الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الغاشية
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الغاشية) مكية في قول الجميع، وهي ست وعشرون آية، واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمئة، وأحد وثمانون حرفا. وانظر حديث النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول سورة (الأعلى).
بسم الله الرحمن الرحيم
{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)}
الشرح: {هَلْ} بمعنى: قد، كقوله تعالى في سورة (الدهر) رقم [1]:{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ..} . إلخ قاله قطرب، انظر سورة (الدهر) فالبحث فيها قيم. {حَدِيثُ الْغاشِيَةِ} المعنى: هل سمعت، أو قرأت حديث الغاشية؟ وهي الداهية العظيمة؛ التي تغشى الناس، وتعمهم بشدائدها، وأهوالها، وهي القيامة. قال المفسرون: سميت غاشية؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها، وشدائدها، وتعمهم بما فيها من المكاره، والكوارث العظيمة. ودليله قوله تعالى:{وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ} الآية رقم [50] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وقال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [55]:{يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} . وقيل: معنى {هَلْ أَتاكَ} أي: هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور هاهنا.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ:} ذليلة، وكل متذلل ساكن خاشع، يقال: خشع في صلاته: إذا تذلل، ونكّس رأسه. وخشع الصوت: خفي. قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} . والمراد بالوجوه: أصحابها، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذا من باب المجاز المرسل، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان فعبر به عنه. وانظر (الخشوع) في الآية رقم [21] من سورة (الحشر).
{عامِلَةٌ ناصِبَةٌ} أي: دائبة العمل فيما يتعبها، ويشقيها في النار. قال المفسرون: هذه الآية في الكفار، يتعبون، ويشقون بسبب جر السلاسل، والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود، والهبوط في تلالها، ودركاتها، كما قال تعالى في سورة (غافر):{إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ} وهذا جزاء تكبرهم في
الدنيا عن عبادة الله، وانهماكهم في اللذات، والشهوات. وقال القرطبي: فهذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا، خاشعة في الآخرة. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل، يعمل عملا. ويقال للسّحاب إذا دام برقة: قد عمل يعمل عملا، وذا سحاب عمل. قال ساعدة بن جؤية الهذلي-وهذا هو الشاهد رقم [802] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
حتّى شآها كليل موهنا عمل
…
باتت طرابا وبات اللّيل لم ينم
{ناصِبَةٌ:} تعبة، يقال: نصب بكسر الصاد، ينصب نصبا: إذا تعب، وفي سورة (الكهف) قوله تعالى حكاية عن قول موسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً} رقم [63]، وانظر سورة (الشرح). وانظر ما ذكرته في أول سورة (التكوير).
روي أن عمر-رضي الله عنه-لما قدم الشام أتاه راهب شيخ كبير عليه سواد. فلما رآه عمر جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين! إنه نصراني؟ فقال: ذكرت قول الله عز وجل:
{عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً} فبكيت رحمة عليه. وروي: أنه قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء، فأخطأه. وقال الجمل: والآية نزلت في القسيسين، وعباد الأوثان، وفي كل مجتهد في كفر. انتهى. نقلا من البحر المحيط، وهذا لم يقل به غيره، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {هَلْ:} حرف استفهام، وتشويق. وانظر الشرح. {أَتاكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {حَدِيثُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْغاشِيَةِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية مبتدأة لا محل لها. {وُجُوهٌ:} مبتدأ، جوز الابتداء به؛ لأنه في موضع التنويع. {يَوْمَئِذٍ:}
(يوم): ظرف زمان متعلق ب: {خاشِعَةٌ،} و (إذ) ظرف مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة، التقدير: يوم إذ تغشاهم. {خاشِعَةٌ:} خبر أول. {عامِلَةٌ ناصِبَةٌ:}
خبران آخران. هذا؛ وجوز اعتبارهما خبرين لمبتدأين محذوفين، التقدير: هي عاملة، هي ناصبة.
وترجع الجملتان في محل رفع خبرين للمبتدأ، أو هما مستأنفتان، لا محل لهما. هذا؛ وأجيز اعتبار الأسماء الثلاثة صفات لوجوه، واعتبار الجملة الفعلية:{تَصْلى..} . إلخ هي الخبر، والجملة الاسمية:{وُجُوهٌ..} . إلخ مستأنفة، وهي بمنزلة جواب لسؤال نشأ من الاستفهام التشويقي.
{تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)}
الشرح: {تَصْلى..} . إلخ: أي: يصيبها صلاؤها، وحرّها. {حامِيَةً:} شديدة الحر؛ أي: قد أوقدت، وأحميت المدة الطويلة، كما قال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظّى} . {تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي:
متناهية في الحرارة، قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت، لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا؛
لذابت، فيدفعون إليها ورودا عطاشا، فهذا شرابهم. قال تعالى في سورة (الرحمن):{يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} رقم [44] انظر شرحها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا؛ فإن قيل: ما معنى وصفها بالحمي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها. فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل: قد اختلف في المراد ب ال: {حامِيَةً} على أقوال:
أحدها: أنّ المراد بذلك: أنها دائمة الحمي، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مماسّتها، كما يحمي الأسد عرينه.
ومثله قوله النابغة الذبياني: [البسيط]
تعدو الذّئاب على من لا كلاب له
…
وتتّقى صولة المستأسد الحامي
الثالث: أنها حامية حمي غيظ، وغضب، مبالغة في شدة الانتقام. كما يقال: قد حمي فلان: إذا اغتاظ، وغضب عند إرادة الانتقام. وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى، فقال:
{تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} سورة (الملك) رقم [8] وانظر الأحاديث الشريفة في سورة (القارعة).
الإعراب: {تَصْلى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«هي» يعود إلى {وُجُوهٌ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر آخر ل: {وُجُوهٌ} وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، {ناراً:} مفعول به. {حامِيَةً:} صفة له.
{تُسْقى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره:«هي» يعود إلى {وُجُوهٌ} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{ناراً،} أو هي في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {مِنْ عَيْنٍ:}
متعلقان بما قبلهما. {آنِيَةٍ:} صفة {عَيْنٍ} .
{لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)}
الشرح: {لَيْسَ لَهُمْ} أي: لأهل النار. {طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ:} لمّا ذكر شراب أهل النار ذكر طعامهم. قال عكرمة، ومجاهد: الضريع: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش الشّبرق، إذا كان رطبا، فإذا يبس؛ فهو الضريع، لا تقربه دابة، ولا بهيمة، ولا ترعاه، وهو سم قاتل، وهو أخبث الطعام، وأشنعه. قال أبو ذؤيب الهذلي:[الطويل]
رعى الشّبرق الرّيّان حتّى إذا ذوى
…
وعاد ضريعا بان منه النحائص
(والنحائص): جمع النحوص بفتح النون، وهي الأتان الوحشية الحائل؛ التي لا ولد لها.
وقال قيس بن عيزارة الهذلي: [الكامل]
وحبسن في هزم الضريع فكلّها
…
حدباء دامية اليدين حرود
يصف الشاعر نوقا حبسن في مرعى سوء غير ناجع، هزلهن، فكلهن داميات الأيدي من وضعها على الضريع ذي الشوك، قليلة اللبن. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الحاقة):{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} وقال هنا: {إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ} وهو غير الغسلين، ووجه الجمع بين الآيتين: أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد. ودركات النار على قدر الذنوب، وتقع العقوبات على قدرها.
فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه، فيغاثون بالضريع؛ الذي لا يسمن، ولا يغني من جوع، فيأكلونه لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصّون به، فيذكرون: أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم، وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة، فيقولون: في سورة (غافر): {اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ..} . إلخ. أخرجه الترمذي، وغيره.
أقول: كله مأخوذ من الآيات القرآنية. قال تعالى هنا: {لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (المزمل):{إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً،} وقال في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ،} وقال تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} .
وجاء في الحديث عن ابن عباس-رضي الله عنهما-يرفعه: «الضريع شجر في النار، يشبه الشوك، أمرّ من الصّبر، وأنتن من الجيفة، وأشدّ حرارة من النار» . وقال بعض المفسرين: فلما نزلت هذه الآية قال بعض المشركين: إن إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا، ويسمى شبرقا، فإذا يبس لا يأكله شيء، وعلى تقدير أن يصدقوا؛ فيكون المعنى: إن طعامكم في جهنم من ضريع ليس من جنس ضريعكم في الدنيا إنما هو ضريع غير مسمن، ولا مغن من جوع.
{لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} يعني: أن هذا الطعام لا تقدر البهائم على أكله، فكيف يقدر الإنسان على أكله، فهو لا يسمن، ولا يغني من جوع، فمنفعتا الغذاء منتفيتان عنه، وهما: دفع الجوع، وإفادة السمن.
الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لَيْسَ} تقدم على اسمها. {طَعامٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية يجوز فيها ما جاز بجملة:
{تَصْلى ناراً حامِيَةً} . {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ ضَرِيعٍ:} متعلقان بمحذوف حال مستثنى من عموم الأحوال. {لا:} نافية. {يُسْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {ضَرِيعٍ،} والمفعول
محذوف، والجملة الفعلية في محل جر صفة {ضَرِيعٍ}. وقيل: صفة {طَعامٌ،} وهو ضعيف.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {يُغْنِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {ضَرِيعٍ} أيضا. والمفعول محذوف، التقدير: لا يسمن آكله، ولا يغنيه. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {مِنْ جُوعٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، وقيل:
{مِنْ} صلة، و {جُوعٍ} مفعول به. وهو ضعيف.
الشرح: لما ذكر حال الأشقياء أهل النار؛ ذكر حال السعداء أهل الجنة. وهذا من باب المقابلة؛ التي ذكرتها لك كثيرا. وهي أن الله جلت قدرته جرت سنته في كتابه: أنه لم يذكر حال الأشقياء؛ إلا ويذكر حال السعداء، ولا التصديق من المؤمنين؛ إلا ويذكر التكذيب من الكافرين، ولا يذكر الجنة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار، وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط. ليكون المؤمن راغبا راهبا، خائفا راجيا.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ:} حسنة ذات بهجة، وحسن. وقيل: متنعمة، وهي وجوه المؤمنين، نعمت وترفهت بما جوزيت من عملها الصالح، وهي ذات إشراق، ونضارة، كقوله تعالى في سورة (المطففين):{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} . {لِسَعْيِها راضِيَةٌ} أي: لعملها الذي عملته في الدنيا.
أو المعنى: بسبب سعيها. وهو الأولى. {راضِيَةٌ:} في الآخرة حيث أعطيت الجنة بعملها، ورضيت؛ لأن عملها أورثها جنات النعيم، والسرور، والحبور، وراحة البال، وهناءة الضمير.
{فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ} أي: مرتفعة؛ لأنها فوق السموات السبع، كما رأيت في سورة (المطففين) وغيرها. وقيل: عالية القدر؛ لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون، وهم في الغرفات آمنون. {لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً} أي: كلاما ساقطا غير مرضي، من كذب وبهتان، وإثم وباطل، وشتم، وغير ذلك؛ لأن أهل الجنة، لا يتكلمون إلا بالحكمة، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم المقيم، والخير العميم.
الإعراب: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب الآية رقم [2] بلا فارق بينهما. وقال القرطبي: وفيها واو مضمرة، المعنى: ووجوه يومئذ، ليفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة. أقول: ويؤيد ذلك التصريح بالواو في سورة (القيامة) وسورة (عبس) والله ولي التوفيق. وقال به ابن هشام في المغني، وأورد قول الحطيئة-وهو الشاهد رقم [109] من كتابنا:
«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
إنّ امرأ رهطه بالشّام منزله
…
برمل يبرين جارا شدّ ما اغتربا
إذ التقدير: ومنزله برمل، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها بواو محذوفة. {لِسَعْيِها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {راضِيَةٌ:} خبر ثان ل: {وُجُوهٌ} الواقع مبتدأ. {فِي جَنَّةٍ:}
متعلقان بمحذوف خبر آخر ل: {وُجُوهٌ،} أو بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هي في جنة، وتكون الجملة في محل رفع خبر آخر ل:{وُجُوهٌ} . {عالِيَةٍ:} صفة {جَنَّةٍ} . {لا:}
نافية. {تَسْمَعُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، أو هي؛ أي: الوجوه، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل:{جَنَّةٍ،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما بعدها، والرابط: الضمير فقط. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لاغِيَةً:} مفعول به.
