الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النّازعات
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (النازعات)، وهي مكية بالإجماع، وهي خمس، أو ست وأربعون آية، ومئة وسبع وتسعون كلمة، وسبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: اختلفت عبارات المفسرين في هذه الكلمات:
هل هي صفات لشيء واحد، أم لأشياء مختلفة على أوجه؟ واتفقوا على أن المراد بقوله تعالى:
{فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً} وصف لشيء واحد، وهم الملائكة.
الوجه الأول في قوله تعالى: {وَالنّازِعاتِ غَرْقاً} يعني: الملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدى، والغرق من: الإغراق؛ أي:
والنازعات إغراقا. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: إن ملك الموت، وأعوانه، ينزعون روح الكافر، كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج روح الكافر كالغريق في الماء. {وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً} الملائكة تنشط نفس المؤمن؛ أي: تسلها سلا رفيقا، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير. وإنما خص النزع بنفس الكافر، والنشط بنفس المؤمن؛ لأن بينهما فرقا، فالنزع: جذب بشدة، والنشط: جذب برفق. {وَالسّابِحاتِ سَبْحاً} يعني: الملائكة، يقبضون أرواح المؤمنين، يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها حتى تستريح، ثم يستخرجونها كالسابح في الماء، يتحرك فيه برفق، ولطافة. وقيل: هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كالفرس الجواد إذا أسرع في جريه؛ يقال له: سابح. {فَالسّابِقاتِ سَبْقاً} يعني: الملائكة، سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقيل: هم الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.
الوجه الثاني في قوله تعالى: {وَالنّازِعاتِ غَرْقاً} يعني: النفوس حين تنزع من الجسد، فتغرق في الصدر، ثم تخرج. {وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة، وذلك؛ لأنه يعرض عليه مقعده قبل
الموت في الجنة. قال علي بن أبي طالب-رضي الله عنه: هي أرواح الكفار تنشط بين الجلد، والأظفار؛ حتى تخرج من أفواههم بالكرب، والغم. {وَالسّابِحاتِ سَبْحاً} يعني: أرواح المؤمنين تسبح في المكرمات. {فَالسّابِقاتِ سَبْقاً} يعني: استباقها إلى الحضرة المقدسة.
الوجه الثالث في قوله تعالى: {وَالنّازِعاتِ غَرْقاً} يعني: النجوم تنزع من أفق إلى أفق، تطلع، ثم تغيب، كالثور الناشط من بلد إلى بلد، والهموم تنشط بصاحبها. قال هميان بن قحافة:[الرجز]
أمست همومي تنشط المناشطا
…
الشّام بي طورا وطورا واسطا
{وَالسّابِحاتِ سَبْحاً} يعني: النجوم، والشمس، والقمر، يسبحون في الفلك. {فَالسّابِقاتِ سَبْقاً} يعني: النجوم، يسبق بعضها بعضا في السير.
الوجه الرابع في قوله تعالى: {وَالنّازِعاتِ غَرْقاً} يعني: خيل الغزاة، تنزع في أعنتها، وتغرق في عرقها، وهي (الناشطات نشطا)؛ لأنها تخرج بسرعة إلى ميدانها، وهي:(السابحات سبحا) و (السابقات سبقا)؛ لأنها تسبح في جريها، وتسابق لإدراك الغاية. قال عنترة:[مجزوء الكامل]
والخيل تعلم حين تس
…
بح في حياض الموت سبحا
وقال امرؤ القيس في معلقته رقم [67]: [الطويل]
مسحّ إذا ما السّابحات على الونى
…
أثرن غبارا بالكديد المركّل
الوجه الخامس في قوله تعالى: {وَالنّازِعاتِ غَرْقاً} يعني: الغزاة حين تنزع قسيها في الرمي.
فتبلغ غاية المد، وهو قوله:{غَرْقاً} . {وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً} أي: السهام في الرمي {وَالسّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسّابِقاتِ سَبْقاً} يعني: الخيل، والإبل حين يخرجها أصحابها إلى الغزو.
الوجه السادس: ليس المراد بهذه الكلمات شيئا واحدا، فقوله:{وَالنّازِعاتِ} يعني: ملك الموت ينزع النفوس غرقا حتى بلغ بها الغاية. {وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً} يعني: النفس تنشط من القدمين، بمعنى: تجذب. {وَالسّابِحاتِ سَبْحاً} يعني السفن. {فَالسّابِقاتِ سَبْقاً} يعني: مسابقة نفوس المؤمنين إلى الخيرات، والطاعات. أما قوله تعالى:{فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً} فأجمعوا على أنهم الملائكة.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم الملائكة، وكلوا بأمور عرفهم الله عز وجل العمل بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة أملاك: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. فأما جبريل، عليه الصلاة، والسّلام؛ فموكل بالرياح، والجنود (ومهمته الأولى السفارة بين الله وبين رسله). وأما ميكائيل، عليه الصلاة، والسّلام؛ فموكل بالقطر، والنبات. وأما ملك الموت عزرائيل، عليه الصلاة، والسّلام؛ فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل عليه الصلاة والسلام، فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى (ومهمته الأولى نفخ الصور الذي ينتظر الأمر به). انتهى. بتصرف، ومثله في القرطبي، والكشاف.
أقسم الله بهذه الأشياء لشرفها، ولله أن يقسم بما يشاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق، ومثل ذلك في أول (الذاريات)، وأول (المرسلات) أو يكون التقدير: ورب هذه الأشياء وجواب القسم محذوف، تقديره: لتبعثن ولتحاسبن. وقيل: جوابه {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى} الآية الآتية. قال ابن هشام في المغني: وفيه بعد. وقيل: هو قوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ} .
أقول: والمعتمد الوجه الأول، وهو أن المراد بالنازعات وما عطف عليه الملائكة، وإنما جاءت هذه الأقسام بلفظ التأنيث، والكل وصف للملائكة مع أنهم ليسوا إناثا؛ لأن المقسم به طوائف من الملائكة، فكأنه قيل: وطوائف الملائكة النازعات، والطوائف: جمع: طائفة، وهي مؤنثة.
الإعراب: {وَالنّازِعاتِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم بالنازعات، أو التقدير: أقسم برب النازعات. {غَرْقاً:} مفعول مطلق عامله ما قبله، لملاقاته له في المعنى على حذف الزوائد؛ إذ الأصل: والنازعات إغراقا، أو هو منصوب على الحال على حذف مضاف؛ إذ التقدير: ذوات إغراق، والأسماء الآتية كلها معطوفة على (النازعات) و {نَشْطاً} و {سَبْحاً} و {سَبْقاً} مفعول مطلق لا غير. {أَمْراً:} مفعول به لما قبله، وفي كل الأسماء المتقدمة ضمير مستتر هو الفاعل. تأمل، وتدبر، وربك أعلم. هذا؛ وانظر حكم الفاء في أول سورة (المرسلات).
الشرح: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ} يعني: النفخة الأولى، يتزلزل، ويتحرك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلق. هذا؛ والإسناد إليها مجازي؛ لأنها سببه، كقوله تعالى في سورة (المزمل):
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} . هذا؛ وقال القرطبي.
