الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الضّحى
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الضحى) مكية بالاتفاق، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومئة واثنان وسبعون حرفا، انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)}
الشرح: اختلفوا في سبب نزول هذه السورة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عن جندب بن سفيان البجلي-رضي الله عنه-قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين، أو ثلاثا، فجاءت امرأة، فقالت: يا محمد! إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين، أو ثلاثا، فأنزل الله عز وجل:{وَالضُّحى..} . إلخ أخرجه البخاري. وفي الترمذي عن جندب البجلي؛ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، فدميت إصبعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. [الرجز]
هل أنت إلاّ إصبع دميت
…
وفي سبيل الله ما لقيت
قال: وأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون: قد ودع محمدا ربه، فأنزل الله عز وجل:{ما وَدَّعَكَ..} . إلخ. فلم يذكر الترمذي: (فلم يقم ليلتين، أو ثلاثا) ورواية البخاري أصح، وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب. قال: رمي النبي صلى الله عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: هل أنت إلا إصبع
…
إلخ والمرأة المذكورة في جميع الروايات هي: العوراء بنت حرب، أخت أبي سفيان، وهي زوج أبي لهب، وهي حمالة الحطب.
القول الثاني: قال زيد بن أسلم-رضي الله عنه-كان سبب احتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنّ جروا كان في بيته، فلما نزل عليه جبريل عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على إبطائه، فقال له: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة. وهذا قول ضعيف.
القول الثالث: قال المفسرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، وعن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل عليه قوله تعالى من سورة (الكهف):{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} فأخبره بما سئل عنه. وهو الذي أعتمده إن شاء الله. انظر سورة (الكهف). وانظر
سورة (الإسراء) رقم [85]. ولما نزل جبريل الأمين على سيد المرسلين؛ قال له: «يا جبريل ما حبسك عني؟ لقد اشتقت إليك؟!» . فقال جبريل عليه السلام: إني كنت إليك أشد شوقا، ولكني عبد مأمور، ونزل قوله تعالى في سورة (مريم):{وَما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ولما قرأ جبريل الأمين على سيد المرسلين سورة (الضحى) كبّر صلى الله عليه وسلم في آخرها فقال: «لا إله إلاّ الله والله أكبر» . وصار التكبير سنة في آخرها، وآخر السور إلى آخر سورة (الناس).
هذا؛ واختلف في مدة احتباس الوحي، وجبريل عنه صلى الله عليه وسلم. فقيل: اثنا عشر يوما. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: خمسة عشر يوما. وقيل: أربعون يوما.
الشرح: {وَالضُّحى} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: المراد به النهار كلّه، لقوله:{وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} فقابله بالليل، وفي سورة (الأعراف):{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي: نهارا. وقال قتادة، ومقاتل، وجعفر الصادق: أقسم الله بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل:
هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سجدا، بيانه قوله تعالى:{وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى} . انتهى.
قرطبي. وانظر شرح (الضحى) في سورة (الشمس).
أقول: أقسم الله بالضحى تنويها بشأنه، وتعظيما لقدره، ولذا رغب الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة في وقت الضحى، فقال:«لا يحافظ على صلاة الضحى إلاّ أوّاب» . قال: «وهي صلاة الأوّابين» .
رواه الطبراني عن أبي هريرة-رضي الله عنه. وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنة بابا، يقال له: الضحى، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الّذين كانوا يديمون صلاة الضحى؟ هذا بابكم فادخلوه برحمة الله» . أخرجه الطبراني.
وعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يصبح على كلّ سلامى من أحدكم صدقة، فكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تحميدة صدقة، وكلّ تهليلة صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» . رواه مسلم.
{إِذا سَجى:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أقبل بظلامه. وعنه أيضا: إذا ذهب.
وقيل: معناه: غطى كل شيء بظلامه. وقيل: معناه: سكن فاستقر ظلامه، فلا يزداد. قاله قتادة، ومجاهد، وابن زيد، وعكرمة. يقال: عين ساجية. أي: ساكنة. ويقال: سجا الليل، يسجو سجوّا: إذا سكن. والبحر سجا: سكن. قال الأعشى: [الطويل]
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمّكم
…
وبحرك ساج ما يواري الدّعامصا
الدعامص: جمع الدعموص، وهي دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء. وقال الراجز:[الرجز]
يا حبّذا القمراء والليل السّاج
…
وطرق مثل ملاء النّسّاج
هذا؛ وفي قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} مجاز عقلي؛ حيث أسند السكون إلى الليل.
