجنات النعيم.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} أي: علم الغيب، وهو ما غاب عنهم؛ حتى علموا: أن ما يخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر القيامة والبعث بعد الموت باطل. {فَهُمْ يَكْتُبُونَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: أعندهم اللوح المحفوظ، فهم يكتبون ما فيه، ويخبرون الناس به، أو يكتبون:
أنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون، بل يكونون أعزاء مكرمين في الدنيا وفي الآخرة؟! والجواب: ليس شيء من ذلك؛ إن هم إلا مفترون. هذا؛ والآيتان مذكورتان في سورة (الطور) برقم [40 و 41] وانظر الغيب في سورة (الملك) رقم [12]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام. {تَسْئَلُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول، {أَجْراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة في المعنى على قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ،} ومستأنفة في الصناعة، لا محل لها. {فَهُمْ:}
(الفاء): حرف عطف، (هم): مبتدأ. {مِنْ مَغْرَمٍ:} متعلقان بما بعدهما. {مُثْقَلُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {أَمْ:} حرف عطف. {عِنْدَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْغَيْبُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {يَكْتُبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}
الشرح: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لقضاء ربك، والحكم هنا بمعنى: القضاء. وقيل:
المعنى: فاصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة. وقيل: المعنى:
اصبر على أذاهم استجابة لأمر ربك، ولا تعجل، ولا تغاضب، فلا بد من نصرك، وإعلاء دينك. وقيل: هذا منسوخ بآية السيف: وإذا عرفنا: أن السورة مكية، فالنسخ يكون بعد الهجرة بلا ريب.
{وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ:} يعني يونس، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. أي: لا تكن مثله في الغضب، والضجر، والعجلة. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأمره بالصبر، ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت. انظر ما ذكرته في الآية رقم [98] من السورة المسماة باسمه، وفي الآية رقم [87] من سورة (الأنبياء)، والآية رقم [139] وما بعدها من سورة (الصافات)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{إِذْ نادى:} دعا ربه، وهو في بطن الحوت بقوله:{لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} . {وَهُوَ مَكْظُومٌ:} مملوء غما، والمعنى: لا تكن مثله ضجرا، فتبتلى ببلائه. هذا؛ والكظم: الحبس، ومنه قولهم: فلان كظم غيظه، أي: حبس غضبه، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [134] من وصف المتقين:{وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ..} . إلخ، قال قتادة-رحمه الله تعالى-: الكظيم، والمكظوم: هو الذي يردد حزنه في جوفه، ولا يقول إلا
خيرا. هذا؛ وقيل: إن هذه الآية نزلت بأحد حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا. وقيل: أراد أن يدعو على ثقيف. انتهى. جمل نقلا عن الخطيب.
والمشهور: أنه نزل في يوم أحد حين همّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ..} . إلخ، رقم [128] من سورة (آل عمران).
الإعراب: {فَاصْبِرْ:} (الفاء): هي الفصيحة. (اصبر): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:
«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا لم يكن شيء مما ذكر؛ فاصبر. {لِحُكْمِ:} متعلقان بما قبلهما، و (حكم) مضاف و {رَبِّكَ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَكُنْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، واسمه مستتر تقديره:«أنت» . {كَصاحِبِ:} متعلقان بمحذوف خبر {تَكُنْ،} وإن اعتبرت الكاف اسما؛ فهي الخبر، وتكون مضافة، و (صاحب) مضاف إليه، و (صاحب) مضاف، و {الْحُوتِ} مضاف إليه.
{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اذكر؛ لأن {إِذْ} ليس ظرفا لما تقدمه؛ إذ النداء طاعة، فلا ينهى عنه. قاله النسفي. وقال الجمل نقلا عن السمين:{إِذْ} منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله، أو قصتك كقصته في وقت ندائه، ويدل على المحذوف: أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي، وإنما ينصب على أحوالها، وصفاتها.
{نادى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (صاحب الحوت)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {وَهُوَ:} (الواو): واو الحال.
(هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مَكْظُومٌ:} خبره. والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {نادى} المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ:} {تُدْرِكُهُ} فعل ماض لم يؤنث؛ لأنه حمل على معنى النعمة؛ لأنها ليست مؤنثا حقيقيا، أو ترك تأنيث الفعل للفصل بضمير النصب، وهو الهاء.