الشرح: {فِيها:} في الجنة. {عَيْنٌ جارِيَةٌ} أي: بماء متدفق، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود. وقيل: تجري حيث أرادوا من منازلهم، وقصورهم. وانظر شرح {عَيْناً} في سورة (الدهر) رقم [6]. {فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} أي: عالية. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أهلها الجلوس عليها؛ تواضعت لهم؛ حتى يجلسوا عليها، ثم ترتفع إلى مواضعها.
{وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ} أي: أباريق وأوان، والإبريق: هو ما له عروة، وخرطوم. والكوب: إناء ليس له عروة، ولا خرطوم. والملاحظ: أن لفظ (أكواب) جاء هنا وفي سورة (الزخرف) و (الواقعة) وسورة (الدهر) بلفظ الجمع، ولم يأت له مفرد قطعا؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور، والرقة، والانكشاف، وحسن التناسب كلفظ (أكواب) الذي هو الجمع.
ومعنى {مَوْضُوعَةٌ} معدة مهيأة لهم. وقيل: موضوعة على حافات العين الجارية، كلما أرادوا الشرب منها؛ وجدوها مملوءة. ويجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار، أوساط بين الصغر، والكبر، كقوله تعالى في سورة (الدهر):{قَدَّرُوها تَقْدِيراً} .
{وَنَمارِقُ:} جمع نمرقة بضم النون، والراء، وكسرهما، لغتان، أشهرهما الأولى، وهي:
وسادة صغيرة {مَصْفُوفَةٌ؛} أي: واحدة إلى جنب الأخرى. قال الشاعر: [الطويل]
وإنّا لنجري الكأس بين شروبنا
…
وبين أبي قابوس فوق النّمارق
وقال آخر: [الطويل]
كهول وشبّان حسان وجوههم
…
على سرر مصفوفة ونمارق
وانظر قول هند في أول سورة (الطارق). {وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ:} قال أبو عبيدة: الزرابيّ: البسط.
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الزرابي: الطنافس؛ التي لها خمل رقيق، واحدتها زربيّة.
وقاله الكلبي، والفراء. وال:{مَبْثُوثَةٌ} المبسوطة. وقيل: متفرقة في المجالس. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {عَيْنٌ:} مبتدأ مؤخر. {جارِيَةٌ:} صفة {عَيْنٌ،} والجملة الاسمية يجوز فيها ما جاز بالجملة الفعلية قبلها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، وكذلك جملة:{فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} يجوز فيها ذلك، وإعرابها مثلها. {وَأَكْوابٌ:} الواو: حرف عطف. (أكواب): معطوف على {سُرُرٌ،} و {مَوْضُوعَةٌ} صفة له، وكذا ما بعده معطوف على {سُرُرٌ} وصفتان لهما.
الشرح: قال المفسرون: لما ذكر الله عز وجل مصير أهل الإيمان، والطاعة، ومصير أهل الكفر، والفجور؛ تعجب كفار قريش من ذلك، فكذبوا، وأنكروا، فذكرهم الله جليل صنعته، وعظيم قدرته، وأنه قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات، والسّماء، والأرض. وخصّ الإبل بالذكر، وقدّمها؛ لأنها من أنفس أموال العرب، ولهم فيها منافع كثيرة. والمعنى: أنّ الذي صنع لهم هذه الدنيا هو الذي صنع لأهل الجنة ولأهل النار ما صنع.
وتكلم علماء التفسير في وجه تخصيص الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل:
لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا النادر منهم. وقال الكلبي:
لأنها تنهض بحملها وقد كانت باركة. وقال قتادة: لما ذكر الله ارتفاع سرر الجنة، وفرشها.
قالوا: كيف نصعد؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وسئل الحسن البصري-رحمه الله تعالى-عن هذه الآية. وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال: أما الفيل فإنّ العرب بعيدة العهد به، ثم هو لا خير فيه؛ لأنه لا يركب ظهره، ولا يؤكل لحمه، ولا يحلب درّه، والإبل أعز مال العرب، وأنفسه، تأكل النوى، والقت، وغيره، وتخرج اللبن. ومن منافع الإبل: أنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها، فيذهب بها حيث شاء. ومنها: أنها فضلت على سائر الحيوانات بأشياء.