وليست الرجفة ها هنا من الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرعد، يرجف رجفا، ورجيفا؛ أي: أظهر الصوت، والحركة، ومنه سميت الأراجيف؛ لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة الناس فيها. قال منازل بن ربيعة المنقري في هجو رؤبة بن العجاج:[البسيط]
أبا لأراجيف يابن اللّؤم توعدني
…
وفي الأراجيف خلت اللّؤم والخورا
{تَتْبَعُهَا الرّادِفَةُ} أي: النفخة الثانية ردفت الأولى، وبينهما أربعون سنة. قال ابن عباس، وقتادة، والحسن-رضي الله عنهم: هما الصيحتان: الأولى تميت كل شيء بإذن الله تعالى،
والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله عز وجل. هذا؛ وخذ قوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [68]:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} انظر شرحها هناك.
وعن أبي بن كعب-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب ربع الليل؛ قام، ثم قال:
«يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه» . رواه البغوي بسند الثعلبي، وزاد ابن كثير، فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلّها عليك؟ قال: «إذا يكفيك الله ما أهمّك من دنياك وآخرتك» . ثم قال: رواه أحمد، والترمذي. ولفظ الترمذي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل؛ قام، فقال:«يا أيّها النّاس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» . انتهى. {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ:} خائفة، وجلة.
يقال: وجف القلب، يجف وجيفا: إذا خفق. كما يقال: وجب، يجب وجيبا، ومنه: وجيف الفرس، والناقة في العدو. والإيجاف: حمل الدابة على السير السريع. قال الشاعر: [الرجز]
بدّلن بعد جرّة صريفا
…
وبعد طول النّفس الوجيفا
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الإفاضة من عرفات: «ليس البرّ بإيجاف الخيل، ولا إيضاع الإبل على هينتكم!» . يقال: وجف الفرس: إذا أسرع، وأوجفته أنا؛ أي: حركته، وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل:[الطويل]
مذاويد بالبيض الحديث صقالها
…
عن الرّكب أحيانا إذا الرّكب أوجفوا
وخذ قوله تعالى في سورة (الحشر) رقم [6]: {وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ..} . إلخ.
{أَبْصارُها خاشِعَةٌ:} منكسرة، ذليلة من هول ما ترى. والمراد: أبصار أصحاب القلوب، فهو على حذف المضاف. وهذا كثير مستعمل في الآيات القرآنية، وفي الكلام العربي: نثره، ونظمه. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (القلم) رقم [43]:{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} .
{يَقُولُونَ} أي: الكافرون المكذبون المنكرون للبعث، إذا قيل لهم: إنكم تبعثون؛ قالوا منكرين متعجبين: {أَإِنّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ} أي: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟! وهذا الإنكار منهم كثير. يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته؛ أي: رجع من حيث جاء. قاله قتادة. وأنشد ابن الأعرابي: [الوافر]
أحافرة على صلع وشيب
…
معاذ الله من سفه وعار
يقول الشاعر: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل، والصبا بعد أن شبت، وصلعت؟! وقيل: الحافرة: الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فهي بمعنى: محفورة. وقيل:
الحافرة: العاجلة؛ أي: أئنا لمردودون إلى الدنيا، فنصير أحياء كما كنا؟ قال الشاعر:[السريع]
آليت لا أنساكم فاعلموا
…
حتّى يردّ الناس في الحافره
{أَإِذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً} أي: بالية متفتتة، يقال: نخر العظم (بكسر الخاء) أي: بلي، وتفتت. وقرئ:«(ناخرة)» . وفي الصحاح: والناخر من العظام؛ الذي تدخل الريح فيه، ثم تخرج منه، ولها نخير. وقيل: هما لغتان بمعنى، تقول العرب: نخر الشيء، فهو نخر، وناخر، كقولهم: طمع، فهو طمع، وطامع، وحذر، وحاذر، وبخل وباخل، وفره، وفاره.
قال الشاعر: [الطويل]
يظلّ بها الشّيخ الّذي كان بادنا
…
يدبّ على عوج له نخرات
وقد قرئ: {أَإِنّا} {أَإِذا} بقراءات كثيرة، فجملتها تسعة، وكلها سبعية. وقولهم هذا تعجب منهم، واستبعاد للبعث بعد الموت، وفناء الجسد، وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر ذلك عنهم، وشاعرهم هو الذي يقول:[الوافر]
ألا من بلّغ الرحمن عنّي
…
بأنّي تارك شهر الصّيام؟
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام؟
أتترك أن تردّ الموت عني
…
وتحييني إذا بليت عظامي؟
فهو يقصد بابن كبشة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة كنية زوج حليمة السعدية مرضعته صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يطلقون عليه ذلك تحقيرا له صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يتأملوا: أنهم كانوا قبل ذلك ترابا، فخلقهم الله، وأظهرهم إلى الوجود، وهم ظنوا: أن البعث، والإعادة يكونان في الدنيا، وهم لم يروا أحدا رجع إلى الدنيا ممّن تقدمهم.
{قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ} أي: رجعة ذات خسران، أو خاسر أصحابها، فهو من الإسناد المجازي، والمعنى: إنها إن صحت، وبعثنا-كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم-فنحن خاسرون إذا لتكذيبنا بها! وهذا استهزاء منهم. هذا؛ والكرة في الأصل مصدر، يقال: كر، يكر، كرا، وكرة، والكر، والكرة: الرجوع، والرجعة. والمراد به هنا: المرة من ذلك، وهو مصدر لا يثنى، ولا يجمع. قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [6]:{ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} . وأما تثنيته في سورة (الملك) رقم [4] وذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ..} . إلخ.
فليس على حقيقته، بل المراد منه التكثير، بدليل ما بعده.
{فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ:} قال في الكشاف: فإن قلت: بم تعلق قوله: (فإنما هي
…
) إلخ قلت: بمحذوف معناه: لا تستصعبوها، فإنما هي زجرة واحدة. يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله عز وجل، فإنها سهلة هينة في قدرته، ما هي إلا صيحة واحدة. يريد: النفخة الأولى.
{فَإِذا هُمْ} أي: الخلائق أجمعون أحياء على وجه الأرض بعد أن كانوا أمواتا في جوفها.
