المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الانشقاق بسم الله الرحمن الرحيم سورة (الانشقاق) مكية في قول الجميع، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: ‌ ‌سورة الانشقاق بسم الله الرحمن الرحيم سورة (الانشقاق) مكية في قول الجميع،

‌سورة الانشقاق

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة (الانشقاق) مكية في قول الجميع، وهي خمس وعشرون آية، ومئة وسبع كلمات، وأربعمئة وثلاثون حرفا. انتهى. خازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِذَا السَّماءُ اِنْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)}

الشرح: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ:} تصدعت وتشققت، وهو مثل قوله تعالى في سورة (الانفطار):

{إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ} قال علي-رضي الله عنه وكرم الله وجهه-: تتشقق من المجرة. والمجرة (بوزن المضرة) باب السماء. وأهل الهيئة يقولون: إنها نجوم صغار مختلطة غير متميزة في الحسن. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} أي: سمعت، وحق لها أن تسمع، وخضعت، وذلت، وحق لها أن تخضع، وتذل، فلم تأب، ولم تمتنع. ومن الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن» . أي: ما استمع الله لشيء. قال قعنب ابن أم صاحب-وهو الشاهد رقم [1176] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا

جهلا علينا وجبنا من عدوّهم

فبئست الخلّتان الجهل والجبن

إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحا

عنّي وما يسمعوا من صالح دفنوا

وذكر القرطبي البيت الأول، ولم يعزه لأحد، وذكر البيت الثالث، وعزاه إلى قعنب أيضا، مع تغيير فيه كما يلي:[البسيط]

إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا

وما هم أذنوا من صالح دفنوا

ومن المعنى الثاني، وهو: خضعت، وذلت، وحقّ لها أن تفعل ذلك: قول كثير عزة: [الطويل]

فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا

وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت

ص: 508

{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أي: بسطت، ودكت جبالها. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تمدّ مدّ الأديم» . أي:

الجلد؛ لأن الأديم إذا مد؛ زال كل انثناء فيه، وامتد، واستوى. وقال ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما: ويزداد في سعتها كذا، وكذا، لوقوف الخلائق عليها للحساب؛ حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدمه لكثرة الخلائق فيها، وقد رأيت في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام أن الأرض تبدل بأرض أخرى.

{وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} أي: أخرجت ما فيها من الأموات، وتخلّت عنهم، وكذلك تخرج ما في بطنها من كنوزها، ومعادنها؛ أي: خلا جوفها، فليس يبقى في جوفها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر، كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدة. هذا؛ ووصافات الأرض بالإلقاء، والتخلية توسعا، وإلا فالتحقيق: أن المخرج لتلك الأشياء هو الله تعالى. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ:}

ليس هذا تكرارا؛ لأن الأول في السماء، وهذا في الأرض. وأخيرا لا تنس قوله تعالى في سورة (الزلزلة):{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها} .

تنبيه: في قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} استعارة مكنية، فقد شبهت حال السماء في انقيادها لتأثير قدرة الله تعالى بانقياد المستمع المطواع للأمر. وكذلك في قوله تعالى:{وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} استعارة مكنية أيضا، فقد شبهت حال الأرض بحال المرأة الحامل، تلقي ما فيها عند الشدة والهول، ثم حذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإلقاء.

الإعراب: {إِذَا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {السَّماءُ:} فاعل بفعل محذوف يفسره المذكور بعده، وهذا عند البصريين، وعند الكوفيين فيه ثلاثة أوجه: الأول: وافقوا فيه البصريين. والثاني: اعتبار {السَّماءُ} فاعلا مقدما، والثالث: اعتبار {السَّماءُ} مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، انظر الشاهد رقم [990] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، فإنه جيد، والحمد لله. {اِنْشَقَّتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {السَّماءُ} والجملة الفعلية مفسرة، لا محل لها عند البصريين، وهو المعتمد في هذه المسألة، والفعل المحذوف، وفاعله جملة فعلية في محل جر بإضافة:{إِذَا} إليها على المشهور المرجوح. {وَأَذِنَتْ:} الواو: حرف عطف. (أذنت): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {السَّماءُ،} والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {اِنْشَقَّتْ} لا محل لها مثلها. {لِرَبِّها:} متعلقان بما قبلهما، وها في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَحُقَّتْ:} الواو: حرف عطف. (حقت): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {السَّماءُ،} والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها أيضا، والكلام الآتي كله معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق.

