الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الملك
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الملك) وهي مكية في قول الجميع. وتسمى: الواقية، والمنجية، وهي ثلاثون آية، وثلاثمئة وثلاثون كلمة، وألف وثلاثمئة، وثلاثة عشر حرفا. (خازن). وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي:{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة (الملك) حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب: أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة (الملك) حتى ختمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وددت أنها في قلب كل مؤمن، يعني: {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» رواه الحاكم. انتهى. «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري.
أقول: ينبغي للمسلم، وللمسلمة أن يحافظ كلاهما على قراءة سورة (الملك) كل ليلة إن أراد كل منهما أن تشفع له يوم القيامة، وأن تنجيه من عذاب القبر مع مراعاة الشروط، والآداب التي يجب توافرها عند قراءة القرآن، وأهمها: الطهارة الكاملة، والجلوس مستويا مستقبل القبلة، والقراءة بتدبر، وتفهم
…
إلخ.
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
الشرح: {تَبارَكَ الَّذِي..} . إلخ: أي: تنزه الله، وتعالى عن كل ما لا يليق به. وقال الخازن في غير هذه السورة: تمجد، وتعظم، وارتفع. وفي سورة (الفرقان): تكاثر خيره من البركة.
وهي كثرة الخير، وزيادته، أو تزيّد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته، وأفعاله، وهي كلمة تقديس، وتعظيم، لم تستعمل إلا لله وحده، وهو ملازم للمضي، لا يأتي منه مضارع، ولا أمر.
قال الطرماح: [الطويل]
تباركت لا معط لشيء منعته
…
وليس لما أعطيت يا ربّ مانع
وقال آخر: [الطويل]
تباركت ما تقدر يقع ولك الشّكر
{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي: بتصرفه، وتحت قدرته وإرادته ملك السموات والأرض في الدنيا، والآخرة، وهو مستول على كل موجود، وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويحيي، ويميت، ويغني، ويفقر، ويعطي، ويمنع. وهذا تأويل الخلف. والسلف يقولون: لله يد تليق به لا نعلمها. ومذهب السلف في هذه المتشابهات أسلم، ومذهب الخلف أحكم. {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} من المقدورات، أو من الإنعام، والانتقام.
الإعراب: {تَبارَكَ:} فعل ماض. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها من الإعراب. {بِيَدِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والتقديم يفيد الاختصاص، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْمُلْكُ:}
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة الموصول؛ ف {الْمُلْكُ} يكون فاعلا بمتعلقهما، التقدير: الذي استقر، أو ثبت بيده الملك، وهو كلام في غاية البلاغة، والفصاحة. {وَهُوَ:} (الواو): حرف عطف (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها، قال الجمل: وأرى صحة اعتبارها حالا من الموصول، والرابط: الواو، والضمير، والاستئناف ممكن أيضا. تأمل، وتدبر.
الشرح: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ:} قيل: أراد موت الإنسان، وحياته في الدنيا، جعل الله الدنيا دار حياة، وفناء، وجعل الآخرة دار جزاء، وبقاء، وإنما قدم الموت؛ لأنه أقرب إلى قهر الإنسان.
وقيل: قدّمه؛ لأنه أقدم، وذلك؛ لأن الأشياء كانت في الابتداء في حكم الموتى، كالتراب، والنطفة، والعلقة، ونحو ذلك، ثم طرأت عليها الحياة. ولا تنس الطباق بين الموت، والحياة.
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي: ليعاملكم معاملة المختبر لأحوالكم كيف تعملون؟ فإن ما خلقه الله في هذه الدنيا زينة للأرض، ومتاع لكم، وأسباب ومواد لوجود بني آدم ومعاشهم، وما تحتاج إليه أعمالهم، ودلائل، وأمارات يستدلون بها، ويستنبطون منها معرفة الواحد الأحد، فيبعثهم ذلك على الإيمان به، وإخلاص العبادة له. وقيل: في الكلام استعارة تمثيلية تبعية. ولا وجه له. فعن
عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} رقم [7] من سورة (هود)، ثم قال:«أيّكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله» .
هذا؛ والابتلاء: الامتحان، والاختبار يكون في الخير، والشر. قال تعالى:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} رقم [168] من سورة (الأعراف)، وخذ ما يلي:
عن أنس بن مالك-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس، وهم يضحكون فقال:
«أكثروا من ذكر هاذم اللذات» أحسبه قال: «فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقها عليه» . رواه البيهقي، والبزار.
وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا نبي الله! من أكيس الناس، وأحزم الناس؟ قال:«أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم استعدادا للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة» . رواه الطبراني، وابن ماجه، والبيهقي، ورحم الله من يقول:[الكامل]
ولدتك أمّك يا بن آدم باكيا
…
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك كي تكون إذا بكوا
…
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
وخير وسيلة يستديم بها المؤمن ذكر الموت أن يكثر من تذكر إخوانه الذين عاشروه، ثم ماتوا، وخلفوه، كيف كانوا في مناصبهم، وأعمالهم، وكيف خلت منهم منازلهم؟! فإنه لو تذكر حال كل واحد منهم، وفصل في قلبه ما كان عليه في دنياه من حسن الصورة، وجمال المنظر والنشاط في الغدو والرواح، والركون إلى الشباب، والقوة، والمال، والانخداع بزهرة الدنيا، وزينتها، والغفلة عما هو قادم عليه من الموت الذريع، والهلاك السريع، وكيف كان يختزن من الأقوات، ويكتنز من الأموال ما يكفيه عشرات السنين، وكيف كان يشيد من الأبنية والقصور ما يبقى أبد الآبدين؛ مع أن اسمه قد كتب في سجل الميتين، وها هو ذا الآن يأكل الدود لسانه، وتتخلل الأتربة أسنانه، وكم نطق بهذا اللسان! وكم افترّ ثغره عن مثل حب الجمان!.