من قولهم: زجر البعير: إذا صاح عليه. {بِالسّاهِرَةِ} أي: على وجه الأرض بعدما كانوا في بطنها. قال الفراء: سميت بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان، وسهرهم، والعرب تسمّي الفلاة، ووجه الأرض: ساهرة، بمعنى: ذات سهر؛ لأنه يسهر فيها، خوفا منها، فوصفها بصفة ما فيها. واستدل ابن عباس-رضي الله عنهما-والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت-وهو الشاهد رقم [303] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الوافر]
وفيها لحم ساهرة وبحر
…
وما فاهوا به أبدا مقيم
ويقال: الساهور: ظل الساهرة، وهي وجه الأرض. قال أبو كبير الهذلي:[الكامل]
يرتدن ساهرة كأنّ جميمها
…
وعميمها أسداف ليل مظلم
الجميم بالجيم: النبت؛ الذي قد نبت، وارتفع قليلا، ولم يتم كل التمام. والعميم: التام من النبت. والأسداف: جمع: سدف بالتحريك، وهو ظلمة الليل. ويقال: الساهر كالغلاف للقمر، يدخل فيه؛ إذا كسف، وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت:[الكامل]
لا نقص فيه غير أنّ خبيئه
…
قمر وساهور يسلّ ويغمد
وأنشدوا لآخر في وصف امرأة: [البسيط]
كأنّها عرق سام عند ضاربه
…
أو شقّة خرجت من جوف ساهور
ويقال: الساهرة: الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك؛ لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: نائمة. قال الأشعث بن قيس: [الطويل]
وساهرة يضحى السّراب مجلّلا
…
لأقطارها قد جئتها متلثّما
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بجواب القسم، التقدير: لتبعثن يوم ترجف. وقيل: هو الجواب على تقدير اللام، فيكون التقدير: لهو يوم
…
إلخ، وعليه فالظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجواب لكل المتعاطفات، وإلا احتيج لتعدد الجواب، ومثل هذه الآيات باكتفاء جواب للجميع قول أبي صخر الهذلي-وهو الشاهد رقم [80] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
أما والّذي أبكى وأضحك والّذي
…
أمات وأحيا والّذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى
…
أليفين منها لا يروعهما الذّعر
{تَرْجُفُ:} فعل مضارع. {الرّاجِفَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {تَتْبَعُهَا:} فعل مضارع. (وها): مفعول به. {الرّادِفَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل
نصب حال من {الرّاجِفَةُ} والرابط: الضمير فقط. {قُلُوبٌ:} مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق بما بعده، و (إذ) ظرف زمان أيضا مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة، التقدير: يوم إذ ترجف الراجفة. {واجِفَةٌ:} صفة {قُلُوبٌ} . {أَبْصارُها:} مبتدأ، و (ها) في محل جر بالإضافة. {خاشِعَةٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ:{قُلُوبٌ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {لَمَرْدُودُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (مردودون): خبر إن مرفوع، وعلامة رفعه الواو. {فِي الْحافِرَةِ:} متعلقان بمردودون، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف التقدير: هم يقولون
…
إلخ. والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها.
{أَإِذا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا، ولا يعمل فيه (مردودون)؛ لأنه لا يعمل ما قبل الاستفهام فيما بعده، التقدير: أئذا كنا عظاما نخرة؛ نرد، ونبعث؟! وهذه الجملة هي جواب (إذا). {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمها. {عِظاماً:} خبرها. {نَخِرَةً:} صفة {عِظاماً،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، و (إذا) ومدخولها في محل نصب مقول القول.
{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {إِذاً:}
حرف جواب وجزاء. {كَرَّةٌ:} خبر المبتدأ. {خاسِرَةٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَإِنَّما:} الفاء: حرف استئناف.
(إنما): كافة، ومكفوفة. {هِيَ:} مبتدأ. {زَجْرَةٌ:} خبره، {واحِدَةٌ:} صفة لها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قال الله تعالى: {فَإِنَّما هِيَ..} . إلخ.
{فَإِذا:} الفاء: حرف عطف، وتعقيب، وخذ ما قاله السيوطي-رحمه الله تعالى-فيها:
اختلف في هذه الفاء، فقال المازني: هي زائدة لازمة للتأكيد؛ لأن «إذا» الفجائية فيها معنى الإتباع، ولذا وقعت في جواب الشرط موقع الفاء. وهذا ما اختاره ابن جني. وقال مبرمان: هي عاطفة لجملة (إذا) ومدخولها على الجملة قبلها. واختاره الشلوبين الصغير، وأيده أبو حيان؛ لوقوع {ثُمَّ} موقعها في قوله تعالى:{ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} . وقال الزجاج: دخلت على حد دخولها في جواب الشرط. انتهى. أي: فهي للسببية المحضة. وفي مغني اللبيب نحو هذا.
(إذا): كلمة دالة على المفاجأة هنا، وهي تختص بالدخول على الجمل الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، نحو خرجت؛ فإذا الأسد
بالباب، وهي حرف عند الأخفش وابن مالك، ويرجحه:(خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب)؛ لأن «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وظرف مكان عند المبرد، وابن عصفور. وظرف زمان عند الزجاج، والزمخشري. وزعم الأخير: أنّ عاملها فعل مشتق من لفظ المفاجأة. ولا يعرف هذا لغير الزمخشري، وإنما ناصبها عندهم الخبر في نحو:(خرجت فإذا زيد جالس) والمقدر في نحو: (فإذا الأسد) أي: حاضر، وإذا قدرت: أنها الخبر؛ فعاملها مستقرّ، أو استقرّ، ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به. انتهى. ملخصا من «مغني اللبيب» .
وعلى اعتبارها ظرف زمان، أو مكان، فهي هنا متعلقة بالساهرة. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِالسّاهِرَةِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. هذا؛ واعتبر الجلال الجملة جواب شرط محذوف، التقدير: فإذا نفخت النفخة الأولى؛ فإذا هم بالساهرة. وعليه: فالفاء واقعة في جواب هذا الشرط المقدر.
الشرح: {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى:} هذا استفهام تشويق، وترغيب لسماع القصة؛ أي: هل جاءك يا محمد خبر موسى الكليم؟ وقال القرطبي، والخازن:{هَلْ} بمعنى: قد، والمعنى:
على التحقيق قد أتاك حديث موسى. انظر ما ذكرته في أول سورة (الدهر). وقال الجمل نقلا عن الخطيب: كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أليس قد أتاك حديث موسى، فيسليك على تكذيب قومك، ويهددهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم، وهو فرعون، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود، فلما أصر على التكذيب، ولم يرجع، ولا أفاده التأديب؛ أغرقناه، وقومه، ولم نبق منهم أحدا، وقد كانوا لا يحصون عددا، فقد قيل: إن طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمئة ألف، فكيف بقومك الضعاف. انتهى.
{إِذْ ناداهُ} أي: حين ناجاه ربه. {بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ:} المطهر المبارك. {طُوىً:} اسم الوادي الذي حصل فيه الكلام في أسفل جبل طور سيناء. وفي {طُوىً} ثلاث قراءات: الأولى بضم الطاء والتنوين، والثانية بضم الطاء من غير تنوين؛ لأنه معدول، مثل: عمر، وقثم. قال الفراء:
طوى: واد بين المدينة، ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عامر، القراءة الثالثة بكسر الطاء والتنوين على معنى المقدّس مرة بعد مرة. قاله الزجاج، وأنشد قول عدي بن زيد:[الطويل]
أعاذل إنّ اللّؤم في غير كنهه
…
عليّ طوى من غيّك المتردّد
أي: هو لوم مكرر عليّ. هذا؛ و {الْمُقَدَّسِ} المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوة فيه، المفيضة للبركات. هذا؛ وسمي الوادي المقدس طوى؛ لأنه طوي فيه الشر عن بني إسرائيل، ومن أراد الله من خلقه، ونشر فيه بركات النبوة على جميع أهل الأرض، المسلم بإسلامه، وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه، فإن العلماء قالوا: إن عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة، وهو واد بالطور بين أيلة، ومصر. انتهى جمل نقلا عن الخطيب.
