المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يكسوه لحما، ثم ينشئه خلقا آخر، انظر سورة (المؤمنون) الآية - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: يكسوه لحما، ثم ينشئه خلقا آخر، انظر سورة (المؤمنون) الآية

يكسوه لحما، ثم ينشئه خلقا آخر، انظر سورة (المؤمنون) الآية رقم [12] وما بعدها. وقيل: إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع، التي تكون في الإنسان، من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، فعلى هذا يكون التقدير: من نطفة ذات أمشاج، وخذ ما يلي:

فعن أبي أيوب-رضي الله عنه-قال: جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبرني عن ماء الرجل، وماء المرأة، فقال:«ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا ماء المرأة آنثت، وإذا علا ماء الرّجل أذكرت» . فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله.

{نَبْتَلِيهِ:} نختبره بالأوامر، والنواهي، والخير، والشر من صحة، ومرض، من فقر وغنى

إلخ. {فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً:} قال الفراء: فيه تقديم، وتأخير، التقدير: فجعلناه سميعا بصيرا؛ لنبتليه؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة. وقال الزمخشري: هو من التعسف.

{فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} أي: عظيم السمع، والبصر، والبصيرة.

‌فائدة:

ورد في بعض الكتب: أن الله سبحانه وتعالى يقول: يابن آدم! جعلت لك قرارا في بطن أمّك، وغشيت وجهك بغشاء لئلا تفزع من الرحم، وجعلت لك متكأ عن يمينك، ومتكأ عن شمالك، فأما الذي عن يمينك؛ فالطحال، وأمّا الذي عن شمالك؛ فالكبد، وعلمتك القيام، والقعود في بطن أمّك، فهل يقدر على ذلك أحد غيري، فلما أن تمت مدة حملك؛ أوحيت إلى الملك الموكل بالأرحام أن يخرجك، فأخرجك على ريشة من جناحيه، لا لك سنّ تقطع، ولا يد تبطش، ولا قدم تسعى بها، وأنبعت لك عرقين في صدر أمّك، يجريان لبنا خالصا، حارا في الشتاء، باردا في الصيف، وألقيت محبتك في قلب أبويك، فلا يشبعان؛ حتى تشبع، ولا يرقدان؛ حتى ترقد، فلمّا أن قوي ظهرك، واشتدّ أزرك؛ بارزتني بالمعاصي، واعتمدت على المخلوقين، ولم تعتمد عليّ، وتسترت ممّن يراك، وبارزتني بالمعاصي في خلواتك، ولم تستح مني، ومع هذا: إن دعوتني؛ أجبتك، وإن سألتني؛ أعطيتك، وإن تبت، وارتجعت إليّ؛ قبلتك.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {خَلَقْنَا:} فعل، وفاعل. {الْإِنْسانَ:} مفعول به. {مِنْ نُطْفَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {الْإِنْسانَ} أي: مخلوقا من نطفة. والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. {أَمْشاجٍ:} صفة {نُطْفَةٍ} ووقع الجمع صفة لمفرد؛ لأنه في معنى الجمع كما رأيت في الشرح، وأجيز اعتباره بدلا من {نُطْفَةٍ}. {نَبْتَلِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا) أي: خلقناه مبتلين له؛ بمعنى: مريدين ابتلاءه، فهي حال مقدرة، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد قاصدا به لصيد غدا، ويجوز أن يراد: ناقلين له من حال إلى حال.

ص: 338

فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى. كشاف. هذا؛ وأجيز اعتبارها حالا مقارنة، إن كان المعنى: نبتليه بتصريفه في بطن أمه، نطفة، ثم علقة، كما قال ابن عباس-رضي الله عنهما، انظر أنواع الحال في الآية رقم [19] من سورة (المعارج) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {فَجَعَلْناهُ:} الفاء: حرف عطف. (جعلناه): فعل، وفاعل، ومفعول به أول.

{سَمِيعاً:} مفعول به ثان؛ لأن (جعل) من أفعال التحويل. {بَصِيراً:} من تعدد المفعول الثاني، أو هو من تعدد الحال، إن اقتصر الفعل على مفعول واحد، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{خَلَقْنَا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها، وأفاد كلام الجلال، والجمل: أنها معطوفة عليه إرادة الابتلاء، لا الابتلاء، وهذا منه لتوجيه العطف المذكور.

{إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً (3)}

الشرح: {إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} أي: بيّنا له، وعرّفناه طريق الهدى، والضلال، والخير، والشر ببعثة الرسل، فآمن، أو كفر، كقوله تعالى في سورة (البلد):{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} والمراد من هداية السبيل: نصب الدلائل، وإنزال الكتب على الرسل مع تهيئة العقل، والسمع، والبصر للنظر والتفكير في ذلك. قال مكي: و (إمّا) هنا للتخيير على بابها، ومعنى التخيير: أن الله تعالى يخبرنا: أنه اختار قوما للسعادة، وقوما للشقاء، فالمعنى: إما أن يخلقه شقيا، وهذا من أبين ما يدل على أن الله تعالى قدر الأشياء كلها. وخلق قوما للسعادة، وبعملها يعملون، وقوما للشقاوة، وبعملها يعملون، فالتخيير هو إعلام من الله تعالى لنا: أنه يختار ما يشاء، وليس التخيير للإنسان. انتهى مكي. وهذا لا يجعل للعبد اختيارا، والمعتمد: أن له اختيارا، كما تقدم، وقال تعالى في سورة (فصلت) رقم [17]:{وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} .

تنبيه: لما كان الشكر قل من يتصف به. قال {شاكِراً} من غير مبالغة، ولما كان الكفر كثيرا من يتصف به، ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر. قال:{كَفُوراً} بصيغة المبالغة.

هذا؛ ول: «إمّا» خمسة معان: أحدها: الشك، نحو: جاء إما زيد، وإما عمرو، إذا لم تعلم الجائي منهما.

الثاني: الإبهام، كما في قوله تعالى:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} الآية رقم [106] من سورة (التوبة).

الثالث: التخيير، وهو ما في الآية التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (طه) رقم [65]:{قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى} ومثلها الآية من سورة (الأعراف) رقم [114]، وأيضا الآية رقم [86] من سورة (الكهف).

الرابع: الإباحة، نحو:«تعلّم إمّا فقها، وإمّا نحوا» .

ص: 339

الخامس: التفصيل، وجعل منه الآية التي نحن بصدد شرحها. انتهى. مغني اللبيب باختصار. أقول: والتفصيل هو المعنى الذي لا يفارقها مع كل من المعاني السابقة.

الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها. {هَدَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {السَّبِيلَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية تعليل لقوله:(نبتليه) لا محل لها. {إِمّا:}

أداة شرط، وتفصيل. {شاكِراً:} حال من الضمير المنصوب، وأجاز الزمخشري اعتباره حالا من {السَّبِيلَ،} وتبعه البيضاوي، والنسفي على ذلك. {وَإِمّا كَفُوراً:} معطوف على ما قبله، وقال البيضاوي: ووصف {السَّبِيلَ} بذلك مجاز.

{إِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)}

الشرح: {إِنّا أَعْتَدْنا:} هيأنا في جهنم. {لِلْكافِرِينَ:} جمع: كافر، والكفر ستر الحق بالجحود، والإنكار. وكفر فلان النعمة، يكفرها كفرا، وكفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وسترها، وأخفاها. قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} رقم [7] ومثل هذه الآية كثير.

وكفر الشيء: ستره، وغطاه، وسمي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي نعم الله بجحدها، وعبادته غيره.

وسمي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتراب. قال تعالى في تشبيه حال الدنيا:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} رقم [20] من سورة (الحديد). وسمي الليل كافرا؛ لأنه يغطي، ويستر كل شيء بظلمته. قال لبيد بن ربيعة الصحابي في معلقته رقم [65]:[الكامل]

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

هذا؛ ويطلق لفظ الكافر على النهر. قال المتلمس حين ألقى الصحيفة في النهر: [الطويل]

وألقيتها بالثّني من جنب كافر

كذلك ألقي كلّ رأي مضلّل

رضيت لها بالماء لمّا رأيتها

يجول بها التّيّار في كلّ جدول

{سَلاسِلَ:} جمع: سلسلة، وهي القيد، طول كل سلسلة سبعون ذراعا. انظر ما ذكرته في سورة (الحاقة) رقم [32] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. ويقرأ:«(سلاسلا)» منونا وهي قراءة حفص عن عاصم، والباقون بغير تنوين، ومثله:(قواريرا) في الآية رقم [16] فمن صرف؛ فله أربع حجج:

أحدها: أن الجموع أشبهت الآحاد، فجمعت جمع الآحاد، فجعلت في حكم الآحاد، فصرفت.

الثانية: أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا (أفعل) التفضيل. وكذا قال الكسائي، والفراء، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [46]:[الوافر]

ص: 340

كأنّ سيوفنا فينا وفيهم

مخاريق بأيدي لاعبينا

وقال لبيد-رضي الله عنه-في معلقته رقم [73]: [الكامل]

وجزور أيسار دعوت لحتفها

بمغالق متشابه أجسامها

وله أيضا في معلقته رقم [80]: [الكامل]

فضلا وذو كرم يعين على النّدى

سمح كسوب رغائب غنّامها

فصرف مخاريق، ومغالق، ورغائب، وسبيلها ألا تصرف، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«صواحبات يوسف» . وجاء في الشعر: (نواكسي الأبصار) أشبه المفرد، فجرى فيه الصرف، وقال بعض الشعراء:[الرجز]

والصّرف في الجمع أتى كثيرا

حتّى ادّعى قوم به التّخييرا

والحجة الثالثة: أن يقال: نونت (قواريرا) الأول؛ لأنه رأس آية، ورؤوس الآي جاءت بالتنوين. والحجة الرابعة: اتباع المصاحف. وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال: إن كل جمع بعد الألف، منه ثلاثة أحرف، أو حرفان، أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة، ولا نكرة، فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف، مثل:(قناديل، ودنانير، ومناديل) والذي بعد الألف منه حرفان، مثل:

(مساجد، وصوامع) والذي بعد الألف منه حرف مشدد: «شوابّ ودوابّ» . انظر (غافر) رقم [71].

{وَأَغْلالاً:} جمع غلّ، يقال: في رقبته غل من حديد، ومنه للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يتخذ من جلد، وعليه شعر، فيقمل، والغل، والغلة: حرارة العطش، وكل ذلك بضم الغين، وهو بكسرها: الحقد، ورحم الله من يقول:[البسيط]

يا طالب العيش في أمن وفي دعة

رغدا بلا قتر صفوا بلا رنق

خلّص فؤادك من غلّ ومن حسد

الغلّ في القلب مثل الغلّ في العنق

هذا؛ وقال التيمي: لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل لوهصه حتى يبلغ الماء الأسود. هذا؛ و (السلاسل) جمع: سلسلة، وهي معروفة. قال الراغب: وتسلسل الشيء:

اضطرب، كأنه تصور منه تسلسل متردد، فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه، وماء سلسل متردد في مقره، وخذ قوله تعالى في سورة (الحاقة) في حق من يأخذ كتابه بشماله بعد أن يدعو بالثبور، وعظائم الأمور:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ} .

الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَعْتَدْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأ، أو مستأنفة، لا محل لها. {لِلْكافِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.

{سَلاسِلَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه.