وتعريف المجاز العقلي هو: إسناد الفعل، أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة إرادة الإسناد الحقيقي. {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى} أي: ما تركك منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبك. الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ردّ لما قالته العوراء أم قبيح. هذا؛ وحذف مفعول (قلى) لمناسبة رؤوس الآي. وقرأ السبعة بتشديد دال {وَدَّعَكَ} وقرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام، وابن أبي عبلة بتخفيفها.
هذا؛ وقال قطة العدوي شارح شواهد ابن عقيل: قال بعض المتقدمين: زعم بعض النحاة:
أن العرب أماتت ماضي (ودع) ومصدره، واسم فاعله، واسم مفعوله، مع أنه قد قرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام قوله تعالى:(ما ودعك ربك وما قلى) بتخفيف الدال بمعنى: ما تركك، وكذا قرأ مقاتل، وابن أبي عبلة. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«شرّ الناس من ودعه النّاس اتّقاء شرّه» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوا الحبشة ما ودعوكم» . ورواه الجمل «ذروا الحبشة ما وذرتكم» . وقال أبو العتاهية الصوفي: [المنسرح]
أثروا فلم يدخلوا قبورهم
…
شيئا من الثروة التي جمعوا
وكان ما قدّموا لأنفسهم
…
أعظم نفعا من الذي ودعوا
وقال آخر: [الطويل]
وثم ودعنا آل عمرو وعامر
…
فرائس أطراء المثقّفة السّمر
وقال أنس بن رؤيم، -وعزاه أبو البقاء لأبي الأسود الدؤلي-:[الرمل]
ليت شعري عن خليلي ما الّذي
…
غاله في الحبّ حتى ودعه؟!
فها هو الماضي قد ورد عن أفصح العرب قراءة، وحديثا. وكذا في شعر العرب. وورد المصدر أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لينتهينّ قوم عن ودعهم الجمعات-وفي رواية: الجماعات- أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثمّ ليكوننّ من الغافلين» . أخرجه مسلم، وغيره، وورد اسم المفعول، واسم الفاعل من: ودع في قول خفاف بن ندبة-رضي الله عنه: [الطويل]
إذا ما استحمّت أرضه من سمائه
…
جرى وهو مودوع، وواعد مصدق
فكيف يقال: إن العرب أماتته؟! فالصواب القول بقلة الاستعمال، لا بالإماتة. انتهى.
بتصرف كبير. هذا؛ وما قيل في (ودع) ومضارعه: يدع، وأمره: دع، يقال في: وذر، ومضارعه
يذر، كما يقال في:(وعم) ومضارعه: (يعم) وأمره: عم. وانظر الشاهد رقم [308] من كتابنا:
«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَالضُّحى:} انظر إعراب: {وَالشَّمْسِ} . {وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} انظر إعراب: {وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها} في سورة (الشمس). {ما:} نافية. {وَدَّعَكَ:} فعل ماض، والكاف مفعول به. {رَبُّكَ:}
فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، وجملة:{وَما قَلى} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها.
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)}
الشرح: المعنى: ما أعد الله لك يا محمد في الآخرة من المقام المحمود، والحوض المورود، والخير الموعود خير مما أعجبك في الدنيا. وقيل: وجه اتصال الكلام بما قبله: أنه لما كان في ضمن نفي التوديع، والقلي أن الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك؛ أخبره: أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك، لتقدمه على جميع الأنبياء والمرسلين، وشهادة أمته على جميع الأمم، وغير ذلك. انتهى. نسفي. ولا تنس المطابقة بين الآخرة والأولى، وهي من المحسنات البديعية.