هذا؛ والوادي: هو المنفرج بين جبلين، يجري فيه السيل، ويجمع على: أودية، وأوديات، وأوادية، وأوداء، وأوداه. قال جرير:[الوافر]
عرفت ببرقة الأوداه رسما
…
محيلا طال عهدك من رسوم
{اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} أي: جاوز الحد في الطغيان، والظلم، والفساد. هذا؛ وفرعون:
قال المسعودي: لا يعرف لفرعون تفسير في العربية، وظاهر كلام الجوهري أنه مشتق من معنى العتوّ، فإنه قال: والفراعنة: العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة؛ أي: دهاء ومكر. انتهى.
وفرعون لقب لمن ملك العمالقة في مصر، كقيصر، وكسرى لملكي الروم، والفرس، وكان فرعون موسى مصعب بن الريان. وقيل: ابنه الوليد من بقايا قوم عاد، وفرعون يوسف-على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام-ريان بن الوليد، وبينهما أكثر من أربعمئة سنة. وكان ملك فرعون موسى أربعمئة سنة، وعاش ستمئة وعشرين سنة، ولم ير مكروها قط، ولو حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو وجع يوم؛ لما ادّعى الربوبية، فلم يبق لما نقله القرطبي عن الحسن: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد. قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: كان من أهل أصبهان. يقال له: ذو ظفر، طوله أربعة أشبار، فلم يبق لهذه الأقوال وجه. ولا تنس: أن فرعون هذه الأمة هو أبو جهل الخبيث. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وفرعوني أشدّ من فرعون موسى» .
هذا؛ وأما موسى فأصله: (موشى) مركبا من اسمين: «مو» الماء، و «شا»: الشجر، والعرب تلفظه: موسى بالسين، وسبب تسميته بذلك أن امرأة فرعون التقطته من نهر النيل بين الماء والشجر، لما ألقته أمه فيه، كما رأيت في سورة (طه)، وسورة (القصص).
{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى} أي: تسلم، فتطهر من الذنوب، والآثام بالإسلام. {وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى} أي: وأرشدك إلى معرفة ربك، وطاعته، فتتقيه، وتخشاه؛ لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال تعالى:{إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} رقم [28] من سورة (فاطر)، وعن بعض الحكماء: اعرف الله، فمن عرف الله؛ لم يقدر أن يعصيه طرفة عين. فالخشية ملاك الأمر، ومن خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر. بدأ مخاطبته بالاستفهام؛ الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق، يستدعيه
باللطف في القول، ويستنزله بالمداراة عن عتوه، كما أمر الله بذلك في قوله تعالى في سورة (طه) رقم [44]:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} وإنما خص فرعون بالذكر، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه؛ لأن فرعون كان أعظمهم، فكانت دعوته دعوة لجميع قومه.
وقال صخر بن جويرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون؛ قال له: {اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى} ولن يفعل، فقال: يا رب! كيف أذهب إليه، وقد علمت: أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن امض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يبلغوه ولا يدركوه! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {هَلْ:} حرف استفهام، انظر ما ذكرته في الشرح. {أَتاكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والكاف مفعول به. {حَدِيثُ:} فاعله، وهو مضاف، و {مُوسى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {حَدِيثُ،} لا ب: {أَتاكَ} لاختلاف وقتيهما. ومثله في سورة (الذاريات) رقم [25]. {ناداهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {رَبُّهُ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{بِالْوادِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب؛ أي: حالة كون موسى بالوادي، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء للثقل.
{الْمُقَدَّسِ:} صفة (الوادي). {طُوىً:} بدل من (الوادي)، فهو مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. وقال مكي: ومن كسر الطاء فهو في موضع نصب على أنه مصدر، تقديره:
بالوادي المقدس مرتين. انتهى؛ أي: فكأنه مصدر دل على العدد. هذا؛ والجملة الفعلية: {هَلْ أَتاكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{اِذْهَبْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية يجوز أن تكون تفسيرا للنداء، ويجوز أن تكون في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: فقال له: اذهب، وعليه فالجملة الفعلية معطوفة على جملة:{ناداهُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. وقيل: هي على تقدير: «أن» قبلها؛ أي: أن اذهب، وقرئ شاذا:«(أن اذهب)» ، و (أن) هذه الظاهرة، أو المقدرة يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية؛ أي: ناداه بكذا. {إِلى فِرْعَوْنَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف، والمانع له علتان: العلمية، والعجمة. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {طَغى:}
فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها.
{فَقُلْ:} الفاء: حرف عطف. (قل): فعل أمر، وفاعله: أنت. {هَلْ:} حرف استفهام.
{لَكَ:} جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هل لك سبيل.
{إِلى:} حرف جر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَزَكّى:} فعل مضارع أصله: تتزكى.
فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، فهو منصوب ب:{أَنْ،} وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و {أَنْ} المصدرية، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:{إِلى،} والجار، والمجرور متعلقان بالمبتدأ المحذوف، المقدر ب:«سبيل» ، أو ب:«رغبة إلى التزكية» ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قل
…
) إلخ معطوفة على جملة: {اِذْهَبْ..} . إلخ فهي مقولة للقول المحذوف مثلها. (أهديك): معطوف على ما قبله، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به. {إِلى رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
(تخشى): معطوف على ما قبله منصوب مثله، ويحتمل أن النصب ب:«أن» مضمرة بعد الفاء لتقدم الاستفهام عليها. والفاعل تقديره: «أنت» .
الشرح: {فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى:} قبل هذه الآية كلام محذوف، التقدير: فذهب موسى إلى فرعون، فدعاه إلى الإيمان، وكلمه، فلما أبى الاستجابة له؛ أراه المعجزة الكبرى، وهي اليد البيضاء، وقلب العصا حية تسعى. ولم تثن؛ لأنهما في حكم آية واحدة. {فَكَذَّبَ:} فرعون بالمعجزة. وقال: إنها سحر، وكذب موسى بقوله:{إِنّا رَسُولا رَبِّكَ} . {وَعَصى:} الله تعالى.
{ثُمَّ أَدْبَرَ} أي: ولى مدبرا عن الإيمان. {يَسْعى} أي: يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. {فَحَشَرَ} أي: جمع قومه، وجنوده، وجمع السحرة أيضا، كقوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [53]:{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ} ومثلها في السورة نفسها رقم [36]، وأيضا في سورة (الأعراف) رقم [111]. {فَنادى:} في المقام الذي اجتمعوا فيه معه. {فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} أي: لا رب فوقي. وقيل: أراد: أن الأصنام أرباب، وهو ربهم، وربها. وقيل:
أراد: القادة، والرؤساء، والسادة هو ربهم، وأولئك هم أرباب السفلة تحتهم.