وذلك: أن جميع الحيوانات تقتنى إما للزينة، أو للركوب، أو للحمل، أو للّبن، أو لأجل اللحم، ولا توجد هذه الخصال إلا في الإبل، فإنها زينة، وتركب، فيقطع عليها المفازات
البعيدة، وتحمل الثقيل، وتحلب الكثير، ويأكل من لحمها الجم الغفير، وتصبر على العطش عدة أيام. ومنها: أنه يحمل عليها، وهي باركة، ثم تنهض، وكان شريح القاضي-رحمه الله تعالى- يقول: اخرجوا بنا إلى الإبل؛ لننظر كيف خلقت.
فإن قلت: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء، والأرض، والجبال، ولا مناسبة بينهما؟! ولم بدأ بذكر الإبل قبل السماء، والأرض، والجبال؟ قلت: لما كان المراد ذكر الدلائل الدالة على توحيده، وقدرته، وأنه الخالق لهذه الأشياء جميعها، وكانت الإبل من أعظم شيء عند العرب، فينظرون إليها ليلا، ونهارا، ويصاحبونها ظعنا، وسفرا؛ ذكرهم عظيم نعمته عليهم فيها. ولهذا بدأ بها؛ لأنها من أعجب الحيوانات عندهم. انتهى. كله من الخازن. وما أحراك أن تنظر ما ذكر في سورة (يس) الآية رقم [71] وما بعدها.
هذا؛ وقال القرطبي: وقيل: الإبل هنا القطع العظيمة من السّحاب. قاله المبرد. قال الثعلبي: وقيل في الإبل هنا: السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمة. قلت: قد ذكر الأصمعي قال أبو عمرو: من قرأها بالتخفيف عنى به البعير، ومن قرأها بالتثقيل «(الإبلّ)» عنى بها السحاب التي تحمل الماء للمطر. انتهى. قرطبي بتصرف كبير.
هذا؛ والإبل: اسم جمع لا واحد له من لفظه، فمفرده: جمل، أو ناقة، والبعير يشملهما كالإنسان للرجل، والمرأة، وقوله تعالى حكاية عن قول أولاد يعقوب لأبيهم:{وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} دليل واضح على ذلك. هذا؛ ويجمع على: آبال، والإبل مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، مثل: خيل، وغنم، وإبل، فالتأنيث لها لازم، وإذا قالوا: خيلان، وغنمان، وإبلان، فإنما يريدون قطيعين من الخيل، والغنم، والإبل.
{وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ:} فوق الأرض بغير عمد، ولا ينالها شيء. قال تعالى في سورة (الرعد) رقم [2]:{اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} . {وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أي: على الأرض نصبا ثابتا راسخا لا يزول. وذلك: أن الأرض لما دحيت؛ مادت، فأرساها بالجبال، كما قال:{وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} رقم [31] من سورة (الأنبياء)، وفي سورة (النحل) رقم [15]:{وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي:
بسطت، ومهدت بحيث يستقر على ظهرها كل شيء. أثبت علماء المسلمين: أن الأرض كروية الشكل كالإمام الفخر الرازي، وأبي السعود، والآلوسي. ومعنى كونها مسطحة، أو مبسوطة، فإنما هي بالنسبة لعظمتها وسمتها، أو بالنسبة للناظرين، فليس في القرآن ما يخالف الحقائق العلمية. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [30] من سورة (النازعات).
هذا؛ وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غير الله القادر على كل شيء؟!
الإعراب: {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. الفاء: حرف عطف. (لا): نافية.
{يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {إِلَى الْإِبِلِ:} متعلقان بما قبلهما. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من نائب فاعل {خُلِقَتْ} بعده، تقدم على صاحبه، وعامله. {خُلِقَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى {الْإِبِلِ،} والجملة الفعلية في محل جر بدل اشتمال من الإبل، والجملة الفعلية:{يَنْظُرُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة.