لو تذكر الإنسان إخوانه على هذا النحو، واعتبر نفسه بهم، وقاس حاله بحالهم، وعرف أن غفلته ستكون كغفلتهم، وعاقبته كعاقبتهم، لو داوم على هذا التفكر، وأكثر من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور؛ لغلب ذكر الموت على قلبه، فيقل فرحه بالدنيا وزخرفها، ويشتد تجافيه عن غرورها، ويشتغل بالاستعداد للآخرة، التي لا محيص عنها. قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:(ألا ترون أنكم تجهزون كلّ يوم غاديا، أو رائحا إلى الله، تضعونه في صدع من الأرض، قد توسد التراب، وخلف الأحباب، وتقطعت به الأسباب).
بعد هذا: فالموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته. وموت القلب:
قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح. هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (الزمر) رقم
[42]
: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها،} وقال في سورة (السجدة) رقم [11]: {قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} . وقال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [50]: {وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ،} وقال في سورة (الأنعام) رقم [61]: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا} . والجمع بين هذه الآيات: أن الموفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم؛ تولى قبضها ملك الموت بنفسه. انتهى. خازن في غير هذا الموضع.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ:} القوي القاهر الغالب المنتقم ممن عصاه؛ الذي لا يعجزه من أساء العمل.
{الْغَفُورُ:} لمن تاب إليه، ورجع عن إساءته، والذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل. وهما صيغتا مبالغة.
الإعراب: {الَّذِي:} بدل مما قبله، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الذي، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الْمَوْتَ:} مفعول به. (الحياة):
معطوف على ما قبله. {لِيَبْلُوَكُمْ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {الَّذِي خَلَقَ،} والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {خَلَقَ} . وقال الفراء، والزجاج: متعلقان بفعل محذوف، كما تقول: بلوتكم؛ لأنظر: أيكم أطوع؟ والمعنى هنا: ليبلوكم، فيعلم، أو فينظر أيكم أحسن عملا. {أَيُّكُمْ:} اسم استفهام مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {أَحْسَنُ:} خبر المبتدأ. {عَمَلاً:} تمييز، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان للفعل (يبلو) المعلق عن العمل بسبب الاستفهام. هذا؛ وأجيز اعتبار (أيكم) اسم موصول بمعنى «الذي» و {أَحْسَنُ} خبر مبتدأ محذوف، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية هذه صلة له، ويكون هذا الموصول في محل نصب بدلا من مفعول {لِيَبْلُوَكُمْ} تقديره: ليبلو الذي هو أحسن. وعليه: فالضمة للبناء، والمعتمد الأول.
{وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَزِيزُ:}
خبر أول. {الْغَفُورُ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر العائد على الموصول، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
الشرح: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً:} يعني: طبقا على طبق، بعضها فوق بعض، كل سماء مقبية على الأخرى، وسماء الدنيا كالقبة على الأرض. قال كعب الأخبار: سماء الدنيا: موج
مكفوف. والثانية: مرمرة بيضاء. والثالثة: حديد. والرابعة: صفر. وقيل: نحاس، والخامسة:
فضة. والسادسة: ذهب. والسابعة: ياقوتة حمراء. وما بين السماء السابعة إلى الحجب السبعة صحار من نور. انتهى خازن. وانظر ما ذكرته في سورة (الطلاق) رقم [12] فهو جيد. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [17]: {وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ} انظر شرحها هناك.
{ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ} أي: ما ترى يابن آدم في شيء مما خلق الرحمن اعوجاجا، ولا اختلافا، ولا تناقضا، بل خلقهن مستقيمة مستوية، وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأن بعض الشيء يفوت بعضا، ولا يلائمه، وأصل الكلام: أما ترى فيهن من تفاوت، فوضع {خَلْقِ الرَّحْمنِ} موضع الضمير تعظيما لخلقهن، وتنبيها على سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤيا.
{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} أي: أعد النظر، وكرره هل ترى في السموات من شقوق، وصدوع؟! وأصله من التفطر، والانفطار، وهو التشتت، والانشقاق. قال الشاعر:[الوافر] بنى لكم بلا عمد سماء
…
وزيّنها فما فيها فطور
وانظر ما ذكرته في سورة (الشورى) رقم [11]. وقال الشاعر: [الوافر]
شققت القلب ثمّ ذررت فيه
…
هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا سكر ولم يبلغ سرور
هذا؛ و «ترى» ماضيه: رأى، وقياس المضارع: ترأي، وقد تركت العرب الهمز في مضارعه لكثرته في كلامهم، وربما احتاجت إلى همزه، فهمزته كما في قول سراقة بن مرداس البارقي -وهو الشاهد رقم [504] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -:
أري عينيّ ما لم ترأياه
…
كلانا عالم بالتّرهات
وربما جاء ماضيه بغير همز، وبه قرأ نافع بقوله تعالى:{أَرَأَيْتَكُمْ} و {إِذا رَأَيْتَ:} (أرايتكم)، (أرايت) بدون همز، وقال الشاعر:[الخفيف]
صاح هل ريت أو سمعت براع
…
ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟!
وإذا أمرت منه على الأصل قلت: ارء، وعلى الحذف: ره بهاء السكت. وقل في إعلال تري: أصله: ترأي، قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وحذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على الراء للتخفيف.
الإعراب: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ:} مثل سابقه، و {سَبْعَ} مضاف، و {سَماواتٍ} مضاف إليه.
{طِباقاً:} صفة {سَبْعَ،} ويجوز في العربية جره صفة ل: {سَماواتٍ،} كما في قوله تعالى: {وَقالَ}
{الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ} الآية رقم [43] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وأجيز اعتباره مفعولا مطلقا لفعل محذوف. التقدير: تطابق طباقا، كما أجيز اعتباره حالا، أي: ذات طباق، فحذف «ذات» وأقيم طباقا مقامه. {ما:} نافية. {تَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {فِي خَلْقِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {خَلَقَ} مضاف، و {الرَّحْمنِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {الرَّحْمنِ:} حرف صلة.
{تَفاوُتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{ما تَرى..} . إلخ في محل نصب صفة {طِباقاً} . أفاده الجمل، والنسفي، والزمخشري. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {فَارْجِعِ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: إذا كان ذلك واقعا، ولم تصدق؛ فارجع.