هذا؛ و {خَيْرٌ} أفعل تفضيل، أصله: أخير، نقلت حركة الياء للخاء قبلها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم حذفت الهمزة من أوله، استغناء عنها بحركة الخاء، فصار: خير، ومثله قل في: حبّ وشرّ اسمي تفضيل؛ إذ أصلهما أحبب، وأشرر. فنقلت حركة الباء الأولى، والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان المتماثلان في بعضهما، ثم حذفت الهمزة من أولهما استغناء عنها بحركة الخاء، والشين، وقد يستعمل: خير، وشر على الأصل المرفوض كقراءة بعضهم قوله تعالى في سورة (القمر):{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ} بفتح الشين، ونحو قول رؤبة بن العجاج:[الرجز]
يا قاسم الخيرات وابن الأخير
…
ما ساسنا مثلك من مؤمّر
وخير وشرّ، وحبّ يستعملن بصيغة واحدة للمذكر، والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع؛ لأنهن بمعنى أفعل، كما رأيت. وأما قول الشاعر:[الطويل]
ألا بكّر النّاعي بخيري بني أسد
…
بعمرو بن مسعود وبالواحد الصّمد
فإنما ثناه؛ لأنه أراد: خيّري بالتشديد، فخففه مثل ميت، وهين في ميّت، وهيّن، فأخير في قول رؤبة، وأشر، وأحب هو الأصل المقيس في أفعل التفضيل، مثل: أفضل، وأحسن، وأجمل، إلا أنه لما كثر استعمال العرب لخير خففوها بحذف الهمزة من أولها، فيكون خير شاذا
في القياس فصيحا في الاستعمال، ومثله شرّ وحبّ. هذا؛ و {الْأُولى} هي الحياة الحاضرة؛ التي نحياها، وبينها وبين (الآخرة) طباق، وهو من المحسنات البديعة.
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} أي: يعطيك ربك في الآخرة؛ حتى ترضى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الشفاعة في أمته؛ حتى يرضى. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى في سورة (إبراهيم) رقم [36]: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،} وقوله تعالى حكاية عن قول عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} من سورة (المائدة) ثم رفع يديه. وقال: «اللهم أمتي أمتي! وبكى» . فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد، واسأله ما يبكيك؟ (وهو أعلم) فأتى جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، (وهو أعلم) فقال الله عز وجل: اذهب يا جبريل إلى محمد، وقل له:«إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» . أخرجه مسلم في كتاب الإيمان.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «لكلّ نبي دعوة مستجابة، فتعجّل كلّ نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» . متفق عليه.
وعن عوف بن مالك-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا» . أخرجه الترمذي.
وفي القرطبي: وقال علي-رضي الله عنه-وفي الخازن: قال حرب بن شريح سمعت جعفر بن محمد بن علي؛ أي: زين العابدين يقول: (يا معشر أهل العراق! إنكم تقولون: أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ..}. إلخ رقم [53] من سورة (الزمر) قالوا: نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تبارك وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} . وروي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت قال: «إذا لا أرضى قط، وواحد من أمتي في النار» . ورحم الله من قال: [الوافر]
قرأنا في الضحى ولسوف يعطي
…
فسرّ قلوبنا ذاك العطاء
وحاشا يا رسول الله ترضى
…
وفينا من يعذّب، أو يساء
وانظر ما ذكرته في آية (الزمر) رقم [53] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وقيل في معنى الآية: ولسوف يعطيك ربك من الثواب، فترضى. وقيل: من النصر، والتمكين، وكثرة المؤمنين فترضى، وحمل الآية على ظاهرها من خيري الدنيا، والآخرة معا أولى، وذلك أن الله تبارك
وتعالى أعطاه في الدنيا النصر، والظفر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه، وبعده إلى يوم القيامة، وأعلى دينه، وأن أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة، والخاصة، والمقام المحمود، والحوض المورود، وغير ذلك مما أعطاه في الدنيا، والآخرة. انتهى. خازن بتصرف.
هذا؛ وإنما قيد الله تعالى بقوله: {خَيْرٌ لَكَ؛} لأنها ليست خيرا لكل أحد. قال البقاعي: إن الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين، وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم من له الشر فيهما، وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا، وشر في الآخرة، وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا، وخير في الآخرة، وهم الفقراء المؤمنون.
انتهى. خازن.