{فَأَخَذَهُ اللهُ:} فعاقبه عقابا شديدا. {نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى:} المراد بالآخرة: يوم القيامة، والأولى الإغراق في الدنيا، أو المراد كلمتاه: الآخرة، وهي:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} والأولى، وهي قوله:{يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} الآية رقم [38] من سورة (القصص)،
وكان بين الكلمتين أربعون سنة. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-والمعنى: أمهله في الأولى، ثم عذبه في الثانية، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم، والنكال أيضا: اسم لما جعل نكالا للغير؛ أي: عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة، والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل: القيد. انظر سورة (المزمل) رقم [12].
هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [66]: {فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} وقال جل ذكره في سورة (المائدة) رقم [38]: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ} . {إِنَّ فِي ذلِكَ:} في إهلاك فرعون، وقومه. {لَعِبْرَةً:} لعظة، واعتبارا. {لِمَنْ يَخْشى:}
يخاف الله. ولا تنس الطباق بين {الْآخِرَةِ} و (الأولى) وهو من المحسنات البديعية.
هذا؛ وروى السلمي عن ابن عطاء: الخشية أتم من الخوف؛ لأنها صفة العلماء في قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} أي: العلماء به. وعن الواسطي: أوائل العلم الخشية، ثم الإجلال، ثم التعظيم، ثم الهيبة، ثم الفناء. وعن بعضهم: من تحقق بالخوف؛ ألهاه خوفه عن كل مفروح به، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له الأمن من خوفه. وانظر ما نقلته عن الزمخشري في الآية رقم [19]. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فَأَراهُ:} الفاء: حرف عطف. (أراه): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى موسى، والهاء مفعول به أول. {الْآيَةَ:} مفعول به ثان، والفعل بصري، لكنه تعدى إلى الثاني بالهمزة. {الْكُبْرى:} صفة {الْآيَةَ،} والجملة الفعلية معطوفة على الكلام المقدر قبلها. {فَكَذَّبَ:} الفاء: حرف عطف. (كذب): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ،} والمفعول محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والتي بعدها معطوفة عليها أيضا، والمفعول محذوف أيضا، وجملة:{أَدْبَرَ} معطوفة أيضا. {يَسْعى:}
فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى {فِرْعَوْنَ} أيضا، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {أَدْبَرَ} المستتر، والرابط: الضمير فقط، وجملة:(حشر) وجملة: (نادى) كلتاهما معطوفتان على ما قبلهما. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (فرعون). {أَنَا:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {رَبُّكُمُ:} خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْأَعْلى:} صفة له مرفوع مثله، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها.
{فَأَخَذَهُ:} الفاء: حرف عطف. (أخذه): فعل ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {نَكالَ:} مفعول مطلق عامله أخذ من معناه. قال الجمل: والتجوز إما في الفعل؛ أي: نكل بالأخذ نكال الآخرة والأولى، وإما في
المصدر؛ أي: أخذه أخذ نكال. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله؛ أي: لأجل نكاله. انتهى سمين. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {لَعِبْرَةً:} اللام: لام الابتداء. (عبرة): اسم {إِنَّ} مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (عبرة). {يَخْشى:} فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل له.
الشرح: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً:} الاستفهام للتوبيخ، والتقريع، والخطاب لكفار قريش، والمعنى: أخلقكم بعد الموت أشد، وأصعب، أم خلق السماء عندكم في تقديركم؟ فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد؛ لأن خلق الإنسان على صغره، وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء مع عظمها، وعظم أحوالها؛ كان يسيرا. فبين الله تعالى: أن خلقها أعظم، وإذا كان كذلك؛ كان خلقكم بعد الموت أهون على الله تعالى، فكيف تنكرون ذلك؟! مع علمكم بأنه خلق السموات، والأرض، ولا تنكرون ذلك؟ قال تعالى في سورة (غافر) رقم [57]:{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ،} وقال في سورة (يس) رقم [81]: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} وما يشبهها في الآية رقم [33] من سورة (الأحقاف). {بَناها:} رفعها عالية فوقكم محكمة البناء، بلا عمد، ولا أوتاد تحملها. قال تعالى في سورة (الرعد) رقم [2]:{اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} .
{رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها} أي: رفع جرم السماء، وأعلى سقفها فوقكم، فجعلها مستوية، لا تفاوت فيها، ولا شقوق، ولا فطور. قال تعالى في سورة (الملك) رقم [3]:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} . هذا؛ ويقال: سمكت الشيء؛ أي: رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا:
ارتفع. قال الفرزدق من قصيدة يفخر فيها بقومه على جرير، وقومه-وهو الشاهد رقم [112] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الكامل]
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا
…
بيتا دعائمه أعزّ وأطول
وقد نقضها جرير بقصيدة من بحرها مع اختلاف حركة الروي حيث يقول: [الكامل]
أخزى الذي سمك السّماء مجاشعا
…
وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
قال ابن كثير: أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء. {وَأَغْطَشَ لَيْلَها} أي: جعله مظلما، غطش الليل، وأغطشه الله، كقولك: ظلم الليل، وأظلمه الله وهي لغة بني أنمار، ويقال: أغطش الليل بنفسه، وأغطشه الله، كما يقال:
أظلم الليل وأظلمه الله، والغطش، والغبش: الظلمة. ورجل أغطش؛ أي: أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء، ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطش، وفلاة غطشى: لا يهتدى لها.
وقال الأعشى: [المتقارب]
ويهماء بالليل غطشى الفلا
…
ة يؤنسني صوت فيادها
الفياد-بفتح الفاء، وضمها-ذكر البوم. وقال الأعشى أيضا:[المتقارب]
عقرت لهم موهنا ناقتي
…
وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم: ليلهم؛ لأنه غمرهم بسواده، وأضاف الليل إلى السماء؛ لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل؛ لأن ظهورها بالليل.
{وَأَخْرَجَ ضُحاها} أي: أبرز نهارها، وضوءها، وشمسها. وأضاف الضحى إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام، والضياء، وهو غروب الشمس، وطلوعها، وإنما عبر سبحانه عن النهار بالضحى؛ لأنه أكمل أجزاء النهار في النور، والضوء.
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها:} بسطها. والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحوّا: إذا بسطته.
قال أمية بن أبي الصلت؛ الذي آمن شعره، ولم يؤمن لسانه:[الوافر]
وبثّ الخلق فيها إذ دحاها
…
فهم قطّانها حتّى التّنادي
وقيل: دحاها سواها، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:[المتقارب]
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
…
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلمّا استوت شدّها
…
بأيد وأرسى عليها الجبالا
ولا ينافي القول ببسطها القول بكروية الأرض، فإن ذلك مقطوع به حتى قال الإمام الفخر الرازي ما نصه: وكانت الأرض أولا كالكرة المجتمعة، ثم إن الله تعالى مدها، وبسطها، وليس معنى (دحاها) مجرد البسط، بل المراد: أنه بسطها بسطا مهيأ لنبات الأقوات، يدل عليه قوله تعالى:{أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها} والجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي. انتهى وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6] من سورة (النبأ) عن الآلوسي.