(ارجع): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {الْبَصَرَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، ومن يجيز عطف الإنشاء على الخبر يعطفها على ما قبلها، وابن هشام يعتبر الفاء للسببية المحضة، والمعتمد الأول. {هَلْ:} حرف استفهام {تَرى:} فعل مضارع، والفاعل: أنت. {الرَّحْمنِ:} حرف جر صلة. {فُطُورٍ:} مفعول به، مثل {تَفاوُتٍ،} والجملة الفعلية يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي:
فارجع البصر، فانظر: هل ترى، وأن يكون:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ} مضمنا معنى: فانظر؛ لأنه بمعناه، فيكون هو المعلق. انتهى. جمل.
{ثُمَّ اِرْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}
الشرح: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ:} قال ابن عباس رضي الله عنهما: مرة بعد مرة. وإنما أمر المخاطب بالنظر مرتين؛ لأنه إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى، فأخبر الله تعالى أنه وإن نظر في الشيء مرتين لا يرى فيها عيبا، بل يتحير بالنظر إليها. فذلك قوله تعالى:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً} أي: خاشعا، صاغرا، متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك. والمراد والله أعلم: كرر النظر إلى السموات مرات، ومرات، فإنك لن ترى خللا، أو عيبا في السموات السبع. هذا؛ و {كَرَّتَيْنِ} مصدر ك:«مرتين» ، وهو مثنى لا يراد به حقيقته، بل التكثير بدليل ما بعده. والوصفان:{خاسِئاً} و {حَسِيرٌ} لا يتأتيان بنظرتين، ولا بثلاث، وإنما المعنى: كرات. وهذا كقولهم: لبّيك، وسعديك، وحنانيك، وهذاذيك، لا يريدون بهذه التثنية شفع الواحد، وإنما يريدون التكثير أي: إجابة لك بعد إجابة، وإلا تناقض الغرض. والتثنية قد تفيد التكثير بقرينة، كما يفيد أصلها، وهو العطف، انظر الشواهد [986/ 985/984] من كتابنا:
«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
والفعل «خسأ» يكون لازما، ومتعديا، وهو من الباب الثالث، مثل: قطع، يقطع، وفتح، يفتح. هذا؛ والمادة تدل على الصغار، والذلة، والهوان، قال تعالى لليهود اللؤماء الذين اعتدوا في السبت:{فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} رقم [65] من سورة (البقرة)، و [166] من سورة (الأعراف).
{وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: قد بلغ الغاية في الإعياء فهو بمعنى: فاعل من الحسور؛ الذي هو الإعياء، ويجوز أن يكون: مفعولا من: حسره بعد الشيء، وهو معنى قول ابن عباس-رضي الله عنهما. ومنه قول الشاعر:[البسيط]
من مدّ طرفا إلى ما فوق غايته
…
ارتدّ خسآن منه الطّرف قد حسرا
يقال: قد حسر بصره، يحسر حسورا، أي: كلّ، وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبه ذلك، فهو حسير، ومحسور أيضا. قال الشاعر:[الطويل]
نظرت إليها بالمحصّب من منى
…
فعاد إليّ الطّرف وهو حسير
الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِرْجِعِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{الْبَصَرَ:} مفعول به. {كَرَّتَيْنِ:} مفعول مطلق عامله: ارجع؛ لأنه بمعنى: رجعتين، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{اِرْجِعِ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {يَنْقَلِبْ:} مضارع مجزوم؛ لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْبَصَرَ:} فاعل {يَنْقَلِبْ،} والجملة الفعلية لا محل لها. {خاسِئاً:} حال من {الْبَصَرَ} . {وَهُوَ:} (الواو): واو الحال. (هو): مبتدأ. {حَسِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال ثانية من {الْبَصَرَ،} أو هي حال من الضمير المستتر ب: {خاسِئاً،} فهي حال متداخلة.
الشرح: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا} أي: القربى من الأرض. {بِمَصابِيحَ} جمع: مصباح، وهو السراج، وهي اليوم مصابيح كهربائية، وتسمى الكواكب مصابيح؛ لإنارتها. ففي الكلام استعارة تصريحية؛ لأن حقيقة المصباح كما في المختار: السراج. هذا؛ و {رُجُوماً} جمع: رجم، وهو مصدر، والمراد به المفعول، أي: ما يرجم به، ولذلك قال الجلال: مراجم؛ أي: أمورا يرجم بها، وفي السمين: و (الرجوم) جمع: رجم، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به،
ك: «ضرب الأمير» . ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه. {وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ} أي: جعلنا شهبها، فحذف المضاف.
دليله قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [10]: {إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} وعلى هذا؛ فالمصابيح لا تزول، ولا يرجم بها، لذا قال الخازن: فإن قلت: جعل الكواكب زينة السماء يقتضي بقاءها، وجعلها رجوما للشياطين يقتضي زوالها، فكيف الجمع بين هاتين الحالتين؟!.
قلت: قالوا: إنه ليس المراد: أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة، وترمى الشياطين بتلك الشعلة، وهي الشهب، ومثلها كمثل قبس يؤخذ من النار، وهي على حالها. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر، والبحر، والأوقات. فمن تأول فيها غير ذلك؛ فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى، وظلم. {وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ} أي: في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا لهم النار الموقدة شديدة الحرارة. قال تعالى في سورة (الصافات) الآية رقم [9]: {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} أي: دائم مستمر في الآخرة.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت الشياطين لا يحجبون من السموات، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها، فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى-عليه الصلاة والسلام-منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئه أبدا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله، فيصير غولا يضل الناس في الفلوات، والبراري.
وبسبب ذلك بطلت الكهانة. فإن قيل: هذا القذف إن كان لأجل النبوة، فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: أنه دام بدوام النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة، فقال:«ليس منّا من تكهّن» . فلو لم تحرس بعد موته؛ لعادت الجن إلى تسمعها، وعادت الكهانة، ولا يجوز ذلك بعد أن بطل، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة، فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يؤمن أن يظنوا: أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة، فصح: أن الحكمة تقتضي دوام الحراسة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن توفاه الله إلى دار كرامته.