الإعراب: {وَلَلْآخِرَةُ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء. (الآخرة خير): مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على قوله تعالى:{ما وَدَّعَكَ..} . إلخ لا محل لها مثلها.
{لَكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَيْرٌ} . {مِنَ الْأُولى:} متعلقان ب: {خَيْرٌ} أيضا.
{وَلَسَوْفَ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الابتداء. (سوف): حرف تسويف، واستقبال.
وانظر آخر سورة (الليل). {يُعْطِيكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، انظر الآية رقم [5] من سورة (الليل). {رَبُّكَ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَتَرْضى:} الفاء:
حرف عطف وسبب. (ترضى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
تنبيه: الإعراب المتقدم يفيد: أن الجمل الأربع المذكورة كلها واقعة في حيز القسم، وهو صريح قول الجلال: إلى هنا تم جواب القسم بمثبتين بعد منفيين، ولكن الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي كعادتهما قالوا: واللام الداخلة على سوف لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف، تقديره: ولأنت سوف يعطيك، ونحوه: لأقسم فيمن قرأ كذلك؛ أي: في أول سورة (القيامة) وسورة (البلد) ونحوهما؛ لأن المعنى: «لأنا أقسم» وهذا؛ لأنها إذا كانت لام قسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، فيتعين أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على المبتدأ، والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر كما ذكرنا. كذا ذكره صاحب الكشاف.
وذكر صاحب الكشف: هي لام القسم، واستغني عن نون التوكيد؛ لأن نون التوكيد إنما تدخل ليؤذن: أن اللام لام القسم، لا لام الابتداء، وقد علم: أنه ليس للابتداء؛ لدخولها على (سوف)؛ لأن لام الابتداء لا تدخل على (سوف) وذكر: أن الجمع بين حرفي التأكيد، والتأخير يؤذن بأن العطاء كائن لا محالة؛ وإن تأخر. انتهى. نسفي.
أقول وبالله التوفيق: إن اللام واقعة في جواب القسم بسبب العطف حتما لا شك فيه، وذلك؛ لأن الفعل المضارع يجب توكيده إذا كان جوابا لقسم غير مفصول من لامه بفاصل، وكان مثبتا مستقبلا، نحو قوله تعالى:{وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} الآية رقم [57] من سورة (الأنبياء)، ويمتنع تأكيده إذا كان جوابا لقسم، ولم تتوفر فيه الشروط المذكورة، نحو قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} المانع من توكيد الفعل (يعطي) بنون التوكيد الفصل بينه، وبين اللام ب:(سوف) انظر كتاب قواعد اللغة العربية بشرحنا، وتحقيقنا:(الباب الثامن من المؤكد وغيره) والله ولي التوفيق.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)}
الشرح: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً:} صغيرا، ضعيفا، عاجزا عن العمل. {فَآوى} أي: ضمك إلى عمك أبي طالب، وذلك أن أبا النبي توفي، وهو في بطن أمه، ثم توفيت أمه، وهو ابن ست سنين، ثم توفي جده وهو ابن ثمان سنين، فكفله بعد ذلك عمه أبو طالب، فأحسن كفالته، واعتنى به أشد الاعتناء إلى أن قوي عوده، واشتد، وتزوج خديجة-رضي الله عنها، وكان أبو طالب على دينه حتى مات، ولم يسلم، ومع ذلك كان يدفع الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويبذل جهده في ذلك، وكل هذا من حفظ الله للنبي صلى الله عليه وسلم وكلاءته له، وعنايته به.
{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} أي: ووجدك تائها عن معرفة الشريعة والدين، فهداك الله إليها، كقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [52]:{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ} . وعليه: فالضلال مستعار من: ضل في طريقه: إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصله للعلوم النافعة. قال الإمام الجلال: أي: وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من الشريعة، فهداك إليها. وقيل: ضل في بعض شعاب مكة، وهو صغير فرده الله إلى جده. قال أبو حيان: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى؛ لأن الأنبياء معصومون من ذلك.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة، وهو صبي صغير، فرآه أبو جهل الخبيث منصرفا من أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، وهذا كان لما قضت حليمة رحمها الله تعالى حق الرضاع، فجاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لترده على جده عبد المطلب، فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد الله إليك النور، والبهاء، والجمال.