هذا؛ وقد قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ظاهر هذه الآية يقتضي: أن الأرض خلقت بعد السماء بدليل قوله تعالى بعد ذلك، وقد قال تعالى في سورة (فصلت) رقم [11]:{ثُمَّ}
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ
…
إلخ، فكيف الجمع بين الآيتين، وما معناهما؟ قلت: خلق الله الأرض أولا مجتمعة، ثم سمك السماء ثانيا، ثم دحا الأرض بمعنى بسطها، ومدها ثالثا، فحصل بهذا التفسير الجمع بين الآيتين، وزال الإشكال. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك. انتهى وانظر آية (فصلت) المذكورة ففيها فوائد جمة. هذا؛ ويقال: دحا، يدحو دحوا، ودحى يدحى دحيا، كقولهم: طغى، يطغى، ويطغو، وطغي، يطغي، ومحا، يمحو، ويمحى، ولحى العود: يلحى، ويلحو، فمن قال: يدحو قال: دحوت، ومن قال: يدحى قال: دحيت.
{أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها} أي: أخرج من الأرض عيون الماء المتفجرة، وأجرى فيها الأنهار، وأنبت فيها الكلأ، والمرعى مما يأكله الناس، والأنعام. قال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا، ومتاعا للأنام من العشب، والشجر، والحب، والثمر، والعصف، والحطب، واللباس، والنار، والملح؛ لأن النار من العيدان، والملح من الماء، وفي الآية الكريمة استعارة تصريحية، فقد شبه أكل الناس برعي الأنعام، واستعير الرعي للإنسان بجامع أكل الإنسان، والحيوان من النباتات. ففيه استعارة لطيفة، ولا تنس المقابلة بين الآيات.
{وَالْجِبالَ أَرْساها} أي: أثبتها في الأرض، وجعلها كالأوتاد لتستقر، وتسكن بأهلها. انظر الآية رقم [27] من سورة (المرسلات). {مَتاعاً لَكُمْ} أي: منفعة لكم. {وَلِأَنْعامِكُمْ} أي: لجميع الحيوانات التي تنتفعون بها مدة احتياجكم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد، وينقضي الأجل. وانظر «التمتع» في سورة (المرسلات) رقم [46] فإنه جيد.
الإعراب: {أَأَنْتُمْ:} (الهمزة): حرف استفهام، وتوبيخ وتقريع. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَشَدُّ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {خَلْقاً:} تمييز. {أَمِ:} حرف عطف، وهي هنا متصلة. {السَّماءُ:} مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {بَناها:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله). و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من (السماء) والرابط:
الضمير، وهذا على رأي: من يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {رَفَعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله. {سَمْكَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية تفسير لكيفية البناء، فهي في محل نصب حال مثل سابقتها. وقيل: هي بدل منها، والتي بعدها معطوفة عليها بالفاء العاطفة. {وَأَغْطَشَ:} الواو: حرف عطف. (أغطش): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله أيضا. {لَيْلَها:} مفعول به، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والتي بعدها معطوفة عليها أيضا.
(الأرض): مفعول به لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل المحذوف، أو هو متعلق بما بعده، و {بَعْدَ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {دَحاها:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية مفسرة لا محل لها.
هذا؛ ويقرأ برفع (الأرض) على أنه مبتدأ، فتكون الجملة الفعلية في محل رفع خبره. وعلى الاعتبارين فالكلام مستأنف، لا محل له، وجملة:{أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها} في محل نصب حال من فاعل {دَحاها} المستتر، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها، وإعرابها ظاهر إن شاء الله تعالى. (والجبال أرساها) إعرابها مثل إعراب:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} على الوجهين المعتبرين فيها بلا فارق، ولا تنس: أن فاعل الأفعال المتقدمة يعود إلى غير مذكور، وإنما يفهم من سياق الكلام، انظر ما ذكرته بشأن ذلك في الآية رقم [26] من سورة (القيامة).
{مَتاعاً:} مفعول مطلق لفعل محذوف مدلول عليه بسياق الكلام، التقدير: متعناكم بها تمتيعا، أو هو مفعول لأجله، عامله محذوف أيضا، التقدير: فعل الله ذلك منفعة لكم. {لَكُمْ:}
جار ومجرور متعلقان ب: {مَتاعاً} . (لأنعامكم): جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، والكاف ضمير في محل جر بالإضافة.
الشرح: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى:} يعني النفخة الثانية التي ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور. قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وقول آخر لابن عباس رضي الله عنهما: أنها القيامة، سميت بذلك؛ لأنها تطم على كل شيء، فتعم ما سواها لعظم هولها. كما قال تعالى في سورة (القمر):{وَالسّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} وقال المبرد: الطامة عند العرب:
الداهية؛ التي لا تستطاع. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبرى: حين يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وكما قال المبرد: الطامة عند العرب: الداهية التي طمت وعظمت. قال الشاعر: [الرمل]
إنّ بعض الحبّ يعمي ويصم
…
وكذاك البغض أدهى وأطم
هذا؛ وكما تطلق الطامة على النفخة الثانية يطلق عليها لفظ: الصاخة، ولفظ: القارعة، والواقعة، والحاقة، والمراد بكل ذلك: يوم القيامة، وما فيه من الأهوال العظام، والشدائد الجسام ولعلك تدرك معي: أن الله تعالى لما ذكر خلق السموات، والأرض، وما أبدع فيهما من عجائب الخلق، والتكوين؛ ليقيم الدليل على إمكان الحشر عقلا؛ أخبر بعد ذلك عن وقوعه
فعلا، فقال:{فَإِذا جاءَتِ..} . إلخ. {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى} أي: ما عمل من خير، أو شر؛ وكان قد نسي ما عمل؛ وقد قال تعالى:{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} آخر سورة (النبأ).
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى} أي: ظهرت لكل من ينظر. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يكشف عنها تتلظى، فيراها كلّ ذي بصر لظهورها ظهورا بينا من المؤمنين، والكفار، إلا أن الجحيم مكان الكفار، ومأواهم، والمؤمنون يمرّون عليها، وهذا يؤيده قوله تعالى في سورة (مريم):
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} ولا ينافيه قوله تعالى في سورة (الشعراء) رقم [91]: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ} لأنها برزت للغاوين بالمكث فيها، وللمؤمنين بمرورهم عليها.
الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [11]. {جاءَتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {الطَّامَّةُ:} فاعله. {الْكُبْرى:} صفة {الطَّامَّةُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجوابها محذوف. إذ التقدير: إذا جاءت الطامة الكبرى؛ دخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة. و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {يَوْمَ:} ظرف زمان بدل من (إذا).
{يَتَذَكَّرُ:} فعل مضارع. {الْإِنْسانُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها.
{ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {سَعى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانُ،} والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يتذكر الإنسان الذي، أو شيئا سعاه. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به. التقدير: يتذكر الإنسان سعيه. (برزت): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {الْجَحِيمُ:} نائب فاعله.
{لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى (من) وهو العائد، وهو لازم؛ لأنه بمعنى: ينظر، ويبصر، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها على اعتبارها نكرة موصوفة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{جاءَتِ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. قاله الجمل. وأرى جواز اعتبارها في محل نصب حال من {الْإِنْسانُ،} أو من {ما،} والرابط: الواو فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها.
الشرح: {فَأَمّا مَنْ طَغى} أي: تجاوز الحد في الكفر، والعصيان، والفساد، والإفساد.
{وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا:} فضلها على الآخرة بأن عمل لها، وانهمك في حطامها الفاني، ولم يقدم
لآخرته عملا صالحا. قال القرطبي: نزلت في النضر، وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر؛ بل وفي كل مسلم كذاب منافق آثر الحياة الدنيا على الآخرة. {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى:} هي مستقره، ومأواه، ف:(أل) بدل من الضمير المحذوف المقدر، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (المعارج) رقم [37]:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ} إذ التقدير: عن يمينك، وعن شمالك.
وهذا عند الكوفيين، وعند البصريين وعلى رأسهم سيبويه، التقدير: هي المأوى له. {وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ:} أي: حذر وقوفه، ومقامه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ لعلمه بأنه راجع إلى الله تعالى في ذلك اليوم، فيكفّ عن محارم الله، ويقف عند حدوده؛ التي حدها له. قال تعالى في سورة (الرحمن):{وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} . {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: زجرها عن المعاصي، والمحارم؛ التي من فعلها دخل النار. قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنتم في زمان يقود الحقّ الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحقّ، فنعوذ بالله من ذلك الزمان! {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} أي: المنزل، وفي هذه الآيات مقابلة واضحة لا خفاء فيها.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير-رضي الله عنه-وأخيه عامر بن عمير، فقد روي: أن عامرا أسر يوم بدر. فأخذه الأنصار، فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا أخو مصعب بن عمير. فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا؛ حدثوا مصعبا-رضي الله عنه-حديثه. فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمّه أكثر أهل البطحاء حليا، ومالا، فأوثقوه؛ حتى بعثت أمّه في فدائه.
وأما مصعب-رضي الله عنه-فقد وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه-وهي السهام-فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه؛ قال:
«عند الله أحتسبك!» . وقال لأصحابه: «لقد رأيته؛ وعليه بردان ما تعرف قيمتهما، وإن شراك نعليه من ذهب» . هذا؛ وفسرت {مَقامَ رَبِّهِ} بوقوف العبد مقامه بين يدي الله؛ لأن المقام إنما هو للعبد، لا لله لتنزهه عن المكان، وأضيف إليه تعالى لملابسته له تعالى من حيث كونه بين يديه، ومقاما لحسابه. وانظر ما ذكرته في سورة (الرحمن) رقم [46] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، ولا تنس المقابلة بين هذه الآيات، والطباق بين {الْجَنَّةَ،} و {الْجَحِيمَ} .
هذا؛ ولقد وصف الله تعالى في هذه الآية وغيرها الحياة التي يحياها ابن آدم بالدنيا لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء، ورحم الله الحريري إذ يقول:[الكامل]
يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها
…
شرك الرّدى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها
…
أبكت غدا تبّا لها من دار
أو هي من الدنو، وهو القرب؛ لأنها في متناول يد الإنسان ما دام حيّا، وما أحسن قول الإمام الشافعي-رضي الله عنه-في وصفها:[الطويل]
وما هي إلاّ جيفة مستحيلة
…
عليها كلاب همّهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
…
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
الإعراب: {فَأَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (أما): أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد، أما كونها أداة شرط؛ فلأنها تقوم مقام أداة الشرط، وفعله بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل مهما يك من شيء فمن طغى
…
إلخ، فأنيبت (أما) مناب «مهما» و «يك من شيء» ، فصار (أمّا من طغى
…
فإنّ الجحيم
…
) إلخ وأما كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. وأما كونها أداة توكيد؛ فلأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنه واقع لا محالة؛ لكونها علقته على أمر متيقن.
{مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {طَغى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (آثر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ} أيضا. {الْحَياةَ:} مفعول به. {الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب (أما). (إنّ):
حرف مشبه بالفعل. {الْجَحِيمَ:} اسم (إنّ). {هِيَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْمَأْوى:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا؛ فالمأوى يكون خبر (إنّ)، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية:(إن الجحيم هي المأوى) في محل رفع خبر المبتدأ؛ الذي هو (من)، والجملة الاسمية: (أما من
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وقال الجلال، والزمخشري، وتبعه النسفي: إن الجملة الاسمية جواب قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى} على حد قول القائل: إذا جاء بنو تميم؛ فأما العاصي فأهنه، وأما الطائع؛ فأكرمه.
وفي هذا نوع تساهل؛ لأن قوله تعالى: {فَأَمّا مَنْ طَغى..} . إلخ. بيان لحال الناس في الدنيا، وقوله تعالى:{فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى} بيان لحالهم في الآخرة، فالأولى ما سلكه غيرهم من أن الجواب محذوف يدل عليه التفصيل المذكور: فقدّره بعضهم: دخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، وقدره بعضهم بقوله: كان من عظائم الشؤون ما لم تشاهده العيون. انتهى. جمل بتصرف. وإعراب: {وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ..} . إلخ، مثل سابقه، لا خفاء فيه إن شاء الله تعالى.
هذا؛ و «الهوى» يقصر، ويمد، والمراد بالأول: الحب، والعشق، والغرام، وهو أيضا محبة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه، وعقله. قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [43]:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} ومثلها في الآية رقم [23] من سورة (الجاثية). وقد نهى الله عنه في سورة (النساء) رقم [135] بقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى} ومدح من يخالفه بقوله:
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله تعالى. ويراد بالممدود ما بين السماء والأرض، وقد جاء الهوى بمعنى العشق ممدودا في الشعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
وهان على أسماء إن شطّت النّوى
…
نحنّ إليها والهواء يتوق
وإليك هذين البيتين فإنّهما من النّكت الحسان: [الكامل]
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي
…
فتكاملت في أضلعي ناران
فقصرت بالممدود عن نيل المنى
…
ومددت بالمقصور في أكفاني
وقال أبو عبيدة-رحمه الله تعالى-: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنه لا يقال:
فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحب الخير، وجمعه: أهواء، وجمع الممدود أهوية. وقال الشعبي-رحمه الله تعالى-: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه. وذكر آيات كثيرة. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاص-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» . وقال أبو أمامة الباهلي-رضي الله عنه-سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» .
وقال شداد بن أوس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأمانيّ» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصّة نفسك، ودع عنك أمر العامّة» . من حديث طويل، أخرجه ابن ماجه، والترمذي عن أبي أمية الشيباني عن أبي ثعلبة الخشني-رضي الله عنهم-أجمعين. وقال أنس بن مالك-رضي الله عنه-من حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«وثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» . رواه البيهقي، وغيره.