هذا؛ واختلف في جواب {إِذَا،} فقال الفراء: (أذنت) والواو زائدة، وكذلك:(ألقت) وقال الكسائي: الجواب: {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ..} . إلخ، وقيل: الجواب محذوف، تقديره: يقال:

ص: 509

يا أيها الإنسان. وقيل: التقدير: بعثتم. أو جوزيتم. وقيل: {إِذَا} مبتدأ، و (إذا الأرض

) إلخ خبره، والواو زائدة. حكي عن الأخفش. وقيل: إنها لا جواب لها، والتقدير: اذكر إذا، ولا أعتمد قولا مما تقدم، وإنما الجواب محذوف، تقديره: علمت نفس ما قدمت، وأخرت.

مثل سورة (التكوير) و (الانفطار).

{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ:} المراد بالإنسان الجنس، فهو للاستغراق؛ أي: يا بن آدم. {إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً} أي: عامل لربك عملا، فأنت تلاقيه، وتجده يوم القيامة مسجلا في صحيفة أعمالك. وقيل: الضمير يعود إلى {رَبِّكَ} والأولى عوده إلى {كَدْحاً؛} لأنه أقرب مذكور، وهو يشمل عمل الخير، وعمل الشر. هذا؛ والكدح في كلام العرب: العمل، والكسب. قال ابن مقبل:[الطويل]

وما الدّهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

التقدير: فمنهما تارة أموت، وتارة أخرى

وقال آخر: [الكامل]

ومضت بشاشة كلّ عيش صالح

وبقيت أكدح للحياة وأنصب

هذا؛ وفي المختار: الكدح: العمل، والسعي، والكد، والكسب. وهو أيضا الخدش، وباب الكل: قطع. وبوجهه كدوح؛ أي: خدوش، وهو يكدح لعياله، ويكتدح؛ أي: يكتسب.

الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو أنادي. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، وها: حرف تنبيه، لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {الْإِنْسانُ:} بعضهم يعرب هذا اللفظ، وأمثاله بدلا، وبعضهم يعربه نعتا، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد «أي» ، وبعد اسم الإشارة، إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا-كما هنا-فهو بدل، أو عطف بيان. والمتبوع-أعني: أي-منصوب محلا، وكذا التابع -أعني: الإنسان، وأمثاله-فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية، وإنما أتبعت ضمة البناء مع أنها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمة بناء، لكنها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده الصبان؛ لأنه قال:

والمتجه وفاقا لبعضهم: أن ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إن رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرفع، وأجيب بأن العامل يقدر من لفظ عامل المتبوع مبنيا للمجهول نحو يدعى، وهو مع ما فيه من التكلف يؤدي إلى قطع المتبوع. وقيل: إن

ص: 510

رفع التابع المذكور بناء؛ لأن المنادى في الحقيقة هو المحلّى بأل، ولكن لما لم يمكن إدخال حرف النداء عليه؛ توصلوا إلى ندائه ب:(أي): مع قرنها بحرف التنبيه. ورده بعضهم بأن المراعى في الإعراب اللفظ، وأن الأول منادى، والثاني تابع له. والإعراب السائد أن تقول:

مرفوع تبعا للفظه. انتهى. جرجاوي.

