الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النّبإ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (النبأ) وتسمى سورة التساؤل مكية، وهي أربعون آية، أو إحدى وأربعون، ومئة وثلاث وسبعون كلمة، وتسعمئة وسبعون حرفا. انتهى خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {عَمَّ:} كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف:(عن) الجارة، والاسم (ما) الاستفهامية، وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كل جار، نحو قوله تعالى:{لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ،} {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها،} {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} وذلك للفرق بين الموصولة، والاستفهامية.
ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار، ومن شواهدها الشعرية قول الكميت-وهو الشاهد رقم [554] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : إعراب شواهد مغني اللبيب-: [الطويل]
فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم
…
فحتّام حتّام العناء المطوّل؟!
وأيضا قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي المذحجي-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [250] من الكتاب المذكور، وأيضا رقم [454] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
علام تقول: الرّمح يثقل عاتقي
…
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت؟
هذا؛ وقرأ عكرمة، وعيسى بن عمر:«(عمّا)» بإثبات الألف، وهي قراءة فوق السبعة، ومنه قول حسان بن المنذر-رضي الله عنه-يهجو رجلا من بني مخزوم-وهو الشاهد رقم [556] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
على ما قام يشتمني لئيم
…
كخنزير تمرّغ في دمان؟
هذا؛ وقرأ ابن كثير «(عمّه)» بهاء السكت وصلا، وهذا يكون في الوقف، فيكون أجرى الوصل مجرى الوقف. {يَتَساءَلُونَ:} يسأل بعضهم بعضا، والضمير يعود إلى قريش؛ إذ هم المقصودون بذلك، روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث؛ جعل المشركون يتساءلون بينهم، فيقولون: ما الذي أتى به محمد، ويتجادلون فيما بعث به، فبعضهم يقول: شعر، وبعضهم يقول: سحر،
وبعضهم يقول: كهانة، فنزلت هذه السورة. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، لما ذكر في قوله:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وكانوا يتجادلون فيه، ويتساءلون عنه، فقال:{عَمَّ يَتَساءَلُونَ} والاستفهام عن هذا فيه تفخيم، وتهويل، وتقرير، وتعجيب. انتهى. جمل.
{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ:} بيان لذلك الشيء، والاستفهام لتفخيمه؛ لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المشتمل على البعث، وغيره.
{الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ:} فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن؛ قال: اختلافهم فيه قولهم: إنه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن. ومن فسر النبأ العظيم بالبعث؛ قال:
اختلافهم فيه: فمن مصدق به، وهم المؤمنون، ومن مكذب به، وهم الكافرون. ومن فسره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال: اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن.
{كَلاّ سَيَعْلَمُونَ:} ردع فيه معنى الوعيد، والتهديد؛ أي: سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة، وسيعلمون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت، والتكرير للتوكيد. انظر مثله في سورة (ن) رقم [5]، وفي سورة (التكاثر).
هذا؛ والنبأ: الخبر وزنا، ومعنى. ويقال: النبأ أخص من الخبر؛ لأن النبأ لا يطلق إلا على كل ما له شأن، وخطر من الأنباء. وقال الراغب: النبأ خبر ذو فائدة، يحصل به علم، أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحقه أن يتعرى عن الكذب كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا؛ والفعل منه من الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل، وقد يجيء الفعل منه غير مضمن معنى: أعلم، فيتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، كما في قوله تعالى:{وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} رقم [14] من سورة (المائدة)، والآية رقم [6] من سورة (المجادلة)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [3] من سورة (التحريم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {عَمَّ:} (عن): حرف جر. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل جر ب: (عن)، حذفت ألفها كما رأيت في الشرح، وبقيت الفتحة دليلا عليها، والجار، والمجرور متعلقان بما بعدهما. {يَتَساءَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مبتدأة لا محل لها. {عَنِ النَّبَإِ:} متعلقان بفعل محذوف لدلالة ما قبله عليه، ولا يجوز أن يتعلقا بالفعل المذكور؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام، فيكون التقدير: أعن النبأ العظيم؟ ويكون الجار والمجرور بدلا من قوله: {عَمَّ} كقولك: كم مالك؟ أثلاثون، أم أربعون؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقهما بالفعل المذكور، وإنما يتعلقان بفعل مقدر. وقيل: الاستفهام مقدر قبل عن الثانية والمقدر كالمذكور. {الْعَظِيمِ:} صفة {النَّبَإِ} .
{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون، وفيه ثلاثة أوجه: الأول: على أنه في محل جر صفة، أو هو بدل من {النَّبَإِ الْعَظِيمِ}. والثاني: على أنه في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف،
التقدير: هو الذي. والثالث: على أنه في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُخْتَلِفُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. {كَلاّ:} حرف ردع وزجر. {سَيَعْلَمُونَ:} السين: حرف استقبال. (يعلمون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمفعول محذوف للاختصار، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، والتي بعدها معطوفة عليها ومؤكدة لها.
الشرح: بعد أن هدد الله الكافرين، وتوعدهم بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم، وفي ضمنه وعد للمؤمنين بالجزاء الحسن؛ ذكر الله أشياء من عجائب صنعه؛ ليستدلوا بذلك على توحيده، ويعلموا: أنه قادر على إيجاد العالم بعد عدمه، ثم فنائه، ثم بعثه للحساب، والثواب، والعقاب، فقال:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً} أي: فراشا، وبساطا؛ لتستقر عليها الأقدام، كما قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [22]:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً} وقال في سورة (نوح) -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً} والمعنى: ألم نجعل هذه الأرض التي تسكنونها ممهدة للاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها؟ جعلناها لكم كالفراش، والبساط؛ لتستقروا عليها، كما يتقلب الإنسان على فراشه، وبساطه. قال في التسهيل: شبه الله الأرض بالبساط، والفراش في امتدادها، واستقرار الناس عليها. وأخذ بعضهم من الآيات: أن الأرض غير كروية. وفي ذلك نظر.
هذا؛ وقال الآلوسي-رحمه الله تعالى-: وليس في الآيات دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية؛ لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا. ثم إن اعتقاد الكروية، أو عدمها ليس بلازم في الشريعة، لكن كرويتها كالأمر اليقيني، ومعنى جعلها بساطا، ومهادا، وفراشا؛ أي: تتقلبون عليها كالبساط
…
إلخ. وانظر الآية رقم [48] من سورة (الذاريات).
{وَالْجِبالَ أَوْتاداً:} انظر الآية رقم [27] من سورة (المرسلات). {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً} أي:
وجعلناكم أيها الناس أصنافا: ذكورا، وإناثا؛ لينتظم أمر النكاح؛ الذي يحصل به التناسل.
