الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المزّمّل
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (المزمل) مكية كلها في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. وقال ابن عباس، وقتادة: إلا آيتين منها: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ..} . إلخ، والتي تليها، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة، فإنه نزل بالمدينة. انتهى. قرطبي.
وما قاله الثعلبي هو الصحيح، والمعتمد. وما نسب إلى ابن عباس-رضي الله عنهما-فهو ضعيف؛ لأن الأمر بالصبر، والهجر الجميل كان في مكة، وليس في المدينة، فليتأمل، وهي عشرون آية، ومئتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمئة، وثمانية وثلاثون حرفا. انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمزمل: المتلفف بثيابه، يقال: تزمل بثوبه، أي: التف به، وتغطى، وزمل غيره: غطاه، وهو بكسر الميم اسم فاعل، وبفتحها اسم مفعول. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [88]:[الطويل]
كأنّ ثبيرا في عرانين وبله
…
كبير أناس في بجاد مزمّل
و {الْمُزَّمِّلُ} أصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي، ومثله:{الْمُدَّثِّرُ} معنى، وأصلا.
وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيه تأنيس، وملاطفة له صلى الله عليه وسلم. قال السهيلي: في خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاحظة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب، وترك معاتبته سمّوه، ونادوه باسم مشتق من حالته، التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي-رضي الله عنه-حين غاضب فاطمة-رضي الله عنها، وقد نام، ولصق بجنبه التراب:«قم أبا تراب» . إشعارا بأنه ملاطف له، وغير عاتب عليه، وصار ذلك لقبا له من أحب ألقابه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه:«قم يا نومان» . وكان نائما ملاطفة له، وإشعارا بترك العتب، وكان ذلك في الخندق. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل، وذكر الله تعالى فيه؛ لأنه الاسم المشتق من الفعل. ويشترك فيه المخاطب، وكل من اتصف بتلك الصفة. وسبب هذا
التزمل، والتدثر ما روي في البخاري (باب أول نزول الوحي): أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل عليه السلام، وهو في غار حراء في ابتداء الوحي، وحصل ما حصل من ضمه إلى صدره ثلاث مرات، وإرساله؛ نزل من غار حراء يرجف فؤاده، فدخل على خديجة-رضي الله عنها، وقال:
«زمّلوني زملوني، لقد خشيت على نفسي» . وأخبرها بما جرى له. وزمّلوني بمعنى: دثروني، وكلاهما بمعنى غطوني. انتهى. قرطبي وغيره بتصرف.
هذا؛ وقيل في ذلك أقوال كثيرة، والمعتمد ما ذكرته، وأبعد الأقوال عن الحقيقة والواقع ما ذكره النخعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متزملا بقطيفة، نصفها على عائشة-رضي الله عنها-وأنها مرط، طوله أربعة عشر ذراعا. قالت: نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، والله ما كان خزا، ولا قزا، ولا مرعزى، ولا إبريسما، ولا صوفا! كان سداه شعرا، ولحمته وبرا. ذكره الثعلبي. وقد ذكرت لك في مقدمة السورة عن الثعلبي نفسه: أن المعتمد: أن السورة مكية ما عدا الآية الأخيرة منها فإنها مدنية، فهل يصح هذا؟!.
{قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً:} هذا؛ واختلف هل كان قيام الليل فرضا، أو نفلا؟ والدلائل تقوي: أن قيامه كان فرضا، ثم نسخ، واختلف: هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه، وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه، وعلى أمته؟ على ثلاثة أقوال: الأول: قول سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-؛ لتوجه الخطاب له وحده. الثاني: قول ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الأنبياء قبله. الثالث: قول عائشة، وابن عباس أيضا: أنه كان فرضا عليه وعلى أمته. انتهى. جمل، نقلا من الخطيب، والخازن، والقرطبي باختصار.
وانظر ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من أشياء في الآية رقم [50] من سورة (الأحزاب).
واختلف في الناسخ لفريضة قيام الليل، فقيل: الصلوات الخمس. وقيل: أول هذه السورة منسوخ بآخرها. وخذ ما يلي عن زرارة بن أوفى: أن سعد بن هشام بن عامر-رضي الله عنه أراد أن يغزو في سبيل الله
…
الحديث، وفيه فقلت لعائشة-رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ألست تقرأ {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ..} . إلخ؟ قلت: بلى! قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع، ويعلى قالا: حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس-رضي الله عنهما-يقول: لما أنزل أول {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أولها، وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزل بعد عشر سنين:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ..} . إلخ، فخفف الله عنهم.
بعد هذا أقول وبالله التوفيق: إذا اعتمدنا ما ذكرته عن الثعلبي في المقدمة: أن أول السورة نزل في بدء الوحي، والآية الأخيرة نزلت في المدينة، فيكون ما ذكر عن عائشة، وابن عباس-رضي الله عنهما-فيه تعارض، واضطراب، وأقرب إلى الصواب أن يقال: نسخ فرضية قيام الليل كان بفريضة الصلوات الخمس. ويكون قول سعيد بن جبير أقرب من الصواب؛ لأن عشر سنين تكون بين نزول أول السورة في مكة، ونزول آخرها في المدينة. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً:} فكان ذلك تخفيفا؛ إذ لم يكن زمان القيام محدودا، والمعنى: قم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث. {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي: زد على النصف إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل، أو نصفه، أو ثلثه. ولا تنس الطباق بين {اُنْقُصْ} و {زِدْ} وهو من المحسنات البديعية. وبالإضافة لما ذكرته في سورة (الإسراء) رقم [79]، وسورة (الفرقان) رقم [64]، وسورة (السجدة) رقم [16] خذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدّنيا كلّ ليلة حين يمضي ثلث الليل الأوّل، فيقول: أنا الملك! أنا الملك! من ذا الذي يدعوني، فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر» . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة، وأبي سعيد-رضي الله عنهما-قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يمهل؛ حتى يمضي شطر الليل الأوّل، ثم يأمر مناديا، يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟» . وخرّج ابن ماجه من حديث ابن شهاب، عن أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة-رضي الله عنهم أجمعين-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كلّ ليلة، فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر» . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا: وبهذا الترتيب انتظم الحديث، والقرآن، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. انتهى.
قرطبي، أقول: والنزول المذكور مستمر كل ليلة إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
أقول: وفي معنى النزول مذهبان: مذهب الخلف التأويل، يقولون: تنزل رحمة الله ورضوانه وجوده، وكرمه، وإحسانه؛ بمعنى: تفتح أبواب ذلك. ومذهب السلف التفويض: يقولون: نزول لا نعلمه، أو يقولون: نزول يليق به تعالى. وهذا الحديث من المتشابهات، مثل قوله تعالى في سورة (طه):{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} وغير ذلك كثير.
هذا؛ وعن عائشة-رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا؛ وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخّر؟ قال:«أفلا أحبّ أن أكون عبدا شكورا؟!» . رواه البخاري، ومسلم. وهذا بعد أن نسخ فرضية قيام الليل عنه صلى الله عليه وسلم، فعبادته لم تكن
طمعا في جنة، ولا خوفا من نار، وإنما هي شكر لله على ما أنعم عليه من نعم كثيرة، أجلها الرسالة إلى الخلق أجمعين. والشكر يستوجب المزيد من النعم. قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .
ومعلوم أن تفطّر قدميه صلى الله عليه وسلم وتورّم قدميه-كما في رواية أخرى-لم يكن من كثرة السجود، والركوع، والقيام، والقعود. لا، وإنما هو من إطالة القيام، والركوع، وغيرهما. فقد روي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل بأربع ركعات، يقرأ في الركعة الأولى سورة (البقرة)، وفي الثانية سورة (آل عمران)، وفي الثالثة سورة (النساء)، وفي الرابعة سورة (المائدة) وركوعه كان بمقدار خمسين آية، وسجوده بمقدار سبعين آية.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحبّ الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف اللّيل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما، ويفطر يوما» . رواه الستة.