ص: 341

{إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)}

الشرح: {إِنَّ الْأَبْرارَ} أي: أهل الصدق، واحدهم: برّ، وهو من امتثل أمر الله تعالى.

وقيل: واحدهم بار، مثل: شاهد، وأشهاد، وفي الصحاح: وجمع البر: الأبرار، وجمع البار:

البررة. وفلان يبر خالقه، ويتبرره، أي: يطيعه. وروي عن ابن عمر-رضي الله عنهما-وفي الجمل: عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمّاهم الله جلّ ثناؤه الأبرار؛ لأنهم برّوا الآباء، والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا، كذلك لولدك عليك حقّ» . وقال الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر، وانظر سورة (عبس)[16].

{يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ:} الكأس عند أهل اللغة شامل لكل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك، والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا: إناء، وقدح، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام، لم يقل له: مائدة. قال أبو الحسن بن كيسان: ومنه:

ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وأضيف: أنه لا يقال: ذنوب، وسجل إلا وفيه ماء، وإلا؛ فهو دلو. ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا؛ فهو إهاب. ولا يقال: قلم إلا وهو مبرى، وإلا؛ فهو أنبوب. ولا يقال للمكان: ناد إلا إذا كان فيه أهله. هذا؛ والكأس تذكر، وتؤنث؛ لأنها من المؤنث المجازي، فمن التأنيث الآية التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [46]:{يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ} ومن التذكير قولك:

هذا كأس. هذا؛ والجمع: كؤوس، وأكؤس، وكأسات، وكئاس. {كانَ مِزاجُها} أي: شوبها، وخلطها. قال حسان بن ثابت-رضي الله عنه:[الوافر]

كأنّ سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

وهذا هو الشاهد رقم [823] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، ومنه مزاج البدن، وهو ما يمازجه من الصفراء، والسوداء، والحرارة، والبرودة. {كافُوراً:} قال المفسرون: الكافور:

طيب معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند، والصين، وهو من أنفس أنواع الطيب عند العرب، والمراد: أن من شرب تلك الكأس وجدها في طيب رائحتها، وفوحان شذاها كالكافور. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الكافور: اسم عين ماء في الجنة، يقال لها: عين الكافور، تمتزج الكأس بماء هذه العين، وتختم بالمسك، فتكون ألذ شراب. وقيل: أراد كالكافور في بياضه، وطيب رائحته، وبرده؛ لأن الكافور لا يشرب. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا، ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. هذا؛ ولم يذكر (الكافور) في غير هذه السورة. هذا؛ ولما ذكر الله ما أعده للأشقياء من السعير؛ ذكر الأبرار المتقين، وما

ص: 342

أعده لهم من النعيم المقيم في جنات النعيم. هذا؛ والكافور أيضا: وعاء طلع النخل، وكذلك الكفرّى. قاله الأصمعي. وأما قول الراعي:[البسيط]

تكسو المفارق واللّبّات ذا أرج

من قصب معتلف الكافور درّاج

فإن الظبي الذي يكون منه المسك، إنما يرعى سنبل الطيب، فجعله كافورا.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْأَبْرارَ:} اسمها. {يَشْرَبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {مِنْ كَأْسٍ:} متعلقان بمحذوف صفة لمفعول محذوف، التقدير: يشربون ماء كائنا من كأس. وقيل: {مِنْ} صلة، و {كَأْسٍ} مفعول به. {كانَ:} فعل ماض ناقص.

{مِزاجُها:} اسم {كانَ،} و (ها): في محل جر بالإضافة. {كافُوراً:} خبرها، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{كَأْسٍ} .

{عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)}

الشرح: {عَيْناً يَشْرَبُ بِها} أي: منها. قال أبو ذؤيب الهذلي يصف السحاب على اعتقاد العرب، ومثلهم العصريون في هذا الزمن من أن الغيوم تدنو من البحر في أماكن مخصوصة، فتمتد منها خراطيم عظيمة كخراطيم الفيلة، فتشرب بها من مائه، فيسمع لها عند ذلك صوت مزعج، ثم تصعد إلى الجو، وترتفع، فيلطف ذلك الماء، ويعذب بإذن الله تعالى في زمن صعودها، ثم تمطره حيث شاء الله، -وهو الشاهد رقم [158] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

متى لجج خضر لهنّ نئيج

{عِبادُ اللهِ:} أولياء الله، والإضافة إضافة تشريف، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [19] من سورة (الجن). {يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً} أي: يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم. قيل: إن الرجل ليمشي في بيوتاته، ويصعد إلى قصوره، وبيده قضيب يشير به إلى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود، ويتبعه حيثما صعد إلى أعلى قصوره. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ و (العين) تطلق على الماء الجاري، أو النابع من الأرض، وجمعها في القلة: أعين، وفي الكثرة: عيون. قال تعالى في سورة (الذاريات)، وغيرها:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} وتجمع أيضا في الكثرة على: أعيان، وهذا غير مشهور، وقليل الاستعمال. كما تطلق (العين) على العين الباصرة، وهو أشهر، وأكثر ما تستعمل في ذلك، كما تطلق على الجاسوس، كما في قولك: بث الأمير عيونه في المدينة؛ أي: جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في

ص: 343

قولك: جاء عليّ عينه، وتطلق على الشمس. وعين الشيء: خياره، وتطلق على النقد من ذهب، وغيره. وإليك قول الشاعر:[البسيط]

واستخدموا العين منّي وهي جارية

وقد سمحت بها أيّام وصلهم

فالمراد ب: «العين» نفسه، وذاته، والمراد ب:«جارية» عينه الباصرة، التي تجري بالدمع، والمراد بقوله:«بها» نقد الذهب. وهذا يسمى في فن البديع استخداما، وتطلق العين على أشياء كثيرة، وعلى المطر الهاطل من السحاب. قال عنترة في معلقته رقم [29] -وهو الشاهد رقم [359] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم. وبنو الأعيان: الإخوة من الأبوين.

الإعراب: {عَيْناً:} بدل من {كافُوراً} على حذف مضاف، أي: ماء عين. وفي السمين:

في نصبها أوجه: أحدها: أنها بدل من {كافُوراً} . الثاني: أنها بدل من محل: {مِنْ كَأْسٍ} .

الثالث: أنها مفعول {يَشْرَبُونَ} أي: يشربون عينا من {كَأْسٍ} . الرابع: أن ينتصب على الاختصاص. الخامس: أنها مفعول ل: {يَشْرَبُونَ} مقدرا، يفسره ما بعده. السادس: أنها مفعول به بإضمار «يعطون» . السابع: أنها منصوبة على الحال من الضمير في: {مِزاجُها} . قاله مكي.

انتهى. جمل باختصار كبير. أقول: والحالية غير مسلمة؛ لأن {عَيْناً} جامدة، والحال تكون مشتقة. {يَشْرَبُ:} فعل مضارع. {بِها:} في الباء أوجه: أحدها: أنها صلة، والهاء مفعول به، أي: يشربها. الثاني: أنها بمعنى: «من» وقد ذكرته في الشرح. الثالث: أنها جارة أصلية، والجار، والمجرور متعلقان بمحذوف حال من:{عَيْناً} أي: ممزوجة بها. وساغ ذلك لوصف {عَيْناً} بالجملة الفعلية. الرابع: أنها جارة أصلية، والجار، والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

الخامس: أنها على تضمين {يَشْرَبُونَ} معنى: يلتذون بها شاربين. السادس: أنها على تضمين {يَشْرَبُ} معنى: يرتوي، أي: يرتوي بها عباد الله. {عِبادُ:} فاعل {يَشْرَبُ،} و {عِبادُ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {عَيْناً}. {يُفَجِّرُونَها:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {عِبادُ اللهِ،} والرابط: الضمير فقط.

{تَفْجِيراً:} مفعول مطلق مؤكد لعامله.

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)}

الشرح: {يُوفُونَ:} الضمير يعود إلى {الْأَبْرارَ} . {بِالنَّذْرِ:} النذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر هو إيجاب المكلف على

ص: 344

نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه؛ لم يلزمه. قال تعالى في سورة (الحج) رقم [29]: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أراد جميع ما ينذره المسلم من حج، وهدي، وصوم، وصدقة

إلخ، أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان في معصية، فعن عائشة-رضي الله عنها.

قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نذر أن يطيع الله؛ فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يف به» . رواه البخاري. وفي رواية: «فليطعه، ولا يعصه» . وعنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» . أخرجه الترمذي، وأبو داود، والنسائي.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: استفتى سعد بن عبادة-رضي الله عنه-رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمّه، فتوفّيت قبل أن تقضيه، فأمره أن يقضيه عنها. أخرجه الجماعة. وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر، وهذا مبالغة في وصف الأبرار بأداء الواجبات؛ لأن من وفى بما أوجب على نفسه؛ كان لما أوجبه الله عليه أوفى. وعن عمران بن الحصين-رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ يكون بعدهم قوم يشهدون، ولا يستشهدون، ويخونون، ولا يؤتمنون، وينذرون، ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن» . رواه البخاري، ومسلم.

{وَيَخافُونَ يَوْماً} أي: يوم القيامة. {كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي: منتشرا فاشيا ممتدا. وقيل: استطار خوفه في أهل السموات، وأهل الأرض، وفي أولياء الله، وأعدائه. وقيل: فشا شره في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس، والقمر، وفي الأرض فتشققت الجبال، وغارت المياه، ونسفت الجبال، فكانت هباء منبثا. هذا؛ والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة، والزجاجة، واستطال إذا امتد. قال الأعشى:[المتقارب]

وبانت وقد أورثت في الفؤا

د صدعا على نأيها مستطيرا

ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر: إذا انتشر الضوء. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه-مشيرا إلى ما فعله المسلمون ببني قريظة الذين نقضوا العهد، ونكثوا الميثاق مع النبي صلى الله عليه وسلم:[الوافر]

وهان على سراة بني لؤيّ

حريق بالبويرة مستطير

هذا؛ وقد قال الخازن-رحمه الله تعالى-: لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة؛ وصف أعمالهم في الدنيا؛ حتى استوجبوا هذا الثواب. وقال الكلبي: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي:

يتممون العهود؛ لقوله تعالى في كثير من الآيات: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ،} وقوله جل ذكره في أول سورة (المائدة): {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أمروا بالوفاء بهما؛ لأنهم عقدوهما على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. وأقول: بقولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومن لوازم هذه الكلمة ومن متطلباتها الوفاء بالعهود، بل وكل ما أمر الله به، وكل ما نهى عنه من لوازمها، ومتطلباتها، ودليل ذلك

ص: 345

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة» . قيل: وما إخلاصها؟ قال: «أن تحجزه عن محارم الله» . رواه الطبراني في الأوسط عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه، وفي الكبير؛ إلا أنه قال:«أن تحجزه عمّا حرّم الله» .

الإعراب: {يُوفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِالنَّذْرِ:} متعلقان بما قبلهما، واعتبار الباء هنا صلة، فالمعنى يؤيده، وعليه ف:(النذر) مفعول به فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنه قيل: بم استحقوا هذا النعيم؟ وجملة: {وَيَخافُونَ يَوْماً} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {شَرُّهُ:} اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة.

{مُسْتَطِيراً:} خبرها، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {يَوْماً} .