واختلف في النعمة، فقيل: هي النبوة. وقيل: عبادته التي سلفت. وقيل: نداؤه: {لا إِلهَ إِلاّ}
{أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} . ويؤيده قوله تعالى في سورة (الصافات): {فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وقيل: أي: رحمة من ربه، فرحمه، وتاب عليه.
{لَنُبِذَ:} لطرح. {بِالْعَراءِ:} الأرض الواسعة الفضاء، التي ليس فيها جبل، ولا شجر يستر.
وقال أبو عبيدة: العراء: وجه الأرض، وأنشد لرجل من خزاعة:[الكامل]
ورفعت رجلا لا أخاف عثارها
…
ونبذت بالبلد العراء ثيابي
{وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي: لنبذ مذموما، ولكنه نبذ سقيما غير مذموم. وقيل: لولا فضل الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما. يدل عليه قوله تعالى في سورة (الصافات):{فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
قال الجمل: وفي الخطيب: {وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي: ملوم على الذنب. وقيل: مبعد من كل خير. وقال الرازي: وهو مذموم على كونه فاعلا للذنب. قال: والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كلمة (لولا) دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل. الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة، لقوله تعالى:{فَاجْتَباهُ رَبُّهُ} . أقول: الثالث مردود، وغير مقبول أبدا، لقوله تعالى في سورة (الصافات):{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} تأمل، وتدبر.
جاء في الحديث: أنه لما قال: «لا إله إلاّ أنت سبحانك
…
إلخ». خرجت هذه الكلمة تحف حول العرش، فقالت الملائكة: ربنا هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال تبارك وتعالى: أما تعرفون هذا؟ قالوا: لا! قال: هذا صوت يونس، قالوا: يا ربنا عبدك، الذي لا يزال يرفع له عمل صالح، ودعوة مستجابة. قال: نعم. قالوا: أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء، فتنجيه من البلاء؟! فأمر الله الحوت، فألقاه بالعراء.
{فَاجْتَباهُ} أي: اصطفاه، واختاره. {فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ}. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:
رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه، وفي قومه. وقيل: قبل توبته. {فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ} بأن أرسله إلى مئة ألف، أو يزيدون بسبب صبره. انظر هذا، وغيره في سورة (الصافات) رقم [147]. هذا؛ والصلاح درجة عالية، ومكانة رفيعة، ولذلك سألها كثير من الأنبياء، والمرسلين.
انظر ما ذكرته في الآية رقم [10] من سورة (المنافقون) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {لَوْلا:} حرف امتناع لوجود. {أَنْ تَدارَكَهُ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والهاء مفعول به. {نِعْمَةٌ:} فاعله. {مِنْ رَبِّهِ:} متعلقان ب: {نِعْمَةٌ،} أو بمحذوف صفة لها، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: لولا مداركة الله إياه لحقته، أو استنقذته. {لَنُبِذَ:} (اللام): واقعة في جواب (لولا). (نبذ): فعل ماض مبني
للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى صاحب الحوت، والجملة الفعلية جواب {لَوْلا،} لا محل لها. {بِالْعَراءِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، التقدير: مطروحا بالعراء، والجملة الاسمية:{وَهُوَ مَذْمُومٌ} في محل نصب حال من نائب الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{فَاجْتَباهُ:} (الفاء): حرف عطف. (اجتباه): فعل ماض مبني على الفتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {رَبِّهِ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: لكن أدركته نعمة من ربه، فاجتباه. {فَجَعَلَهُ:} الفاء: حرف عطف. (جعله): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبِّهِ،} والهاء مفعول به أول. {مِنَ الصّالِحِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة قبلها.
الشرح: {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ:} وذلك: أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعين، فنظرت قريش إليه، وقالوا: ما رأينا مثله، ولا مثل حججه! وقيل: كانت العين في بني أسد؛ حتى إن البقرة السمينة، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم، فيعاينها، ثم يقول: يا جارية! خذي المكتل، والدرهم، فائتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح؛ حتى تقع للموت، فتنحر.