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي: اقرأه بترتيل، وتؤدة، وتبيين حروف، وإشباع حركات، بحيث يتمكن السامع من عدها. قال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل:
التنضيد، والتنسيق، وحسن النظام، ومنه ثغر رتل بكسر التاء وفتحها: إذا كانت أسنانه حسنة التنضيد والنظام، وقال أبو بكر بن طاهر: تدبّر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه.
وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أول درج الجنة، ويقال له: اقرأ، وارق، ورتل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها» . أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران» . رواه الستة.
هذا؛ وقيل: الترتيل: هو التوقف، والترسل، والتمهل، والتفهم، وتبيين القراءة حرفا حرفا، أثره في أثر بعض. وقيل: إن الله لما أمر بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب، والتأمل، والتفكر في حقائق الآيات، ومعانيها، فعند الوصول إلى ذكر الله تعالى يستشعر بقلبه عظمة المذكور، وجلاله. وعند ذكر الوعد، والوعيد يحصل الرجاء، والخوف. وعند ذكر القصص والأمثال يحصل الاعتبار، فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة. والإسراع في القراءة لا يحصل فيها ذلك، فظهر بذلك: أن المقصود من الترتيل، إنما هو حضور القلب عند القراءة.
وعن أم سلمة-رضي الله عنها، وقد سألها يعلى بن مالك عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، فقالت: مالكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا.
أخرجه النسائي.
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة؛ قال: جاء رجل إلى ابن مسعود؛ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. قال عبد الله-رضي الله عنه: هذّا كهذّ الشعر! إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن. أخرجه الترمذي، وللنسائي عن أبي ذر نحوه، وزاد: والآية من سورة (المائدة): {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: يرددها في صلاته في ليله.
وعن سهل بن سعد-رضي الله عنه-قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ، فقال:
أخرجه أبو داود، وغيره. انتهى. خازن بتصرف.
الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء، تنوب مناب أدعو، أو أنادي. (أيها): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه، لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {الْمُزَّمِّلُ:} بدل من (أيّ). {قُمِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:
«أنت» . {اللَّيْلَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {قَلِيلاً:} مستثنى بإلا من {اللَّيْلَ} . {نِصْفَهُ:} قال أبو البقاء:
فيه وجهان: أحدهما: هو بدل من {اللَّيْلَ} بدل بعض من كل، و {إِلاّ قَلِيلاً} استثناء من (نصف)، والثاني: هو بدل من {قَلِيلاً} وهو أشبه بظاهر الآية. انتهى. ومثله في الكشاف، والقرطبي، وعزا الأول للزجاج. والهاء في محل جر بالإضافة. {أَوِ:} حرف عطف، وتخيير. {اُنْقُصْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة معطوفة على ما قبلها. (قليلا): صفة زمان محذوف متعلق بالفعل قبله، التقدير: أو انقص منه زمانا قليلا. {أَوِ:} حرف عطف، وتخيير أيضا.
{زِدْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَرَتِّلِ:} الواو: حرف عطف. (رتل): فعل أمر، وفاعله: أنت، والجملة الفعلية معطوفة أيضا. {الْقُرْآنَ:} مفعول به. {تَرْتِيلاً:} مفعول مطلق.
{إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)}
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: قولا شديدا. وقيل: يعني: كلاما جليلا ذا خطر، وعظمة؛ لأنه كلام رب العالمين، وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل. والمعنى: صيّر نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق. وقيل: سماه ثقيلا؛ لما فيه من الأوامر، والنواهي، فإن فيه كلفة، ومشقة على الأنفس. وقيل: ثقيلا؛ لما فيه من الوعد والوعيد،
والحلال والحرام، والحدود والفرائض والأحكام. وقيل: ثقيلا على المنافقين؛ لأنه يبين عيوبهم، ويظهر نفاقهم. وقيل: هو خفيف على اللسان بالتلاوة، ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة. وقيل: سماه ثقيلا لما فيه من المحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ.
وقيل: ثقيلا في الوحي، وذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن، والوحي يجد له مشقة.
فعن عائشة-رضي الله عنها-أن الحارث بن هشام-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا، فيكلّمني، فأعي ما يقول» . قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا، أخرجه البخاري، وعنها أيضا قالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فتضرب بجرانها (صدرها) الأرض، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه؛ يعني:
الوحي ينتهي. رواه الإمام أحمد. وعن زيد بن ثابت-رضي الله عنه-قال: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وفخذه على فخذي، فكادت ترضّ فخذي. انتهى. خازن، وقرطبي، ومختصر ابن كثير.
الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {سَنُلْقِي:} السين: حرف استقبال، وهو مفيد هنا للتوكيد قطعا؛ لأنه وعد من الكريم. (نلقي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«نحن» . {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {قَوْلاً:} مفعول به.
{ثَقِيلاً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. وعن الزمخشري قال: معترضة بين الأمر بقيام الليل، وبين تعليله الآتي.
{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)}
الشرح: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ:} النفس الناشئة في الليل؛ التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض، وترتفع، من: نشأت السحابة، إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه، ونشر: إذا نهض.
قال الشاعر: [الطويل]
نشأنا إلى خوص برى نيّها السّرى
…
وألصق منها مشرفات القماحد
معنى البيت: نهضنا وقمنا إلى خوص، جمع: خوصاء، وهي الناقة المرتفعة الأعلى، الضخمة الأسفل. برى نيها: أي: أذاب شحمها سير الليل. والقماحد: جمع القمحدوة بسكون الحاء، وهو مؤخر القذال، وهي فأس الرأس المشرفة على النقرة. والمعنى: قصدنا إلى ناقة
مهزولة من السّرى ورحلنا. و {ناشِئَةَ اللَّيْلِ} قيام الليل على أن الناشئة مصدر من: نشأ: إذا قام، ونهض على فاعلة، كالعافية، ويدل عليه ما روي عن عبيد بن عمير-رضي الله عنه. قال: قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل أتقولين له: قام ناشئة؟ قالت: لا؛ إنما الناشئة القيام بعد النوم، ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع، أو الناشئة: العبادة، التي تنشأ بالليل، أي: تحدث، وترتفع. وقيل: هي ساعات الليل كلها؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى. وقيل: الساعات الأول من الليل؛ لأن لفظ: «نشأ» يعطي الابتداء، فكان بالأولية أولى، ومنه قول الشاعر:[الوافر]
ولولا أن يقال صبا نصيب
…
لقلت بنفسي النّشأ الصّغار
وكان علي بن الحسين، الملقب بزين العابدين-رضي الله عنهما-يصلي بين المغرب، والعشاء، ويقول: هذه ناشئة الليل. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات لم يتكلّم فيما بينهنّ بسوء؛ عدلن بعبادة ثنتي عشرة سنة» . رواه ابن ماجه، والترمذي، وابن خزيمة. وعن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من صلّى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة» . رواه الترمذي. وعن الأسود بن يزيد-رضي الله عنه. قال:
قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: نعم ساعة الغفلة! يعني الصلاة فيما بين المغرب، والعشاء. رواه الطبراني.
{هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً} أي: إنها أثقل على المصلي من ساعات النهار، وذلك: أن الليل وقت منام، وراحة، فمن صلى فيه؛ فقد تحمل المشقة العظيمة. أو المعنى: أشد مواطأة، يواطئ القلب اللسان، إن أردت النفس، أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه، إن أردت القيام، أو العبادة، أو الساعات، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع، والإخلاص. وعن الحسن: أشد موافقة بين السر، والعلانية؛ لانقطاع رؤية الخلائق، ولذا قرئ:«(هي أشدّ وطاء)» .
على أنه مصدر: واطأت: وطاء، ومواطأة، إذا وافقته، وتواطؤوا عليه، أي: توافقوا.
فالمعنى: أشد موافقة بين القلب، والبصر، والسمع، واللسان؛ لانقطاع الأصوات، والحركات.
قال الله تعالى في سورة (التوبة) رقم [37] في بيان ما كان الجاهليون يفعلونه من تحليل، وتحريم:{لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ} أي: ليوافقوا.
{وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي: أشد استقامة، وأثبت قراءة؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {ناشِئَةَ:} اسم {إِنَّ} وهو مضاف، و {اللَّيْلِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لظرفه، وفاعله مستتر فيه، أو من إضافة المصدر لظرفه على حد قوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [33]:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} . {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على
الفتح في محل رفع مبتدأ. {أَشَدُّ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ}. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا ف:{أَشَدُّ} خبرها، والجملة الاسمية:{إِنَّ ناشِئَةَ..} . إلخ تعليل للأمر السابق، وعليه فالجملة الاسمية:{إِنّا سَنُلْقِي..} . إلخ معترضة بين التعليل والمعلل. {وَأَقْوَمُ:}
معطوف على {أَشَدُّ} . {قِيلاً:} تمييز مثل {وَطْئاً} . تأمل، وتدبر.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)}
الشرح: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً} أي: تصرفا في حوائجك، إقبالا، وإدبارا، ذهابا، وإيابا، وهو مصدر: سبح، وقد استعير من السباحة في الماء للتصرف في الحوائج، والسبح:
الجري والدوران، ومنه: السابح في الماء لتقلبه بيديه، ورجليه، وفرس سابح: شديد الجري.
قال امرؤ القيس في معلقته رقم [67]: [الطويل]
مسحّ إذا ما السّابحات على الونى
…
أثرن الغبار بالكديد المركّل
وقال تعالى في سورة (النازعات): {وَالسّابِحاتِ سَبْحاً} . هذا؛ وقيل: سبحا طويلا: فراغا طويلا لنومك، وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل، كما يتردد السابح في الماء. قال الشاعر:[الطويل]
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها
…
ففيها لكم يا صاح سبح من السّبح
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {فِي النَّهارِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وبعضهم يعلقهما بمحذوف حال من {سَبْحاً} .
{سَبْحاً:} اسم {إِنَّ} مؤخر. {طَوِيلاً:} صفة {سَبْحاً،} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
{وَاُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)}
الشرح: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي: دم على ذكره في ليلك، ونهارك، واحرص عليه. وذكر الله تعالى يتناول كل ما كان من ذكر طيب، من تسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وتمجيد، وتقديس، وتوحيد، وصلاة، وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعات ليله، ونهاره. وقال الجلال: أي: قل: بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك. قال الجمل: أي: سواء قرأت في الصلاة، أو خارجها. وهذا إذا قرأ من أول السورة، وأما إذا قرأ من أثناء سورة؛ فإنه إن كان في غير الصلاة؛ سنّ له أن يبسمل، وإن كان فيها لم تسن له البسملة؛ لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة.
{وَتَبَتَّلْ:} انقطع إليه في العبادة. {تَبْتِيلاً:} انقطاعا. التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل، وسميت مريم البتول؛ لانقطاعها إلى الله تعالى، وعبادته. ويقال للراهب: متبتل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [50]:[الطويل]
تضيء الظّلام بالعشاء كأنّها
…
منارة ممسى راهب متبتّل
وفي الحديث النهي عن التبتل، وقد ذكرت في سورة (المائدة) رقم [87] في تفسير قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ..} . إلخ. رأي الدين في الكراهية لمن أراد التبتل، والانقطاع إلى العبادة، وأراد أن يسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. وجملة القول:
فالتبتل المأمور به في القرآن: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة، كما قال تعالى:{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} سورة (البينة) رقم [5]. والتبتل المنهي عنه في الأحاديث الشريفة هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح، والعزوف عن الدنيا، والاعتزال في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. قال ابن العربي عن عصره: وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل.
بعد هذا فقد قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف قال {تَبْتِيلاً} مكان: تبتلا، ولم يجئ على مصدره، أي: على تفعّل، مثل تكلّم تكلّما؟ قلت: جاء {تَبْتِيلاً} على بتّل نفسك إليه تبتيلا، فوقع المصدر موضع مقارنه في المعنى، فيكون التقدير: وبتل نفسك إليه تبتيلا، فهو كقوله تعالى في سورة (نوح):{وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} وقيل: لأن معنى تبتل: بتل نفسك، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. وقيل: الأصل في تبتل أن يقال: تبتلت تبتيلا، وتبتلت تبتلا، فتبتيلا محمول على معنى تبتل إليه تبتيلا. وقيل: عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة، وهي أن المقصود إنما هو التبتل، وأما التبتيل فهو تصرف، والمشتغل بالتصرف، لا يكون متبتلا إلى الله تعالى؛ لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل؛ فذكر أولا التبتل؛ لأنه المقصود، وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه.
انتهى. هذا؛ وتبتيل مصدر: بتل، على حد قول ابن مالك في ألفيته:[الرجز]
وغير ذي ثلاثة مقيس
…
مصدره كقدّس التّقديس
الإعراب: {وَاذْكُرِ:} الواو: حرف عطف. (اذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .
{اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية رقم [5] والجملة الاسمية قبلها معترضة بين المتعاطفين. {وَتَبَتَّلْ:} الواو: حرف عطف.
(تبتل): أمر، وفاعله:«أنت» . {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {تَبْتِيلاً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)}
الشرح: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ،} انظر الآية رقم [40] من سورة (المعارج)، ففيها الكفاية، وأضيف هنا: أنه كان من حق (المشرق) و (المغرب) فتح العين، وهي الراء؛ لأن المصدر الميمي، واسمي الزمان، والمكان إذا أخذ أحدهما من فعل ثلاثي مفتوح العين، أو مضمومها في المضارع أن يكون بفتح العين قياسا، ولكن التلاوة جاءت بكسرها. وأيضا جاء كثير بكسر العين، وهو مذكور في كتب النحو، من ذلك المسجد والمنبت، والمسقط، والمرفق، والمنخر، والمجزر، والتحقيق: أنها أسماء نوعية، غير جارية على فعلها، وإلا فلا مانع من الفتح. هذا؛ وتقديم (المشرق) بجميع حالاته يوحي بأفضليته على (المغرب).
{فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي: على كل من خالفك بأن تفوض إليه جميع أمورك، فإنه يكفيكها. قال البقاعي-رحمه الله تعالى-: وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ، بل بالإجماع في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلا في السبب، منتظرا للمسبب، فلا يهمل الأسباب، ويتركها طامعا في المسببات؛ لأنه حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب. انتهى. جمل نقلا من الخطيب. وانظر التوكل في سورة (المجادلة) رقم [10] قال تعالى في سورة (هود) رقم [123]:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ولا تنس الطباق بين (المشرق) و (المغرب)، وهو من المحسنات البديعية.