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)}

الشرح: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ:} قال ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهما: على حب الطعام، وقلته، وشهوتهم له، والحاجة إليه. انتهى. وعليه فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام، ويواسو أهل الحاجة به، وذلك؛ لأن أشرف أنواع الإحسان، والبر إطعام الطعام؛ لأن به قوام الأبدان. وقال أبو سليمان الداراني: على حب الله تعالى، أقول: وكلاهما صحيح، وجيد. ومثل هذه الآية في إرجاع الضمير قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [176]:{وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ..} . إلخ. {مِسْكِيناً} أي: ذا مسكنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليس المسكين الذي تردّه اللقمة، واللقمتان، والتمرة، والتمرتان، ولكن المسكين الّذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» . رواه البخاري، ومسلم.

{وَيَتِيماً} أي: صغيرا، وهو الذي فقد أباه الذي يكتسب له، وينفق عليه، روى منصور عن الحسن: أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر-رضي الله عنهما، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، ثم جاء بعدما فرغ ابن عمر من طعامه، فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق، وعسل، فقال: دونك هذا؛ فو الله ما غبنت! قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن!.

{وَأَسِيراً:} قيل: هو المسجون من أهل القبلة، يعني: من المسلمين. وقيل: هو من أهل الشرك، أمر الله المسلمين بالأسرى أن يحسنوا إليهم، وأن أسراهم يومئذ أهل الشرك. قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، ويقول له: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين، والثلاثة، فيؤثره على نفسه، ويشهد لذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم

ص: 346

عند الغداء. فعلى هذا الوجه يجوز إطعام الأسرى، وإن كانوا على غير ديننا، وأنه يرجى ثوابه، ولا يجوز أن يعطى من الصدقة الواجبة؛ كالزكاة، والكفارات على اختلاف أنواعها، والنذور.

وقيل: الأسير: المملوك. وهو قول عكرمة، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم، والمشرك، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء؛ حتى كان آخر ما وصى به أن جعل يقول:

«الصلاة، وما ملكت أيمانكم» . وقيل: الأسير: المرأة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النّساء، فإنهنّ عوان عندكم» .

هذا؛ واختلفوا في سبب نزول الآية، وما بعدها، فقيل: نزلت في رجل من الأنصار، يقال له: أبو الدحداح صام يوما، فلما كان وقت الإفطار؛ جاءه مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له، ولأهله رغيف واحد. وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أنها نزلت في علي بن أبي طالب-رضي الله عنه وكرّم الله وجهه-وذلك: أنه عمل ليهودي على شيء من شعير، فقبض ذلك الشعير، فطحنت السيدة فاطمة-رضي الله عنها-ثلثه، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه، فلما فرغوا منه؛ أتى مسكين، فسأل، فأعطوه ذلك، ثم عملوا الثلث الثاني، فلما فرغوا منه؛ أتى يتيم فسأل، فأعطوه ذلك. ثم عملوا الباقي، فلما تم نضجه؛ أتى أسير من المشركين، فسأل فأعطوه ذلك، وطووا يومهم، وليلتهم، فنزلت هذه الآية. أقول: وخصوص السبب لا يمنع التعميم، فكل من أطعم المسكين، واليتيم، والأسير لله تعالى، وآثر على نفسه تشمله الآية.

هذا؛ وقد ذكر النقاش، والثعلبي، والقشيري، وغير واحد من المفسرين في قصة علي، وفاطمة رضي الله عنهما-حديثا لا يصح، ولا يثبت. رواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي-رضي الله عنه وفي تلك القصة قطع شعرية منسوبة إلى عليّ وإلى فاطمة، وإلى المسكين، واليتيم، والأسير، يخاطبون بها بيت النبوة. ولقد أحسن أبو حيان-رحمه الله تعالى-إذ يقول فيها: وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جدا ظاهرة الاختلاق لسفساف ألفاظها، وكسر أبياتها، وسفاطة معانيها.

هذا؛ وقد ذكر القرطبي-رحمه الله تعالى-القصة المختلقة، والأشعار المزيفة كلها، ثم قال: وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة-رضي الله عنهما، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أدّاه إلى هؤلاء الرواة؟ فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى، بلغني أن قوما يخالدون في السجون، فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر، وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث المفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة؛ رموا بها، وزيفوها. وما من شيء إلا وله آفة ومكيدة، وآفة الدّين وكيده أكثر. انتهى.

الإعراب: {وَيُطْعِمُونَ:} الواو: حرف عطف. (يطعمون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {الطَّعامَ:} مفعول به أول.

{عَلى حُبِّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما على عود الضمير إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من

ص: 347

إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: على حبهم الله، أو على حبهم الطعام.

{مِسْكِيناً:} مفعول به ثان، وما بعده معطوف عليه.

{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)}

الشرح: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ:} لأجل الله، وطلب ثوابه، ومرضاته؛ أي: يقولون ذلك بألسنتهم للمسكين، واليتيم، والأسير. {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً:} مكافأة على ذلك. {وَلا شُكُوراً} أي:

ولا أن تثنوا علينا بذلك. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا، وعن سالم عن مجاهد؛ قال: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم، فأثنى به عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب. وقيل: قالوا ذلك؛ ليقتدي بهم غيرهم، وذلك: أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى، لا يراد به غيره، فهذا هو الإخلاص، وهذا ما فعله الصديق-رضي الله عنه-وأثنى الله به عليه في قوله في سورة (الليل):{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى} .

وتارة يكون لطلب المكافأة، أو لطلب الحمد، والثناء من الناس، أو لهما، وهذان القسمان مردودان، لا يقبلهما الله تعالى؛ لأن فيهما رياء، وشركا، انظر الآية رقم [262] من سورة (البقرة)، والرسول صلى الله عليه وسلم قد شدد النكير على المرائين، والأحاديث في ذلك كثيرة مسطورة، أكتفي منها بما يلي: عن شداد بن أوس-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يرائي؛ فقد أشرك، ومن صلّى يرائي؛ فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك» . رواه البيهقي.

هذا؛ ولا يفوتني أن أذكر أن شكر المعروف واجب، والثناء على فاعله من غير أن يبتغيه لا بأس به. وخذ ما يلي: فعن جابر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطي عطاء، فوجد؛ فليجز به، فإن لم يجد؛ فليثن، فإنّ من أثنى؛ فقد شكر، ومن كتم؛ فقد كفر، ومن تحلّى بما لم يعط؛ كان كلابس ثوبي زور» . أخرجه الترمذي. وعن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا؛ فقد أبلغ في الثّناء» .

وعن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» . ورحم الله من يقول: [الطويل]

ومن لم يؤدّ الشكر للنّاس لم يكن

لإحسان ربّ النّاس يوما بشاكر

ولا تنس: أن الله جل ثناؤه قد قرن شكره بشكر الوالدين، وذلك بقوله تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} رقم [14] من سورة (لقمان).

ص: 348

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {نُطْعِمُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول بلفظ المقال، أو بلسان الحال، كما رأيت في الشرح وفيها معنى التعليل. {لِوَجْهِ:} متعلقان بما قبلهما، و (وجه) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {لا:} نافية. {نُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:

«نحن» . {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما على التنازع.

{جَزاءً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {شُكُوراً:} معطوف على ما قبله. وجملة: {لا نُرِيدُ..} . إلخ في محل نصب حال، من فاعل {نُطْعِمُكُمْ} المستتر، والرابط الضمير فقط.

{إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)}

الشرح: المعنى: إنّ إحساننا إليكم، وإيثارنا إياكم بالطعام للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لطلب مكافأتكم، ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم، فقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وأن يشبه في شدته، وضرره بالأسد العبوس، أو بالشجاع الباسل. هذا؛ وعن ابن عباس أيضا: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل. وقيل: القمطرير: الشديد، تقول العرب:

يوم قمطرير، وقماطر، وعصيب بمعنى، وأنشد الفراء قول الشاعر:[الطويل]

بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر؟

وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء. قال الشاعر:[الطويل]

ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها

ولجّ بها اليوم العبوس القماطر

وقال أبو عبيدة: يقال: رجل قمطرير، أي: متقبّض ما بين العينين. وقال الزجاج: يقال:

اقمطرّت الناقة: إذا رفعت ذنبها، وجمعت قطريها، وزمت بأنفها، فاشتقه من القطر، وجعل الميم زائدة. قال أسد بن ناعسة:[الخفيف]

واصطليت الحروب في كلّ يوم

باسل الشّرّ قمطرير الصّباح

الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {نَخافُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {مِنْ رَبِّنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَوْماً:} مفعول به. {عَبُوساً:} صفة {يَوْماً} . {قَمْطَرِيراً:} صفة ثانية، وجملة:{نَخافُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للإطعام، وهي من جملة مقول القول.

ص: 349

{فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)}

الشرح: {فَوَقاهُمُ اللهُ..} . إلخ: أي: حفظهم الله، ودفع عنهم بأس ذلك اليوم، وشدته، وعذابه. {وَلَقّاهُمْ} أي: آتاهم، وأعطاهم حين لقوه يوم القيامة. {نَضْرَةً:} حسنا في الوجوه.

{وَسُرُوراً:} فرحا في القلوب. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها: البياض، والنقاء. قاله الضحاك. الثاني: الحسن، والبهاء. قاله ابن جبير. الثالث: أثر النعمة. قاله ابن زيد. وهذا كقوله تعالى في سورة (عبس): {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} وذلك: أن القلب إذا سر؛ استنار الوجه. قال كعب بن مالك-رضي الله عنه-في حديثه الطويل عن تخلفه في غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا سرّ؛ استنار وجهه؛ حتى كأنّه فلقة قمر» . وقالت عائشة-رضي الله عنها: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا، تبرق أسارير وجهه» . من حديث الإفك الطويل.

الإعراب: {فَوَقاهُمُ:} الفاء: حرف سبب، واستئناف، أو وتفريع. (وقاهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {شَرَّ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {الْيَوْمِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، والجملة الفعلية: (وقاهم

) إلخ مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها وإعرابها مثلها بلا فارق.

{وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)}

الشرح: {وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا} أي: بصبرهم على طاعة الله، واجتناب معصيته، وعلى البلاء، الذي من جملته الفقر، والجوع، مع الوفاء بالنذر، والإيثار. وانظر الآية رقم [10] من سورة (المزمل) هذا؛ والجزاء، والمجازاة، والمكافأة على عمل ما تكون في الخير، وتكون في الشر.

فمن الأول: ما في الآية الكريمة، وقوله تعالى في سورة (الرحمن):{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} والثاني كثير وذلك حينما يذكر عذاب الكافرين والظالمين، والفاسقين مثل:{وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ،} {وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ} . هذا؛ والفعل: جزى، يجزي ينصب مفعولين.

{جَنَّةً وَحَرِيراً:} قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى وجزاهم ربهم بصبرهم على الإيثار، وما يؤدي إليه من الجوع، والعري بستانا، فيه مأكل هني، وحريرا فيه ملبس بهيّ. انتهى. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من لبس الحرير في الدّنيا، لم يلبسه في الآخرة» . وإنما ألبسهم الله إياه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها. وانظر الآية رقم [15] الآتية.