قالت: فوضعته لأصلح شأني، فسمعت هدّة شديدة، فالتفت، فلم أره، فقلت: يا معشر الناس! أين الصبي؟! فقالوا: لم نر شيئا، فصاحت: وا محمداه! فخرج كثير من أهل مكة يبحثون عنه صلى الله عليه وسلم، فكان أبو جهل الخبيث هو الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء به إلى عبد المطلب. وقال له: ألا
تدري ماذا جرى من ابنك هذا؟ فقال عبد المطلب: ماذا جرى؟ فقال: إني أنخت الناقة، وأركبته خلفي، فأبت الناقة أن تقوم، فأركبته أمامي، فقامت. وقال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما:
رده الله إلى جده بيد عدوّه، كما فعل بموسى عليه السلام حين حفظه عند فرعون عدوه.
وقيل: الضلال هنا بمعنى: الحيرة، وذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه؛ حتى هداه الله لدينه. وقال الجنيد-رحمه الله تعالى-: ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل الله إليك، فهداك لبيانه. فهذا ما قيل في هذه الآية. ولا يلتفت إلى قول من قال:
إنه صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة على ملة قومه، فهداه الله إلى الإسلام؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنبياء قبله؛ منذ ولدوا؛ أنشئوا على التوحيد، والإيمان قبل النبوة، وبعدها، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله، وتوحيده. ويدل على ذلك: أن قريشا عابوا النبي صلى الله عليه وسلم، ورموه بكل عيب سوى الشرك، وأمر الجاهلية، فإنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا؛ إذ لو كان فيه؛ لما سكتوا عنه، ولنقل ذلك. فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه، وعيروه به، ويؤكد هذا ما روي في قصة بحيرا الراهب حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات، والعزى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسألني بهما، فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما» .
هذا؛ وضل أكثر ما يستعمل بمعنى: كفر، وأشرك، وهو ضد: اهتدى، واستقام، ومصدره:
الضلال ويأتي (ضل) بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى:{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} ويأتي بمعنى: خفي، يخفى. قال تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى لفرعون:{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} . وضل الشيء: ضاع، وهلك، وضل: أخطأ في رأيه، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وضل تحير، وهو أقرب ما يفسر به في هذه الآية.
هذا؛ وأضل، يضل غيره من الرباعي، ومصدره: الإضلال، فهو متعد، والثلاثي لازم، ومصدره: الضلال، وهو الخروج عن جادة الحق، والانحراف عن الصراط المستقيم. وينبغي أن تعلم: أن طريق الهدى واحدة، لا اعوجاج فيها، ولا التواء، وأما الضلال؛ فطرقه كثيرة، ومتشعبة. قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:
{فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} الآية رقم [32] سورة (يونس). وقال الشاعر الحكيم: [البسيط]
الطّرق شتّى وطرق الحقّ مفردة
…
والسّالكون طريق الحقّ أفراد
لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم
…
فهم على مهل يمشون قصّاد
والناس في غفلة عمّا يراد بهم
…
فجلّهم عن سبيل الحق رقّاد
{وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى} أي: فقيرا لا مال لك. {فَأَغْنى:} قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
أي: فأغناك بمال خديجة-رضي الله عنها. يقال: عال الرجل، يعيل عيلة: إذا افتقر. قال أحيحة بن الجلاح: [الوافر]
فما يدري الفقير متى غناه؟
…
وما يدري الغنيّ متى يعيل؟
وقال الأخفش: وجدك ذا عيال، دليله {فَأَغْنى} ومنه قول جرير:[الكامل]
والله أنزل في الكتاب فريضة
…
لابن السّبيل وللفقير العائل
وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق، واختاره الفراء، وقال: لم يكن غناه عن كثرة المال، ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه، وذلك حقيقة الغنى. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة المال، والعرض، ولكن الغنى غنى النفس» . متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه» . أخرجه مسلم، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«سألت ربي عز وجل مسألة، وددت أني لم أكن سألته: قلت: يا ربّ! إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما، وآتيت فلانا كذا، وفلانا كذا» . قال: يا محمد ألم أجدك يتيما، فآويتك؟ قلت:«بلى يا ربّ!» . قال: ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: «بلى يا ربّ!» قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: «بلى يا رب!» . وزاد في رواية: ألم أشرح لك صدرك، ووضعت عنك وزرك؟ قلت:«بلى يا ربّ» .