فإن قلت: إذا كان الشيطان يعلم: أنه يصاب، ولا يصل إلى مقصوده؛ فكيف يعود مرة أخرى؟ أو: كيف يحاول استراق السمع، وقد رأى غيره قد احترق؟ قلت: يعود رجاء نيل المقصود، وطمعا في السلامة كراكب البحر؛ فإنه يشاهد الغرق أحيانا؛ لكنه يعود إلى ركوبه رجاء السلامة، ونيل المقصود. انتهى. خازن بتصرف. وانظر ما ذكرته في سورة (الجن) رقم [8] وفي غير هذا الموضع أيضا من سورة (الحجر) وسورة (الصافات) إن أردت الزيادة.
الإعراب: {وَلَقَدْ:} (الواو): حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: وعزّتي! والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبرون الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف. ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: والله أقسم، أو وأقسم والله، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف. وبعضهم يقول: اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على «إن» الشرطية، لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} الآية رقم [12] من سورة (الحشر). افهم هذا؛ واحفظه، فإنه جيد. والله ولي التوفيق.
فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم، فالجواب:
أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:{وَالنَّجْمِ،} {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} فإن التقدير: وربّ النّجم، وربّ الشمس
…
إلخ، الدليل على ذلك: التصريح به في قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} الآية [23] من سورة (الذاريات) وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ الآية رقم [71] من سورة (مريم)، وأظهر منه في قوله تعالى:{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [73] من سورة (المائدة)، فالواو في الآيتين حرف قسم، وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب.
(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {زَيَّنَّا:} فعل، وفاعل. {السَّماءَ:} مفعول به.
{الدُّنْيا:} صفة السماء منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له. {بِمَصابِيحَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. (جعلناها): فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {رُجُوماً:} مفعول به ثان. {لِلشَّياطِينِ:}
متعلقان ب: {رُجُوماً،} أو بمحذوف صفة له. {وَأَعْتَدْنا:} فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} متعلقان بما قبلهما.
{عَذابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {السَّعِيرِ} مضاف إليه، من إضافة اسم المصدر لمفعوله بل لظرفه، وفاعله محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)}
الشرح: المعنى ليس العذاب في جهنم مختصا، ومقصورا على الشياطين، بل لكل من كفر بالله من إنسان، وجن.
الإعراب: {وَلِلَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (للذين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وجملة:(كفروا): صلة الموصول لا محل لها. {بِرَبِّهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله. وفاعله مستتر فيه.
{عَذابُ:} مبتدأ مؤخر، و {عَذابُ:} مضاف، و {جَهَنَّمَ:} مضاف إليه مجرور، من إضافة اسم المصدر لظرفه، وفاعله محذوف، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
وقال الزمخشري، والبيضاوي: وقرئ بنصب «(عذاب)» : على أن (للذين): عطف على {لَهُمْ،} و {عَذابُ} عطف على {عَذابَ السَّعِيرِ،} وجملة: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ:} مستأنفة، لا محل لها، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: ويئس المصير المذمومة جهنم.
{إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7)}
الشرح: {إِذا أُلْقُوا فِيها:} طرحوا في جهنم، كما يطرح الحطب في النار العظيمة. {سَمِعُوا لَها:} لجهنم. {شَهِيقاً:} صوتا منكرا كصوت الحمير، شبه حسيسها المنكر الفظيغ بالشهيق.
{وَهِيَ تَفُورُ:} تغلي بهم غليان المرجل بما فيه. وقيل: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحبّ القليل، ومن الأول قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه:[الوافر]
تركتم قدركم لا شيء فيها
…
وقدر القوم حامية تفور
وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب، كما تقول: فلان يفور غيظا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها، تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وقيل: الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار. فيكون الكلام على حذف مضاف، أي: سمعوا لأهلها. وانظر الزفير، والشهيق في سورة (هود) رقم [106]:
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} .
الإعراب: {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {أُلْقُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَمِعُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {شَهِيقاً،} كان صفة له. {شَهِيقاً:} مفعول به. {وَهِيَ:} (الواو): واو الحال. (هي):
ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تَفُورُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {جَهَنَّمَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الهاء في {لَها،} والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {تَكادُ:} تقرب. {تَمَيَّزُ:} أصلة: تتميز، بمعنى: تتقطع، وتتفرق، والمعنى: تتفرق غضبا عليهم. وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم. ويجوز أن يراد غيظ الزبانية. {مِنَ الْغَيْظِ:} من شدة الغيظ على الكفار، فجعلت كالمغتاظة عليهم. شبه الله جهنم في شدة غليانها ولهبها بإنسان شديد الغيظ، والحنق على عدوه، يكاد يتقطع من شدة الغيظ. وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الغيظ الشديد بطريق الاستعارة المكنية، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:[الكامل]
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها
…
ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [12]: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} انظر شرحها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ:} جماعة من الكفرة. {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها:} مالك، وأعوانه من الزبانية، يسألونهم سؤال توبيخ، وتقريع. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي: رسول ينذركم غضب الله، وعقابه، وعذابه. وهذا السؤال للكافرين كثر ذكره في آيات القرآن؛ ولا سيما حينما يطلبون تخفيف العذاب، كما في الآية رقم [50] من سورة (غافر) وغيرها. هذا؛ و {فَوْجٌ} اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط، ومعشر
…
إلخ، وجمعه أفواج، وفؤوج، وجمع الجمع:
أفاوج، وأفاييج، وأفاويج. وانظر الآية رقم [18] من سورة (النبأ) ففيها بحث قيم.
هذا؛ وقال الجمل نقلا عن الخطيب: وغضب جهنم من غضب سيدها، وخالقها، تأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة، وتحمل على الناس، فتتقطع الأزمة جميعها، وتحطم على أهل المحشر، فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقابلها بنوره، فترجع، مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر أن يقلع الأرض وما عليها من الجبال، ويصعد بها في الجو؛ لفعل من غير كلفة.
انتهى.