وتقدير الكلام: أينكرون، فلا ينظرون إلى الإبل كيفية خلقها؟! والجمل بعدها معطوفة عليها، وهي مثلها في الإعراب، والتقدير؛ إذ التقدير: وينظرون إلى السماء كيفية رفعها
…
إلخ. هذا؛ ومثل هذه الآيات في إبدال الجملة مما قبلها، قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [258]:
{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها،} فالجملة الفعلية: {كَيْفَ نُنْشِزُها} بدل اشتمال من العظام، التقدير: وانظر إلى العظام كيفية نشزها، وأيضا قوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [45]:{أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} التقدير: ألم تر إلى ربك كيفية مده الظل؟ وأيضا قول الفرزدق-وهو الشاهد رقم [373] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : إعراب شواهد مغني اللبيب-: [الطويل]
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة
…
وبالشّام أخرى كيف يلتقيان
الشرح: {فَذَكِّرْ..} . إلخ: أي: فذكرهم يا محمد، وعظهم إنما أنت مذكر، وواعظ، ومخوف. {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} أي: لست عليهم بمسلط، فتقتلهم، أو تكرههم على الإيمان.
وهذه الآية، وأمثالها منسوخ بآية السيف. انظر آخر سورة (الطارق) القريبة منك. والمسيطر:
القاهر الغالب، من: سيطر عليه: إذا راقبه، وحفظه، أو قهره. ولم يأت على:«مفيعل» إلا خمسة ألفاظ: أربعة صفة اسم فاعل، وهي مهيمن، ومبيقر، ومبيسط، ومبيطر، وواحد اسم جبل، وهو: المجيمر. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [89]: [الطويل]
كأنّ ذرى رأس المجيمر غدوة
…
من السّيل والإغثاء فلكة مغزل
هذا؛ ويقرأ بالسين، والصاد، ومثله:(المسيطرون) في سورة (الطور). هذا؛ وفي الصحاح: المسيطر، والمصيطر: المسلط على الشيء؛ ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب أعماله، وأقواله. ولم يرد هذا اللفظ في غير هذه السورة، وفي سورة (الطور)، والآية مثل قوله
تعالى في آخر سورة (ق): {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ} . وقال تعالى في سورة (الشورى): {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} رقم [48].
{إِلاّ مَنْ تَوَلّى وَكَفَرَ} أي: تولى عن الوعظ، والتذكير، فإن لله الولاية، والقهر. {فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ:} وهي جهنم الدائم عذابها. وإنما قال: {الْأَكْبَرَ؛} لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع، والقحط، والأسر، والقتل. روي أن عليا-رضي الله عنه-أتي برجل من السبأيين ارتد، فاستتابه ثلاثة أيام، فلم يعاود الإسلام، فضرب عنقه، وقرأ:{إِلاّ مَنْ تَوَلّى وَكَفَرَ} والمشهور أنهم كانوا سبعة من السبأيين. قالوا له: أنت الإله، فنهاهم، فلم ينتهوا، فقتلهم.
{إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ} أي: إن إلينا رجوعهم بالموت، والبعث، لا إلى أحد سوانا، لا استقلالا ولا اشتراكا، ثم إن علينا حسابهم في المحشر، لا على غيرنا، و {ثُمَّ} للتراخي في الرتبة لا في الزمان، فإن الترتيب الزماني بين إيابهم، وحسابهم، لا بين كون إيابهم إليه تعالى، وحسابهم عليه تعالى، فإنهما أمران مستمران. وجمع الضمير في {إِيابَهُمْ} و {حِسابَهُمْ} باعتبار معنى {مَنْ} كما أن إفراده في:(يعذبه) باعتبار لفظها، وفي تصدير الجملتين ب:{إِنَّ} وتقديم خبرها، وعطف الثانية على الأولى بكلمة {ثُمَّ} المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لتشديد العذاب ما لا يخفى. انتهى. أبو السعود. وقال الخطيب: فإن قيل: ما معنى تقديم الظرف؟ أجيب: بأن معناه: التشديد في الوعيد، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير، والقطمير. انتهى. جمل. وليس على الله واجب، وإنما المراد: التشديد بالوعيد.