فإن قلت: كيف يحسن بالجواد الكريم أن يمنّ بإنعامه على عبده؛ والمنّ مذموم في صفة المخلوق، فكيف يحسن بالخالق تبارك وتعالى؟! قلت: إنما حسن ذلك؛ لأنه سبحانه وتعالى قصد بذلك أن يقوي قلبه، ويعده بدوام نعمه عليه، فظهر الفرق بين امتنان الله تعالى الممدوح، وبين امتنان الخلق المذموم؛ لأن امتنان الله تعالى زيادة إنعامه، كأنه قال: ما لك تقطع رجاءك عني؟ ألست الذي ربيتك وآويتك، وأنت يتيم صغير؟ أتظنني تاركك، ومضيعك كبيرا؟ بل لا بد وأن أتم نعمتي عليك!. فقد حصل الفرق بين امتنان الخالق وامتنان المخلوق. انتهى. خازن.
هذا؛ ولقد ذكرت لك منّ الله على حبيبه في كثير من السور، وبينت لك الفرق بين منّ الله الممدوح وبين منّ العبد المذموم الذي يحبط العمل، ويضيع الأجر، والثواب، بل ويوجب المقت، والسخط؛ لأن منّ الله على العبد يزيده شكرا له تعالى، كما يزيده طاعة له، ورغبة في عبادته. وأيضا فإن الله هو المالك حقيقة بما ينعم به على العبد ويمنّ به عليه، وأما العبد فإنه غير مالك بما ينعم به على الحقيقة، وإنما هو وكيل على هذه النعم، والمالك على الحقيقة إنّما هو الله تعالى، وأيضا منّ العبد على العبد يورثه ذلة، وانكسارا.
هذا؛ و (يجد) ماضيه: وجد، والمضارع أصله: يوجد، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما الياء والكسرة في مضارع الغائب، وتحذف من مضارع المتكلم والمخاطب قياسا عليه، والمصدر: وجد، أما (عائل) فأصله: عايل؛ لأن الفعل أجوف يائي: عيل، يعيل، فقل في إعلاله: قلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ولم يعتدّ بالألف الزائدة، لكونها حاجزا غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية منهما همزة، وقل مثله في: قائل وشبهه فإن أصله: قاول فإن فعله أجوف واوي.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. انظر شرح:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} الآتي. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَجِدْكَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {رَبُّكَ،} والكاف مفعول به أول. {يَتِيماً:} مفعول به ثان، وقال الزمخشري: حال من الكاف على تأويل {يَجِدْكَ} ب: «يخلقك» ، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَآوى:} الفاء: حرف عطف. (آوى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {رَبُّكَ} أيضا، والمفعول محذوف لمناسبة رؤوس الآي، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ:} ماض، وفاعله مستتر، ومفعولاه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. وإعراب ما بعدها لا خفاء فيه إن شاء الله تعالى.
الشرح: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ:} قال مجاهد: لا تحتقر اليتيم، فقد كنت يتيما مثله. وقال الفراء: لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه، كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى، تأخذ أموالهم، وتظلمهم حقوقهم. انتهى. وكانوا يقولون: كيف نورث أموالنا من لم يدفع عن حمانا، ويحمي نساءنا، وأطفالنا؟! ولذا كانوا لا يورثون النساء، والمعنى: كما كنت يتيما فآواك الله، وأحسن إليك بأن كفلك لعمك أبي طالب، فلا تقهر اليتيم؛ أي: لا تذله، وتنهره، وتهنه، ولكن أحسن إليه، وتلطف به. وقال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. لذا كان صلى الله عليه وسلم يرفق باليتامى، ويعطف عليهم، ويحث على إكرامهم. وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له، أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة
…
». وأشار مالك بالسّبّابة والوسطى. رواه مسلم. وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» . رواه ابن ماجه. وعنه أيضا: أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال:«امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» . رواه الإمام أحمد، وعن أبي أمامة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مسح على رأس يتيم، لم يمسحه إلاّ لله؛ كان له في كلّ شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن
أحسن إلى يتيمة، أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين». وفرق بين أصبعيه: السبابة والوسطى. رواه الإمام أحمد.