وقال الكلبي: كان رجل من العرب، يمكث لا يأكل شيئا يومين، أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه، فتمر به الإبل، أو الغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلا، ولا غنما أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلا؛ حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل كفار قريش هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين، فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد:[الكامل]
قد كان قومك يحسبونك سيّدا
…
وإخال أنّك سيّد معيون
فعصم الله حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه:{وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: ينفذونك. وقيل: يصيبونك بعيونهم، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. وقيل:
يصرعونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه، قال الشاعر:[الكامل]
ترميك مزلقة العيون بطرفها
…
وتكلّ عنك نصال نبل الرّامي
وقال آخر: [الكامل]
يتقارضوان إذا التقوا في مجلس
…
نظرا يزلّ مواطئ الأقدام
يقول: إذا التقوا في مجلس؛ ينظر كل واحد منهم إلى الآخر نظر حسد، وحنق؛ حتى يكاد يصرعه، وهو الإصابة بالعين. وقيل: المعنى: وإن يكاد الذين كفروا ليصرفونك عما أنت بصدده
من تبليغ الرسالة، وإنما أراد: أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة، والبغضاء، يكاد يسقطك. ومنه قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني، أو يكاد يهلكني، ويدل على صحة هذا المعنى: أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى:{لَمّا سَمِعُوا الذِّكْرَ؛} لأنهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة، ويحدّون النظر إليه بالبغضاء، ويقولون، إنه لمجنون:
أي: ينسبونه إلى الجنون؛ إذا سمعوه يقرأ القرآن.
وفي الآية الكريمة دليل على أن العين إصابتها، وتأثيرها حقّ بأمر الله عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث النبوية الصحيحة: فعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلاّ من عين، أو حمة، أو دم لا يرقأ» . أخرجه أبو داود. وعن بريدة بن الحصيب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلاّ من عين، أو حمة» . أخرجه ابن ماجه. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» . أخرجه مسلم. وعن ابن عباس أيضا: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين، يقول:«أعيذكما بكلمات الله التامّة من كلّ شيطان، وهامّة، ومن كلّ عين لامّة» . ويقول: «هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق، وإسماعيل عليهما السلام» . أخرجه البخاري، وأصحاب السنن.
وعن عبيد الله بن رفاعة الزرقي: أن أسماء بنت عميس-رضي الله عنها-قالت: يا رسول الله! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفأسترقي لهم؟ قال:«نعم، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» . أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» .
هذا؛ ويروى: أن عامر بن ربيعة-رضي الله عنه-أصاب سهل بن حنيف بالعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برّكت؟! إنّ العين حقّ. توضأ له» . ومعنى: ألا بركت، هلا قلت: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، ومفهومه: أن التبريك يدفع أذى العين، ومن ذلك قولك: ما شاء الله كان، والصلاة والسّلام على الرسول يمنع ذلك أيضا، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم للعاين:«توضّأ» أمر له بالوضوء الكامل للصلاة في إناء، ثم يغتسل المصاب بماء الوضوء، فإنه شفاء له بإذن الله، وهذا إذا عرف العاين، وإذا لم يعرف؛ فالقرآن شفاؤه، أي: للمصاب، فتلاوة الفاتحة، والمعوذتين عليه شفاء له بإذن الله تعالى. هذا؛ ولا يفوتني أن أذكر: أنه لا يشترط أن يكون العاين فقيرا، أو فاسقا، أو كافرا، فقد يكون من أغنى الأغنياء، وقد يكون من أتقى الأتقياء:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} .
هذا؛ وقد أخذ جماهير العلماء بظاهر الأحاديث السابقة، فقالوا: العين حق، وأنكره طوائف من المبتدعة، والدليل على فساد قولهم: أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه، ولا يؤدي
إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فإنّه من مجوزات العقول، فإذا أخبر الشارع بوقوعه؛ وجب اعتقاده، ولا يجوز تكذيبه.