وانظر ما ذكرته في سورة (القيامة) رقم [39] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً:} راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال، وأصل السبات من التمدد. وقيل للنوم: سبات؛ لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل: السبت: القطع، فالنوم انقطاع عن
الأعمال، ومنه سبت اليهود؛ لانقطاعهم عن الأعمال فيه. هذا؛ وسبت الشيء: قطعه، وسبت الرأس: حلقه. والسبت مصدر، ويوم من أيام الأسبوع، وجمعه: أسبت، وسبوت، والسبت أيضا: النوام، والفرس، والجواد، والرجل الداهية. هذا؛ والسبت بكسر السين: الجلد المدبوغ. قال عنترة في وصف الشجاع الذي افتخر بقتله-وهو البيت من معلقته رقم [73]، وأيضا هو الشاهد رقم [306] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]
بطل كأنّ ثيابه في سرحة
…
يحذى نعال السّبت ليس بتوءم
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً} أي: سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن. قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها. {وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} أي: وقت معاش؛ أي: متصرفا فيه لطلب المعاش، وهو كل ما يعاش به من المطعم، والمشرب، والملبس، وغير ذلك. وفي الكشاف: لباسا يستركم عن العيون، إذا أردتم هربا من عدو، أو بياتا له، أو إخفاء ما لا تحبون الإطلاع عليه من كثير من الأمور. قال أبو الطيب المتنبي من قصيدته التي مدح بها كافور الإخشيدي:[الطويل]
وكم لظلام اللّيل عندك من يد
…
تخبّر أنّ المانويّة تكذب
ومن المعلوم من مذهب المانوية: أن الخير منسوب إلى النور، والشر منسوب إلى الظلام، فكذبهم أبو الطيب بأن نعمته، وخيريته إنما حصلت من الظلام، وبيّن تلك النعمة في قوله بعده:[الطويل]
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم
…
وزارك فيه ذو الدلال المحجّب
وهذه الآيات مع دلالتها على قدرة الخالق، فيها إظهار لنعمته على خلقه؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية، ودنيوية، وقد كثر الامتنان من الله على خلقه، بذلك مثل قوله تعالى في سورة (الفرقان) الآية رقم [47]:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً،} وأيضا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} الآية رقم [12] من سورة (الإسراء)، وقوله تعالى:{وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} الآية رقم [23] من سورة (الروم).
هذا؛ وفي الآيات تشبيه بليغ؛ إذ أصل الكلام: جعلنا الأرض كالمهاد الذي يفترشه النائم، وجعلنا الجبال كالأوتاد التي تثبت الدعائم، وجعلنا الليل كاللباس في الستر، والخفاء، فحذف أداة التشبيه، ووجه الشبه، فأصبح بليغا. وبعضهم يعتبر الجميع من باب الاستعارة. ولا تنس المقابلة في الآيتين رقم [10 و 11] حيث قابل بين الليل، والنهار، والراحة، والعمل، وهو من المحسنات البديعية.
هذا؛ والنوم قسمان: نوم العين، ونوم القلب، فنوم العين: فترة طبيعية تعتري الحيوان، وتتعطل حواسه بها، وأما نوم القلب: فهو تعطيل القوى المدركة. والثاني: لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن قلبه لا ينام، كما في حديث الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» .
ورحم الله البوصيري إذ قال: [البسيط]
لا تنكر الوحي من رؤياه إنّ له
…
قلبا إذا نامت العينان لم ينم
هذا؛ والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم، أو هو اسم مكان بمعنى موضعه، أو اسم زمان بمعنى زمانه؛ لأن «مفعلا» يصلح لهذا كله. هذا؛ والنوم هو الموتة الصغرى، لذا أرشدنا سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم أن نقول عند القيام من النوم:«سبحان من أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» . والجنة لا نوم فيها، انظر الآية رقم [24] الآتية.
الإعراب: {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{نَجْعَلِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْأَرْضَ:} مفعول به أول. {مِهاداً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَالْجِبالَ أَوْتاداً:}
معطوفان على: {الْأَرْضَ مِهاداً} . {وَخَلَقْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {أَزْواجاً:} حال من الكاف والميم بمعنى متجانسين متشابهين. قال مكي: وخلق بمعنى: ابتدع، فلذلك لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. أقول: ولا مانع من اعتبار خلق بمعنى: جعل، فتكون قد نصبت مفعولين، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجمل الثلاث الآتية معطوفة عليها أيضا، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى، وهي:{وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} .
الشرح: {وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً} أي: وبنينا فوقكم أيها الناس سبع سموات، محكمة الخلق، بديعة الصنع، متينة في إحكامها، وإتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان، خلقناها بقدرتنا لتكون كالسقف للأرض، كقوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [32]:{وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً،} وقال تعالى في سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً} انظر شرحها فإنه جيد. {وَجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً} أي: وخلقنا لكم شمسا منيرة ساطعة، يتوهج ضوءها، ويتوقد لأهل الأرض كلهم، دائمة الحرارة، والتوقد. قال أهل اللغة: الوهاج: المتوقد الشديد الإضاءة؛ الذي يضطرم، ويلتهب من شدة لهبه.
{وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً} أي: وأنزلنا من السحب التي حان وقت إمطارها ماء دافقا منهمرا بشدة، وقوة. قال في التسهيل: المعصرات: هي السحب، مأخوذة من العصر؛ لأن السحاب ينعصر، فينزل منه الماء، شبهت السحابة التي حان وقت إمطارها بالجارية التي قد دنا حيضها؛ ولم تحض قال أبو النجم العجلي، ونسب لليث المجاشعي:[الرجز]
تمشي الهوينى مائلا خمارها
…
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: [الطويل]
فكان مجنّي دون من كنت أتقي
…
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
هذا؛ وقيل: المعصرات: الرياح، يقال: أعصرت الرياح، تعصر إعصارا: إذا أثارت العجاج، وهي الإعصار. وقيل: المعصرات السماء، والأصح: أن المعصرات السحاب، كذا المعروف: أن الغيث منها، وانظر سورة (الواقعة) رقم [69] حيث أطلق على السحب لفظ المزن، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ وماء ثجاجا دافقا منهمرا بشدة وقوة، يقال:
ثججت دمه فأنا أثجه ثجّا، والثجاج في الآية المنصب. قال عبيد بن الأبرص:[البسيط]
فثجّ أعلاه ثمّ ارتجّ أسفله
…
وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الحج المبرور، فقال:«العجّ، والثجّ» . فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة الدماء، وذبح الهدايا. {لِنُخْرِجَ بِهِ:} بذلك الماء. {حَبًّا:}
كالحنطة، والشعير، وغير ذلك. {وَنَباتاً:} من الأبّ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش، والتبن، كما قال تعالى في سورة (طه) رقم [54]:{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ} وقوله تعالى في سورة (الرحمن) رقم [12]: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ} ورحم الله زيد بن عمرو بن نفيل؛ الذي كان متحنفا قبيل الإسلام؛ إذ قال من قصيدة له مشهورة: [الطويل]
وقولا له من ينبت الحبّ في الثرى
…
فيصبح منه البقل يهتزّ رابيا
ويخرج منه حبّه في رؤوسه
…
ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
{وَجَنّاتٍ أَلْفافاً} أي: وحدائق، وبساتين كثيرة الأشجار، والأغصان، ملتف بعضها على بعض، لكثرة أغصانها، وتقارب أشجارها. ولا واحد له من لفظه، كالأوزاع، والأخياف.