ولم يفته صلى الله عليه وسلم أن رغب المرأة المتوفى عنها زوجها أن تقعد على يتاماها، ووعدها، وبشرها بالثواب العميم، والأجر الكبير. وخذ ما يلي: فعن عوف بن مالك الأشجعي-رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وامرأة سفعاء الخدّين كهاتين يوم القيامة-وأومأ بيده يزيد بن زريع بالوسطى، والسبابة-امرأة آمت من زوجها، ذات منصب وجمال، فحبست نفسها على يتاماها؛ حتى باتوا، أو ماتوا» . رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يفتح باب الجنة، إلاّ أني أرى امرأة تبادرني، فأقول لها: مالك؟ ومن أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي» . رواه أبو يعلى، وأما أكل مال اليتيم بغير حق؛ فقد صرحت بعقوبته آية النساء رقم [10].
{وَأَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي: لا تزجره، ولكن ردّه ببذل اليسير، أو قول جميل. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [263]:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً} . وروي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعنّ أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين من ذهب» . القلب بضم وسكون: السوار. وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السّؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم، فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء؟
وقيل: السائل هو طالب العلم، فيجب إكرامه، وإنصافه بمطلوبه، ولا يعبس في وجهه، ولا ينهر، ولا يتلقى بمكروه، وكان أبو الدرداء-رضي الله عنه-ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي: انشر ما أنعم الله عليك بالشكر، والثناء. والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والحكم عام له، ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما-قال:(إذا أصبت خيرا، أو علمت خيرا؛ فحدّث به الثقة من إخوانك). وقال بكر بن عبد الله المزني-رضي الله عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعطي خيرا، فلم ير عليه؛ سمّي:
بغيض الله، معاديا لنعم الله». وروى الشعبي عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر القليل؛ لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس؛ لم يشكر الله، والتحدّث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» . رواه البغوي بإسناد الثعلبي. وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطي عطاء فليجز به؛ إن وجد، فإن لم يجد؛ فليثن عليه، فإنّ من أثنى عليه؛ فقد شكره، ومن كتمه؛ فقد كفره، ومن تحلّى بما لم يعط؛ كان كلابس ثوبي زور» . أخرجه الترمذي، وروى النسائي عن
مالك بن نضلة الجشمي-رضي الله عنه-قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرآني رثّ الثياب، فقال:«ألك مال؟» . قلت: نعم يا رسول الله، من كلّ المال. قال:«إذا آتاك الله مالا؛ فلير أثره عليك» . وروى أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده» . ولا تنس المقابلة بين هذه الآيات، والتي قبلها، وهي من المحسنات البديعية.
الإعراب: {فَأَمَّا:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. أو هي الفاء الفصيحة. (أما): انظر الآية رقم [15] من سورة (الفجر)، والتقدير هنا: مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. {الْيَتِيمَ:} مفعول به مقدم، عامله ما بعده، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل، ألا ترى: أن اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم على الجازم، ولو قدمت (تقهر) على (لا)، لامتنع؛ لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه، كالمجرور لا يتقدم على جارّه. وانظر ما ذكرته في سورة (هود) رقم [8] وهي قوله تعالى:{أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} ولا تمنع الفاء هنا من التقديم؛ لأنها كالزائدة. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب أما. (لا): ناهية. {تَقْهَرْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية جواب (أمّا)، لا محل لها، و (أمّا) ومدخولها كلام مفرع عما قبله، ومستأنف، لا محل له، وعلى اعتبار الفاء فصيحة فهو جواب لشرط مقدر، التقدير: وإذا حصل لك ما تقدم؛ فأما اليتيم
…
إلخ. والكلام بعده معطوف عليه. وإعرابه مثله بلا فارق. {بِنِعْمَةِ:}
متعلقان بما بعدهما، و (نعمة) مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
انتهت سورة (الضحى) شرحا، وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.