ص: 350

الإعراب: {وَجَزاهُمْ:} الواو: حرف عطف. (جزاهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به أول. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما):

مصدرية. {صَبَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار، والمجرور متعلقان بما قبلهما. {جَنَّةً:} مفعول به ثان. {(حَرِيراً):} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية (جزاهم

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)}

الشرح: {مُتَّكِئِينَ} أي: مضطجعين، أو متربعين. وفي القاموس: توكأ عليه: تحامل، واعتمد. واتكأ: جعل له متكأ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أمّا أنا فلا آكل متكئا» . أي: جالسا جلوس المتمكن المتربع، ونحوه من الهيئات المستدعية لكثرة الأكل، بل كان جلوسه صلى الله عليه وسلم للأكل مستوفزا مقعيا غير متربع ولا متمكن، وليس المراد الميل على شق، كما يظنه عوام الطلبة. هذا؛ وأصل متكئين: موتكئين، واتكأ أصله: اوتكأ، والتكأة أصلها: التّوكأة، فقلبت الواو تاء، وأدغمت في التاء. هذا؛ و {الْأَرائِكِ} السرر في الحجال، واحدها: أريكة، مثل: سفينة وسفائن، والمراد بها: نحو القبة تغلق على السرير، وتزين بها العروس. قال الشاعر:[الطويل]

كأنّ احمرار الورد فوق غصونه

بوقت الضحى في روضة المتضاحك

خدود عذارى قد خجلن من الحيا

تهادين بالرّيحان فوق الأرائك

وقيل: الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، وإلا؛ فهي وسادة. قال ذو الرمة:[الطويل]

خدود جنت في الليل حتّى كأنّما

يباشرن بالمعزاء مسّ الأرائك

{لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} أي: لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس، ولا بردا مفرطا كبرد الدنيا. قال الأعشى:[المتقارب]

منعّمة طفلة كالمها

ة لم تر شمسا ولا زمهريرا

وعن أبي صالح عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النّار إلى ربّها عز وجل. قالت: يا ربّ! أكل بعضي بعضا. فجعل لها نفسين: نفسا في الشتاء، ونفسا في الصيف، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون من الحرّ في الصّيف من سمومها» . أخرجه الشيخان والترمذي مع اختلاف في بعض الألفاظ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هواء الجنة سجسج، لا حرّ، ولا برد» . والسجسج الظل الممتد، كما بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس.

ص: 351

وقال مرّة الهمداني: الزمهرير: البرد القاطع. وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رؤوس الإبر، ينزل من السماء في غاية البرد. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم العجلي:[الرجز]

أو كنت ريحا كنت زمهريرا

هذا؛ ولعلك تدرك معي: أن العقول كانت تستبعد، بل وتستنكر وجود الحر، والبرد في نار جهنم، ولكن في هذه الأيام تسلم العقول السليمة، والفطر المستقيمة بذلك، وذلك بعد التأمل في الكهرباء التي يصدر عنها الحر، والبرد، وهذا مشاهد، ومرئي لا خفاء فيه، ولا تنس استنكار كفار قريش لوجود شجرة الزقوم في النار، وقد بينه في كثير من الآيات. هذا؛ وقال ثعلب: الزمهرير القمر بالغة طيّئ. قال شاعرهم: [الرجز]

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر

أي: لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا، ولا قمرا كقمر الدنيا؛ أي: إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه، ولا نهار؛ لأن ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر، انظر ما ذكرته في سورة (مريم) رقم [62] بعد هذا القول: المعتمد الأول، وهو وجود الزمهرير في نار جهنم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {مُتَّكِئِينَ:} حال من الضمير المنصوب، وقال الجلال: حال من مرفوع «ادخلوها» المقدر، وأجاز أبو البقاء، والزمخشري اعتباره صفة ل:{جَنَّةً} ومنعه مكي لعدم الضمير الرابط، وأجيب بتقدير: متكئين هم فيها؛ لجريان الصفة على غير من هي له، وفاعله ضمير مستتر فيه.

{فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُتَّكِئِينَ} . {عَلَى الْأَرائِكِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر ب: {مُتَّكِئِينَ} . وقيل: العكس بتعليقهما، وإن علقتهما جميعا ب:{مُتَّكِئِينَ} فلست مفندا.

{لا:} نافية. {يَرَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {فِيها:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {شَمْساً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا):

نافية. {زَمْهَرِيراً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في {مُتَّكِئِينَ} فتكون حالا متداخلة، أو هي حال متكررة، كما أجيز اعتبارها صفة {جَنَّةً} .

{وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)}

الشرح: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها} أي: ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلّة عليهم زيادة في نعيمهم، وإن كان لا شمس، ولا قمر ثمّ، كما أن أمشاطهم الذهب، والفضة، وإن كان

ص: 352

لا وسخ، ولا شعث ثمّ، وإنما هي للتلذذ، والترفه. {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً} أي: سخرت ثمارها لهم تسخيرا، يأكلون منها قياما، وقعودا، ومضطجعين، ويتناولونها كيف شاؤوا، وعلى أي حال أرادوا، وفي سورة (الحاقة):{قُطُوفُها دانِيَةٌ،} وفي سورة (الرحمن) الآية [54]: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ} هذا؛ و {قُطُوفُها} جمع: قطف بكسر القاف بمعنى مفعول، كالذّبح بمعنى المذبوح، وهو ما يجتنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح؛ فالمصدر، والقطاف بالفتح، والكسر: وقت القطاف. هذا؛ والمذلل: القريب المتناول من قولهم: حائط ذليل، أي: قصير، و {ذَلُولٌ} لم تذلل للركوب، ولا للسقي، ولا للحرث. قال تعالى:{قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} رقم [71] من سورة (البقرة) وقال امرؤ القيس من معلقته رقم [47]: [الطويل]

وكشح لطيف كالجديل مخصّر

وساق كأنبوب السّقيّ المذلّل

تنبيه: قال الجمل نقلا عن كرخي: فإن قيل: كيف يوصف ظلها، أي: ظل ما فيها من الأشجار. مع أن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، ولا شمس في الجنة؛ حتى يظل أهلها ما فيها من الأشجار؟ فالجواب أن المراد: أن أشجار الجنة تكون بحيث لو كانت هناك شمس، لكان ظل تلك الأشجار قريبا منهم. انتهى.

الإعراب: {وَدانِيَةً:} فيها أوجه: أحدها: أنها عطف على محل {لا يَرَوْنَ،} الثاني: أنها معطوفة على {مُتَّكِئِينَ} فيكون فيها ما فيها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحر، والقر، ودنو الظلال عليهم.

الثالث: أنها صفة لموصوف محذوف، أي: وجنة دانية. قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفة ل: {جَنَّةً} الملفوظ بها. قاله الزجاج. انتهى. جمل نقلا عن السمين. هذا؛ وقال الفراء:

منصوب على المدح، أي: دنت دانية. هذا؛ وقرئ برفع (دانية) على أنه خبر مقدم، و {ظِلالُها} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {لا يَرَوْنَ}. قاله الزمخشري. وقال مكي: في موضع الحال من الهاء، والميم، أو من المضمر في {مُتَّكِئِينَ} وقول الزمخشري أحق بالاعتبار. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: (دانية). {ظِلالُها:} فاعل بدانية، أو هو مبتدأ مؤخر حسبما رأيت. هذا؛ وينبغي أن تعلم: أن (دانية) في الأصل صفة {ظِلالُها} فلما تقدم النعت على المنعوت انتصب، ومثله قوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [3]:{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} وقوله تعالى في سورة (القلم) رقم [42]: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} . {وَذُلِّلَتْ:} الواو: واو الحال.

(ذللت): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {قُطُوفُها:} نائب فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على (دانية) فهي في محل نصب حال مثلها، وهي على تقدير:«قد» قبلها. هذا؛ وقال الزمخشري: فإن قلت: فعلام عطف: {وَذُلِّلَتْ؟} قلت: هي إذا رفعت (دانية) جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من

ص: 353

(دانية) أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، أو معطوفة عليها، أي: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها، وإذا نصبت {وَدانِيَةً} على الوصف، فهي صفة مثلها، ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها كان صحيحا. {تَذْلِيلاً:} مفعول مطلق.

{وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)}

الشرح: {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} أي: يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، أي: ما في الجنة أشرف، وأعلى، وأنقى! ثم لم تنف الأواني الذهبية، بل المعنى:

يسقون في أواني الفضة، وقد يسقون في أواني الذهب، وقد قال تعالى في سورة (الزخرف) رقم [71]:{يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ،} والمعنى: أن لهم في الجنة أطعمة، وأشربة، يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب، وأكواب، ولم يذكر الأطعمة، والأشربة؛ لأنه يعلم: أنه لا معنى للإطافة بالصحاف، والأكواب، والآنية عليهم من غير أن يكون فيها شيء.

وفي الصحيحين عن حذيفة-رضي الله عنه-أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبسوا الحرير، ولا الدّيباج، ولا تشربوا في آنية الذّهب، والفضّة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنّها لهم في الدّنيا، ولكم في الآخرة» . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهل الجنّة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يمتخطون» . قالوا: فما بال الطعام؟ قال: «جشاء، ورشح كرشح المسك، يلهمون التّسبيح، والتّحميد، والتكبير كما يلهمون النّفس» . وروى الأئمة من حديث أم سلمة-رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الّذي يشرب في آنية الذّهب، والفضّة؛ إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم» .

وقال: «لا تشربوا في آنية الذّهب، والفضّة، ولا تأكلوا في صحافهما» .

وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك. ويقاس على الأكل، والشرب سائر الاستعمالات. وأيضا: الاقتناء لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب، والحرير:«هذان حرام لذكور أمتي حلّ لإناثها» .

هذا؛ و (أكواب) جمع: كوب، وهو وعاء مدور، لا أذن له، ولا عروة بخلاف الإبريق فإن له ذلك، والملاحظ: أن لفظ: (أكواب) جاء بسورة (الزخرف) وفي هذه السورة، وفي سورة (الواقعة) و (الغاشية) بلفظ الجمع ولم يأت له مفرد قطعا؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق، والظهور، والرقة، والانكشاف، وحسن التناسب كلفظ:(أكواب) الذي هو الجمع، وقل مثله في:

أباريق، فإنه لم يستعمل منه مفرد، ولم يذكر إلا في سورة (الواقعة)، ومفرده: إبريق، سمي بذلك؛ لأنه يبرق لونه من صفائه. هذا؛ وقد جاء لفظ الكوب مفردا في قول عدي بن زيد:[السريع]

ص: 354

متّكئا تقرع أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ما معنى {كانَتْ؟} قلت: هو من (يكون) في قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} أي: تكونت قوارير بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، ومنه كان في قوله تعالى:{كانَ مِزاجُها كافُوراً،} {كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً} .

هذا؛ والقوارير: الزجاج الأبيض الجميل، وهو جمع: القارورة. وفي المصباح: القارورة:

إناء من زجاج، والجمع: القوارير، والقارورة أيضا: وعاء الرطب، والتمر، وهي القوصرة.

وتطلق القارورة على المرأة؛ لأن الولد، أو المني يقر في رحمها، كما يقر الشيء في الإناء، أو تشبيها لها بآنية الزجاج لضعفها، وفي الحديث الشريف من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«رفقا بالقوارير» .

قال الأزهري: والعرب تكني عن المرأة بالقارورة، والقوصرة. انتهى. وفي القاموس المحيط:

والقارورة: حدقة العين، وما قرّ فيه الشراب، أو نحوه، أو يخص بالزجاج، و {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} أي: من زجاج في بياض الفضة، وصفاء الزجاج. وانظر ما قيل في صرف (سلاسل) فهو مثله.