هذا؛ وفي المنجد الناقل عن القاموس قوله: ماز، يميز، وميّز وأماز الشيء: فرزه عن غيره، والشيء: فضله على سواه، وتميّز، وانماز انميازا، وامتاز امتيازا، واشماز اشمازة:
انفصل عن غيره، وانعزل، وتميّز فلان من الغيظ: تقطّع، وامتاز القوم: تميّز بعضهم من بعض.
هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [179]: {ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ،} وقال جل وعلا في سورة (الأنفال) رقم [37]: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ،} وقال تعالت حكمته هنا: {تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ..} . إلخ.
الإعراب: {تَكادُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه يعود إلى {جَهَنَّمَ}. {تَمَيَّزُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى {جَهَنَّمَ} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {تَكادُ،} والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {تَفُورُ} المستتر، فهي حال متداخلة. وقيل: مستأنفة، والأول أقوى. {مِنَ الْغَيْظِ:} متعلقان بما قبلهما. وقيل: في محل نصب على التمييز. ولا وجه له ألبتة.
{كُلَّما} يعربها المعاصرون أداة شرط غير جازمة، وتفصيل إعرابها:(كل): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين إحداهما مرتبة على الأخرى. (ما): محتملة لوجهين:
أحدهما: أن تكون حرفا مصدريا والجملة بعده صلة له. والثاني: أن تكون اسما نكرة بمعنى:
وقت، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة. {أُلْقِيَ:} ماض مبني للمجهول. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فَوْجٌ:} نائب فاعل، و (ما) والفعل {أُلْقِيَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة كل إليه، التقدير: كل وقت إلقاء، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل)، انظر مبحث (كلما) في كتابنا:«فتح القريب المجيب» . وقيل: (ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى: وقت أيضا. {سَأَلَهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {خَزَنَتُها:} فاعل، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام توبيخي.
(لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَأْتِكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والكاف مفعول به. {نَذِيرٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان ل:(سأل) المعلق عن العمل بسبب الاستفهام.
الشرح: {قالُوا} أي: يقول الذين كفروا جوابا لخزنة جهنم. والتعبير بالماضي إنما هو لتحقق وقوعه. {بَلى:} حرف جواب يفيد إثبات ما سأل عنه الخزنة. وهو حرف جواب مثل: نعم، وجير، وأجل، وجلل، وأي؛ إلا أن بلى جواب لنفي متقدم، أي: إبطال ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد؟ فتقول: بلى؛ أي: قد قام. وقوله: أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى، أي: هو قائم. ومنه الآية الكريمة التي بين أيدينا، وقوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم؛ لكفروا.
{قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ:} قال الجمل نقلا عن الخطيب: جمعوا بين حرف الجواب، ونفس الجملة المفادة به توكيدا؛ إذ لو اقتصروا على بلى؛ لفهم المعنى، ولكنهم صرحوا بالمفاد ببلى تحسرا، وزيادة ندم في تفريطهم، وليعطفوا عليه قولهم:{فَكَذَّبْنا..} . إلخ.
{فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ..} . إلخ أي: كذبنا الرسل، وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإنزال، والإرسال رأسا، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال. وال {نَذِيرٌ} إما بمعنى الجمع؛ لأنه فعيل، أو مصدر مقدر بمضاف، أي: أهل إنذار، أو منعوت به للمبالغة، أو الواحد، والخطاب له ولأمثاله على التغليب، أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل، أو على أن المعنى: قالت الأفواج:
قد جاء إلى كل فوج منا رسول من الله فكذبناهم، وضللناهم. ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الزبانية للكفار على إرادة القول، ومرادهم بالضلال: الهلاك، أو سمّوا جزاء الضلال باسمه، كما يسمى جزاء السيئة، والاعتداء: سيئة، واعتداء. ويسمى المشاكلة في علم البيان، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أي: قالوا لنا هذا، فلم نقبله. انتهى بيضاوي، ونسفي.
هذا؛ ومثل الآية قوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [71]: {وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} .
الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَنا:} فعل ماض، (ونا):
مفعول به {نَذِيرٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَكَذَّبْنا:} الفاء: استئنافية. (كذبنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَقُلْنا:} الواو: حرف عطف. (قلنا): فعل، وفاعل. {ما:} نافية.
{نَزَّلَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي ضَلالٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {كَبِيرٍ:} صفة {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ل: {قالُوا} إن كانت من مقول الكافرين، أو هي في محل نصب مقول القول لقول محذوف؛ إن كانت من مقول الزبانية. تأمل، وتدبر.
{وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)}
الشرح: {وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ:} كلام الرسل في الدنيا، فنقبله جملة من غير بحث، وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات. {أَوْ نَعْقِلُ} أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله، والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به
الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم. {ما كُنّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ:} في عدادهم، وجملتهم، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لقد ندم الفاجر يوم القيامة، (قالوا لو كنّا نسمع، أو نعقل ما كنّا في أصحاب السّعير)» ، فقال الله تعالى:
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} .
هذا؛ والفعل: «سمع، يسمع» من الأفعال الصوتية، إن تعلق بالأصوات تعدى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذوات تعدى إلى اثنين؛ الثاني منهما جملة فعلية مصدرة بمضارع من الأفعال الصوتية، مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار الفارسي، واختار ابن مالك، ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، مثل قولك: سمعت زيدا يقول كذا. وصفة؛ إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا.