هذا؛ والأخفش يعتبر (أيّ) في مثل هذه الآية موصولة، و (النّاس) خبرا لمبتدأ محذوف، والجملة الاسمية صلة، وعائد، التقدير: يا من هو الإنسان، على أنه قد حذف العائد حذفا لازما كما في قول امرئ القيس في معلقته رقم [13]:[الطويل]

ألا ربّ يوم صالح لك منهما

ولا سيّما يوم بدارة جلجل

وهذا هو الشاهد رقم [242] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» وما قاله الأخفش لا يعتد به عند جمهرة النحاة. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {كادِحٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {إِلى رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كادِحٌ؛} لأنه اسم فاعل، لذا ففيه ضمير مستتر هو فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كَدْحاً:} مفعول مطلق. {فَمُلاقِيهِ:} الفاء:

حرف عطف. (ملاقيه): معطوف على {كادِحٌ} عطف مفرد على مفرد، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فأنت ملاقيه، فيكون العطف عطف جملة على جملة سابقة مثلها. ورأيت فيما سبق من يقول: الجملة جواب (إذا) وهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)}

الشرح: {فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ:} هذا تفصيل لأحوال الناس يوم القيامة. وإعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة من العذاب، والفوز بالجنة. {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً:}

«سوف» من الله تفيد التوكيد، والتحقيق، لا التسويف، والإهمال، والنسيان. والحساب اليسير:

هو أن تعرض عليه أعماله، فيعرف بالطاعة، والمعصية، ثم يثاب على الطاعة، ويتجاوز له عن المعصية، يقول الله له: يا عبدي! سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك الآن! فهذا هو الحساب اليسير؛ لأنه لا شدة فيه، ولا مناقشة، ولا يقال له: لم فعلت هذا؛ ولا يطالب بالعذر فيه، ولا الحجة عليه؟ فإنه متى طولب بذلك؛ لم يجد عذرا، ولا حجة، فيفتضح. {وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً:} يرجع إلى أزواجه في الجنة من الحور العين، والآدميات فرحا، مغتبطا، قرير العين، مطمئن الفؤاد بما أوتي من الخير، والكرامة.

ص: 511

فعن ابن أبي مليكة: أن عائشة-رضي الله عنها-كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه؛ حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من حوسب عذّب» . قالت، فقلت: يا رسول الله أوليس يقول الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} قالت: فقال: «فإنّما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذّب» . متفق عليه. فجملة القول: إن العرض مخاطبة السرار: فعلت يا عبدي كذا، وكذا، وكذا؛ تعرف ذلك؟ فيقول: نعم يا رب! فيقول الله له: قد غفرتها لك! وهذا لمن رضي الله عنه، ورجحت حسناته على سيئاته.

الإعراب: {فَأَمّا:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (أما): أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد، أما كونها أداة شرط؛ فلأنها قائمة مقام أداة الشرط، وفعله بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل:

مهما يك من شيء؛ فمن أوتي كتابه بيمينه

إلخ، فأنيبت (أمّا) مناب «مهما ويك من شيء» ، فصار: أما من

إلخ، وأما كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله، ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. وأما كونها أداة توكيد؛ فلأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنه واقع لا محالة؛ لكونها علقته على أمر متيقن.

{مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ،} وهو العائد، وهو المفعول الأول.

{كِتابَهُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِيَمِينِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{فَسَوْفَ:} الفاء: واقعة في جواب (أمّا). (سوف): حرف استقبال، وهو يفيد التوكيد هنا، كما رأيت في الشرح. {يُحاسَبُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل تقديره:«هو» يعود إلى (من) أيضا. {حِساباً:} مفعول مطلق. {يَسِيراً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو (من)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَيَنْقَلِبُ:} الواو: حرف عطف. (ينقلب): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {إِلى أَهْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَسْرُوراً:} حال من الفاعل المستتر. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. فهي في محل رفع مثلها.