الإعراب: {رَبُّ:} بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو رب، أو هو مبتدأ، خبره:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} . ويقرأ بالجر على أنه بدل من: {رَبِّكَ} مجرور على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه (لا إله إلا الله) وقال أبو البقاء: ويقرأ بالنصب على إضمار أعني، أو بدلا من:{اِسْمَ،} أو بفعل يفسره: {فَاتَّخِذْهُ،} والقراءة الأولى، والثانية سبعيتان، والثالثة غير سبعية، و {رَبُّ} مضاف، و {الْمَشْرِقِ} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْمَغْرِبِ:} معطوف على ما قبله.
{لا:} نافية للجنس تعمل عمل (إنّ). {إِلهَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، التقدير موجود. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول: كونه بدلا من اسم {لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: كونه بدلا من {لا} واسمها؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى، والجملة الاسمية في محل رفع خبر رب على وجه مرّ ذكره، أو
جواب القسم على جره كما رأيت، أو في محل نصب حال من الضمير المستتر في (ربّ) على نصبه، والكلام مستأنف، أو معترض بين الجمل المتعاطفة. {فَاتَّخِذْهُ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك هو الشأن، والحال؛ فاتخذه. (اتخذه):
فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به أول. {وَكِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» .
{وَاِصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)}
الشرح: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} أي: اصبر على أذى هؤلاء السفهاء المكذبين فيما يتقولونه عليك من قولهم: ساحر، شاعر، مجنون. {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً:} الهجر الجميل: هو الذي لا أذية معه، وقال تعالى في سورة (المعارج):{فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} والصبر الجميل: هو الذي لا شكاية معه. وقال تعالى في سورة (الحجر) رقم [85]: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} والصفح الجميل:
هو الذي لا عتاب معه. وما في الآية ونحوه كان قبل أن يؤمر بالقتال، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقتلهم، والحكمة في هذا: أن المؤمنين كانوا بمكة قلة مستضعفين، فأمروا بالصبر، وبالمجاهدة الكلامية؛ حتى يعدوا أنفسهم بهذه التربية الروحية على مناجزة الأعداء، وحتى يكثر عددهم، فيقفوا في وجه الطغيان، أما قبل الوصول إلى هذه المرحلة، فينبغي الصبر، والاقتصار على الدعوة باللسان، وهذا ما حصل، فبعد الهجرة إلى المدينة المنورة صار المسلمون أهلا للمناجزة، وحمل السلاح في وجه الكفار، كما في غزوة بدر الكبرى، وغيرها.
بعد هذا؛ فالصبر: حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو مرّ المذاق لا يكاد يطاق، إلا أنه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال القائل:[البسيط]
الصّبر مثل اسمه مرّ مذاقته
…
لكن عواقبه أحلى من العسل
وبالجملة فنفع الصبر مشهور، والحض عليه في الكتاب والسنة مقرر مسطور، وهو على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على البلاء. ولا تنس: أن من أسماء الله تعالى الصبور، وفسر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الرعد) رقم [22]:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلبا لمرضاته، وهذا هو الصبر المحمود، وهو أن يكون الإنسان صابرا لوجه الله تعالى، راضيا بما نزل به من الله، طالبا بذلك الصبر ثوابه من الله تعالى، محتسبا أجره على الله، فهذا هو الصبر الذي يدخل صاحبه رضوان الله، وأما إذا صبر الإنسان؛ ليقال: ما أكمل صبره، وما أشد قوته على تحمل النوائب، أو يصبر؛ لئلا يعاب على الجزع، أو يصبر؛ لئلا تشمت به الأعداء، فهذا كله مذموم، لا ينيل صاحبه الدرجات العلى، والمقام الرفيع عند الله، وقد يعرضه لشديد غضب الله، ونقمته.
ثم اعلم: أن الصبر ذكر في القرآن في خمسة وتسعين موضعا، ومن أجمعها آية (البقرة)، وهي قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ..} . إلخ، الآية رقم [155] وما بعدها، ومن آنفها قوله تعالى في سورة (ص) في حق أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-رقم [44]:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً} قرن هاء الصبر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى في سورة (الرعد):{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} .
الإعراب: {وَاصْبِرْ:} الواو: حرف عطف. (اصبر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» {عَلى:} حرف جر. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بعلى، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: اصبر على الذي، أو شيء يقولونه. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر ب:{عَلى} التقدير: اصبر على قولهم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من جمل، والكلام:{رَبُّ الْمَشْرِقِ..} . إلخ معترض بين الجمل المتعاطفة.
{وَاهْجُرْهُمْ:} الواو: حرف عطف. (اهجرهم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {هَجْراً:} مفعول مطلق. {جَمِيلاً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11)}
الشرح: {وَذَرْنِي..} . إلخ: أي: دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي أصحاب الغنى، والثروة، والتنعم في الدنيا، وأصحاب الترف، والبطر، فأنا أكفيك شرهم. نزلت في صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين. قال تعالى في سورة (الحجر) رقم [95]:{إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . {أُولِي النَّعْمَةِ:} أصحاب التنعم، والترفه، فالنعمة بفتح النون: التنعم، والمعروف، والصنيعة، والمنة، وما أنعم به عليك غيرك. وبالكسر: الإنعام. وقد تمد، كما في قوله تعالى:
{وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرّاءَ} سورة (هود) رقم [10] وبالضم: المسرة. {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي:
أمهلهم زمنا يسيرا؛ حتى ينالوا العذاب الشديد. قال المفسرون: أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، فلما خرج من مكة؛ سلط الله عليهم السنين المجدبة، وهو العذاب العام، ثم قتل صناديدهم ببدر، وهو العذاب الخاص. هذا؛ وفي الآية تهديد ووعيد للكافرين، خذ قوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [83]، وأيضا في سورة (المعارج) رقم [42]:{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وفي سورة (الحجر) رقم [3]: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
الإعراب: {وَذَرْنِي:} الواو: حرف عطف. (ذرني): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» ، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. (المكذبين):
معطوف على ياء المتكلم، أو هو مفعول معه، فهو منصوب على الاعتبارين، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {أُولِي:}
صفة المكذبين منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولِي} مضاف، و {النَّعْمَةِ} مضاف إليه. {وَمَهِّلْهُمْ:} الواو:
حرف عطف. (مهلهم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به. {قَلِيلاً:}
صفة «زمان» محذوف، التقدير: زمانا قليلا، أو صفة مفعول مطلق، التقدير: تمهيلا قليلا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13)}
الشرح: {إِنَّ لَدَيْنا:} عندنا في الآخرة. {أَنْكالاً:} الأنكال: القيود. قاله الحسن، ومجاهد، وغيرهما، واحدها: نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة، وقد سمي نكلا؛ لأنه ينكّل به. قال الشعبي-رحمه الله تعالى-: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا، لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم، وقال الكلبي: الأنكال الأغلال، والأول أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء-رضي الله عنها:[المتقارب]
دعاك فقطّعت أنكاله
…
وقد كنّ قبلك لا تقطع
وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد. قاله مقاتل. وقد جاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب النّكل على النّكل» . بالتحريك قاله الجوهري. قيل: وما النّكل؟ قال: «الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب» . ذكره الماوردي. قال: ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته، وكذلك الغل، وكل عذاب قوي شديد. والجحيم: النار المؤججة. هذا؛ والنكال: العذاب الشديد.
انظر سورة (النازعات) رقم [25].