وقيل: الواحد: لفّ بكسر اللام، وضمها. وقال صاحب الإقليد: أنشدني الحسن بن علي الطوسي، وهو له:[الرمل]
جنّة لفّ وعيش مغدق
…
وندامى كلّهم بيض زهر
هذا؛ و (جعل) في الآية رقم [13] نصب مفعولا واحدا، مثل: خلق، وأنشأ، وأوجد، والفرق بين خلق، وجعل الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى
التضمين، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إحداث النور، والظلمات بالجعل. فقال في كثير من الآيات:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما، كما زعمت المجوس، بخلاف الخلق فإن فيه معنى الإيجاد، والإنشاء، ولذا عبر سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن إيجاد السموات، والأرض بالخلق، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَبَنَيْنا:} الواو: حرف عطف. (بنينا): فعل، وفاعل. {فَوْقَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {سَبْعاً:} مفعول به. {شِداداً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، والتي بعدها:(جعلنا سراجا وهاجا) معطوفة على ما قبلها أيضا. (أنزلنا): فعل، وفاعل. {مِنَ الْمُعْصِراتِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {ماءً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {لِنُخْرِجَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {حَبًّا:} مفعول به. {وَنَباتاً:}
معطوف على ما قبله، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار، والمجرور متعلقان بالفعل (أنزلنا). {وَجَنّاتٍ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {أَلْفافاً:} صفة (جنات).
الشرح: ذكر الله الأدلة التسع المتقدمة على قدرته تعالى، كبرهان واضح على إمكان البعث، والنشور والجزاء، فإن من قدر على هذه الأشياء قادر على البعث، والإحياء، ولهذا قال:{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} أي: إن يوم الحساب، والجزاء، ويوم الفصل بين الخلائق، له وقت محدود، معلوم في علمه تعالى، وقضائه، لا يتقدم، ولا يتأخر. قال تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} .
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وسمي: يوم الفصل؛ لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه، وقد جعله الله وقتا، ومجمعا، وميعادا للأولين، والآخرين، وانظر الآية رقم [38] من سورة (المرسلات). هذا؛ وميقات أصله: موقات، فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، وقل مثله في: ميعاد، وميثاق
…
إلخ.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ:} انظر الآية رقم [13] من سورة (الحاقة) ففيها الكفاية. {فَتَأْتُونَ:}
فتساقون إلى المحشر. {أَفْواجاً} أي: أمما، كل أمة مع إمامهم. وقيل: زمرا، وجماعات،
الواحد: فوج، وهذا اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط، ومعشر
…
إلخ، وجمعه أفواج، وفؤوج. وجمع الجمع: أفاوج، وأفاييج، وأفاويج، والثلاثة بصيغة منتهى الجموع.
هذا؛ وروي من حديث معاذ بن جبل-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت قول الله عز وجل: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً؟!} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ! لقد سألت عن أمر عظيم» . ثم أرسل عينيه باكيا، ثم قال:«يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا، قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين، وبدّل صورهم، فمنهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكّسون، أرجلهم أعلاهم، ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صمّ بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاّة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطّعة أيديهم، وأرجلهم، وبعضهم مصلّبون على جذوع من النار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران، لاصقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة؛ فالقتّات من الناس (النّمام). وأما الذين على صورة الخنازير؛ فأهل السحت، والحرام، والمكس. وأمّا المنكّسون رؤوسهم، ووجوههم؛ فأكلة الرّبا، وأما العمي؛ فالذين يجورون في الحكم. وأما الصمّ، البكم؛ فالذين يعجبون بأعمالهم. وأما الذين يمضغون ألسنتهم؛ فالعلماء، والقصّاص الذين يخالف قولهم فعلهم. وأما المقطّعة أيديهم، وأرجلهم؛ فالذين يؤذون الجيران. وأما المصلبون على جذوع من النار؛ فالسعاة بالناس إلى السلطان. وأمّا الذين هم أشدّ نتنا من الجيف؛ فالذين يتمتعون بالشهوات، واللذات (المحرمات) ويمنعون حقّ الله في أموالهم. وأما الذين يلبسون الجلابيب؛ فأهل الكبر، والفخر، والخيلاء» . انتهى قرطبي وكشاف.
{وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً} أي: فتحت لنزول الملائكة، كما قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [25]:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقيل: تقطعت، فكانت قطعا كالأبواب.
وانظر قوله تعالى في سورة (المرسلات): {وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ} فهو جيد. {وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} أي: لا شيء، كما أن السراب كذلك، يظنه الرائي ماء، وليس بماء. وقيل:(سيرت) نسفت من أصولها. وقيل: أزيلت من مواضعها. وقال تعالى في سورة (طه): {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً} فالآية فيها تشبيه بليغ.
هذا؛ ويقال: إن الله تعالى وصف الجبال يوم القيامة بصفات مختلفة، ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها، وإبراز ما تواريه، فأول الصفات: الاندكاك، وذلك قبل الزلزلة. قال تعالى في سورة (الفجر):{كَلاّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا،} ثم تصير كالعهن المنفوش، وذلك إذا صارت السماء كالمهل، وقد جمع بينهما في سورة (المعارج) حيث قال تعالى:{يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ} . والحالة الثالثة أن تصير كالهباء، وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن. قال تعالى
في سورة (الواقعة): {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} . والحالة الرابعة أن تنسف؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة، فتنسفها عنها لتبرز. قال تعالى في سورة (طه):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً،} وقال في سورة (الكهف) رقم [48]: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً..} . إلخ.
والحالة الخامسة: أن الرياح ترفعها على وجه الأرض، فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار، فمن نظر إليها من بعد؛ حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة، وهي في الحقيقة مارّة؛ إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة، فقال تعالى في سورة (النمل) رقم [88]:{وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ} . والحالة السادسة أن تكون سرابا، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها، كالسراب. قال تعالى:{وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} وهذا كله إنما يقع بعد النفخة الأولى على المعتمد. وأخيرا: فالجبال مفرده: جبل، ويجمع على: أجبل أيضا.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {يَوْمَ:} اسم {إِنَّ} وهو مضاف، و {الْفَصْلِ:}
مضاف إليه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى {يَوْمَ الْفَصْلِ} .
{مِيقاتاً:} خبر {كانَ} . والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ} . والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {يَوْمَ:} بدل من: {يَوْمَ الْفَصْلِ،} وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلا من: {مِيقاتاً،} أو هو منصوب بفعل محذوف، تقديره: أعني. {يُنْفَخُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} الجار، والمجرور في محل رفع نائب فاعل {يُنْفَخُ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {فَتَأْتُونَ:} الفاء: حرف عطف. (تأتون): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {أَفْواجاً:} حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {وَفُتِحَتِ:} الواو: حرف عطف. (فتحت): فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {السَّماءُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. وقيل: الجملة في محل نصب حال، فتحتاج إلى تقدير:«قد» قبلها، والجمل الفعلية الثلاث بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق، وهو واضح إن شاء الله تعالى.
الشرح: {إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً} أي: معدة مترصدة، متفعّل من الرصد، وهو الترقب؛ أي: هي متطلعة لمن يأتي، ويلقى فيها، والمرصاد: مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار، والمغيار، والمهذار
…
إلخ، فكأنه يكثر من جهنم انتظارها للكفار، كما يترصد الإنسان، ويترقب عدوه؛ ليأخذه على حين غرة، والمرصاد: الطريق، وجهنم طريق، وممرّ إلى الجنة، فلا
سبيل إلى الجنة؛ حتى يقطع النار. وتوضيح هذا؛ وشرحه: أن الصراط يوضع على متن جهنم، ويمر عليه الأولون، والآخرون، والأنبياء، والمرسلون. وهذا فحوى قوله تعالى في سورة رقم [71](مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} . انظر شرحها هناك. وقال الحسن وقتادة: لا يدخل أحد الجنة؛ حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز؛ نجا، وإلا؛ احتبس.
وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أن على جسر جهنم (الصراط) سبع محابس، يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلاّ الله، فإن جاء بها تامة؛ جاز إلى الثاني، فيسأل عن الصلوات الخمس، فإن جاء بها تامة؛ جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة؛ فإن جاء بها تامة؛ جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحج، فإن جاء به تاما جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة؛ جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها، وإلا؛ يقال: انظروا، فإن كان له تطوع؛ أكملت به أعماله، فإذا فرغ؛ انطلق به إلى الجنة. انتهى خازن. هذا؛ وإكمال نقص الفرائض من التطوع جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذه بحروفه فيما يلي:
فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة، وأوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فيقول الله:
انظروا في صلاة عبدي، فإن كانت تامّة؛ كتبت تامّة، وإن كانت ناقصة؛ قال: انظروا؛ هل لعبدي من تطوّع؟ فإن وجد له تطوّع؛ تمّت الفريضة من التطوع، ثم يقول: انظروا هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامّة؛ كتبت تامة، وإن كانت ناقصة؛ قال: انظروا هل له صدقة؟ فإن كانت له صدقة؛ تمّت له زكاته؟». رواه أبو يعلى.
وأقول: ويمكن قياس الحج، والصوم على ما ذكر في الحديث من الصلاة، والزكاة. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
{لِلطّاغِينَ مَآباً:} مرجعا يرجعون إليها، ومنزلا، ومأوى يستقرون بها. وانظر «الطغيان» في سورة (النازعات). {لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} أي: مقيمين في جهنم ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع. فكلما مضى حقب؛ جاء حقب، والحقب بضمتين: الدهر، والأحقاب: الدهور.
والحقبة بالكسر: السنة، والجمع: حقب. قال متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك-وهو الشاهد رقم [384] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
وكنّا كندماني جذيمة حقبة
…
من الدّهر حتى قيل لن يتصدعا
فلمّا تفرقنا كأنّي ومالكا
…
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بضم القاف وسكونها: ثمانون سنة، وهو المعتمد. وقيل: أكثر من ذلك، أو أقل.
هذا؛ وكل سنة اثنا عشر شهرا، وكل شهر ثلاثون يوما، وكل يوم ألف سنة، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه-. قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: الأحقاب وإن طالت متناهية، وعذاب الكفار في جهنم غير متناه، فما معنى قوله:{أَحْقاباً؟} .
قلت: ذكروا فيه وجوها: أحدها: ما روي عن الحسن-رحمه الله تعالى-قال: الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب؛ دخل حقب آخر، ثم آخر إلى الأبد! فليس للأحقاب عدة إلا الخلود. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار: عدد حصى الدنيا؛ لفرحوا، ولو علم أهل الجنة: أنهم يلبثون في الجنة عدد الحصى؛ لحزنوا.
الوجه الثاني: أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية، والحقب الواحد متناه. والمعنى: أنهم يلبثون فيها أحقابا. {لا يَذُوقُونَ فِيها} أي: في تلك الأحقاب {بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً} فهذا توقيت؛ لأنواع العذاب؛ الذي يبدلونه، لا توقيت للبثهم فيها.
الوجه الثالث: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذاباً} يعني: أن العدد قد ارتفع، والخلود قد حصل. انتهى.
تنبيه: قال الإمام الرازي-رحمه الله تعالى-: قال قوم: إن عذاب الله للكافرين منقطع، وله نهاية، واستدلوا بقوله تعالى:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} وبأن معصية الظالم متناهية، فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم! والجواب: أن قوله تعالى: {أَحْقاباً} لا يقتضي أن له نهاية؛ لأن العرب يعبرون به، وبنحوه عن الدوام، ولا ظلم في ذلك؛ لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا، فعوقب دائما، ولم يعاقب بالدائم إلا على دائم، ولم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا. انتهى جمل في سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً:} {فِيها} في الأحقاب. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:
البرد: النوم. وبه قال أبو عبيدة، وغيره من أئمة اللغة، وبه قال صاحب المختار، وذكر الآية الكريمة مستدلا بها، وقال العرجي عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان-رضي الله عنه:[الطويل]
ولو شئت حرّمت النساء سواكم
…
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ: هو الماء العذب؛ الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم. وقاله مجاهد، والسدي، والكسائي، والفضل بن خالد، وأبو معاذ النحوي، وأنشدوا قول الكندي:[الكامل]
بردت مراشفها عليّ فصدّني
…
عنها وعن تقبيلها البرد
يعني: النوم، والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني: أذهب البرد النّوم، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم:
هل في الجنة نوم؟ فقال: «لا؛ النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها» . فكذلك النار لا موت
فيها، وإطلاق البرد على النوم لغة هذيل. {إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً:} الحميم: الماء الحار، وكثير ذكره في القرآن الكريم. والغساق: صديد يسيل من جلود أهل النار، ولم يذكر إلا في هذه السورة. وفي سورة (ص) رقم [57]. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الغساق: الزمهرير يحرقهم ببرده.
وقيل: الحميم: الحار الذي قد انتهى حره، والغساق ضده، وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لو أنّ دلوا من غسّاق يهراق في الدّنيا؛ لأنتن أهل الدّنيا» . أخرجه الإمام أحمد، ورواه الترمذي، وابن جرير أيضا. وقال مجاهد، ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده. وقال غيرهما: إنه يحرق ببرده، كما يحرق الحميم بحره. وقال عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه: هو قيح غليظ، لو وقع شيء منه بالمشرق؛ لأنتن من في المغرب، ولو وقع شيء منه بالمغرب؛ لأنتن من في المشرق.
وقال قتادة: هو ما يسيل من فروج الزناة، ومن نتن لحوم الكفرة، وجلودهم من الصديد، والقيح، والنتن. وقال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: هو عصارة أهل النار، وهذا القول أشبه.
يقال: غسق الجرح، يغسق غسقا: إذا خرج منه ماء أصفر. قال الشاعر: [البسيط]
إذا ما تذكّرت الحياة وطيبها
…
إليّ جرى دمع من اللّيل غاسق
{جَزاءً وِفاقاً} أي: جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقا لها، فالوفاق بمعنى الموافقة، كالقتال بمعنى المقاتلة. وقال الفراء أيضا: هو جمع الوفق، والوفق، واللّفق واحد.
وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. والله أعلم بمراده.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {جَهَنَّمَ:} اسمها. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمها ضمير يعود إلى {جَهَنَّمَ}. {مِرْصاداً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {لِلطّاغِينَ:} متعلقان ب: {مِرْصاداً،} أو بمحذوف صفة، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{مَآباً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. {مَآباً:} بدل من {مِرْصاداً،} لذا قيل: خبر ثان ل: {كانَتْ} .
{لابِثِينَ:} حال من الضمير المستتر في (الطاغين). {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب: {لابِثِينَ} .