وقال الأصمعي: سمعت رجلا يقول: [الكامل]
إنّ الهوان هو الهوى قلب اسمه
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه. فأخذه شاعر فنظمه، فقال:[الكامل]
نون الهوان من الهوى مسروقة
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ولابن دريد-رحمه الله تعالى-قوله: [الطويل]
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة
…
وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما استطعت فإنّما
…
هواك عدوّ والخلاف صديق
ولأبي عبيد الطوسي-رحمه الله تعالى-قوله: [الرجز]
والنفس إن أعطيتها مناها
…
فاغرة نحو هواها فاها
وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى، ومخالفته كتب، وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه، وحسبك الآيات التي نحن بصدد شرحها.
هذا؛ و {الْمَأْوى} المقر، والملجأ. قال الجوهري: المأوى: كل مكان يأوي إليه شيء ليلا كان، أو نهارا، وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، وإواء، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول ابن نوح-على نبينا، وحبيبنا وعلى نوح ألف صلاة، وألف سلام-:{قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ} . وآويته أنا إيواء، وأويته: إذا أنزلته بك بمعنى، و «المثوى» بمعناه في كل ما تقدم، ويفرق بينهما: أن المثوى مكان الإقامة المنبثة عن المكث، وأما المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان، ولو موقتا، والقرينة تبين طول المكث، كما في الآيات الكثيرة؛ التي تنص: أن النار مأوى الكافرين، والظالمين، والفاسدين المفسدين الذين يدّعون الإسلام، والإسلام منهم براء. وقدم المأوى على المثوى في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [151]:{وَمَأْواهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ؛} لأنه على الترتيب الوجودي يأوي، ثم يثوي.
الشرح: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء؟ فأنزل الله عز وجل الآية. هذا؛ و «سأل» تارة يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، فيتعدى ب:«عن» كهذه الآية، وقد يكون لاقتضاء مال، ونحوه، فيتعدى لاثنين، نحو: سألت زيدا مالا. {أَيّانَ مُرْساها:} متى وقوعها؟ وقيل: متى إثباتها، واستقرارها؟ ورسو الشيء: ثباته، واستقراره، ومنه: رسا الجبل، وأرسى السفينة. وهذا على فتح الميم، والأول على ضم الميم، وعلى الاعتبارين فالجملة استعارة تصريحية. وهذه الجملة مذكورة في سورة (الأعراف) برقم [187]، وقال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [63]:{يَسْئَلُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ..} . إلخ.
فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية بأن يجيبهم بقوله: {إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ،} وفي آية (الأعراف) بأن يجيبهم بقوله: {إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ} وهذا السؤال تكرر من المشركين ومن اليهود، وقوله تعالى في كثير من السور:{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}
برهان قاطع على ذلك، ومعنى:{إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ} أي: لا يطلع عليه ملكا، ولا نبيا؛ لأنه تعالى استأثر به.
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} أي: ليس علمها إليك حتى تذكرها لهم؛ لأنها من الغيوب التي استأثر الله بعلمها، فلماذا يسألونك عنها، ويلحون في السؤال؟ هذا؛ وروى الزهري عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما-قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي: منتهى علمها، فكأنه عليه الصلاة والسلام لما أكثروا عليه السؤال سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [187]:{يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها} أي: عالم بها كثير السؤال عنها.
{إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها} أي: منتهى علمها، لا يعلم متى تقوم إلا هو. {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها} أي: لم تبعث يا محمد لتعلمهم بوقت الساعة، وتحديده، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها، وخص الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون به، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم منذرا ومخوفا لكل مكلف.
تنبيه: الساعة: القيامة سميت بذلك؛ لأنها تفجأ الناس بغتة في ساعة، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وقيل: سميت ساعة لسرعة الحساب فيها؛ لأن حساب الخلائق يوم القيامة يكون في ساعة، أو أقل من ذلك. قال تعالى في كثير من الآيات:{فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} ولا تنس: أن ساعة كل إنسان، وقيامته وقت مقدمات موته، وما فيه من أهوال، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من مات فقد قامت قيامته» . وقيل: سميت الساعة بذلك؛ لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، وقد ثبت: أن لقيام الساعة علامات، وهي صغرى، وكبرى، فالصغرى قد ظهر جميعها، كقبض العلم الشرعي، وتقارب الزمان، وفيض المال، وكثرة الزلازل، وكثرة القتل، وتطاول البدو في البنيان، وكثرة الفجور، والفسوق، وغير ذلك مما هو واقع، ومشاهد الآن.
أما العلامات الكبرى فخذها مما يلي، فعن حذيفة بن أسيد الغفاري-رضي الله عنه-قال:
طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر الساعة، فقال:«ما تذاكرون؟» . قالوا: نتذاكر الساعة قال: «إنّها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج، ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» . أخرجه مسلم.
أقول: ما ذكر في الحديث الشريف بعضه من علاماتها، وبعضه من مبادئها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك يغلق باب التوبة، ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، انظر الآية رقم [158] من سورة (الأنعام).
تنبيه: قال المحققون من العلماء: سبب إخفاء علم الساعة، ووقت قيامها عن العباد؛ ليكونوا دائما على خوف، وحذر منها؛ لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت؟ كانوا على وجل وخوف منها، فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، والمسارعة إلى التوبة، وأزجر لهم عن المعصية. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها» . متفق عليه.
هذا؛ وقد أخفى الله أمورا أخرى مثل ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة الإجابة يوم الجمعة؛ ليجتهد المؤمن، والمؤمنة في ليالي رمضان في العبادة، وليكونا: مجتهدين في الدعاء كل يوم الجمعة، وليلته، كما أخفى الله رضاه في طاعة من الطاعات، وأخفى غضبه في معصية من المعاصي ليجتهدا في جميع الطاعات، وليجتنبا جميع المعاصي، والسيئات. وانظر آخر سورة (لقمان) إن أردت الزيادة.
الإعراب: {يَسْئَلُونَكَ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله الأول. {عَنِ السّاعَةِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَيّانَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {مُرْساها:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان ل:{يَسْئَلُونَكَ،} وهو معلق عن العمل به لفظا بسبب الاستفهام. {فِيمَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر. {مِنْ ذِكْراها:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، و (ها) في محل جر بالإضافة، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها؟ هذا؛ وقيل: الجار، والمجرور {فِيمَ} متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فيم هذا السؤال، فتم الكلام، ثم استأنف بجملة:{أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} بيانا لسبب الإنكار عن سؤالهم.
{إِلى رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مُنْتَهاها:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {أَنْتَ:} مبتدأ. {مُنْذِرُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {مَنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ ويقرأ بتنوين (منذر)، فيكون اسم الموصول مفعولا صريحا. {يَخْشاها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و (ها) مفعول به، والفاعل ضمير مستتر يعود إلى (من)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّما أَنْتَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها أيضا.