{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12)}

الشرح: فهذا مقابلة لما في الآية الأولى. قيل: نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد أخي أبي سلمة. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-ثم هي عامة في كل مؤمن، وكافر. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يمد يده اليمنى؛ ليأخذ كتابه، فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وهذا لا ينافي ما ذكر في سورة (الحاقة):{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ}

ص: 512

بِشِمالِهِ لإمكان الجمع بينهما بأن تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل يسراه وراء ظهره؛ بأن تخلع يده اليسرى من موضعها، فتجعل وراء ظهره. وقيل: يحتمل أن يكون بعضهم يعطى كتابه بشماله، وبعضهم من وراء ظهره، وعند ما يؤتى كتابه من غير يمينه يعلم: أنه من أهل النار، فيقول:

واثبوراه تعال! فهذا أوانك، وحينك. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أول من يقوله إبليس، وذلك أنه أوّل من يكسى حلّة من النّار، فتوضع على حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذرّيّته من خلفه، وهو يقول: واثبوراه!» .

فعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: ذكرت النار، فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك؟» . قلت: ذكرت النار، فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال:«أمّا في ثلاثة مواطن؛ فلا يذكر أحد أحدا: عند الميزان؛ حتى يعلم أيخفّ ميزانه، أم يثقل؟ وعند تطاير الصّحف؛ حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه، أم وراء ظهره؟ وعند الصّراط إذا وضع بين ظهري جهنم؛ حتّى يجوز» . ثم إن كان هذا في الكفرة، وما قبله في المؤمنين المتقين؛ فلا تعرض هنا للعصاة، كما ذهب إليه أبو حيان. وقيل: إنه لا بعد في إدخالهم في أهل اليمين، إما؛ لأنهم يعطون كتبهم في اليمين بعد الخروج من النار، أو قبله فرقا بينهم وبين الكفرة. هذا؛ والثبور:

الهلاك، والخسار، والدمار. فهو يتمنى الهلاك، والموت. {وَيَصْلى سَعِيراً} أي: يحترق في النار، فهو كقوله تعالى في سورة (الواقعة):{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ،} وقوله تعالى في سورة (المطففين): {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ} وانظر شرح (وراء) في الآية رقم [27] من سورة (الدهر).

وانظر شرح الكتاب في الآية رقم [2] من سورة (الأحقاف) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ:} إعراب هذا الكلام مثل إعراب سابقه بلا فارق، و {وَراءَ} منصوب بنزع الخافض؛ أي: من وراء. {يَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى {مَنْ}. {ثُبُوراً:}

مفعول به. وقيل: هو مفعول مطلق عامله محذوف؛ أي: ثبرنا ثبورا. قاله الزجاج. وقال أبو البقاء: عامله: يدعو من غير لفظه. وانظر سورة (الفرقان) رقم [13]، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو (من). {وَيَصْلى:} الواو: حرف عطف. (يصلى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل يعود إلى {مَنْ} أيضا. {سَعِيراً:} مفعول به. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها.

{إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)}

الشرح: قال ابن زيد-رحمه الله تعالى-: وصف الله أهل الجنة بالمخافة، والحزن، والبكاء، والشفقة في الدنيا، فأعقبهم به النعيم، والسرور في الآخرة، وقرأ قوله تعالى في سورة

ص: 513

(الطور): {قالُوا إِنّا كُنّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ} . قال:

ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا، والضحك فيها، والتفكه فقال:{إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً} .

وقيل: كان لنفسه متابعا، وفي مراتع هواه واقعا، فأبدله الله تعالى بذلك السرور غما دائما، لا ينقطع.

{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي: علم، وتيقن بزعمه أن لن يرجع حيا مبعوثا، فيحاسب، ثم يثاب، أو يعاقب. يقال: حار، يحور: إذا رجع. قال لبيد-رضي الله عنه: [الطويل]

وما المرء إلاّ كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما يحور؛ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، حوري؛ أي: ارجعي إليّ. فالحور في كلام العرب: الرجوع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» . يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة.

ويروى الحديث: (بعد الكون) ومعناه: من انتشار الأمر بعد تمامه. وسئل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي، فقال له عبد الرزاق: وما الكنتيّ؟ فقال: الرجل يكون صالحا، ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال الشاعر-قال السيوطي: هو الأعشى-: [الطويل]

فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا

وشرّ خصال المرء كنت وعاجن

عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الأرض من الكبر، فهو شبيه بالذي يعجن العجين.