وأما «العقل» فإنه نور روحاني، تدرك به النفس ما لا تدركه بالحواس الظاهرة، وكثيرا ما يتبجح بعض الناس، فيسأل: أين يوجد العقل؟ فهذا تبجح لا مبرر له، وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [2] من سورة (القيامة). وسمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه؛ أي: يمنعه من فعل الرذائل، والقبائح، لذا فإن كل شخص لا يسير على الجادة المستقيمة لا يكون عاقلا بالمعنى الصحيح. وخذ ما يلي. فقد قال الشاعر:[البسيط]
لم يبق من جلّ هذا النّاس باقية
…
ينالها الوهم إلاّ هذه الصّور
لا يدهمنّك من دهمائهم عدد
…
فإنّ جلّهم، بل كلّهم بقر
يقول: لا يدهمنّك من جماعتهم الكثيرة، فهم عدد كثير ليس فيهم غناء ونصرة؛ لأن كلهم كالأنعام والبهائم، ولله در القائل:[المنسرح]
لا يدهمنك اللّحاء والصّور
…
تسعة أعشار من ترى بقر
في شجر السّرو منهم شبه
…
له رواء ما له ثمر
ورضي الله عن حسان بن ثابت؛ إذ يقول في بني عبد المدان: [البسيط]
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم
…
جسم البغال وأحلام العصافير
فقد ورد أن رجلا معتوها مرّ على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم: هذا مجنون! فقال سيد الخلق، وحبيب الحق، الناطق بالصدق:«هذا مصاب، إنما المجنون من أصرّ على معصية الله تعالى» . هذا؛ والعقل: الدية، سميت بذلك؛ لأن الإبل المؤداة دية تعقل بباب القتيل، والعقال بكسر العين: الحبل الذي تربط به ركبة الجمل عند بروكه؛ ليمنعه من القيام والمشي، والعقال أيضا: صدقة عام، قال شاعر يهجو عاملا على الصدقات في عهد بني أمية:[البسيط]
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
…
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟!
لأصبح النّاس أوبادا ولم يجدوا
…
عند التّفرّق في الهيجا جمالين
الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق.
{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا):
اسمه. {نَسْمَعُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنّا نَسْمَعُ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجملة:{نَعْقِلُ} مع مفعوله المحذوف معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب. {ما:} نافية. {كُنّا:} مثل سابقه. {فِي أَصْحابِ:} متعلقان بمحذوف خبر {كُنّا} . و {أَصْحابِ:} مضاف، و {السَّعِيرِ:} مضاف إليه، وجملة:{ما كُنّا..} . إلخ جواب {لَوْ} لا محل لها، و (لو) ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)}
الشرح: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ:} هذا الاعتراف هو نص الآية السابقة، فعن أبي البختر الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» . رواه الإمام أحمد. وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم: أنّ النار أولى به من الجنّة» . هذا؛ وإنما وحد (الذنب) وهو خبر عن جماعة؛ لأنه مصدر، والمصدر يخبر به عن المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث. {فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ} أي: فبعدا لهم من رحمة الله. وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: السحق: واد في جهنم، والبعد هو المعنى الصحيح له، ويكون بمعنى الهلاك. قال امرؤ القيس:[الطويل]
يجول بأطراف البلاد مغرّبا
…
وتسحقه ريح الصّبا كلّ مسحق
ولم يرد هذا اللفظ في غير هذه السورة، وورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا.
منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، فأناديهم: ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقا! سحقا!» .
هذا؛ و (أصحاب) جمع: صاحب، ويكون بمعنى المالك، كما في قولك: صاحب الدار، وصاحب المال، ونحوه، ويكون بمعنى الصديق، ويجمع أيضا على: صحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثم يجمع أصحاب على أصاحيب، ثم يخفف. فيقال: أصاحب، ولا تنس: أن الصحابي من اجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ساعة؛ وهو مؤمن، فالإيمان شرط لتسميته
صحابيا، فإن اجتمع به؛ وهو غير مؤمن؛ لا يقال عنه: صحابي؛ وإن آمن، وأسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كالذي حصل من كعب الأحبار، وأمثاله.
{السَّعِيرِ:} النار الشديدة الاستعار؛ أي: الاحتراق، يقال: سعرت النار، فهي مسعورة، وسعير، مثل مقتولة، وقتيل، والسّعير: واد من أودية جهنم، أو دركة من دركاتها، وطبقاتها.
والسّعير كزبير بصيغة المصغر: اسم صنم لبني عنزة، قال رشيد بن رميض العنزي:[الوافر]
حلفت بمائرات حول عوض
…
وأنصاب تركن لدى السّعير
ف: «عوض» عندهم: صنم صغير، والسّعير: صنم كبير، وخرج ابن أبي حلاس الكلبي على ناقته، فمرت به على ذلك الصنم، وقد ذبحت عنده قبيلة عنزة، فنفرت ناقته من الصنم، فأنشأ يقول:[الكامل]
نفرت قلوصي من عتائر صرّعت
…
حول السّعير يزوره ابنا يقدم
وجموع يذكر مهطعين جنابه
…
ما إن يحير إليهم بتكلّم
قال أبو المنذر: «يقدم» و «يذكر» ابنا عنزة، فرأى هؤلاء يطوفون حول السّعير. انتهى. بغدادي.
الإعراب: {فَاعْتَرَفُوا:} (الفاء): حرف استئناف. (اعترفوا): فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، وهي من مقول قول الله تعالى. {بِذَنْبِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَسُحْقاً:} (الفاء): حرف عطف. (سحقا):
فيه وجهان: أحدهما هو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ألزمهم الله سحقا، والثاني: أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أيضا، التقدير: سحقهم الله سحقا، فناب المصدر عن عامله في الدعاء، نحو: جدعا له، وعقرا! فلا يجوز إظهار عامله. {لِأَصْحابِ:} متعلقان ب: (سحقا)، أو بمحذوف صفة له، و (أصحاب): مضاف، و {السَّعِيرِ:} مضاف إليه، واللام في:{لِأَصْحابِ} للبيان، كما في هيت لك.
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: يخافون ربهم، ويطيعونه؛ ولم يروه، أو يخافونه في الخلوة بحيث لا يراهم أحد؛ إذا ألقوا الستر، وأغلقوا الباب. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله:«ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه» . وروي عن العباس بن عبد المطلب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله؛ تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» . رواه البيهقي. وإن أردت الزيادة فانظر سورة (الرحمن) رقم [46]. هذا؛ و (الغيب): ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسه. قال الشاعر:[الطويل]
وبالغيب آمنّا وقد كان قومنا
…
يصلّون للأوثان قبل محمّد
ورحم الله من قال: [الطويل]
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
…
خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة
…
ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب
ولا تنس: أن هذه الآية مقابلة لما ذكر في الآية رقم [6] وما بعدها، والمقابلة من المحسنات البديعية اللفظية.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يَخْشَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {رَبَّهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِالْغَيْبِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{مَغْفِرَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ} . هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر {إِنَّ،} و {مَغْفِرَةٌ} فاعلا بمتعلقهما؛ فلست مفندا. {وَأَجْرٌ:}
الواو: حرف عطف. (أجر): معطوف على ما قبله. {كَبِيرٌ:} صفة له، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها.