{أَحْقاباً:} ظرف زمان متعلق به أيضا. {لا:} نافية. {يَذُوقُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بَرْداً:} مفعول به. {وَلا:}
(الواو): حرف عطف. (لا): نافية مؤكدة. {شَراباً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية فيها أوجه: أحدها: أنها مستأنفة. والثاني: أنها في محل نصب حال من الضمير في: {لابِثِينَ} أي:
لابثين غير ذائقين، فهي حال متداخلة. والثالث: أنها في محل نصب صفة ل: {أَحْقاباً} .
{إِلاّ:} أداة استثناء. {حَمِيماً:} مستثنى منقطع على تفسير البرد بالنوم. وقيل: هو متصل على تفسيره بالبرد الحقيقي، وهو قول أبي حيان، وجوز الكواشي الأمرين، وجوز اعتباره بدلا
من: {شَراباً،} وهو الأحسن؛ لأن الكلام تام منفي. (غساقا): معطوف عليه. {جَزاءً:} مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: جوزوا جزاء، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، وتحتاج إلى تقدير:«قد» قبلها. {وِفاقاً:} صفة: {جَزاءً} .
الشرح: {إِنَّهُمْ} أي: الطاغين الكافرين. {كانُوا لا يَرْجُونَ:} لا يخافون. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [13] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{حِساباً} أي: محاسبة لأعمالهم؛ أي: إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيخافون الحساب، والجزاء، والعقاب. {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّاباً} أي: بما جاءت به الأنبياء. وقيل: بما أنزلنا من الكتب. و {كِذّاباً} بمعنى: تكذيبا. و «فعّال» بمعنى «تفعيل» مطرد شائع في كلام الفصحاء، وهي قراءة العامة. قال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّبت به كذّابا، وخرقت القميص خرّاقا. وكل فعل في وزن: فعّل؛ فمصدره: «فعّال» مشدد في لغتهم. هذا؛ وقرأ علي-رضي الله عنه: «(كذابا)» بالتخفيف، وهو مصدر أيضا. وقال أبو علي الفارسي: التخفيف، والتشديد جميعا مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:[مجزوء الكامل]
فصدقتها وكذبتها
…
والمرء ينفعه كذابه
ومثله قول الآخر: [الطويل]
وإنّ مديح النّاس حقّ وباطل
…
ومدحك حقّ ليس فيه كذاب
وقال الزمخشري: هو مثل قوله تعالى في سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} وهذا يعني: أنه اسم مصدر، لا مصدر؛ لأنه نقص عن حروف فعله لفظا، وتقديرا بدون تعويض، مثل: سلام، وكلام، وعذاب. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً} أي: بيناه، وأثبتناه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ. وقيل: معناه: وكل شيء علمناه علما لا يزول، ولا يتغير، ولا يتبدل. والمعنى: أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير، وشر، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقا. قال تعالى في سورة (القمر):{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ،} وقال تعالى في سورة (الانفطار): {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ} .
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذاباً:} قال أبو برزة-رضي الله عنه-سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن، فقال: قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ..} . إلخ؛ أي: {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها} رقم [56] من سورة (النساء)، وقوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [97]:{مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ}
{كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} . هذا؛ وزاد، يزيد ضد: نقص، ينقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين، كما في الآية الكريمة، وقولك: زاد الله خالدا خيرا، بمعنى: جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والبر مدا؛ فدرهما ومدا تمييز. ومثله قل في: نقص، فمن المتعدي لمفعولين قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} .
هذا؛ والذوق يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس فذقه؛ أي: اختبره، وانظر فلانا؛ فذق ما عنده. قال الشماخ يصف قوسا:[الطويل]
فذاق فأعطته من اللّين جانبا
…
كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز
وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعوما؛ لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم. قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]
فذق هجرها إن كنت تزعم أنّها
…
فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم
وتقول: ذقت ما عند فلان؛ أي: خبرته، وذقت القوس: إذا جذبت وترها؛ لتنظر ما شدتها؟ وأذاقه الله وبال أمره؛ أي: عقوبة كفره، ومعاصيه. قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل]
فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر
…
من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب
وتذوقته؛ أي: ذقته شيئا، فشيئا، وأمر مستذاق؛ أي: مجرب معلوم. قال الشاعر: [الوافر]
وعهد الغانيات كعهد قين
…
ونت عند الجعائل مستذاق
وأصله: الذوق في الفم، و {فَذُوقُوا} في كثير من الآيات للإهانة. وفيه استعارة تبعية تخييلية. وذكر العذاب في كثير من الآيات استعارة مكنية؛ حيث شبه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذوق تخييلا.
الإعراب: {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {لا:} نافية. {يَرْجُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {حِساباً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للعذاب المذكور. {وَكَذَّبُوا:} الواو: حرف عطف. (كذبوا): فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {بِآياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة.
{كِذّاباً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
{وَكُلَّ:} الواو: حرف عطف. (كل): مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، وهو ما يسمى بالنصب على الاشتغال، والآية مثل قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [12]:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً} {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . هذا؛ وقرئ برفع (كل) على أنه مبتدأ، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {أَحْصَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة مفسرة
للجملة المحذوفة على نصب (كل)، وفي محل رفع خبره على رفعه، وعلى الاعتبارين فالجملة معترضة بين السبب، ومسببه، فإن قوله:{فَذُوقُوا..} . إلخ مسبب عن تكذيبهم. {كِتاباً:} فيه أوجه: أحدها: أنه مفعول مطلق عامله: {أَحْصَيْناهُ؛} لأنه من معناه؛ إذ التقدير: أحصيناه إحصاء. والثاني: أنه مفعول مطلق ل: (أحصينا)؛ لأنه في معنى كتبنا كتابا، فالتجوز في نفس الفعل. قال الزمخشري: لالتقاء الإحصاء والكتب في معنى الضبط، والتحصيل. الثالث: أنه منصوب على الحال؛ لأنه بمعنى: مكتوبا في اللوح، وفي صحف الحفظة. انتهى جمل نقلا عن السمين. هذا؛ وأرى جواز اعتباره في محل نصب بنزع الخافض، التقدير: أحصيناه في كتاب، ولعلك تدرك معي: أن هذا أولى بالاعتبار.
{فَذُوقُوا:} الفاء: حرف عطف على رأي: من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها هنا الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، كما ستراه في التقدير. (ذوقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف للتعميم، والاختصار، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم؛ إذ التقدير، وإذا كان ذلك حاصلا منهم، وواقعا فيقال لهم: ذوقوا؛ مع ملاحظة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. والشرط المقدر، ومدخوله كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {فَلَنْ:}
الفاء: حرف تعليل. (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نَزِيدَكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: (لن)، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» ، والكاف مفعوله الأول. {إِلاّ:} حرف حصر.
{عَذاباً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية تعليل للأمر، لا محل لها.
الشرح: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً:} فوزا، وظفرا بالبغية، والمراد. وقيل: موضع فوز، ونجاة، وخلاص مما فيه أهل النار، ولذلك قيل للفلاة؛ إذا قل ماؤها: مفازة تفاؤلا بالخلاص منها، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعا؛ لأنهم فازوا بمعنى: نجوا من العذاب، وفازوا بما حصل لهم من النعيم. {حَدائِقَ} أي: بساتين، فيها جميع أنواع الشجر المثمر، جمع: حديقة.