والكنتي: هو الذي يقول: كنت شجاعا، وكنت كريما، وكنت

إلخ. والكانيّ: هو الذي يقول: كان لي مال، وكنت أهب، وكنت أعطي، وكان لي خيل، وكنت أركب. وانظر شرح {كانَ} في الآية رقم [10] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {بَلى} أي: ليس الأمر كما ظن، بل يحور، ويرجع، ويبعث، ويحاسب. وانظر شرح {بَلى} في الآية رقم [9] من سورة (الملك). {إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً} أي: من يوم خلقه إلى أن يبعثه، بل وعالما بما سبق له من الشقاء والسعادة.

الإعراب: {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {مَنْ،} تقديره: «هو» . {فِي أَهْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة، {مَسْرُوراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{ظَنَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {أَنْ:} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَحُورَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والفاعل مستتر يعود إلى {مَنْ} أيضا، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ}

ص: 514

المخففة من الثقيلة، و (أن) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعولي {ظَنَّ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية فيها معنى التوكيد لما قبلها، أو هي بدل منها. {بَلى:} حرف جواب. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّهُ:} اسمها، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {رَبَّهُ}. {رَبَّهُ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {بَصِيراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن،) والجملة الاسمية جواب قسم مقدر. قاله الجمل نقلا عن السمين، والكلام فيه معنى التعليل لما أفادته {بَلى} .

{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اِتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)}

الشرح: {فَلا أُقْسِمُ:} انظر الآية رقم [15] من سورة (التكوير) ففيها الكفاية. {بِالشَّفَقِ:}

قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: الشفق: هو النهار كله، وحجته في ذلك: أنه عطف عليه الليل، فيجب أن يكون المذكور أولا النهار، فعلى هذا الوجه يكون القسم بالليل، والنهار اللذين فيهما معاش العالم، وسكونه. وقيل: هو ما بقي من النهار. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-وأكثر المفسرين: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وهو مذهب عامة العلماء.

وقيل: هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة، وهو مذهب أبي حنيفة. والأول مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي يوسف، والأوزاعي، وإسحاق، وغيرهم، والتوقيت اليوم على مذهب أبي حنيفة في بلادنا، ولا بأس به فإن فيه التحقيق، وهو أمكن في أمر العبادة. تأمل.

ثم قيل: أصل الكلمة من: رقة الشيء، يقال: شيء شفق؛ أي: لا تماسك له لرقته، وأشفق عليه؛ أي: رق قلبه عليه، والشفقة من الإشفاق، وهو رقة القلب، وكذلك الشفق. قال إسحاق ابن خلف. وقيل: هو لابن المعلّى: [البسيط]

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا

والموت أكرم نزّال على الحرم

والشفق: الرديء من الشيء، يقال: عطاء مشفّق؛ أي: مقلل. قال الكميت: [الكامل]

ملك أغرّ من الملوك تحلّبت

للسّائلين يداه غير مشفّق

{وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ} أي: جمع، وضم، ولف، فالليل: يجمع، ويضم ما كان منتشرا بالنهار من الخلق، والدواب، والهوام. وذلك: أن الليل إذا أقبل؛ أوى كل شيء إلى مأواه. قال ضابئ بن الحارث البرجمي: [الطويل]

فإنّي وإيّاكم وشوقا إليكم

كقابض ماء لم تسقه أنامله

ص: 515

يقول: ليس في يدي من ذلك شيء، كما أنه ليس في يد القابض على الماء شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار والأرض، فاجتمعت له؛ فقد وسقها، والوسق: ضمك الشيء بعضه إلى بعض، تقول: وسقته، أسقه وسقا. ومنه قيل: للطعام الكثير المجتمع: وسق، وهو ستون صاعا. وقيل: معنى (ما وسق): ما عمل فيه، ويحتمل أن يكون المراد: تهجد العباد فيه. فيجوز أن يقسم به.