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)}
الشرح: ظاهر الأمر بأحد الأمرين: الإسرار أو الإجهار، ومعنى الكلام الخبر، والإخبار؛ أي: إسراركم، وإجهاركم في علم الله بهما سواء. فقد روي: أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل عليه السلام بما قالوه فيه، ونالوا منه، فقالوا فيما بينهم: أسروا قولكم لئلا يسمع محمد، فنزلت، وبين الله عز وجل: أنه عليم بما تخفي الصدور، وتكنه الضمائر قبل أن تتكلم به الألسنة، وتترجم عنه، فكيف لا يعلم ذلك؟! وينبغي أن تعلم: أن الخطاب يعم الخلق أجمعين إلى يوم القيامة؛ لأن خصوص السبب لا يمنع التعميم، كما قد قررته مرارا. و (ذات الصدور) ما فيها، كما يسمى ولد المرأة؛ وهو جنين:(ذا بطنها) أي:
صاحب بطنها. ولا تنس الطباق بين الإسرار، والجهر.
هذا؛ و (ذات) بمعنى: صاحبة، فجعلت صاحبة الصدور؛ لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو قوله تعالى:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ} {أَصْحابُ النّارِ} . هذا؛ و (ذات) مؤنث: ذو، الذي بمعنى صاحب، قال تعالى في سورة (البروج):{وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ} وقال تعالى في سورة (الطارق):
{وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ} . وقد يثنى على لفظه، فيقال:«ذاتا» كذا من غير رد لام
الكلمة، وهو القياس، كما يثنى ذو ب: ذوا، أو ذوي على لفظه، ويجوز فيها:(ذواتا) على الأصل برد لام الكلمة، وهو القياس، وهي الياء ألفا لتحرك العين، وهو الواو قبلها، وهو الكثير في الاستعمال، قال تعالى في سورة (الرحمن) رقم [48]:{ذَواتا أَفْنانٍ،} وقال تعالى: {ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} رقم [16] من سورة (سبأ). هذا؛ والتاء في (ذات) لتأنيث اللفظ، مثل تاء ثمّت، وربّت، ولات، ولكنها تعرب بالحركات الظاهرة على التاء، فالجر كما في الآية الكريمة، ومثلها كثير، والرفع جاء في قوله تعالى في سورة (الرحمن) رقم [11]:{فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ،} والنصب جاء في قوله تعالى في سورة (المسد): {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ،} وكل معانيها في القرآن الكريم صاحبة إلا في موضعين، فإنها جاءت بمعنى الجهة، وذلك في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ} سورة (الكهف) رقم [18] وقد رأيت تثنيتها في الآيتين المذكورتين في حالتي النصب، والجر، ولم ترد في القرآن الكريم بمعنى الجمع. هذا؛ ولم يتعرض لها النحويون بهذا المعنى مع كثرة تعرضهم ل:«ذي» بمعنى صاحب، وتثنيته، وجمعه، ولكنهم ذكروا (ذات) بمعنى: التي، و (ذوات) بمعنى: اللواتي، وذلك في بحث الاسم الموصول. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] وكالّتي أيضا لديهم ذات
…
وموضع اللاّتي أتى ذوات
قال الأشموني-رحمه الله تعالى-: أي: عند طيئ ألحقوا ب: «ذو» تاء التأنيث مع بقاء البناء على الضم. وحكى الفراء: (بالفضل ذو فضّلكم الله به، والكرامة ذات أكرمكم الله بها) وقريب منه لابن هشام في أوضحه، وكلاهما أورد بيت رؤبة:[الرجز]
جمعتها من أينق موارق
…
ذوات ينهضن بغير سائق
والفرق بين الأول، والثانية: أن الأولى لا تكون إلا مضافة لما بعدها، كما رأيت، بخلاف الثانية؛ فإنها لا تضاف؛ لأنها معرفة بالصلة؛ التي تذكر بعدها، كما في بيت رؤبة. وأضيف: أن جمع ذات ذوات من لفظه، كما يجمع أولات من غير لفظه، قال تعالى:{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} رقم [4] من سورة (الطلاق) كما يجمع المذكر (ذو) بمعنى صاحب: (أولو) من غير لفظه، وهو كثير في القرآن الكريم. تنبه لهذا، وافهمه. فإنه معنى دقيق. واسأل الله لي المزيد من التوفيق.
الإعراب: {وَأَسِرُّوا:} (الواو): حرف استئناف (أسروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {قَوْلَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَلِيمٌ:} خبرها، والجملة الاسمية تعليلية، لا محل لها. {بِذاتِ:} متعلقان بعليم، و (ذات) مضاف، و {الصُّدُورِ} مضاف إليه.
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}
الشرح: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ:} ألا يعلم من أوجد الأشياء حسبما قدرت حكمته وإرادته.
انتهى. بيضاوي، وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: يعني: ألا يعلم السر من خلق السر، يقول:
أنا خلقت السر في القلب، أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد؟! وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت {مَنْ} اسما للخالق جل وعز، ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته اسما للمخلوق والمعنى: ألا يعلم الله من خلق، ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه، وما يخلقه. قال ابن المسيب-رحمه الله تعالى-: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير، وقد عصافات الريح، فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟! فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . {وَهُوَ اللَّطِيفُ:} العالم بدقائق الأشياء.
{الْخَبِيرُ:} العالم بحقائق الأشياء وخبير بحاجات العباد، وفاقتهم، وخبير بما في قلوب العباد، وخبير بما يسرون، وبما يعلنون. وفيه إثبات خلق الأقوال، فيكون دليلا على خلق أفعال العباد.