{وَأَعْناباً:} جمع: عنب، والمراد: الكروم؛ التي فيها العنب. {وَكَواعِبَ:} جمع: كاعب، وهي الأنثى التي استدار ثديها مع ارتفاع يسير، فصار كالكعب، وهو يكون في سن البلوغ، وكل شيء مرتفع مدور، أو مربع، يقال له: كعب، وسميت الكعبة في المسجد الحرام كعبة؛ لارتفاعها مع التربيع. والعرب تسمي كل بيت مرتفع: كعبة، والأولى أن تقول: سميت لارتفاع قدرها، وسمو مكانتها. هذا؛ و {وَكَواعِبَ} لم يذكر في غير هذه السورة. هذا؛ ولم يذكر أحد من المفسرين نوع
هذه الكواعب: أهي من نساء الدنيا؟ أم هي من الحور العين؟ سوى ما نقله القرطبي عن الضحاك قوله: كواعب العذارى، ثم قال: ومنه قول قيس بن عاصم المنقري: [الطويل]
وكم من حصان قد حوينا كريمة
…
ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر؟
أقول: والله أعلم: أنهن من الحور العين؛ اللاتي يخلقهن الله في الجنة بدليل قوله تعالى في سورة (الواقعة): {إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً} ومعنى {أَتْراباً} متساويات في السن، والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة، واشتقاقه من التراب، فإنه يمسهن في وقت واحد.
وقيل: متآخيات، لا يتباغضن، ولا يتغايرن، ولا يتحاسدن، ومثلهن أزواجهن في السن؛ لأن التحاب بين الأقران أثبت، وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الصبا، وانحطت عن الكبر.
هذا؛ ويقال في النساء: أتراب، وفي الرجال: أقران. هذا؛ وأتراب جمع: ترب بكسر التاء، وسكون الراء، كحمل، وأحمال، وهو المساوي لك في العمر. قال الشاعر-وهو الشاهد رقم [139] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [البسيط]
لولا توقّع معترّ فأرضيه
…
ما كنت أوثر أترابا على ترب
{وَكَأْساً دِهاقاً:} قال الحسن، وقتادة، وابن زيد، وابن عباس-رضي الله عنهم: مترعة، مملوءة، يقال: أدهقت الكأس؛ أي: ملأتها، وكأس دهاق؛ أي: ممتلئة. قال خداش بن زهير: [الوافر]
أتانا عامر يبغي قرانا
…
فأترعنا له كأسا دهاقا
وقال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وابن عباس أيضا: متتابعة، يتبع بعضها بعضا.
ومنه: ادّهقت الحجارة ادّهاقا، وهو شدة تلازبها، ودخول بعضها في بعض، فالمتتابع، كالمتداخل، وعن عكرمة أيضا، وزيد بن أسلم: صافية. قال الشاعر: [الوافر]
لأنت إلى الفؤاد أحبّ قربا
…
من الصّادي إلى كأس دهاق
هذا؛ والمراد بالكأس: الخمرة الموجودة فيها، انظر الآية رقم [5] من سورة الدهر، ولم يذكر دهاق في غير هذه السورة. {لا يَسْمَعُونَ فِيها} أي: في الجنة. {لَغْواً:} اللغو: الباطل، وهو ما يلغى من الكلام، ويطرح. وقيل: هو القبيح من القول، والمعنى: ليس فيها لغو، فيسمع.
{وَلا كِذّاباً:} لا يكذّب بعضهم بعضا، ولا يسمعون كذبا. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الواقعة):{لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً} .
{جَزاءً:} مجازاة، ومكافأة للمتقين. {مِنْ رَبِّكَ عَطاءً:} تكرما، وتفضلا من ربك بمقتضى وعده، ولكن لا يجب عليه شيء. وتوضيح هذا: أن ذلك تفضل، وعطاء في نفس الأمر، وجزاء مبني على الاستحقاق من حيث إنه تعالى وعده لأهل الطاعة. {حِساباً:} كافيا، وفي القاموس:
وحسبك درهم: كفاك، وشيء حساب: كاف، ومنه:{عَطاءً حِساباً،} وأحسبه: أرضاه. وقال قتادة: حسابا؛ أي: كثيرا، يقال: أحسبت فلانا؛ أي: كثّرت له العطاء؛ حتى قال: حسبي.
وقالت امرأة من قشير: [الطويل]
ونقفي وليد الحيّ إن كان جائعا
…
ونحسبه إن كان ليس بجائع
المعنى: نقفي وليد الحي؛ أي: نؤثره بالقفية، وهي ما يؤثر به الضيف، والصبي. هذا؛ ومن الأول قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [64]:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: كافيك الله، ومثلها في (آل عمران) رقم [173]، وفي سورة (المائدة) رقم [104] وغير ذلك كثير. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
تنبيه: بعد أن ذكر الله حال الكفار في الآيات السابقة، وما أعد لهم من العقاب الشديد، والعذاب الأليم، ذكر حال المؤمنين في هذه الآيات، وما أعد لهم من النعيم المقيم في جنات النعيم، وذلك من باب المقابلة، وتلك سنة اقتضتها حكمة العليم الخبير، ورحمته في كتابه حيث لم يذكر التكذيب من الكافرين، والمنافقين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين. ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا، راهبا، خائفا، راجيا.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {لِلْمُتَّقِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {مَفازاً:} اسمها المؤخر. {حَدائِقَ:} بدل من: {مَفازاً} أو عطف بيان عليه.
{وَأَعْناباً:} معطوف عليه. {وَكَواعِبَ:} معطوف عليه أيضا. {أَتْراباً:} صفة (كواعب). {وَكَأْساً دِهاقاً:}
معطوفان على ما قبلهما، وهما: موصوف، وصفته. {لا:} نافية. {يَسْمَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَغْواً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية مؤكدة للنفي قبلها. {كِذّاباً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في خبر {إِنَّ} المحذوف المقدر. وقيل: حال من (المتقين). والأول أقوى. {جَزاءً:} مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: جوزوا جزاء، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، وهي تحتاج إلى تقدير «قد» قبلها. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان ب: {جَزاءً،} والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَطاءً:} بدل من {جَزاءً} بدل كل من كل. {حِساباً:} صفة {عَطاءً} .
{رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)}
الشرح: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} مالكهما، ومدبّر شؤونهما، ومبدعهما على غير مثال سبق، ومتصرف فيهما تصرف الملاك، فإن وجودهما، وانتظامهما على هذا النمط البديع الصنع
من أوضح الأدلة على وجود الله، وواحدانيته، واستقلاله بملكهما، وتصرفهما. هذا؛ ولم يقل بينهن، مع أن السموات سبع، والأرضين سبع؛ لأنه أراد ما بين الصنفين، أو النوعين، أو الشيئين، كقول القطامي:[الوافر]
ألم يحزنك أنّ حبال قيس
…
وتغلب قد تباينتا انقطاعا
أراد: وحبال تغلب، فثنى، والحبال جمع، فثناهما؛ لأنه أراد الشيئين، أو النوعين، أو ثناهما على تأويلهما بالجماعة. قال الشاعر يذم عاملا على الصدقات:[البسيط]
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
…
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟
لأصبح النّاس أوبادا ولم يجدوا
…
عند التّفرّق في الهيجا جمالين
فقد ثنى جمالا؛ الذي هو جمع جمل. والعقال: صدقة عام، والسّبد: المال القليل.