{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: تم، واجتمع، واستوى، وذلك في الأيام البيض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: استوى. وقال الفراء: اتساقه: امتلاؤه، واستواؤه: ليالي البدر، وهو افتعال من الوسق؛ الذي هو الجمع، يقال: وسقته، فاتسق، كما يقال: وصلته، فاتصل.

ويقال: أمر فلان متسق؛ أي: مجتمع على الصلاح، منتظم.

{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ:} يقرأ الفعل بفتح الباء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: لتركبنّ يا محمد حالا بعد حال. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. أي: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة في القربة من الله تعالى. قاله الشعبي، وهذا كان في ليلة الإسراء بلا ريب. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-أيضا: هذا خطاب لنبيكم، ومعناه: يكون لك الظفر، والغلبة على المشركين؛ حتى يختم الله لك بجميل العاقبة، فلا يحزنك تكذيبهم، وتماديهم في كفرهم!

وقيل: لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من كونك نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم حيا، وميتا، وغنيا، وفقيرا. فالخطاب للإنسان المذكور في قوله:{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ} هذا؛ وقرأ الأكثرون بضم باء الفعل على خطاب الجمع، والمعنى: لتركبن أيها الناس حالا بعد حال، وأمرا بعد أمر، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسقما بعد صحة، ورحم الله من قال:[الطويل]

ثمانية للمرء لا بدّ منهم

وكلّ امرئ لا بدّ له ثمانيه

فرح وحزن واجتماع وفرقة

وعسر ويسر ثمّ سقم وعافيه

وقال الشاعر: [البسيط]

كذلك المرء إن ينسأ له أجل

يركب على طبق من بعده طبق

وقال الأقرع بن حابس التميمي: [البسيط]

إنّي امرؤ قد حلبت الدّهر أشطره

وساقني طبق منه إلى طبق

وهذا أدل دليل على حدوث العالم، وإثبات الصانع. قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى؛ فليعلم: أن تدبيره إلى سواه. وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل

ص: 516

على أن لهذا العالم صانعا؟ فقال: تحويل الحالات، وعجز القوة، وضعف الأركان، وقهر المنية، ونسخ العزيمة. ويقال: أتانا طبق من الناس، وطبق من الجراد؛ أي: جماعة. وقال العباس-رضي الله عنه-في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: [المنسرح]

وأنت لما ولدت أشرقت الأر

ض وضاءت بنورك الأفق

وقال أيضا: [المنسرح]

تنقل من صالب إلى رحم

إذا مضى عالم بدا طبق

أي: قرن من الناس. وقيل: معناه: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم، وأحوالكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع-وفي رواية: (شبرا بعد شبر، وذراعا بعد ذراع) -حتى لو دخلوا جحر ضبّ؛ لتبعتموهم» . قلنا: يا رسول الله! اليهود، والنصارى. قال:«فمن؟» . متفق عليه.

{فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟} يعني أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضحت لهم الآيات، وقامت الدلالات، وهذا استفهام إنكار. وقيل: تعجيب؛ أي: اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.

{وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي: لا يصلون، فعبر عن الصلاة بالسجود؛ لأنه جزء منها. وقيل: أراد به سجود التلاوة، وهذه السجدة إحدى سجدات القرآن عند الشافعي، ومن وافقه، فعن رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ:{إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد حتى ألقاه. ولمسلم عنه، قال:

سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} وكان ابن عمر-رضي الله عنهما-لا يراها من عزائم السجود في المفصل. وبه قال الإمام مالك-رحمه الله تعالى-وروى أبي بن كعب-رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والأول أصح، وعليه الأكثرون.

وسجود التلاوة يسن للقارئ، والسامع والمستمع. والدليل على ذلك سجود النبي صلى الله عليه وسلم فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ آية فيها سجدة، فيسجد، ونسجد معه؛ حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة. متفق عليه.