ومذهب أهل السنّة: أنّ العين إنما تفسد وتهلك عند مقابلة هذا الشخص، الذي هو العائن لشخص آخر، فتؤثر فيه بقدرة الله تعالى وفعله، وقوله:«ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين» . فيه إثبات القدر، وأنه حق. والمعنى: أن الأشياء كلها بقدر الله، ولا يقع شيء إلا على حسب ما قدّر الله، وسبق به علمه، ولا يقع ضرر العين وغيره من الخير والشر إلا بقدرة الله.
قال تعالى: {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} رقم [102] من سورة (البقرة)، وقوله:
{وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ} سورة (المجادلة) رقم [10]. هذا بالإضافة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية للوقاية من الإصابة بالعين، ولما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من علاج للاستشفاء منها، وأذكر:
أن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-قال: دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية: {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ أقول: وأضيف إليه أن تقول: بسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، وليل دامس، ردّت عين العاين، وعلى أحبّ الناس إليه {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} .
{وَيَقُولُونَ} أي: يقول كفار قريش حين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ:} يعنون حبيب الحق، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم. وهذا أحد أقاويلهم فيه، كما قالوا عنه: ساحر، وكاهن، وشاعر. والمعنى: هم في حيرة، وهمّهم تنفير الناس عنه، فلم يفلحوا، وقد حقّق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزمهم في غزوة بدر أشنع هزيمة.
الإعراب: {وَإِنْ:} (الواو): حرف استئناف. (إن): مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها، وهذا عند البصريين، ويقول الكوفيون: هي بمعنى ما النافية. {يَكادُ:} فعل مضارع ناقص.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع اسم {يَكادُ} . {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لَيُزْلِقُونَكَ:} (اللام): هي الفارقة بين النفي، والإثبات عند البصريين، وعند الكوفيين هي بمعنى: إلا؛ إذ المعنى عندهم: ما يكاد الذين كفروا إلا
…
إلخ. وقول البصريين هو المعتمد في هذه المسألة. هذا؛ وقال الجمل: إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وهو ضعيف، والمعتمد: أنها مهملة كما قدمت. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]
وخفّفت إنّ فقلّ العمل
…
وتلزم اللام إذا ما تهمل
(يزلقونك): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به.
والجملة الفعلية في محل نصب خبر {يَكادُ} . والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {بِأَبْصارِهِمْ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَمّا:} ظرف بمعنى: «حين» مبني على
السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. وقيل: {لَمّا} رابطة، وجوابها محذوف للدلالة عليه، أي: لما سمعوا الذكر؛ كادوا يزلقونك. والأول أقوى، وجملة:{سَمِعُوا الذِّكْرَ} في محل جر بإضافة (لمّا) إليها. {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف عطف. (يقولون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء في محل نصب اسمه. {لَمَجْنُونٌ:} (اللام): هي المزحلقة.
(مجنون): خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على خبر {يَكادُ} فهي في محل نصب مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.
{وَما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)}
الشرح: {وَما هُوَ:} يعني: القرآن. {إِلاّ ذِكْرٌ:} موعظة. {لِلْعالَمِينَ} أي: الإنس، والجن.
قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: لما جننوه لأجل القرآن؛ بين الله-عز وجل: أنه ذكر عام، لا يدركه، ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلا، وأمتنهم رأيا. وقيل: المعنى: ما القرآن إلا شرف، كما قال الله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [44]:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ..} . إلخ، انظر شرحها هناك. هذا؛ و (العالمين): جمع عالم (بفتح اللام) وجمع لاختلاف أنواعه. وهو جواب عما يقال: إنه اسم جنس يصدق على كل ما سوى الله، والجمع لا بد أن يكون له أفراد ثلاثة، فأكثر. وجمع بالياء والنون تغليبا للعقلاء على غيرهم، وهو يقال لكل ما سوى الله، ويدل له قول موسى-على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-لما قال له فرعون:{وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؛} {قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} من سورة (الشعراء). هذا؛ والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البر، والبحر؛ إذ كل جنس من المخلوقات يقال له: عالم. قال تعالى: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} .
الإعراب: {وَما:} (الواو): واو الحال، (ما): نافية. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {ذِكْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الذكر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
{لِلْعالَمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {ذِكْرٌ،} وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (القلم) شرحا، وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.
والحمد لله رب العالمين.