هذا؛ و {لَدَيْنا} ظرف مكان بمعنى: عند، وهي معربة مثلها، وقد تستعملان في الزمان، وإذا أضيف «لدى» إلى مضمر كما هنا قلبت ألفه ياء عند جميع العرب، إلا بني الحارث بن كعب، وبني خناعة، فلا يقلبونها، تسوية بين الظاهر، والمضمر، كما لا يقلبون ألف «على» و «إلى» ، ونحوهما، وعلى لغتهم جاء قول الشاعر:[الوافر]
إلاكم يا خناعة لا إلانا
…
عزا الناس الضّراعة والهوانا
فلو برأت عقولكم بصرتم
…
بأنّ دواء دائكم لدانا
وذلكم إذا واثقتمونا
…
على قصر اعتمادكم علانا
ثم اعلم: أن «عند» أمكن من «لدى» من وجهين: أحدهما: أنها تكون ظرفا للأعيان، والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب، وعند فلان علم به. ويمتنع ذلك في:«لدى» ذكره ابن الشجري في أماليه، ومبرمان في حواشيه. والثاني: أنك تقول: عندي مال؛ وإن كان غائبا، ولا تقول: لديّ مال إلا إذا كان حاضرا. قاله جماعة منهم: الحريري، وأبو هلال العسكري، وابن الشجري، وزعم المعري: أنه لا فرق بينهما، وقول غيره أصح. انتهى. «فتح القريب المجيب» .
{وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ} أي: غير سائغ، يأخذ بالحلق، لا هو نازل، ولا هو خارج، وهو الغسلين، والزقوم، والضريع. قال تعالى في سورة (الحاقة):{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ،} وقال تعالى في سورة (الدخان): {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ،} وقال تعالى في سورة (الغاشية): {لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ} وقال حمران بن أعين: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً..} . إلخ، فصعق. وقال خليد بن حسان: أمسى الحسن عندنا صائما، فأتيته بطعام، فعرضت له هذه الآية:{إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً..} . إلخ، فقال: ارفع طعامك، فلما كانت الثانية؛ أتيته بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوه، ومثله في الثالثة، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني، ويزيد الضبي، ويحيى البكّاء، فحدثهم، فجاؤوه، فلم يزالوا به حتى شرب سويقا. والغصة: الشجا، وهو ما ينشب في الحلق من عظم، أو غيره، وجمعها: غصص. والغصص (بفتح الغين): مصدر قولك: غصصت يا رجل، تغص، فأنت غاص بالطعام، وغصّان، وأغصصته أنا، والمنزل غاصّ بالقوم؛ أي: ممتلئ بهم. انتهى. قرطبي وانظر سورة (الغاشية) تجد ما يسرك.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لَدَيْنا:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ،} تقدم على اسمها، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء حينما اتصل به ضمير متحرك، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {أَنْكالاً:} اسم {إِنَّ} مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَجَحِيماً:} معطوف على ما قبله. {وَطَعاماً:} معطوف أيضا. {ذا:} صفة (طعاما) منصوب مثله، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذا} مضاف، و {غُصَّةٍ} مضاف إليه. {وَعَذاباً:} معطوف على ما قبله.
{أَلِيماً:} صفة (عذابا).
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)}
الشرح: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ:} يوم تتزلزل الأرض، وتهتز بمن عليها، اهتزازا عنيفا شديدا هي، وسائر الجبال. قال تعالى في سورة (الواقعة):{إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا} . {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً:} الكثيب: الرمل المجتمع. قال حسان-رضي الله عنه: [الوافر]
عرفت ديار زينب بالكثيب
…
كخطّ الوحي في الورق القشيب
{مَهِيلاً:} سائلا بعد اجتماعه، والمهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم؛ زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله؛ انهال. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: رملا سائلا متناثرا. قال ابن كثير: تصير الجبال ككثبان الرمال، بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تنسف نسفا، فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، كقوله تعالى في سورة (طه):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} أي: لا شيء يرتفع، ولا شيء ينخفض.
انتهى. وقال تعالى في سورة (الواقعة): {فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} .
هذا؛ و (كانت) بمعنى: (تكون) والتعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق الوقوع، وهو مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، أما «مهيل» فهو اسم مفعول، أصله: مهيول، فقل في إعلاله:
اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الياء إلى الهاء قبلها بعد سلب سكونها، فصار (مهيول) فالتقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. فصار (مهيل) ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء، فصار:«مهيلا» ومثل «مهيل» : مبيع، ومعين، وغير ذلك كثير. قال عباس بن مرداس-رضي الله عنه:[الكامل]
قد كان قومك يحسبونك سيّدا
…
وإخال أنّك سيّد معيون
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بخبر {إِنَّ} المحذوف لما فيه من معنى الفعل، أي:
استقر للكفار لدينا كذا، وكذا. قاله الزمخشري، ومن تبعه. وقال القرطبي: أي: ينكل بهم، ويعذبون يوم ترجف. وقيل: متعلق بمحذوف صفة (عذابا). {تَرْجُفُ:} فعل مضارع.
{الْأَرْضُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {وَالْجِبالُ:} معطوف على ما قبله. {وَكانَتِ:} الواو: حرف عطف. (كانت): فعل ماض ناقص، والتاء حرف لا محل له.
{الْجِبالُ:} اسمها. {كَثِيباً:} خبرها. {مَهِيلاً:} صفة {كَثِيباً،} والجملة: {وَكانَتِ الْجِبالُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.
الشرح: بعد أن ذكر الله تعالى العذاب المؤلم الذي أعده للمشركين، ومكانه؛ وهو الجحيم، وآلاته؛ وهي القيود، وطعام الزقوم، ونحوه، ووقته؛ وهو عند اضطراب الأرض، وتزلزلها بمن عليها، وأراد بذلك تخويف المكذبين، وتهديدهم بأنه تعالى سيعاقبهم بذلك كله؛ إن بقوا مستمرين في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبه بتذكيرهم بما حل بالأمم الباغية التي قد خلت من قبلهم، وكيف عصت، وتمردت، فأنزل بها من أمره ما نزل، وضرب لهم المثل بفرعون الجبار فقال تعالى:{إِنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ} يا أهل مكة. {رَسُولاً:} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
{شاهِداً عَلَيْكُمْ} أي: يشهد بالتبليغ، وإيمان من آمن منكم، وكفر من كفر. وخذ قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [41]:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} انظر شرحها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وفي قوله تعالى:{أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على الأصل؛ لقال: إنا أرسلنا إليهم، انظر الالتفات في سورة (الملك) رقم [20].
{كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً:} يعنى موسى بن عمران، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وإنما خص فرعون، وموسى بالذكر من بين سائر الأمم، والرسل؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم آذاه أهل مكة، واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى، وآذاه؛ لأنه رباه في حجره وبلاطه، لذا قال له، كما حكى الله عنه في سورة (الشعراء) رقم [18]:{قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} .
الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَسُولاً:}
مفعول به. {شاهِداً:} صفة له. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {شاهِداً،} وجملة:
{أَرْسَلْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا أَرْسَلْنا..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه، وجر. (ما): مصدرية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {إِلى فِرْعَوْنَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {رَسُولاً:} مفعول به، و (ما) والفعل {أَرْسَلْنا} في تأويل مصدر في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير: إنا أرسلنا إليكم رسولا
…
إرسالا كائنا مثل إرسالنا إلى فرعون رسولا. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلا في مواضع محصورة، وليس هذا منها.
{فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)}
الشرح: {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ:} إنما عرفه لتقديم ذكره، وهذه (أل) العهدية، والعرب إذا قدمت اسما، ثم حكت عنه ثانيا، أتوا به معرفا، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره، نحو رأيت رجلا، فأكرمت الرجل، أو فأكرمته، ولو قلت: فأكرمت رجلا لتوهم: أنه غير الأول، وسيأتي تحقيق هذا في سورة (الشرح) إن شاء الله تعالى. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«لن يغلب عسر يسرين» . انتهى. سمين.
{فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً:} شديدا. وفي القرطبي: أي: ثقيلا شديدا، وضرب وبيل، وعذاب وبيل، أي: شديد. قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه: مطر وابل، أي: شديد. قاله الأخفش. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [265]: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ} وقيل:
{أَخْذاً وَبِيلاً:} أخذا مهلكا، والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة، ومنه قول أرطاة بن سهية، وهو الشاهد رقم [683] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
أكلت بنيك أكل الضّبّ حتّى
…
وجدت مرارة الكلا الوبيل
وماء وبيل، أي: وخيم غير مريء، وكلأ مستوبل، وطعام وبيل، ومستوبل، إذا لم يمرئ، ولم يستمرأ. قال زهير في معلقته رقم [38]:[الطويل]
فقضّوا منايا بينهم ثمّ أصدروا
…
إلى كلا مستوبل متوخّم
وقالت الخنساء: [الوافر]
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت
…
فوارس مالك أكلا وبيلا
والوبيل أيضا: العصا الضخمة. قال الشاعر: [الطويل]
لو أصبح في يمنى يديّ زمامها
…
وفي كفّي الأخرى وبيل نحاذره
وكذلك الموبل بكسر الباء، والموبلة أيضا: الحزمة من الحطب. وكذلك الوبيل. قال طرفة في معلقته رقم [96]: [الطويل]
فمرّت كهاة ذات خيف جلالة
…
عقيلة شيخ كالوبيل يلندد
الإعراب: {فَعَصى:} الفاء: حرف عطف. (عصى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {فِرْعَوْنُ:} فاعله. {الرَّسُولَ:} مفعول، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
{أَرْسَلْنا..} . إلخ فهي تؤول مثلها بالمصدر. (أخذناه): فعل، وفاعل، ومفعول به. {أَخْذاً:}
مفعول مطلق. {وَبِيلاً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لها حكمها.
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17)}
الشرح: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} أي: كيف لكم بالتقوى يوم القيامة؛ إن كفرتم في الدنيا؟! المعنى لا سبيل إلى التقوى؛ إذا وافيتم يوم القيامة. وقيل: المعنى: فكيف تتقون العذاب يوم القيامة؟ وبأي:
شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم؟ وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدنيا؟ انتهى. خازن. وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: أي: بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟
وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: والله ما يتقي من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. هذا؛ وانظر شرح التقوى في الآية رقم [3] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً:} فإسناد الجعل إلى اليوم مجاز عقلي؛ لأن اليوم محل جعلهم شيبا فالجعل المذكور واقع في اليوم، والجاعل حقيقة هو الله تعالى، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [2]:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} فإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقلي؛ لأنها سبب في الزيادة، والذي يزيد حقيقة هو الله تعالى، وانظر الآية رقم [24] من سورة (نوح) فهو مثله.
هذا؛ ويصير الولدان شيبا حين يقال لآدم-عليه الصلاة والسلام: قم فابعث بعث النار من ذريتك. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك! فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار. قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد؛ فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم» . قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشروا فإنّ من يأجوج ومأجوج تسعمئة وتسعة وتسعين، ومنكم واحدا» ، ثم قال:«أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة!» فكبرنا، ثم قال:«ثلث أهل الجنة!» فكبرنا، ثم قال:«شطر أهل الجنة! فكبرنا» . متفق عليه.
هذا؛ وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: جعل الولدان شيبا مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال. والأصل فيه: أن الهموم، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان؛ أسرع فيه الشيب. قال أبو الطيب المتنبي:[الكامل]
والهمّ يخترم الجسيم نحافة
…
ويشيب ناصية الصبيّ فيهرم
ثم قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، وأصبح، وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فسئل عن ذلك، فقال:
أريت القيامة، والجنة، والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت، كما ترون.
هذا؛ والشيب، والشيبة بياض الشعر، والمشيب عبارة عن الحيوان في زمان تكون قوته فيه غير غريزية. أما الشباب فهو الزمن الذي تكون فيه حرارة الحيوان الغريزية مشبوبة، أي: قوية مشتعلة. هذا قول الأصمعي، وقال الجوهري: الشيب، والمشيب بمعنى واحد، وخذ ما يلي لتروح عن نفسك، فقد قال أبو الطيب المتنبي:[البسيط]
ضيف ألمّ برأسي غير محتشم
…
والشّيب أحسن فعلا منه باللّمم
ابعد بعدت بياضا لا بياض له
…
لأنت أسود في عيني من الظّلم
وقال أبو تمام الطائي: [الطويل]
له منظر في العين أبيض ناصع
…
ولكنّه في القلب أسود سافع
وقال حميد بن ثور، وينسب إلى معروف بن عبد الرحمن:[الرجز]
لكلّ دهر قد لبست أثوبا
…
حتّى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
أملح لا لذّا ولا محبّبا
…
أكره جلباب إذا تجلببا
وقال أبو العتاهية: [الوافر]
عريت من الشباب وكنت غصنا
…
كما يعرى من الورق القضيب
بكيت على الشباب بدمع عيني
…
فلم يغن البكاء ولا النّحيب
ألا ليت الشباب يعود يوما
…
فأخبره بما فعل المشيب
وخذ قول البوصيري-رحمه الله تعالى-: [البسيط]
فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت
…
من جهلها بنذير الشّيب والهرم
ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى
…
ضيف ألمّ برأسي غير محتشم
لو كنت أعلم أنّي ما أوقّره
…
كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم
الإعراب: {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال عامله ما بعده. {تَتَّقُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كَفَرْتُمْ:}
فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، التقدير: إن كفرتم؛ فكيف تتقون؟! {يَوْماً:} مفعول به ل: {تَتَّقُونَ،} وقيل:
هو ظرف متعلق به. وقيل: منصوب بنزع الخافض. والجملة الشرطية معترضة بين الفعل، ومفعوله. وقيل: إن يوما مفعول ل: {كَفَرْتُمْ} على تأويله ب: «جحدتم» والأول أقوى. {يَجْعَلُ:}
فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {يَوْماً}. وقيل: يعود إلى الله، والمعتمد الأول. {الْوِلْدانَ:}
مفعول به أول. {شِيباً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صفة (يوما)، وعلى اعتبار الفاعل يعود إلى (الله)، فتحتاج الجملة الفعلية إلى رابط، التقدير: يجعل فيه الولدان شيبا.
{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)}
الشرح: {السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ:} متشققة فيه، أي: في ذلك اليوم لهوله، هذا أحسن ما قيل به. هذا؛ ولم يؤنث {مُنْفَطِرٌ} مع أنه خبر عن {السَّماءُ،} وأجيب عن ذلك بأجوبة: منها: أن هذه الصيغة صيغة نسب، أي: ذات انفطار، نحو امرأة مرضع، وحائض، أي: ذات إرضاع، وذات حيض، ومنها: أنها لم يؤنث؛ لأن السماء بمعنى السقف. قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [32]: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} ومنها: أن السماء تذكر وتؤنث، ومنها: أنها اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء فيقال: سماءة، ولهذا قال الفارسي: هو كقوله تعالى في سورة (القمر) رقم [7]: {كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ} . و {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} رقم [20] من سورة (القمر) أيضا، يعني: فجاء على أحد الجائزين.
{كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي: كان وعد الله بالقيامة، والحساب، والجزاء كائنا لا شك فيه، ولا خلف. وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله. انتهى.
قرطبي. أقول: وقد ذكر ما قاله مقاتل في كثير من الآيات مثل آية (الصف) رقم [9] ونحوه، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، أي: جند الرحمن، أما بعد أن صار المسلمون جنودا للشيطان؛ فلا ينصرون. هذا؛ وعلى عود الضمير ل:(ليوم) فيكون المعنى: وعد يوم القيامة واقعا لا ريب فيه.