الإعراب: {وَيُطافُ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (يطاف): فعل مضارع مبني للمجهول. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما في محل رفع نائب فاعله، ومثلهما قوله:{بِآنِيَةٍ} . {مِنْ فِضَّةٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (آنية). {وَأَكْوابٍ:} معطوف على ما قبله.

{كانَتْ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هي» ، يعود إلى (أكواب). {قَوارِيرَا:}

خبر (كان) وإن اعتبرتها تامة ف: {قَوارِيرَا} حال من فاعلها المستتر، والجملة الفعلية صفة (أكواب).

{قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16)}

الشرح: {قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا القوارير من فضة، وقال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها؛ حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير. والمعنى: يرى ما في باطنها من ظاهرها. {قَدَّرُوها تَقْدِيراً} أي: قدروا الكؤوس على قدر ريهم، وكفايتهم لا تزيد، ولا تنقص، والمعنى: أن السقاة، والخدم الذين يطوفون عليهم، يقدرونها لهم، ثم يسقونها، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها، ولا يعجز، وعن مجاهد: لا تفيض، ولا تغيض. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قَوارِيرَا:} بدل مما قبله. {مِنْ فِضَّةٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {قَوارِيرَا} .

{قَدَّرُوها:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {تَقْدِيراً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{قَوارِيرَا،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم.

ص: 355

{وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)}

الشرح: {وَيُسْقَوْنَ} أي: الأبرار. {فِيها:} في الجنة. {كَأْساً} أي: مملوءة خمرا من خمر الآخرة، المنزهة عن اللغو، والرفث. {كانَ مِزاجُها:} شوبها، وخلطها. {زَنْجَبِيلاً} والمعنى:

يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأسا من الخمر ممزوجة بالزنجبيل، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته، فتارة يمزج للأبرار الشراب بالكافور، وهو بارد، وتارة بالزنجبيل، وهو حار ليعتدل الأمر، وأما المقربون؛ فإنهم يشربون من كل منهما صرفا، كما قاله قتادة، وغير واحد. وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته؛ لأنه يحذو اللسان، ويهضم المأكول، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة، والطيب. وقال المسيب بن علس يصف ثغر المرأة:[الكامل]

وكأنّ طعم الزّنجبيل به

إذ ذقته وسلافة الخمر

وقال الأعشى: [المتقارب]

كأنّ القرنفل والزنجبي

ل باتا بفيها وأريا مشورا

وقال بعض بني تميم-وهو الشاهد رقم [687] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الرجز]

وا بأبي أنت وفوك الأشنب

كأنّما ذرّ عليه الزّرنب

أو زنجبيل وهو عندي أطيب

هذا؛ والأري: العسل. و «مشور» مستخرج من بيوت النحل. والشنب: رقة الأسنان.

وقيل: عذوبة الفم، والزرنب: نبت طيب من نبات البادية.

الإعراب: {وَيُسْقَوْنَ:} الواو: حرف عطف. (يسقون): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {كَأْساً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة: (يطاف

) إلخ على الوجهين المعتبرين فيها. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {مِزاجُها:} اسمها، و (ها) في محل جر بالإضافة. {زَنْجَبِيلاً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة {كَأْساً} .

{عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً (18)}

الشرح: {تُسَمّى سَلْسَبِيلاً:} السلسبيل: الشراب اللذيذ، وهو فعلليل من السّلاسة، تقول العرب:

هذا شراب سلس، وسلسال، وسلسل وسلسبيل بمعنى. أي: طيب الطعم لذيذه، وفي الصحاح:

وتسلسل الماء في الحلق: جرى، وسلسلته أنا: صببته فيه. وماء سلسل، وسلسال: سهل الدخول

ص: 356

في الحلق لعذوبته، وصفائه. وقال الزجاج: السلسبيل في اللغة: اسم لما كان في غاية السّلاسة، فكأن العين سميت بصفتها. وقيل: حديدة الجرية سميت سلسبيلا؛ لأنها تسيل عليهم في طرقهم ومنازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان، وبه قال ابن عباس-رضي الله عنهما. ومنه قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه-في مدح آل جفنة قبل إسلامه:[الكامل]

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل

وقال أبو كبير الهذلي-وهو الشاهد رقم [449] من كتابنا: «فتح رب البرية» ، وهو في «فتح القريب المجيب» أيضا-:[الكامل]

أم لا سبيل إلى الشّباب وذكره

أشهى إليّ من الرّحيق السّلسل

هذا؛ وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-أن معناه: سل سبيلا إليها، وهذا غير مستقيم على ظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلا جعلت علما للعين، كما قيل:(تأبط شرّا) و (ذرى حبّا) وسميت بذلك؛ لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلف، وابتداع، وعزوه إلى مثل علي-رضي الله عنه-أبدع، وفي شعر بعض المحدثين:[الخفيف]

سل سبيلا فيها إلى راحة النّف

س براح كأنّها سلسبيل

انتهى. كشاف واستبعد ابن هشام في المغني الاعتبارين. هذا؛ وقال صاحب منجد الطلاب: سلسبيل: اسم عين يقولون: إنها في الجنة. انتهى. نعم! نقول: إنها في الجنة، ولا حظ له فيها قطعا، بل هي محرمة عليه وعلى من على شاكلته بلا شك. وقال ابن الأعرابي:

لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، وقال مكي: هو اسم أعجمي نكرة، فلذلك صرف، ووزنه مثل: دردبيس، وزنه: فعفليب. وانظر الآية.

الإعراب: {عَيْناً:} بدل من {زَنْجَبِيلاً} . وقيل: بدل من {كَأْساً،} وأجيز اعتباره منصوبا بفعل مضمر، أي: يسقون عينا، وأجيز نصبه بإسقاط الخافض، أي: من عين. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {عَيْناً} . {تُسَمّى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل تقديره:«هي» يعود إلى {عَيْناً} وهو المفعول الأول. {سَلْسَبِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{عَيْناً،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)}

الشرح: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} أي: غلمان لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يتغيرون، ولا ينتقلون من حالة إلى حالة. ومنه قول امرئ القيس:[الطويل]

ص: 357

وهل ينعمن إلاّ سعيد مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: {مُخَلَّدُونَ} مقرّطون، والخلد: القرط، وهو الحلقة تعلق في الأذن. قال الشاعر:[الطويل]

ومخلّدات بالّجين كأنّما

أعجازهنّ أقاوز الكثبان

فهم على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون كما شاؤوا من غير ولادة. وقال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-والحسن البصري: الولدان هاهنا ولدان المسلمين؛ الذين يموتون صغارا، ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي-رضي الله عنه: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور، والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم، والولدان بالإنسان.

أقول: ما نسب إلى علي، والحسن ضعيف جدا؛ لأن أولاد المسلمين الصغار، يكونون مع آبائهم، وأمهاتهم، وهو من جملة السرور، بل من أعظم السرور اجتماعهم بهم. قال تعالى في سورة (الطور) رقم [21]:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وتشبهها آية (الرعد) رقم [23] ولأن من المؤمنين من لا ولد له، فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم، وقول سلمان الفارسي أولى بالاعتبار؛ لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب، فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم، وتوقف فيهم طائفة، والمذهب الثالث، (وهو الصحيح) الذي ذهب إليه المحققون: أنهم من أهل الجنة. ولكل مذهب دليل ليس هنا موضعه. وقال الخازن في سورة (الواقعة): والصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله تعالى: أنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور العين، ولم يولدوا، ولم يخلقوا عن ولادة. ولا بأس به!.

{إِذا رَأَيْتَهُمْ} أي: أبصرتهم. {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أي: ظننتهم من حسنهم، وكثرتهم، وصفاء ألوانهم لؤلؤا في مجالسهم، ومنازلهم، شبهوا باللؤلؤ المنثور هنا وهناك، واللؤلؤ إذا نثر بساطا، كان أحسن منه منظوما. وعن المأمون العباسي: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط، فاستحسن المنظر. وقال: لله در أبي نواس، كأنه أبصر هذا؛ حيث قال:[البسيط]

كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب

وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب؛ إذا نثر من صدفه؛ لأنه أحسن، وأكثر رواء. وقيل: إنما شبهوا بالمنثور؛ لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين؛ إذ شبههن الله باللؤلؤ المكنون المخزون؛ لأنهن لا يمتهن بالخدمة، وذلك بقوله تعالى في سورة (الواقعة):{وَحُورٌ عِينٌ} (22)

ص: 358

{كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} كما وصفهم الله باللؤلؤ المكنون للتفنن، وذلك في سورة (الطور) رقم [24] بقوله تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} انظر شرح هذه الآية في محلها.

وفي قوله تعالى: {حَسِبْتَهُمْ..} . إلخ، تشبيه مأخوذ من معنى حسبتهم، وهو تشبيه بديع، فقد شبه الولدان باللؤلؤ المنثور، فهو قسم من أقسام التشبيه جاءت فيه الأداة فعلا من أفعال الظن، ومثله قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [18]:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ،} وقوله تعالى في سورة (النمل) رقم [44]: {فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} .

الإعراب: {وَيَطُوفُ:} الواو: حرف عطف. (يطوف): فعل مضارع. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وِلْدانٌ:} فاعل (يطوف). {مُخَلَّدُونَ:} صفة {وِلْدانٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب.

{رَأَيْتَهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {حَسِبْتَهُمْ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {لُؤْلُؤاً:} مفعول به ثان.

{مَنْثُوراً:} صفة له، والجملة الفعلية جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها في محل رفع صفة ثانية ل:{وِلْدانٌ،} أو هو كلام مستأنف، لا محل له.

{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20)}

الشرح: {وَإِذا رَأَيْتَ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يدخل الجنة، وحذف المفعول للتعميم. {رَأَيْتَ نَعِيماً:} النعيم: سائر ما يتنعم به. {وَمُلْكاً كَبِيراً} أي: مملكة لله هناك عظيمة، وسلطانا باهرا، وثبت في الصحيح: أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها:«إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها» . وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعا: «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه، كما ينظر إلى أدناه» . فإذا كان هذا عطاء الله تعالى لأدنى أهل الجنة، فما ظنك بمن هو أعلى منزلة، وأحظى عنده تعالى؟ وقال سفيان الثوري-رحمه الله تعالى-: بلغنا: أن الملك الكبير هو تسليم الملائكة عليهم. وقيل: كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك في الدنيا، وأعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه كلّ يوم. هذا؛ و {ثَمَّ} هنا بفتح الثاء ظرف مكان، وهي بخلاف «ثمّ» بضم الثاء، انظر الآية رقم [32] من سورة (الحاقة). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

تنبيه: ذكر السيوطي في: «أسباب النزول» فقال: وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد على حصير من جريد؛ وقد أثر في جنبه، فبكى عمر-رضي الله عنه-فقال:«ما يبكيك» ؟! قال: ذكرت كسرى، وملكه، وهرمز، وملكه، وصاحب الحبشة، وملكه، وأنت رسول الله تنام على حصير من جريد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أنّ لهم

ص: 359

الدنيا، ولنا الآخرة؟!». فأنزل الله:{وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ..} . إلخ، وانظر ما ذكرته في سورة (الأحقاف) رقم [20] فإنه جيد.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية السابقة. {رَأَيْتَ:} فعل، وفاعل، والمفعول لم يذكر، ولا ينوى، ولا يسمى محذوفا؛ لأن الفعل نزل منزلة ما لا مفعول له إذا المراد الإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل، أفاده ابن هشام في المغني. وقال الفراء:

{ثَمَّ} مفعول به لرأيت. وقال أيضا: {وَإِذا رَأَيْتَ} تقديره: ما ثمّ، فحذفت «ما» ، وقامت {ثَمَّ} مقام «ما» ، ورد هذا الزمخشري، فقد قال: ومن قال معناه: ما ثمّ فقد أخطأ؛ لأن {ثَمَّ} صلة ل: «ما» ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، وما قاله الزمخشري محجوج بقوله حسان رضي الله عنه-في هجاء أبي سفيان-وهو الشاهد رقم [1058] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغني اللبيب-: [الوافر]

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

التقدير: ومن يمدحه

إلخ. {ثَمَّ:} ظرف مكان بمعنى هنالك مبني على الفتح في محل نصب متعلق بالفعل {رَأَيْتَ،} أو هو متعلق بمحذوف صلة الموصول المحذوف، أو هو في محل نصب مفعول به حسبما رأيت في الشرح، وجملة:{رَأَيْتَ ثَمَّ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها.