وانظر رأيه في المفصل المذكور آنفا.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد؛ اعتزل الشّيطان يبكي، ويقول: يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النّار!» . رواه مسلم.

ص: 517

هذا؛ وشروط سجود التلاوة هي شروط الصلاة، وتزيد عند الشافعي بأنها تحتاج إلى نية كنية الصلاة، وسلام كسلام الصلاة. وهي فورية عند الشافعي، وعلى التراخي عند أبي حنيفة، لذا إذا كان القارئ، أو السامع لا يستطيع السجود لعدم طهارته، أو لعدم قدرته على السجود لمانع يمنعه منه؛ يكفيه أن يقول:(سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر) أربع مرات. وهذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة، فيقضيها بعد التمكن من فعلها؛ ولو بعد أيام، وإذا كانت في الصلاة، فلا تؤدى إلا بالسجود لها عند الشافعي، وعند أبي حنيفة تؤدى بركوع الصلاة إذا نواها معه. والله أعلم.

الإعراب: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ:} انظر الآية رقم [15] من سورة (التكوير). {وَاللَّيْلِ:} الواو:

حرف عطف. (الليل): معطوف على الشفق. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر معطوفة على (الليل) و (الشفق)، فهي من جملة المقسم به. {وَسَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الليل)، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: والذي، أو شيء وسقه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر معطوف على (الشفق) و (الليل)، التقدير: ووسقه. {وَالْقَمَرِ:} الواو: حرف عطف. (القمر): معطوف على ما قبله فهو من جملة المقسم به. {إِذَا:} ظرف زمان مجرد من الشرطية مبني على السكون في محل نصب، وفي عامله أوجه: وعلى كل واحد منها إشكال: أحد الأوجه: أنه متعلق بفعل القسم المحذوف، التقدير: أقسم بالقمر وقت اتساقه. قاله أبو البقاء، وغيره. وهو مشكل، فإن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال، و (إذا) لما يستقبل من الزمان؛ فكيف يتلاقيان؟ الثاني: أن العامل فيه مقدر على أنه حال من القمر؛ أي: أقسم به حال كونه مستقرا في زمان اتساقه، وهو مشكل من وجهين: أحدهما: أن القمر جثة، والزمان لا يكون حالا من الجثة، كما لا يكون خبرا عنها، والثاني: أن (إذا) للمستقبل؛ فكيف يكون حالا؟! وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالقمر لازم معناه، وهو المضيء. وأجيب عن الثاني بأنها حال مقدرة. الثالث: أن العامل في الظرف نفس القمر. قاله أبو البقاء أيضا، وفيه نظر؛ لأن القمر لا يعمل في الظرف؛ لأنه اسم جامد.

وقد يقال: إن القمر يوصف، والتقدير: والقمر المضيء في وقت اتساقه. انتهى. جمل من سورة (النجم). {اِتَّسَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (القمر)، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذَا} إليها.

{لَتَرْكَبُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (تركبنّ): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوف المدلول عليها بالضمة فاعله. هذا؛ ويقرأ بكسر الباء، فيكون الفاعل ياء المؤنثة المحذوفة لالتقاء الساكنين المدلول عليها بالكسرة،

ص: 518

وهي عائدة على النفس، ونون التوكيد حرف لا محل له. {طَبَقاً:} مفعول به. وقيل: حال.

وليس بشيء. {عَنْ طَبَقٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طَبَقاً} وجوّز الزمخشري اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من الفاعل في {لَتَرْكَبُنَّ} . {فَما:} الفاء: حرف استئناف.

(ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لا:} نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، والعامل في الحال اسم الاستفهام؛ لما فيه من معنى الفعل، والجملة الاسمية:(ما لهم لا يؤمنون) مستأنفة، لا محل لها. {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قُرِئَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْقُرْآنُ:} نائب فاعل {قُرِئَ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {لا:} نافية. {يَسْجُدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على الجملة الاسمية السابقة لا محل له مثلها. وقال السمين: معطوفة على جملة: {لا يُؤْمِنُونَ} فهو في محل نصب حال مثلها. وهذا يتناقض مع (إذا) التي هي للمستقبل؛ اللهم إلا أن يقال: إن الكلام على حكاية حال ماضية، فيصح هذا الاعتبار؛ الذي قال به السمين. هذا؛ وقيل: الفاء في الآيتين الفاء الفصيحة، ولا وجه له، وإنما هي للاستئناف.

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}

الشرح: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي: بالإسلام، وبالقرآن، وبالحساب، والجزاء، وبمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ} أي: بما يضمرون في أنفسهم من التكذيب. وقال مجاهد: يكتمون من أفعالهم. وقال ابن زيد: يجمعون من الأعمال الصالحة، والسيئة. مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه. يقال: أوعيت الزاد، والمتاع: إذا جعلته في الوعاء. قال الشاعر: [البسيط]

الخير أبقى وإن طال الزّمان به

والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد

ووعاه: حفظه، تقول: وعيت الحديث، أعيه وعيا. قال تعالى في سورة (الحاقة):{وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} وقال تعالى في سورة (المعارج): {وَجَمَعَ فَأَوْعى} انظر شرح الآيتين هناك.

{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} أي: موجع في جهنم بسبب عنادهم، وتكذيبهم، وكفرهم. هذا؛ والبشارة عبارة عن الخبر السار؛ الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغير بشرة الوجه؛ كان كذلك الحزن، والغم يظهر أثرهما على الوجه، وهو

ص: 519

الكمودة؛ التي تعلو الوجه عند الغم، والحزن. فثبت بهذا: أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار والخبر المحزن، فصح قوله تعالى في سورة (النحل):{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} ولكن قد تستعمل البشارة بالشر، وبما يسوء على سبيل التهكم، والاستهزاء.

كما في هذه الآية، وغيرها كثير. في سورة (آل عمران) رقم [21]، وفي سورة (التوبة) رقم [34]. وانظر سورة (الزخرف) رقم [17].

{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا:} بالله، ورسوله، واليوم الآخر، والقضاء خيره وشره من الله تعالى.

{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي: الأعمال الصالحات على تفاوتها، واختلاف أنواعها، وتباين درجاتها وهذا يوحي إيحاء قويا: أن الإيمان والعمل الصالح قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه، وهو ما تفيده أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يسمى في علم البديع: احتراسا.

{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ:} غير منقوص، ولا مقطوع في الآخرة. وانظر سورة (التين) إن شاء الله تعالى تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {بَلِ:} حرف إضراب، وانتقال. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح. والجملة الفعلية لا محل لها صلة الموصول. {يُكَذِّبُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. (الله): مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير، وهو واو الجماعة. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَعْلَمُ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: والله أعلم بالذي، أو بشيء يعونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بوعيهم، والجار، والمجرور متعلقان ب:{أَعْلَمُ} أيضا. {فَبَشِّرْهُمْ:} الفاء: حرف عطف على رأي. من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر.

(بشرهم): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب الشرط المقدر ب:«إذا» . {بِعَذابٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَلِيمٍ:} صفة (عذاب). {إِلاَّ:} أداة استثناء منقطع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء، وجملة:{آمَنُوا:} صلة الموصول لا محل لها، وجملة (عملوا): معطوفة عليها لا محل لها مثلها. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛

ص: 520

لأنه جمع مؤنث سالم. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَجْرٌ:} مبتدأ مؤخر. {غَيْرُ:} صفة {أَجْرٌ،} و {غَيْرُ} مضاف، و {مَمْنُونٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة. هذا؛ وإن اعتبرت {الَّذِينَ} مبتدأ، والجملة الاسمية خبره، ومضمون الجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستثنى من مضمون الكلام السابق؛ فلا بأس به! والمعنى يؤيده. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (الانشقاق) شرحا وإعرابا بعون الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 521