الإعراب: {السَّماءُ:} مبتدأ. {مُنْفَطِرٌ:} خبره. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما؛ لأنه اسم فاعل، والجملة الاسمية في محل نصب صفة ثانية ل:{يَوْماً،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم، والرابط: الضمير فقط. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {وَعْدُهُ:} اسم (كان)، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، وهذا على عود الضمير إلى الله، ولم يجر له ذكر لعلمه من المقام، وعلى عوده إلى (اليوم) فتكون الإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الفعلية مفيدة للتعليل، لا محل لها. {مَفْعُولاً:} خبر {كانَ} .
{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)}
الشرح: {إِنَّ هذِهِ} أي: الآيات، أو السورة بكاملها. وقيل: آيات القرآن؛ إذ هو كالسورة الواحدة. {تَذْكِرَةٌ:} عظة للخلق أجمعين، لما فيها من الزواجر، والقوارع. {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي: فمن شاء من الغافلين الناسين، أو المعرضين كبرا وعنادا عن عبادة الله، وطاعته؛ فليستفد من هذه التذكرة قبل فوات الأوان، وليسلك طريقا موصلا إلى الرحمن بالطاعة والإيمان. فالأسباب ميسّرة، والسبل معبّدة؛ لأن الله تعالى قد أظهر الحقائق بما
وضع من الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، والدلائل القاطعة، وما يتذكر إلا أولو الأبصار.
وما ينتفع إلا أولو الألباب. هذا؛ والآية مذكورة بحروفها في سورة (الدهر) رقم [29] انظر تفسيرها هناك؛ ففيها فضل زيادة.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {تَذْكِرَةٌ:} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. والأولى اعتبارها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكره حاصلا، وواقعا؛ فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه؛ فعل ذلك بالإيمان، والطاعة. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {شاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، ومفعوله محذوف، التقدير: شاء النجاة. {اِتَّخَذَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {إِلى رَبِّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {سَبِيلاً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، وهو أولى من تعليقهما بالفعل قبلهما. والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{سَبِيلاً:} مفعول به، وجملة:{اِتَّخَذَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [14] من سورة (الجن) مع صحة، وجواز اعتبار (من) اسما موصولا. هذا؛ وكلام القرطبي يوحي: أن الجواب محذوف، حيث قدر الكلام: من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه سبيلا، أي: طريقا إلى رضاه، ورحمته؛ فليرغب في ذلك. ولا حاجة إلى هذا التكلف بعد الذي ذكرته، والجملة الاسمية: (من شاء
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها، تأمل، وتدبر.
الشرح: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ..} . إلخ: أي: ربك يا محمد يعلم: أنك تقوم مع أصحابك في الليل للتهجد، والعبادة أقل من ثلثي الليل، وتارة تقومون نصفه، وتارة ثلثه. قال تعالى في سورة
(الذاريات) في حق المحسنين، وفي الثناء عليهم:{كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقد ذكرت لك في أول هذه السورة: أن قيام الليل كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وقد كلفوا أن يقوموا ساعات من الليل طويلة، لا تقلّ عن ثلثه، كما هو صريح أول السورة. وهذه الآية بينت تنفيذه؛ لأن قيام الليل، وإحياءه بأنواع الطاعات المختلفة: من ذكر، وصلاة، وتلاوة قرآن يقوي أبدانهم، ويزكي أرواحهم، ويعودهم الخشونة في العيش، واجتناب ما عليه المترفون من الراحة، والانغماس في الملذات، كلفهم الله تعالى بذلك؛ ليعدّهم إعدادا روحانيا، وجسمانيا للقيام بأعباء الدعوة الجديدة، وتحمل المشاق في سبيل نشر هذا الدين، ويا لها من تربية كريمة مجيدة تنشئ الرجال، وتعدّ الأجيال! وانظر ما ذكرته من إخلادهم للراحة، والترف في الآية رقم [16] من سورة (الحديد)، وذكرت لك في أول السورة: أن هذه الآية نسخت قيام الليل الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه على القول الأصح والمعتمد، وبقيت سنيته. هذا؛ وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: وإنما استعير الأدنى-وهو الأقرب-للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت؛ قلّ ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرئ بنصب (نصفه) و (ثلثه) وجرهما.
{وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أي: من المؤمنين كانوا يقومون الليل معك للتأسي، والاقتداء بك، ومنهم من كان لا يدري كم صلى من الليل، وكم بقي، فكان يقوم الليل كله احتياطا، فقاموا؛ حتى تورمت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، ولذا قال الله تعالى:{وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أي:
والله جل جلاله هو العالم بمقادير الليل، والنهار، وأجزائهما، وساعاتهما، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في ظلمة الليل ابتغاء رضوانه. وهو تعالى المدبر لأمر الليل، والنهار بالزيادة، والنقصان. فتارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: تحصوا الليل؛ لتقوموا فيما يجب عليكم قيامه لا بقيام جميعه، وهذا يشق عليكم.
{فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي: عاد عليكم بالعفو، والتخفيف، والمعنى: عفا عنكم ما لا تحيطون بعلمه، ورفع المشقة عنكم بنسخ وجوب قيام الليل، وبقاء سنيته. وقال البيضاوي:{فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي: بالترخيص في ترك القيام المقدر، ورفع التبعة فيه، كما رفع التبعة عن التائب من الذنب. انتهى. وهذا يدل على أنه كان منهم من ترك بعض ما أمر به.
{فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وإنما عبر عن الصلاة بالقراءة؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، بل هي الركن الأهم فيها. قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [11]:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك {وَلا تُخافِتْ بِها} أي: بقراءتك، وقد استدل أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-بهذه الآية على أنه لا يجب تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة، واعتضد بحديث المسيء صلاته، الذي رواه الشيخان:«ثمّ اقرأ ما تيسر معك من القرآن» .
والجمهور على: أن المراد دراسة القرآن، وحفظه حتى لا يتعرض للنسيان، وعليه الشافعي -رحمه الله تعالى-؛ لذا أوجب قراءة الفاتحة في كل ركعة على الإمام، والمقتدي، والمنفرد في صلاته، واستدل بحديث عبادة بن الصامت-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . أخرجه البخاري، ومسلم. وانظر تفصيل ذلك في الآية رقم [204] من سورة (الأعراف) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى:} والمريض يضعف عن التهجد بالليل، فخفف الله عز وجل عنه لأجل ضعفه، وعجزه عنه، فخفف عنكم رحمة بكم. {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} أي: يسافرون في الأرض للتجارة، وطلب الرزق. {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ} أي: يطلبون من فضل الله الرزق.
{وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني: الغزاة المجاهدين، وذلك؛ لأن المجاهد، والمسافر مشتغل بالنهار بالأعمال الشاقة، فلو لم ينم بالليل؛ لتوالت عليه أسباب المشقة، فخفف الله عنهم أجمعين.
فأنت ترى: أن الله جلت قدرته، وتعالت حكمته سوى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه، وعياله، والإحسان، والإفضال على يتيم، أو أرملة، أو فقير بائس، فكان هذا دليلا واضحا على أن الكسب من مال حلال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. فقد روى إبراهيم عن علقمة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد، فيبيعه بسعر يومه، إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ..}. إلخ» . وقال ابن عمر-رضي الله عنهما:
ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من الموت بين شعبتي رحلي، أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض. انتهى. قرطبي، وخذ ما يلي:
فعن كعب بن عجرة-رضي الله عنه-قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحابه من جلده، ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارا؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء، ومفاخرة؛ فهو في سبيل الشيطان» . رواه الطبراني. وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الترغيب في العمل كثيرة مشهورة مسطورة، والشعر العربي طافح بذلك، وخذ قول صالح بن عبد القدوس في الحكم:[الكامل]
وإذا رأيت الرزق ضاق ببلدة
…
وخشيت فيها أن يضيق المكسب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا
…
طولا وعرضا شرقها والمغرب
وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد، فوافق سعة في السعر، فقال التجار للوكيل: إن
أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال، وتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا عليّ، ولا لي.