{رَأَيْتَ:} فعل، وفاعل. {نَعِيماً:} مفعول به. (ملكا): معطوف على ما قبله. {كَبِيراً:} صفة (ملكا)، وجملة:{رَأَيْتَ نَعِيماً..} . إلخ جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله. هذا؛ وانظر حذف مفعول رأيت في سورة (التكاثر)، فإنه جيد والحمد لله.

{عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)}

الشرح: {عالِيَهُمْ:} يقرأ بسكون الياء، وتحريكها بالفتحة. انظر الإعراب، وهو بمعنى:

فوقه. {ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} أي: ما يعلوهم من الثياب، وما يتجملون به، إنما هو من سندس، وهو ما رقّ من الحرير. {وَإِسْتَبْرَقٌ:} هو ما غلظ من الحرير، وقد يطلق على النوعين اسم:

الديباج. هذا؛ وقيل: السندس يكون مما يلي أبدانهم، والإستبرق، وهو ما فيه بريق ولمعان يكون فوق الأول، كما هو المعهود في لباس الدنيا: ثياب داخلية، وثياب فوقها. هذا؛ و {ثِيابُ} جمع: ثوب، أصله: ثواب، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ومثله: صيام، وحياض

إلخ، وانظر ما ذكرته برقم [7] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والإستبرق: مختلف فيه، هل هو عربي، مشتق أصله من البريق، أو هو معرب، أصله استبره؟ خلاف بين اللغويين.

ص: 360

قال الزمخشري: فإن قلت: ذكر هاهنا: أن أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب؟ قلت: هب أنه قيل: وحلّوا أساور من ذهب، ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه على أنهم يسورون بالجنسين، إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي، وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب، وسوار من فضة! ولا تنس: أن التعبير بالماضي (حلوا) عن المستقبل: «يحلون» لتحقق وقوعه.

وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ. وهو المنصوص عليه في القرآن، في سورة (الكهف) رقم [31]، وفي سورة (الحج) رقم [23]، وأيضا في سورة (فاطر) رقم [33]، وقال هنا:{وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} . وخص اللون الأخضر بالذكر هنا وفي سورة (الكهف) رقم [31]؛ لأنه أحسن الألوان، وأكثرها طراوة، وأعلاها بهجة، ولأن البياض يبدد النظر، ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بينهما، وذلك يجمع الشعاع.

{وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ..} . إلخ يعني: طاهرا من الأقذار، والأدران، لم تمسه الأيدي، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا. وقيل: إنه لا يستحيل بولا، ولكنه يستحيل رشحا في أبدانهم، كرشح المسك، وذلك: أنهم يؤتون بالطعام، ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور، فيشربون منه، فتطهر بطونهم، ويصير ما أكلوا رشحا، يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم، وتعود شهياتهم. وقيل: الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة، من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل، وغش، وحسد، وكبر

إلخ. ولا تنس أن (الطهور) صيغة مبالغة.

وكل ما ذكر في هذه الآيات من النعيم المعد للأبرار مع ما ذكر من الأغلال، والسعير في الآية رقم [4] المعد للكافرين، والفجار إنما هو على طريقة القرآن في المقارنة بين حال الأبرار، وحال الفجار، وتلك سنة اقتضتها حكمة العليم الخبير، ورحمته في كتابه بأن لا يذكر التكذيب من الكافرين، والمنافقين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار، وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط، ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا.

كما روي عن علي-رضي الله عنه-أنه قال: إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة؛ وجدوا هنالك عينين، فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم. فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر، وجمالهم الباطن. هذا؛ وانظر قوله تعالى:{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} في سورة (الأعراف) رقم [43] وسورة (الحجر) رقم [47].

هذا؛ والفعل: (سقاهم) من الثلاثي، كما يأتي من الرباعي: أسقى، وهما بمعنى واحد، تقول: سقى الله هذه البلاد الغيث، وأسقاها الغيث، فيكون بالهمزة تارة، وبدونه أخرى، وشاهد

ص: 361

المهموز قوله تعالى في سورة (المرسلات) رقم [27]، وشاهد غير المهموز الآية التي نحن بصدد شرحها، ويحتملهما قوله تعالى:{وَسُقُوا ماءً حَمِيماً} وقوله جل ذكره في سورة (المطففين): {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ} وقد ورد اللغتان في قول لبيد-رضي الله عنه: [الوافر]

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال

ولكنه حذف المفعول الثاني من كليهما، كما حذف المفعولان من الأفعال المذكورة في سورة (القصص):{يَسْقُونَ} {لا نَسْقِي،} {فَسَقى لَهُما} . هذا؛ وفرق الأعلم بين المهموز وغيره، فقال: تقول: سقيتك ماء: إذا ناولته إياه يشربه، وتقول: أسقيتك إذا حصلت له سقيا.

الإعراب: {عالِيَهُمْ:} فعلى قراءته بسكون الياء ففيه أوجه: أظهرها: أن يكون خبرا مقدما، و {ثِيابُ} مبتدأ مؤخر، والثاني: أن (عاليهم) مبتدأ، و {ثِيابُ} فاعل به سد مسد الخبر، وإن لم يعتمد على وصف، أو نفي، أو استفهام، وهذا قول الأخفش، والكوفيين. والثالث: أن (عاليهم) منصوب، وإنما سكن تخفيفا. قاله أبو البقاء، ويجري فيه الاعتباران المذكوران من الإعراب. وعلى قراءته بالنصب ففيه أوجه: أحدها: أنه ظرف مكان بمعنى: فوقهم، فهو متعلق بمحذوف خبر مقدم، و {ثِيابُ} مبتدأ مؤخر، وعلى جميع الوجوه المذكورة فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. والثاني: أن {عالِيَهُمْ} حال من الضمير في {عالِيَهُمْ} . الثالث: أنه حال من مفعول {حَسِبْتَهُمْ} . الرابع: أنه حال من مضاف مقدر؛ أي: رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم، ف:{عالِيَهُمْ} حال من «أهل» المقدر، ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري، وغيره. والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وهذا على اعتباره حالا، وأما على اعتباره ظرف مكان؛ فالإضافة محضة، وحقيقية. و {ثِيابُ} مضاف، و {سُندُسٍ} مضاف إليه.

{خُضْرٌ:} يقرأ بالرفع على أنه صفة {ثِيابُ،} وبالجر على أنه صفة {سُندُسٍ} . {وَإِسْتَبْرَقٌ:}

يقرأ بالرفع عطفا على {ثِيابُ،} ويقرأ بالجر عطفا على {سُندُسٍ} . {وَحُلُّوا:} الواو: واو الحال. (حلوا): فعل ماض مبني للمجهول، مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {أَساوِرَ:} مفعول به ثان. {مِنْ فِضَّةٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {أَساوِرَ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير في {عالِيَهُمْ،} العائد إلى {وِلْدانٌ،} والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها، وإن عطفتها على جملة (يطوف) فلست مفندا.

{وَسَقاهُمْ:} الواو: حرف عطف. (سقاهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أول. {رَبُّهُمْ:} فاعل مرفوع، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {شَراباً:} مفعول به ثان. {طَهُوراً:} صفة (شرابا)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، على الاعتبارين فيها.

ص: 362

{إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)}

الشرح: {إِنَّ هذا كانَ..} . إلخ: أي: يقال لهم: إنما هذا جزاؤكم، وثوابكم. وهذا يكون بعد دخولهم فيها، ومشاهدتهم نعيمها، كما يقال لهم:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} سورة (الحاقة) رقم [24]. وكقوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سورة (الأعراف) رقم [43]. {وَكانَ سَعْيُكُمْ:} عملكم. {مَشْكُوراً} أي: عند الله، وشكره للعبد قبول طاعته، وثناؤه عليه، وإثابته إياه.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ،} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمها يعود إلى اسم الإشارة. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {جَزاءً} بعدهما. {جَزاءً:} خبر {كانَ،} وجملة: {كانَ لَكُمْ جَزاءً} في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والقول المحذوف، ومقوله كلام مستأنف، لا محل له. (كان): فعل ماض ناقص. {سَعْيُكُمْ:} اسم (كان)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {مَشْكُوراً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)}

الشرح: {إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ:} هذا خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً:}

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: متفرقا آية بعد آية، ولم ننزله جملة واحدة. والمعنى: أنزلنا عليك القرآن متفرقا لحكمة بالغة، تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرح صدره، وأن الذي أنزله إليه وحي منه، ليس بكهانة، ولا سحر؛ لتزول تلك الوحشة؛ التي حصلت له صلى الله عليه وسلم من قول الكفار: إنه سحر، أو شعر، أو كهانة.

هذا؛ و {نَزَّلْنا} بتشديد الزاي بمعنى: أنزلنا، والفرق بين الفعلين: أن أنزل يفيد: أن القرآن، أو السورة إنما نزل دفعة واحدة، وأما نزّل فيفيد: أن القرآن نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال على ما نرى عليه أهل الشعر، والخطابة. وهذا مما يريب القرشيين، كما حكى سبحانه وتعالى عنهم بقوله:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبين سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} سورة (الفرقان) رقم [32] هذا؛ وانظر شرح (نا) في سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [1].

ص: 363

الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {نَحْنُ:} ضمير منفصل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ضمير فصل لا محل له من الإعراب. والثاني: أنه توكيد لاسم (إنّ) على المحل. والثالث: أنه في محل رفع مبتدأ.

{نَزَّلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْقُرْآنَ:} مفعول به.

{تَنْزِيلاً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية. {نَزَّلْنا..}. إلخ في محل رفع خبر (إنّ) على الوجه:

الأول، والثاني في الضمير، وفي محل رفع خبره على الوجه الثالث فيه، وعليه: فالجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا نَحْنُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)}

الشرح: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لعبادته، فهي من الحكمة المحضة. وقيل: معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن بالقتال. وقيل: هو عام في جميع التكاليف، أي: فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به، سواء كان تكليفا خاصا، كالعبادات، والطاعات، أو عاما متعلقا بالغير، كالتبليغ، وأداء الرسالة، وتحمل المشاق، وغير ذلك.