الإعراب: {أَلا:} حرف استفتاح يسترعي انتباه المخاطب لما يأتي بعده من كلام. {يَعْلَمُ:}
فعل مضارع. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والمفعول محذوف للتعميم. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، والمفعول محذوف، التقدير، خلق الخلق. هذا؛ وعلى اعتبار فاعل {يَعْلَمُ} عائدا على الله، تقديره: هو، فيكون {مَنْ} مفعولا به، ويكون فاعل {خَلَقَ} عائدا عليه أيضا، ويكون مفعول {خَلَقَ} ضميرا محذوفا، التقدير: خلقه، وهو العائد، والجملة الاسمية:{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في محل نصب حال من فاعل {يَعْلَمُ} على الوجهين المعتبرين فيه. والرابط: الواو، والضمير.
هذا؛ ولم يرتض مكي اعتبار {مَنْ} مفعولا به، وشدد النكير على من قال به، حيث قال:
وقد قال بعض أهل الزيغ: إن (من) في موضع نصب اسم للمسرين، والجاهرين، ليخرج الكلام عن عمومه، ويدفع عموم الخلق عن الله، جل ذكره، ولو كان كما زعم، لقال: ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما تقدم ذكر ما تكن الصدور، فهو في موضع (ما). انتهى باختصار.
الشرح: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} أي: سهلة تستقرون عليها. والذلول: المنقاد من كل شيء، وهو صيغة مبالغة، يستوي فيه المذكر، والمؤنث. والمعنى: جعلها لكم سهلة لا يمتنع فيها المشي، لحزونتها، وغلظها. وقيل: أي: ثبتها بالجبال؛ لئلا تزول بأهلها، ولو كانت
تميد، وتتكفأ؛ لما كانت منقادة لنا، ولما استطعنا الانتفاع بها بالزرع، والغرس، وشق العيون، والأنهار، وحفر الآبار.
{فَامْشُوا فِي مَناكِبِها} أي: في نواحيها، وجهاتها، وأطرافها. وقيل: طرقها، وفجاجها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: جبالها، وآكامها. {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي: الذي خلقه الله لكم في الأرض على اختلاف أنواعه، وتفاوت طعومه، وألوانه، وأشكاله. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي: وإليه تبعثون من قبوركم، فيسألكم عن شكر ما أنعم به عليكم.
هذا؛ وفي الآية الكريمة حث على طلب الرزق، والسعي في تحصيله، وهو لا ينافي التوكل، والأمر في الجملتين للإباحة، أو للندب، كيف لا؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب، بل وحث على العمل والسعي في طلب الرزق، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله يحبّ المؤمن المحترف» .
رواه الطبراني عن ابن عمر-رضي الله عنهما. وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «من أمسى كالاّ من عمل يده أمسى مغفورا له» . رواه الطبراني عن عائشة-رضي الله عنها. وقد مر عمر-رضي الله عنه بقوم جالسين، فقال: من أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون، فقال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكّل من ألقى حبّه في بطن الأرض، وتوكّل على ربّه، عز وجل. وروي: أنه دخل المسجد في غير وقت صلاة، فوجد رجلا جالسا في المسجد، فسأله: ماذا تعمل؟ فقال: أذكر الله، فعلاه بالدّرّة، وقال: لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق؛ ويقول: اللهم ارزقني، فإن السماء لا تمطر ذهبا، والأرض لا تنبت فضة!
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» . رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولعلك تدرك معي: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «تغدو، وتروح» دليل على السعي، والكسب، فهي لم تبق في أعشاشها؛ ويرزقها الله، بل خرجت منها صباحا تبحث عنه. وهو معلوم لدى كل عاقل.
الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما وقيل: متعلقان ب: {ذَلُولاً} ولا وجه له. {الْأَرْضَ:} مفعول به أول. {ذَلُولاً:} مفعول به ثان على اعتبار الفعل من أفعال التحويل بمعنى صيّر، وحال إن كان {جَعَلَ} بمعنى: خلق.
{فَامْشُوا:} (الفاء): حرف عطف على رأي: من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط يقدر ب:«إذا» . (امشوا): فعل
أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {فِي مَناكِبِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة. {وَكُلُوا:} الواو: حرف عطف. (كلوا): أمر، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {مِنْ رِزْقِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَإِلَيْهِ:} (الواو): واو الحال. (إليه): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
{النُّشُورُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، العائد على الموصول. والرابط: الواو، والضمير.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)}
الشرح: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: أأمنتم عذاب من في السماء؛ إن عصيتموه. وقيل: تقديره: أأمنتم من في السماء قدرته، وسلطانه، وعرشه، ومملكته؛ وخص السماء لأن السماء مسكن ملائكته، ومنها تنزل قضاياه، وكتابه، وأوامره، ونواهيه. أو المراد: الملائكة الموكلون على تدبير هذا العالم، أو المراد: الله جلت قدرته.
وهذا؛ لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه، وأنه في السماء، وأن الرحمة، والعذاب ينزلان منه، فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون: أنه في السماء، وهو-جلت قدرته-متعال، ومنزه عن المكان. {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ:} كما خسفها بقارون، فذاق وبال أمره، وكانت عاقبة أمره خسرا. هذا؛ والخسف انهيار الأرض بالشيء، وخسف المكان ذهب في الأرض، وبابه جلس، وخسف الله به الأرض من باب: ضرب، أي: غاب به فيها، وخسوف القمر ذهاب ضوئه. هذا؛ والخسف: النقصان، والخسف: الذلة والمهانة، والحقارة. قال الشاعر:[البسيط]
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلاّ الأذلاّن عير الحيّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته
…
وذا يشجّ فلا يرثي له أحد
وقال عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [108]: [الوافر]
إذا ما الملك سام الناس خسفا
…
أبينا أن نقرّ الخسف فينا
{فَإِذا هِيَ تَمُورُ} أي: تضطرب، وتتحرك. والمور: الاضطراب بالذهاب، والمجيء. قال الشاعر:[الطويل]
رمين فأقصدن القلوب ولن ترى
…
دما مائرا إلاّ جرى في الحيازم
جمع: حيزوم، وهو وسط الصّدر، وانظر ما ذكرته في سورة (الطور) رقم [9].