{لَسْتَ:} حذفت عينه لالتقاء الساكنين: الياء والسين، إذا أصلة ليس بكسر الياء، ثم سكنت الياء للتخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأن التخفيف بالتسكين في الجامد أسهل من القلب، فلما اتصل بضمير رفع متحرك سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
هذا؛ والإياب: الرجوع، وهو مصدر آب، يؤوب، وأصله: إواب مثل: القيام، والصيام، أبدلت الواو ياء لانكسار ما قبلها واعتلالها في الفعل، ويقرأ بتشديد الياء، وأصله: إيواب على:
فيعال، فاجتمعت الواو، والياء، وسبقت الأولى بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وخذ قول عبيد بن الأبرص في معلقته رقم [16]:[مخلع البسيط]
وكلّ ذي غيبة يؤوب
…
وغائب الموت لا يؤوب
الإعراب: {فَذَكِّرْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فذكر. (ذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر ب:«إذا» . {إِنَّما:}
كافة، ومكفوفة. {أَنْتَ مُذَكِّرٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية تعليل للأمر لا محل لها.
{لَسْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {بِمُصَيْطِرٍ:} الباء: حرف جر صلة. (مصيطر): خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية تعليل آخر للتذكير، لا محل لها أيضا.
{إِلاّ:} حرف حصر. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع من الضمير في: {عَلَيْهِمْ} . وقيل: متصل، ويكون مستثنى من مفعول {فَذَكِّرْ} أي: فذكر عبادي إلا من تولى. وقيل: {مَنْ} بدل من الضمير في {عَلَيْهِمْ،} وهذه الأوجه في الإعراب تجعل جملة: {فَيُعَذِّبُهُ..} . إلخ مستأنفة منقطعة عما قبلها، لذا فالوجه: اعتبار {مَنْ} اسم شرط جازما مبنيا على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَوَلّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى {مَنْ} تقديره:«هو» . {وَكَفَرَ:}
الواو: حرف عطف. (كفر): فعل ماض، وفاعله مستتر أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَيُعَذِّبُهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (يعذبه): فعل مضارع، {اللهُ:} فاعله.
والهاء مفعول به. {الْعَذابَ:} مفعول مطلق. {الْأَكْبَرَ:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو يعذبه، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وجملة الشرط، وجملة الجواب كلتاهما في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} . هذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، وخبره جملة:
{فَيُعَذِّبُهُ..} . إلخ. ودخلت الفاء على خبره؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى جميع الاعتبارات فالجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب على الاستثناء المنقطع، ومثل هذه الآية في إعرابها الآية رقم [160] من سورة (البقرة)، والآية رقم [60] من سورة (مريم)، والآية رقم [70] من سورة (الفرقان).
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها. {إِيابَهُمْ:} اسم {إِنَّ} مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.
تنبيه: جاء في مغني اللبيب ما نصه: وتستعمل «كيف» على وجهين: أحدهما أن تكون شرطا، فيقتضي فعلين متفقي اللفظ، والمعنى غير مجزومين، نحو كيف تصنع؛ أصنع، ولا يجوز: كيف تجلس أذهب باتفاق، ولا كيف تجلس أجلس بالجزم عند البصريين إلا قطربا لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها، كما مرّ. وقيل: يجوز مطلقا، وإليه ذهب قطرب، والكوفيون. وقيل: يجوز بشرط اقترانها بما. قالوا: ومن ورودها شرطا: {يُنْفِقُ}
كَيْفَ يَشاءُ و {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} و {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ} وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبله عليه. وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشرطها.
وقد استدرك بعض المعلقين على المغني، فقال: أجاب بعضهم بأنه يمكن أن يقدر الجواب موافقا للشرط بأن يقدر الجواب فعل مشيئة متعلق بالفعل السابق، وهو دال عليه؛ لأن الفعل الاختياري يستلزم المشيئة، والأصل كيف يشاء أمرا؛ يشاء التصوير في الأرحام. كيف يشاء أمرا؛ يشاء الإنفاق، كيف يشاء أمرا؛ يشاء بسطه. غاية الأمر أن متعلق الفعلين مختلف، وهذا جواب بعيد؛ لأنهم قالوا: لدلالة ما قبله؛ لأن المتبادر: أنه دال على الجواب، وعلى رفع الإشكال، فيكون ما قبلها دالا على متعلق جوابها، لا على نفس جوابها. وقد علمت دفع هذا بأن الفعل الاختياري، وهو الفعل الواقع قبلها يستلزم المشيئة، وهو الجواب المحذوف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (الغاشية) شرحا، وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.