{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي: لا تطع الكافرين، والمنافقين؛ إن أرادوا صدك عما أنزل إليك، بل بلغ ما أنزل إليك من ربك، وتوكل عليه، فإن الله يعصمك من الناس، فالآثم: هو الفاجر في أفعاله، والكفور: هو الكافر قلبه. قال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [48]: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} .

هذا؛ وقيل: أراد بالآثم، والكفور: أبا جهل، وذلك: أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها. وقال: لئن رأيت محمدا يصلي؛ لأطأنّ على عنقه! وقيل: أراد بالآثم:

عتبة بن ربيعة، وبالكفور: الوليد بن المغيرة، وذلك: أنهما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال، فارجع عن هذا الأمر! وقال عتبة: أنا أزوجك ابنتي، وأسوقها إليك بغير مهر. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فارجع عن هذا الأمر! فأنزل الله هذه الآية. فإن قلت: هل من فرق بين الآثم، والكفور؟ قلت: نعم، الآثم: هو المقدم على المعاصي؛ أي: معصية كانت، والكفور: هو الجاحد، فكل كفور آثم، ولا ينعكس؛ لأن من عبد غير الله؛ فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان؛ لأنه لما عبد غير الله؛ فقد عصاه، وجحد نعمه عليه. انتهى خازن. هذا؛ و (كفور) صيغة مبالغة، ومعناها: المبالغ في الكفر، والجحود.

وقيل: {أَوْ} هنا بمعنى الواو، فيكون قد جمع بين الوصفين.

الإعراب: {فَاصْبِرْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر من تنزيل القرآن واقعا، وحاصلا من عندنا لا من عند غيرنا؛ فاصبر. (اصبر): فعل أمر،

ص: 364

وفاعله مستتر فيه تقديره: «أنت» . {لِحُكْمِ:} متعلقان بما قبلهما، و (حكم) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تُطِعْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما. {آثِماً:} مفعول به. {أَوْ:} حرف عطف. {كَفُوراً:} معطوف على ما قبله، وجملة {وَلا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

تنبيه: قيل: {أَوْ} في قوله تعالى: {آثِماً أَوْ كَفُوراً} أوكد من الواو؛ لأن الواو؛ إذا قلت:

«لا تطع زيدا، وعمرا» فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره ألا يطيع الاثنين، فإذا قال:«لا تطع زيدا، أو عمرا» ؛ ف: «أو» قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت:«لا تخالف الحسن، أو ابن سيرين» ، أو «اتبع الحسن، أو ابن سيرين» فقد قلت: هذان أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل لأن يتبع. قاله الزجاج. وقال الفراء:{أَوْ} هنا بمنزلة «لا» كأنه قال: ولا كفورا، وأنشد قول مالك بن عمرو القضاعي:[المنسرح]

لا وجد ثكلى كما وجدت ولا

وجد عجول أضلّها ربع

أو وجد شيخ أضلّ ناقته

يوم توافى الحجيج فاندفعوا

العجول من النساء، والإبل: الواله التي فقدت ولدها، سميت بذلك؛ لعجلتها في جيئتها، وذهابها جزعا، وهي هنا الناقة، والرّبع، كمضر: الفصيل ينتج في الربيع، والشيخ من تجاوز الأربعين، أو الخمسين من عمره، والوجد في البيتين: الحزن، واللهفة، ولا في أول البيتين تصلح؛ لأن تكون نافية للوحدة، ولأن تكون نافية للجنس، لذا يجوز رفع (وجد) ونصبه. انتهى قرطبي ما عدا الشرح بعد البيتين.

هذا؛ وقال ابن هشام في المغني: ومن الغريب: أن جماعة منهم ابن مالك ذكروا مجيء أو بمعنى الواو، ثم ذكروا: أنها تجيء بمعنى (ولا) بعد النهي، كقوله تعالى:{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} وبعد النفي، كقوله تعالى في سورة (النور) رقم [16]:{وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ} وهذه هي تلك بعينها، وإنما جاءت (لا) توكيدا للنفي السابق، ومانعة من توهم تعليق النفي بالمجموع، لا بكل واحد، وذلك مستفاد من دليل خارج عن اللفظ، وهو الإجماع، ونظيره قولك:(لا يحل لك الزنا، والسرقة) ولو تركت (لا) في التقدير لم يضر ذلك. انتهى. مغني. ومثله في الجني الداني، وزاد على المغني حيث أورد البيتين السابقين؛ اللذين نقلتهما من القرطبي، وخرجهما الدكتور فخر الدين قباوة في تعليقه على الجني الداني للحسن بن قاسم المرادي للشاعر المذكور.

ص: 365

{وَاُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)}

الشرح: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي: صل لربك، وأكثر من عبادته، وطاعته. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً:}

في الصباح، والمساء، في الصباح صلاة الصبح، وفي المساء صلاة الظهر، وصلاة العصر.

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني: صلاة المغرب، وصلاة العشاء، فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس، كما في قوله تعالى في سورة (الروم):{فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} . {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً:}

المراد به: صلاة التطوع بعد المكتوبة، وهو التهجد في الليل. وقد استوفيت الكلام على ذلك في سورة (المزمل)، وانظر شرح {اللَّيْلِ} في سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [5].

تنبيه: لقد جاء لفظ التسبيح في القرآن الكريم بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى استيعابا لهذه المادة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع:

المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر. وهذا الفعل بألفاظه الأربعة قد عدّي باللام تارة، مثل قوله تعالى:{سَبَّحَ لِلّهِ،} وقوله جلت حكمته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ} وبنفسه أخرى، مثل قوله تعالى شأنه في هذه الآية:{وَسَبِّحْهُ} وفي سورة (الفتح) رقم [9]: {وَتُسَبِّحُوهُ،} وفي سورة (الأحزاب) رقم [42]: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} وفي آخر سورة (ق): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأن معنى سبحته: بعدته من السوء، منقول من: سبح: إذا ذهب، وبعد، فاللام إما أن تكون مثل: نصحته، ونصحت له، وشكرته، وشكرت له، وإما أن يراد ب:

سبّح لله: اكتسب التسبيح لأجل الله، ولوجهه خالصا. انتهى نسفي من سورة (الحديد). هذا؛ وفي الآية الكريمة دليل على عدم ما قاله بعض أهل المعاني والبيان: أن الجمع بين الحاء، والهاء في كلمة واحدة، يخرجها عن فصاحتها، وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:[الطويل]

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لمته لمته وحدي

ويمكن أن يفرق بين ما أنشدوه، وبين الآية الكريمة بأن التكرار في البيت هو المخرج له عن الفصاحة، بخلاف الآية، فإنه لا تكرار فيها. انتهى جمل نقلا عن السمين. المراد: تكرار الكلمات.

هذا؛ و (البكرة) بمعنى: الغدوة، يقال: بكّر بالتشديد، وابتكر، وأبكر، وباكر، وبكر بالتخفيف: خرج في وقت البكرة. قال زهير في معلقته رقم [13]: [الطويل]

بكرن بكورا واستحرن بسحرة

فهنّ ووادي الرّسّ كاليد في الفم

ص: 366

بمعنى: خرجت النسوة في وقت البكرة. وقيل: بكر بالتخفيف: جاء بكرة، وبكّر بالتشديد؛ فإنه للمبادرة أي وقت كان، ومنه: بكّروا لصلاة المغرب، أي: صلوها عند قرص الشمس.

انتهى. مختار. هذا؛ والبكرة، والغداة، والغدو النصف الأول من النهار. والأصيل، والعشي:

النصف الآخر من النهار، مع اختلاف في تحديد كلّ منهما. والأصيل: الوقت بين العصر، والمغرب على الراجح، ويجمع على آصال، وعلى أصائل، وأصل، وأصلان. وقيل: الآصال جمع: أصل، والأصل جمع: أصيل، ثم أصائل جمع الجمع. قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأجلس في أفيائه بالأصائل

هذا؛ ويطلق الأصيل على الشعاع الممتد من الشمس مثل الحبال، ويشبه لون أشعته في الماء لون الذهب. وأضيف: أن من جمع الأصيل على أصل قول الأعشى في معلقته رقم [14]: [البسيط]

يوما بأطيب منها نشر رائحة

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

الإعراب: {وَاذْكُرِ:} الواو: حرف عطف. (اذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بُكْرَةً:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {وَأَصِيلاً:} معطوف على ما قبله. {وَمِنَ:} الواو: حرف عطف.

(من الليل): متعلقان بما بعدهما. {فَاسْجُدْ:} الفاء: صلة لتحسين اللفظ، إلا إذا قدرت فعلا محذوفا قبل (من الليل)، فتكون حرف عطف، والفعلان: المحذوف، والمذكور معطوفان على:

اذكر السابق. (اسجد): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:«أنت» . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَسَبِّحْهُ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {لَيْلاً:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {طَوِيلاً:} صفة {لَيْلاً} .

{إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)}

الشرح: {إِنَّ هؤُلاءِ} يعني: كفار مكة. {يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ:} الدار العاجلة، وهي الدنيا.

قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [18]: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ..} . إلخ، وانظر سورة (القيامة) رقم [20]. {وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ:} أمامهم؛ أي: ما يقدمون عليه. {يَوْماً ثَقِيلاً:} شديدا، وهو يوم القيامة، والمعنى: إنهم يتركونه، فلا يؤمنون به، ولا يعملون له. هذا؛ وفي الآية مقابلة لطيفة، حيث قابل بين المحبة، والترك، وبين العاجلة، والباقية. ووصف اليوم بالثقل على المجاز؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني. والمعنى: ويذرون أمامهم؛ أي: ما يقدمون عليه يوما يجعل الولدان شيبا لشدة أهواله، وما يلقون فيه من المقت، والسخط، والعذاب المعد لهم فيه. وفي الكشاف، والبيضاوي: استعير الثقل لشدته، وهوله، من الشيء

ص: 367

الثقيل الباهظ لحامله، ونحوه: قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [186] في وصف الساعة:

{قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً} .

والوراء يأتي بمعنى: ما خلف الظهر، ويأتي بمعنى: قدام، وأمام، فهو من الأضداد. قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [79]:{وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي: أمامهم. وقال تعالى شأنه في سورة (المؤمنون) رقم [100]: {وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقال عبيد بن الأبرص: [الطويل]

أليس ورائي إن تراخت منيتي

أدبّ مع الولدان أزحف كالنّسر

وخذ قول لبيد-رضي الله عنه، وهو صحابي من بني ربيعة، وهو من المعمرين:[الطويل]

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أخبّر أخبار القرون الّتي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع

المعنى: أليس أمامي، وقدامي. كما يأتي «وراء» بمعنى: بعد، خذ قوله تعالى:{فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} أي: من بعد إسحاق، الآية رقم [71] من سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقال النابغة الذبياني، من قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر. [الطويل]

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

أي: وليس بعد الله جل جلاله. وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} أي: من بعده الآية رقم [17] من سورة (إبراهيم) على حبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ومن مجيئه بمعنى أمام، وقدام قول سوار بن المضرب السعدي، وكان قد هرب من الحجاج حين فرض البعث مع المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج:[الطويل]

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {يُحِبُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {الْعاجِلَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل لما قبلها من النهي، والأمر، لا محل لها.