واللبد: المال الكثير. وأوبادا: هلكى، جمع: وبد، فهو يقول: صار عمرو عاملا على الصدقات في سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموال الناس بغير حق؛ حتى لم يبق لنا إلا شيء قليل من المال، فكيف تكون حالنا، أو كيف يبقى لأحد شيء لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟! ثم أقسم فقال: والله لو صار عمرو عاملا سنتين؛ لصارت القبيلة هلكى! فلا يكون لهم عند التفرق في الحرب جمالان، فيختل أمر الغزوات.
{لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} أي: لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه. وقيل: الخطاب:
الكلام؛ أي: لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه، دليله قوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ} وقيل: أراد الكفار {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} أي: شفاعة، فأما المؤمنون فيشفعون، ولكن لا يكون هذا إلا بعد أن يؤذن لهم، تحقيقا لقوله تعالى في آية الكرسي رقم [254] من سورة (البقرة):{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ،} وقوله تعالى في سورة (طه) رقم {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} .
الإعراب: {رَبِّ:} بدل من {رَبِّكَ،} وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله، وفاعله مستتر فيه:{وَالْأَرْضِ:} الواو: حرف عطف. {وَالْأَرْضِ:}
معطوف على ما قبله. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} . {بَيْنَهُمَا:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية. {الرَّحْمنِ:} بدل من (رب) الأول، أو من الثاني. {لا:} نافية، {يَمْلِكُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من المضاف المحذوف؛ إذ التقدير: أهل السموات، والأرض. والرابط:
الضمير فقط. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وأجيز اعتبار (من) بمعنى اللام، فتتعلق ب:{خِطاباً} بعدهما، فيكون التقدير: لا يملكون خطابا له. {خِطاباً:} مفعول به، وهذا الإعراب إنما هو على قراءة حفص، وخذ ما يلي:
فقد قرئ برفع: «(ربّ)» و (الرحمن) وفي إعرابهما وجهان: الوجه الأول: اعتبار (ربّ) مبتدأ، و (الرحمن) خبرا له، والوجه الثاني: اعتبار: (ربّ) خبرا لمبتدأ محذوف، و «(الرحمن)» بدلا منه. كما قرئ بجر:(رب) وإعرابه كما ذكرت، ورفع «(الرحمن)» وفي إعرابه وجهان: الوجه الأول اعتباره مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، والرابط الضمير المجرور ب:(من)، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. والوجه الثاني: اعتبار (الرحمن) خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الرحمن، والجملة الاسمية مستأنفة. والجملة الفعلية تحتمل وجهين: الاستئناف، والحالية من (الرحمن). كما قرئ برفع:«(ربّ)» على اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف، وخفض:
(الرحمن) على اعتباره بدلا، أو نعتا ل:{رَبِّكَ} وعليه تكون الجملة الاسمية معترضة بين البدل، والمبدل منه، أو بين النعت، ومنعوته.
الشرح: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا:} المراد باليوم يوم القيامة بلا شك، واختلف في الروح على أقوال كثيرة. قيل: هو جبريل عليه السلام. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:
الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا، فيكون من عظم خلقه مثلهم. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: الروح ملك عظيم أعظم من السموات، والأرض، والجبال، وهو في السماء الرابعة، يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا وحده. وقيل: الروح خلق على صورة بني آدم، وليسوا بناس، يقومون صفا، والملائكة صفا، هؤلاء جند وهؤلاء جند. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الروح خلق على صورة بني آدم، وما ينزل من السماء ملك، إلا ومعه واحد منهم. وعنه: أنهم بنو آدم، يقومون صفا، والملائكة صفا. وقيل: سماطان. سماط من الروح، وسماط من الملائكة. انتهى. خازن. وفي القرطبي أطول منه، وفي الكشاف أخصر منه.
والأظهر: أن المراد بالروح هنا: جبريل، عليه الصلاة والسلام، كما قال سعيد بن جبير، والضحاك، ويؤيده قوله تعالى في سورة (الشعراء):{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وانظر مثله في سورة (القدر)، وعلى هذا؛ فالروح من جملة الملائكة، فيكون قد ذكر
مرتين: مرة استقلالا، ومرة مع الملائكة، تنبيها على جلالة قدره، ومكانته عند ربه، مع ملاحظة ذكره هنا قبل الملائكة، وفي سورة (القدر) بعد الملائكة، فالأول هو من ذكر الخاص قبل العام، وفي سورة (القدر) من ذكر الخاص بعد العام، وانظر ما ذكرته في سورة (المعارج) رقم [4] ففيها كبير فائدة.
{لا يَتَكَلَّمُونَ} يعني: الخلق كلهم إجلالا لعظمة الله تعالى جل جلاله، وتبارك شأنه وعطاؤه، {إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} أي: في الكلام. وقيل: في الشفاعة؛ أي: تحقيقا لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الآية رقم [28] من سورة (الأنبياء)، وكما ثبت في الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ولا يتكلّم يومئذ إلا الرسل» . قال البيضاوي: -رحمه الله تعالى-: هذه الآية تقرير، وتوكيد لقوله في الآية السابقة {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً} فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق، وأقربهم من الله تعالى، إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صوابا كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه؛ فكيف يملكه غيرهم؟! {إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} أي: في الكلام، أو في الشفاعة. {وَقالَ صَواباً} أي: حقا، ومن القول الصواب، والحق قول:
(لا إله إلا الله) إن عمل بمقتضاها، كما ذكرته مرارا، وتكرارا. هذا؛ وقيل: الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة، فيكون المعنى: لا يشفعون إلا في شخص أذن الرحمن في الشفاعة له، وذلك الشخص ممن كان يقول صوابا في الدنيا، وهو (لا إله إلاّ الله) مع الإخلاص بها، وإخلاصها:
أن تحجزه عن محارم الله تعالى، كما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة» . قيل: وما إخلاصها؟ قال: «أن تحجزه عن محارم الله» . وفي رواية: «أن تحجزه عمّا حرم الله عليه» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه. هذا؛ وأصل الصواب: السداد في القول، والفعل، وهو من: أصاب، يصيب إصابة، كالجواب من: أجاب، يجيب إجابة.
الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {لا يَمْلِكُونَ،} وأجاز الزمخشري تعليقه ب: {لا يَتَكَلَّمُونَ،} وأجاز أبو البقاء تعليقه ب: {خِطاباً،} والمعتمد الأول. وجملة: {يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ} في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {صَفًّا:} حال من: {الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ،} وجاز ذلك؛ لأنه مصدر يؤول ب: مصطفّين. {لا:} نافية. {يَتَكَلَّمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ،} فهي حال متعددة، أو من الضمير المستتر ب: مصطفّين، فتكون حالا متداخلة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
{إِلاّ:} أداة استثناء، أو أداة حصر. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من واو الجماعة، أو في محل رفع بدلا من الواو. وهو أقوى؛ لأن الكلام تام منفي. وهو اختيار ابن مالك في ألفيته. وجملة:{أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ} صلة الموصول، لا محل لها،
والعائد الضمير المجرور محلا باللام. {وَقالَ:} الواو: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {صَواباً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: وقال قولا صوابا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)}
الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى اليوم الذي يقوم فيه الروح والملائكة صفّا. {الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي: الكائن الواقع لا محالة، ولا شك، ولا ريب فيه. {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً} أي: فمن شاء أن يسلك إلى ربه مرجعا كريما بالإيمان، والعمل الصالح؛ فليفعل، وهو حثّ، وترغيب في العمل الصالح، والتزوّد من هذه الدنيا الفانية. وفي سورة (الدهر) رقم [29]، وفي سورة (المزمل) رقم [19]:{فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
هذا؛ والحق ضد الباطل. قال الراغب: أصل الحق: المطابقة، والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقّه لدورانه على الاستقامة. والحق يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحق. وللموجود بحسب مقتضى الحكمة، ولذلك يقال: فعل الله كله حق، نحو: الموت حق، والحساب حق
…
إلخ. وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، نحو: اعتقاد زيد في الجنة حق. وللفعل، والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب، في الوقت الذي يجب، نحو: قولك حق، وفعلك حق. ويقال: أحققت ذا؛ أي: أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقا. انتهى بغدادي.