ويروى: أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر-رضي الله عنهما، فمشى إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه، فلقيه، فقال له: يا بني! مالك وللطعام؟ فهلاّ إبلا، فهلاّ بقرا، فهلاّ غنما، إن صاحب الطعام يحب المحل، وصاحب الماشية يحب الغيث.
{فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي: صلوا ما أمكن، فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس حسب ما رأيت فيما تقدم، وكررت هذه الجملة للتأكيد. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ:} الواجبة على الوجه الأكمل. {وَآتُوا الزَّكاةَ} أي: المفروضة كاملة.
{وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد سوى الزكاة، من صلة الرحم، وقرى الضيف. وقيل: يريد سائر الصدقات، وذلك بأن يخرجها على أحسن وجه من كسب طيب، ومن أكثر الأموال نفعا للفقراء، ومراعاة النية، والإخلاص، وابتغاء مرضاة الله تعالى بما يخرج، والصرف إلى المستحق. وانظر سورة (الحديد) رقم [11] فالبحث فيها واف كاف.
{وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ} أي: ثوابه، وأجره مدخر عند الله. والعندية عندية تشريف، وتكريم، لا عندية مكان، وإحاطة {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً:} يعني الذي قدمتم؛ لأنفسكم، وادخرتموه عند الله خير من الذي أخرتموه، ولم تقدموه. وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم ماله أحبّ إليه من مال وارثه؟» . قالوا:
يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: «اعلموا ما تقولون» . قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله؟! قال: «ما منكم رجل إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله» . قالوا:
وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» . أي: ترك بعد موته لورثته، رواه البخاري مختصرا. {وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ:} لذنوبكم، وتقصيركم في قيام الليل، أو استغفروا الله في جميع أحوالكم، فإن الإنسان لا يخلو من تفريط في طاعة الله تعالى. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ:} لجميع ذنوب عباده؛ إن استغفروا، وتابوا. {رَحِيمٌ:} بهم.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبَّكَ}. {أَنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَقُومُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . {أَدْنى:} ظرف زمان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف متعلق بما قبله. {مِنْ ثُلُثَيِ:} متعلقان ب: {أَدْنى،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت
النون للإضافة، وهو مضاف، و {اللَّيْلِ} مضاف إليه، وجملة {تَقُومُ} في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول {يَعْلَمُ} وجملة:
{يَعْلَمُ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية هذه مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. (نصفه، أو ثلثه): بالنصب معطوفان على معنى: «أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف، أو الثلث» . قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: معطوفان على (أدنى)، وهو قول مكي، وهو أوضح من قول الزمخشري، وعلى قراءة الجر معطوفان على (ثلثي الليل) على معنى: تقوم أقل من ثلثي الليل، وأقل من النصف، والثلث.
{وَطائِفَةٌ:} معطوف على فاعل {تَقُومُ} المستتر، وجاز ذلك من غير تأكيد للفصل بالكلمات الكثيرة. {مِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (طائفة). {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والكاف في محل جر بالإضافة، وعطف (طائفة) على فاعل {تَقُومُ} المستتر، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
وإن على ضمير رفع متصل
…
عطفت فافصل بالضمير المنفصل
أو فاصل ما وبلا فصل يرد
…
في النظم فاشيا وضعفه اعتقد
هذا؛ ويجوز على بعد اعتبار (طائفة) فاعلا لفعل محذوف، التقدير: وتقوم طائفة، كما يجوز على بعد أيضا اعتبار (طائفة) مبتدأ، والخبر محذوفا، التقدير: وطائفة من الذين معك يقومون
…
إلخ. والأول أقوى. {وَاللهُ:} الواو: استئنافية. (الله): مبتدأ. {يُقَدِّرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المستتر في صلة الموصول؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو فقط. {اللَّيْلِ:} مفعول به. {وَالنَّهارَ:} معطوف عليه.
{عَلِمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف ناصب. {تُحْصُوهُ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من فاعل {يُقَدِّرُ} المستتر؛ فلست مفندا، بل هو الأقوى، ويكون الرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها لتقربها من الحال. {فَتابَ:} الفاء: حرف عطف. (تاب): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{عَلِمَ أَنْ لَنْ..} . إلخ على الوجهين المعتبرين فيها.
{فَاقْرَؤُا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (اقرؤوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب
شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فاقرؤوا
…
إلخ. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {تَيَسَّرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {ما،} والجملة الفعلية صلة {ما} . {مِنَ الْقُرْآنِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {تَيَسَّرَ،} و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما،} والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها.
{عَلِمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. {سَيَكُونُ:} السين: حرف استقبال، مفيد للتأكيد.
(يكون): فعل مضارع ناقص. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (يكون) تقدم على اسمه. {مَرْضى:} اسم (يكون) مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، وجملة:{سَيَكُونُ..} . إلخ في محل رفع خبر {إِنَّ،} و {إِنَّ} المخففة، واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول {عَلِمَ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
{وَآخَرُونَ:} الواو: حرف عطف. (آخرون): معطوف على (مرضى) مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد.
{يَضْرِبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع صفة (آخرون). {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وإعرابها واضح. {وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ:} معطوف على (آخرون يضربون في الأرض) وإعرابه مثله بلا فارق. {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} إعرابه مثل إعراب سابقه بلا فارق. هذا؛ وقيل: (آخرون)، مبتدأ، خبره جملة:{يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} وأيضا (آخرون) الثاني مبتدأ خبره: جملة: {يُقاتِلُونَ..} . إلخ، والمعنى لا يؤيده؛ لأنهما داخلان في معلوم الله عز وجل.
{وَأَقِيمُوا:} الواو: حرف عطف. (أقيموا): فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق. {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والجملتان بعدها معطوفتان عليها. {قَرْضاً:} مفعول مطلق. {حَسَناً:} صفة {قَرْضاً} .
{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم شرط مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم لفعل شرطه. {تُقَدِّمُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو: فاعله، والألف للتفريق. {لِأَنْفُسِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ خَيْرٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من (ما)، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {تَجِدُوهُ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم
…
إلخ، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول، والجملة الفعلية جواب الشرط لا محل لها؛ لأنها لم تقترن بالفاء ولا ب:«إذا» الفجائية.
{عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {عِنْدَ} مضاف، و (الله): مضاف إليه. {هُوَ:} ضمير
فصل لا محل له، وجاز أن يكون الضمير فصلا؛ وإن لم يقع بين معرفتين؛ لأنه وقع بين معرفة، ونكرة شبه المعرفة، وهو {خَيْراً؛} لأن أفعل التفضيل يشبه المعرفة لعدم دخول (أل) عليه هنا.
{خَيْراً:} مفعول به ثان. {وَأَعْظَمَ:} الواو: حرف عطف. (أعظم): معطوف على ما قبله.
{أَجْراً:} تمييز، بعد هذا إن اعتبرت (ما) مبتدأ فيكون مفعول {تُقَدِّمُوا} محذوفا، وخبر المبتدأ مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، والجملة الشرطية على الاعتبارين معترضة بين الجمل المتعاطفة؛ لأن جملة:{وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ} معطوفة على الجمل الفعلية السابقة، والجملة الاسمية:
(إن الله
…
) إلخ تعليلية لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (المزمل) شرحا وإعرابا بفضل الله وتوفيقه.
والحمد لله رب العالمين.