{وَيَذَرُونَ:} الواو: حرف عطف. (يذرون): فعل مضارع، وفاعله. {وَراءَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَوْماً:} مفعول به. {ثَقِيلاً:} صفة له، وجملة:

{وَيَذَرُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.

ص: 368

{نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)}

الشرح: {نَحْنُ خَلَقْناهُمْ:} أوجدناهم من العدم، ولم يكونوا شيئا مذكورا. {وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ:} قوينا خلقهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب، والعروق؛ حتى كانوا أقوياء أشداء. هذا؛ و (الأسر) الربط، والتوثيق، ومنه: أسر الرجل، إذا أوثق بالقدّ، وهو الإسار، وفرس مأسور الخلق؛ أي: قوي الخلق. والمعنى: شددنا توصيل عظامهم، بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. ومثله جارية معصوبة الخلق، ومجدولته، ويقال: أسره الله جل ثناؤه: إذا شدّد خلقه. قال لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الرمل]

ساهم الوجه شديد أسره

مشرف الحارك محبوك الكتد

ويروى: «محبوك الكفل» أي: مدمجه، والكفل بفتحتين للدابة، وغيرها: العجز، أو الردف، والجمع: أكفال. وقال الأخطل: [الكامل]

من كلّ مجتنب شديد أسره

سلس القياد تخاله مختالا

مجتنب: مفتعل من الجنيبة، وهي الفرس تقاد، ولا تركب، وكانوا يركبون الإبل، ويجتنبون الخيل، فإذا صاروا إلى الحرب؛ ركبوا الخيل. وقال مجاهد في تفسير الأسر: هو الشرج؛ أي:

إذا خرج البول، والغائط تقبض الموضع، وهو بفتح الهمزة، وبضمها: احتباس البول كالحصر في الغائط. وجميع ما ذكر من المعاني للأسر موجود في القاموس المحيط. وبالجملة فقد خرج الكلام مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالكفر، والفسوق، والفجور، والمعنى: سويت خلقهم، وأحكمته بالقوى، ثم هم يكفرون بي.

{وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يقول الله: لو نشاء؛ لأهلكناهم، وجئنا بأطوع منهم. وعنه أيضا: لغيّرنا محاسنهم إلى أسمج الصور، وأقبحها. روى الأول عنه أبو صالح، والثاني رواه الضحاك عنه. انتهى قرطبي. هذا؛ وزلق الزمخشري حيث قال: وحقه أن يجيء ب: «إن» ، لا ب:«إذا» ، كقوله تعالى في آخر سورة (محمد صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} وقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [133]: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ،} وفي سورة (الأنعام) رقم [133]: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ،} وأيضا في سورة (إبراهيم)[19] وفي سورة (فاطر):

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} .

والجواب والرد على الزمخشري الذي زلق: أن «إذا» تستعمل في المحقق، و «إن» تستعمل في المحتمل، ومشيئة الله التبديل لمّا لم تقع؛ كانت غير محققة، فكان المقام ل:(إن)، بخلاف

ص: 369

ما إذا أراد الله التنفيذ، فتكون مشيئة الله التبديل محققة، فكان المقام ل:(إذا)، وبالجملة فاستعمال (إذا) موضع (إن)، وبالعكس هو من التفنن في الكلام، والتقارض في الألفاظ. ولله في كتابه أسرار وأسرار غابت عن كثير من الناس، ولا سيما الملحدون، والفجار.

الإعراب: {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {خَلَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، وإعرابها واضح، إن شاء الله تعالى، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [19]. {شِئْنا:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {بَدَّلْنا:} فعل، وفاعل. {أَمْثَلُهُمْ:} مفعول به أول، والهاء في محل جر بالإضافة، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: بدلنا أمثالهم بدلا منهم، {تَبْدِيلاً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف، لا محل له على الاعتبارين.

{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)}

الشرح: {إِنَّ هذِهِ} أي: السورة، وما ذكر فيها. {تَذْكِرَةٌ:} عظة للخلق؛ لأن في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها، وتفهمها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه، وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى سمعه إليه، وما وعاه قلبه. انتهى جمل نقلا عن الخطيب بتصرف. {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ..}. إلخ أي: اتخذ لنفسه في الدنيا طريقا موصلا إلى طاعة الله، وطلب مرضاته، وذلك بالإقبال عليها، والتقرب إليه، وهذه الآية مما يتمسك بها القدرية، يقولون:

اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى، وهو إلى اختيار العبد، ومشيئته. قال أهل السنة: ويرد عليهم الآية التالية، وما أحسن ما نقله الجمل عن الخطيب في هذا الصدد حيث قال بعد قوله:{فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ..} . إلخ أي: لأنّا بينا الأمور غاية البيان، وكشفنا اللبس، وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئة العبد. انتهى. هذا؛ والآية مذكورة بحروفها في سورة (المزمل) برقم [19] انظرها؛ ففيها فائدة، وانظر الإعراب هناك؛ فإنه واف كاف، ولا حاجة إلى المزيد عليه.

{وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)}

الشرح: {وَما تَشاؤُنَ} أي: الطاعة والاستقامة على الطريق السوي، واتخاذ السبيل المستقيم إلى الله. {إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} أي: إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأن الأمر إليه، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد، فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جل جلاله، وتعالى شأنه. {إِنَّ اللهَ}

ص: 370

{كانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي: عليم بأحوال خلقه، حكيم في تدبيره، وصنعه، عليم بمن يستحق الهداية، فييسرها له، ويقيض له أسبابها، وعليم بمن يستحق الغواية، فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

هذا؛ وقد علق أحمد بن المنير الإسكندري المالكي على قول الزمخشري في كشافه. {وَما تَشاؤُنَ:} الطاعة. {إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ..} . إلخ: يقسرهم عليها بقوله: وهذا من تحريفاته للنصوص، وتسوره على خزائن الكتاب العزيز، كدأب الشطار، واللصوص، فلنقطع يد حجته التي أعدها، وذلك حكم هذه السرقة وحدها، فنقول: الله تعالى نفى، وأثبت على سبيل الحصر، الذي لا حصر، ولا نصر أوضح منه! ألا ترى: أن كلمة التوحيد اقتصر بها على النفي، والإثبات؛ لأن هذا النظم أعلق شيء بالحصر، وأدله عليه، فنفى الله تعالى أن يفعل العبد شيئا فيه اختيار، ومشيئة إلا أن يكون الله تعالى قد شاء ذلك الفعل، فمقتضاه: ما لم يشأ الله وقوعه من العبد، لا يقع من العبد، وما شاء منه وقوعه؛ وقع، وهو رديف:«ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن» .

وانظر إدخاله القسر في تعطيل الآية، لا تأويلها كيف ناقض به؟ فإن معنى الآية عنده: أن مشيئة العبد الفعل، لا تكون إلا إذا قسره الله عليها، والقسر مناف للمشيئة، فصار الحاصل: أن مشيئة العبد لا توجد إلا إذا انتفت، فإذا لا مشيئة للعبد ألبتة، ولا اختيار، وما هو إلا فرّ من إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة، ومشيئة غير خالفة؛ ليتم له إثبات قدرة، ومشيئة مؤثرين، فوقع في سلب القدرة، والمشيئة أصلا، ورأسا، وحيث لزم الحيد عن الاعتزال انحرف بالكلية إلى الطرف الأقصى متحيزا إلى الجبر، فيا بعد ما توجه بسوء نظره! والله الموفق. انتهى بحروفه.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {تَشاؤُنَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} أداة حصر، أو استثناء. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب.

{يَشاءَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} . {اللهُ:} فاعله، والمفعول محذوف، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافته لظرف محذوف، التقدير: إلا وقت مشيئة الله.

قاله أبو البقاء، ونقله الجمل عن السمين. وقال مكي: المصدر المؤول في موضع نصب على الاستثناء، أو في موضع خفض على قول الخليل بإضمار الخافض، وعلى قول غيره هي في موضع نصب؛ إذ قد حذف الخافض.

أقول: وكلامه غير واضح، وشرحه: أن الجار، والمجرور (على تقدير الجار) متعلقان بمحذوف مستثنى من عموم الأحوال، وكذلك الظرف الذي رأيت تقديره على قول أبي البقاء والسمين متعلق بمحذوف حال مستثنى

إلخ. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها.

ص: 371

{كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه مستتر تقديره:«هو» . {عَلِيماً:} خبر أول. {حَكِيماً:} خبر ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ،} والجملة الاسمية تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها.

{يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)}

الشرح: {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي: في دينه. وقيل: في جنته، فإن فسرت الرحمة بالدين؛ كان ذلك من الله تعالى، وإن فسرت بالجنة؛ كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جل جلاله، وتعالى شأنه، وفضله، وإحسانه، لا بسبب الاستحقاق، وهو فحوى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«لن يدخل أحدا عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: «ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله بفضله، ورحمته، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدكم الموت، إمّا محسنا؛ فلعلّه أن يزداد، وإمّا مسيئا؛ فلعلّه أن يستعتب» . أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

{وَالظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} أي: هيأ الله للظالمين عذابا أليما؛ لأنهم وضعوا العبادة غير موضعها.

قال النسفي-رحمه الله تعالى-: والآية حجة على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: قد شاء أن يدخل كلا في رحمته؛ لأنه شاء إيمان الكل، ولله أن يدخل من يشاء في رحمته، وهو الذي علم منه أن يختار الهدى.

الإعراب: {يُدْخِلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والمفعول محذوف وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها. {فِي رَحْمَتِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{يُدْخِلُ..} . إلخ في محل نصب حال من اسم (كان) المستتر، أو في محل نصب خبر ثالث لها، وهي بمعنى المستقبل هنا. {وَالظّالِمِينَ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ويعذب الظالمين، وبعضهم يقدر:

(أوعد، وكافأ) ولا ينصبه ما بعده؛ لأنه غير متعد، ولكنه يفسره في المعنى، ومثل هذه الآية قول الربيع بن ضبع الفزاري:[المنسرح]

أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا

التقدير: أخشى الذئب أخشاه. قال الزجاج: والاختيار النصب، وإن جاز الرفع، تقول:

أعطيت زيدا، وعمرا أعددت له برا. فيختار النصب، أي: وبررت عمرا، أو أبر عمرا، وقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [8]:{يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} ارتفع (الظالمون)؛ لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه، فينصب في المعنى، فلم يجز العطف على

ص: 372

المنصوب قبله، فارتفع بالابتداء، وها هنا قوله:{أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً} يدل على: «ويعذب» فجاز النصب. هذا؛ وقرأ أبان بن عثمان: (والظالمون) رفعا بالابتداء، والخبر {أَعَدَّ لَهُمْ} وعليه فالجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. وأيضا إذا اعتبرتها فعلية على قراءة النصب معطوفة على ما قبلها، واعتبار الجملة على الوجهين في محل نصب حال من فاعل {يُدْخِلُ} و {يَشاءُ} المستتر جيد، ويكون الرابط: الواو، وفاعل {أَعَدَّ} المستتر، وتقدر «قد» قبلها على اعتبارها فعلية. {أَعَدَّ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {عَذاباً:} مفعول به. {أَلِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (الظالمون) على رفعه، ومفسرة للجملة المقدرة قبله على نصبه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

انتهت سورة (الدهر) شرحا، وإعرابا بحمد الله، وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 373