هذا؛ والرب يطلق، ويراد به المالك، والسيد، ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ،} وقوله أيضا: {أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً..} . إلخ. وقال الأعشى: [الكامل]
ربّي كريم لا يكدّر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة؛ أي: مالكهما، ومتولي شؤونهما. كما يراد به المربي، والمصلح، يقال: ربّ فلان الضيعة يربّها: إذا أصلحها، والله سبحانه وتعالى مالك العالمين، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا، فشيئا بجعل النطفة علقة، ثم بجعل العلقة مضغة، ثم بجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا آخر؛ وهو صغير ضعيف. فلا يزال ينميه، وينشيه؛ حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين. هذا؛ ولا يطلق لفظ الرب على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: رب الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك، والمراد: المعبود بحق. وهو المراد منه تعالى عند الإطلاق، ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل. قال تعالى حكاية عن قول
يوسف-عليه السلام-لصاحبي السجن: {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} كما يجمع؛ إذا كان بأحد المعاني السابقة. قال الشاعر: [الطويل]
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم
…
وللآكلين التّمر مخمس مخمسا
وهو اسم فاعل بجميع معانيه السابقة، أصله: رابب، ثم خفف بحذف الألف، وإدخال أحد المثلين في الآخر.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للعبد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {الْيَوْمُ:} خبره. {الْحَقُّ:} صفته، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَمَنْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق اليوم المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه؛ الذي ذكر شأنه العظيم؛ فعل ذلك بالإيمان، والطاعة. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {شاءَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى من، والمفعول محذوف، التقدير: فمن شاء النجاة. {اِتَّخَذَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {إِلى رَبِّهِ:} متعلقان ب: {مَآباً} بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وإن علقت الجار، والمجرور بمحذوف حال من {مَآباً} فلست مفندا.
{مَآباً:} مفعول به، وجملة:{اِتَّخَذَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا، والمرجح: أنه جملة الشرط، والجواب، وهذه الجملة مذكورة في سورة (المزمل) برقم [19].
والجملة الشرطية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم يقدر ب: «إذا» ، والكلام كله معطوف على الجملة الاسمية قبله، لا محل له مثلها.
الشرح: {إِنّا أَنْذَرْناكُمْ:} الخطاب لكفار قريش، ويعم جميع بني آدم، والمعنى:
حذرناكم، وخوفناكم، ونحذركم، ونخوفكم. {عَذاباً قَرِيباً} يعني: عذاب الآخرة قريب لتحققه، وكل ما هو آت قريب، وأوله نزول الموت؛ لأن من مات؛ فقد قامت قيامته، فإن كان من أهل الجنة؛ نزلت عليه ملائكة الرحمة، تزف له البشرى بالجنة، والرضا، والرضوان، وإن كان من أهل النار؛ نزلت عليه ملائكة العذاب، تبشره بالنار، وغضب العزيز الجبار. {يَوْمَ يَنْظُرُ}
{الْمَرْءُ:} كل امرئ مسلما كان، أو كافرا، ذكرا كان، أو أنثى. وهذا العموم يؤخذ من أل الاستغراقية، والمعنى: يرى كل ما قدمه مثبتا في صحيفته خيرا كان، أو شرا. {ما قَدَّمَتْ يَداهُ:}
من الشر، لقوله تعالى:{ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} سورة (آل عمران) ومثلها في (الأنفال) رقم [51]، وأيضا في (الحج) رقم [10] وتخصيص الأيدي بالذكر؛ لأن أكثر الأعمال تقع بها، وإن احتمل ألاّ يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام، كالعين، والأذن، والرجل، وغير ذلك من الجوارح الباطنة، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
ويقول الكافر: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً:} قال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما:
إذا كان يوم القيامة؛ مدت الأرض مدّ الأديم، وحشر الدواب، والبهائم، والوحوش، ثم يجعل القصاص بين البهائم، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها. قيل لها: كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر:{يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} . وقيل: يقول الله عز وجل للبهائم بعد القصاص: إنا خلقناكم، وسخرناكم لبني آدم، وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم، فارجعوا إلى ما كنتم عليه، كونوا ترابا، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى. وقال: يا ليتني كنت في الدنيا في صورة بعض هذه البهائم، وكنت اليوم ترابا! وقيل: إذا قضى الله بين الناس، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وقيل لسائر المخلوقات سوى الناس، والجن: عودوا ترابا، فيعودون ترابا، فحينئذ يقول الكافر:{يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} .
هذا؛ وقد بينت لك في سورة (الأحقاف) رقم [29] وما بعدها، وفي أول سورة (الجن) أن الجن مكلفون بالتكاليف الشرعية، ويثابون، ويعاقبون، فالمؤمن يدخل الجنة، والكافر يدخل النار، كبني آدم، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ وأصل كنت: كونت، فقل في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:(كانت) فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار:
(كنت) بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار: كنت. وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل: كون، فلما اتصل بضمير رفع متحرك نقل إلى باب فعل، فصار:(كونت) ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار:(كونت) فالتقى ساكنان:
العين المعتلة ولام الفعل، فحذفت العين، وهي الواو لالتقاء الساكنين، فصار (كنت) وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي مسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قام، وقال، ونحوهما.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْذَرْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول أول. {عَذاباً:} مفعول به ثان. {قَرِيباً:} صفة عذابا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {عَذاباً} . وقال أبو البقاء: صفة ل: (قريب)، ولا وجه له، ولو
قال: متعلق به؛ لكان أحسن. {يَنْظُرُ الْمَرْءُ:} مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به.
{قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {يَداهُ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذي قدمته يداه. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) استفهامية في محل نصب مفعول به مقدم، التقدير: أيّ شيء قدمت يداه، وعليه فالجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ل:{يَنْظُرُ،} ويكون قد علق ب: (ما) عن العمل لفظا، لا محلا.
{وَيَقُولُ:} الواو: حرف عطف. (يقول): مضارع. {الْكافِرُ:} فاعله. (يا): حرف تنبيه.
وقيل: أداة نداء، والمنادى محذوف، وهو ضعيف. (ليتني): حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها. {كُنْتُ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمها.
{تُراباً:} خبر (كان)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (ليت)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {يَنْظُرُ..} . إلخ فهي في محل جر مثلها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
انتهت سورة (النبأ) بعون الله وتوفيقه، شرحا وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.