الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الطّارق
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الطارق) مكية على قول الجميع، وهي سبع عشرة آية، وإحدى وستون كلمة، ومئئان وتسعة وثلاثون حرفا. روى النسائي عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: صلى معاذ بن جبل المغرب، فقرأ:(البقرة) و (النساء)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفتّان أنت يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ ب: {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ،} و {وَالشَّمْسِ وَضُحاها،} ونحوها؟!» . رواه النسائي، فمعاذ-رضي الله عنه صلى المغرب إماما في مسجد حيّه، فقرأ السورتين الكريمتين فشكاه المصلون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما قال، أما مسلمو هذا الزمن؛ فإنهم لو صلى إمامهم وقرأ ب:{وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ} ونحوها، فإنهم يملون ويضجرون. وهذا واقع، ومشاهد في هذا الزمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطّارِقُ (2) النَّجْمُ الثّاقِبُ (3)}
الشرح: {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ:} أقسم الله بهما. انظر السورة السابقة؛ ففيها الكفاية. هذا؛ و (الطارق): النجم، واختلف فيه، فقيل: هو زحل الكوكب الذي في السماء السابعة. ذكره محمد بن الحسن في تفسيره، وذكر له أخبارا؛ الله أعلم بصحتها. وقال ابن زيد: هو الثريا.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-هو الجدي، وعنه أيضا، وعن علي-رضي الله عنهما:
{النَّجْمُ الثّاقِبُ} نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد.
وروى أبو صالح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلأت الأرض نورا، ففزع أبو طالب. وقال: أيّ شيء هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
«هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله» . فعجب أبو طالب، ونزل:{وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ} . وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [23] -وهو الشاهد رقم [480] من كتابنا:
«فتح رب البرية» -: [الطويل]
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
وقال أيضا-وقيل: هو لعلقمة الفحل-: [الطويل]
ألم ترياني كلّما جئت طارقا
…
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
فالطارق: النجم، اسم جنس سمي بذلك؛ لأنه يطرق ليلا، ومنه الحديث:«نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا؛ كي تستحدّ المغيبة، وتمتشط الشّعثة» . والعرب تسمي كل قاصد في الليل:
طارقا. يقال: طرق فلان: إذا جاء بليل. وقد طرق، يطرق طروقا، فهو طارق، وفي الصحاح:
والطارق: النجم الذي يقال له: كوكب الصبح ومنه قول هند بنت طارق بن بياضة الإيادي من مقطوعة قالتها في حرب الفرس لإياد، وتمثلت بها هند أم معاوية فيما بعد في وقعة أحد:[مجزوء الرجز]
نحن بنات طارق
…
نمشي على النّمارق
فهي تريد: إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء. وقال قوم: إنه قد يكون نهارا، والعرب تقول: أتيتك اليوم طرقتين. أي: مرتين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار؛ إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن!» . وقال جرير في الطروق: [الكامل]
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
…
حين الزيارة فارجعي بسلام
{وَما أَدْراكَ مَا الطّارِقُ؟} هذا تفخيم لشأن المقسم به. وانظر سورة (الانفطار). {النَّجْمُ الثّاقِبُ} أي: المضيء. قال تعالى في سورة (الصافات): {فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} يقال: ثقب ثقوبا، وثقابة:
إذا أضاء، وثقوبه: ضوءه، والعرب تقول: أثقب نارك؛ أي: أضئها. قال الشاعر: [الطويل]
أذاع به في النّاس حتى كأنّه
…
بعلياء نار أوقدت بثقوب
والثقوب: ما تشعل به النار من دقاق العيدان. هذا؛ ورجل ثاقب الرأي: إذا كان صحيح التفكير، نافذ البصيرة. هذا؛ وقال الصاوي، وغيره: قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكر الشمس والقمر، والنجوم؛ لأن أحوالها في أشكالها، وسيرها، ومطالعها، ومغاربها عجيبة دالة على انفراد خالقها بالكمالات؛ لأن الصنعة تدل على الصانع. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَالسَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. وانظر ما ذكرته في أول سورة (البروج) و (المرسلات) و (الذاريات) بشأن هذا القسم، والمقسم به. {وَالطّارِقِ:}
الواو: حرف عطف. (الطارق): معطوف على ما قبله. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما):
اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَدْراكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (ما) تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول. {مَا الطّارِقُ:}
مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعول {أَدْراكَ} الثاني المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. وقال زاده: في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني، والثالث ل:{أَدْراكَ؛} لأنه بمعنى: أعلم، والجملة الفعلية:{أَدْراكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَما أَدْراكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، واعتبارها معترضة أولى. {النَّجْمُ:}
خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو النجم. {الثّاقِبُ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من {الطّارِقِ،} والعامل في الحال اسم الاستفهام.
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ (4)}
الشرح: قال قتادة: حفظة يحافظون عليك رزقك، وعملك، وأجلك. وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ يحفظها من الآفات حتى يسلمها إلى القدر؛ أي: المقادير. هذا؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «وكّل بالمؤمن ملائكة يذبون عنه ما لم يقدر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين؛ لاختطفته الشياطين» . أقول: وهذا الحفظ يشمل المؤمن، والفاجر، والفاسق، والكافر بلا ريب. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [10] من سورة (الانفطار). هذا؛ ويقرأ بتشديد الميم، وتخفيفها.
الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {لَمّا:} حرف بمعنى: «إلا» مفيدة للحصر. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {حافِظٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الجار، والمجرور متعلقين بمحذوف خبر {كُلُّ،} ف: {حافِظٌ} يكون فاعلا بمتعلق الجار، والمجرور. هذا؛ وعلى قراءة تخفيف الميم ف:{إِنْ} مخففة من الثقيلة مهملة، و {كُلُّ} مبتدأ، واللام هي الفارقة بين النفي والإثبات، وهي لازمة. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]
وخفّفت إنّ فقلّ العمل
…
وتلزم اللاّم إذا ما تهمل
وما صلة، وباقي الإعراب مثل ما تقدم بلا فارق، وأجيز تعليق {عَلَيْها} ب:{حافِظٌ} على أنه خبر {كُلُّ،} والجملة الاسمية على الاعتبارين جواب القسم لا محل لها، وما بينهما كلام معترض لا محل له. هذا؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (يس) رقم [32]:{وَإِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ،} وقوله في سورة (الزخرف) رقم [35]: {وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} وخذ قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [515] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الرجز]
قالت له بالله يا ذا البردين
…
لمّا غنثت نفسا أو اثنين
الشرح: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ} أي: ابن آدم. والمعنى: فلينظر الإنسان نظر تفكر، واعتبار. {مِمَّ خُلِقَ؟:} من أي شيء خلقه الله؟ قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وجه الاتصال بما قبله:
توصية الإنسان بالنظر في أول أمره، وسنته الأولى، حتى يعلم: أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة، والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. وانظر الكلام على {عَمَّ} في سورة (النبأ) رقم [1].
{خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ} أي: من المني المتدفق؛ الذي ينصب بقوة، وشدة، يتدفق من الرجل، والمرأة، فيتكون منه الولد بقدرة الله، والدفق: صب الماء، و {دافِقٍ} بمعنى مدفوق، كما قالوا:
سر كاتم؛ أي: مكتوم، والمراد ماء الرجل، والمرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما.
هذا؛ وفي الجمل: و {دافِقٍ} من صيغ النسب، كلابن، وتامر؛ أي: ذي دفق، وهو صادق على الفاعل، والمفعول، أو هو مجاز في الإسناد، فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة، أو هو استعارة مكنية، أو تخييلية، أو مصرحة بجعله دافقا؛ لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضا؛ أي: يدفعه كما أشار له ابن عطية. انتهى. نقلا من الشهاب.
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} أي: الظّهر، وفيه لغات أربع: صلب، وصلب. وقرئ بهما، وصلب، وصالب، ومنه قول العباس-رضي الله عنه:[المنسرح]
تنقل من صالب إلى رحم
…
إذا مضى عالم بدا طبق
ويجمع على: أصلاب، وأصلب، وصلبة، ويقال: هو من صلب فلان. أي: من نسله، وولده.
{وَالتَّرائِبِ:} عظام الصدر، والصلب: فقار الظهر، ويسمى سلسلة الظهر، والأول من المرأة والثاني من الرجل، ومن الأول قول امرئ القيس في معلقته رقم [30]:[الطويل]
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
…
ترائبها مصقولة كالسّجنجل
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الترائب: موضع القلادة في الصدر، وعنه ما بين ثدييها، والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر، والنحر. قال دريد بن الصمة:[الطويل]
فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم
…
وإن تقبلوا نأخذكم في التّرائب
وقال المخبل السعدي: [الكامل]
والزعفران على ترائبها
…
شرق به اللّبّات والنّحر
وواحد الترائب: تريبة، مثل: صحيفة، وصحائف. قال المثقب العبدي:[الوافر]
ومن ذهب يسنّ على تريب
…
كلون العاج ليس بذي غضون
وقد جمعت على (ترائب) باعتبار ما حولها، وما أحاط بها، ولم يجمع الصلب كما جمعت التربية، وكذلك تقول العرب: رأيت خلاخيل المرأة، وثديها: وإنما لها ثديان، وخلخالان.
{إِنَّهُ} أي: الله جل ثناؤه. {عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ} أي: أن الله تعالى قادر على أن يرد النطفة في الإحليل. وقيل: قادر على أن يرد الماء في الصلب الذي خرج منه. وقيل: معناه إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقيل: معناه وإن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء، قادر على إعادته حيا بعد موته، وهو أهون عليه، ولا صعب على الله، وهذا القول هو الأصحّ، وأحقّ بالاعتبار بمعنى الآية لقوله جلّ ذكره بعده {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ} .
ومعنى {تُبْلَى} تظهر الخبايا، والأمور المستورة في الدنيا. وقيل:{تُبْلَى} تعرف. قال الراجز: [الرجز]
قد كنت قبل اليوم تزدريني
…
فاليوم أبلوك وتبتليني
و {السَّرائِرُ} جمع: سريرة، وهي كل ما كان استسره الإنسان من خير، أو شر، وأضمره من إيمان وكفر، كما قال الأحوص:[الطويل]
إذا رمت عنها سلوة قال شافع
…
من الحبّ ميعاد السّلوّ المقابر
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
…
سريرة ودّ يوم تبلى السّرائر
وقيل: {السَّرائِرُ} فرائض الأعمال، كالصوم والصّلاة، والزكاة، والوضوء، والغسل من الجنابة. فكل هذه سرائر بين العبد وبين ربه عز وجل، وذلك؛ لأن العبد قد يقول في الدنيا:
صليت؛ ولم يصلّ، وصمت؛ ولم يصم، وزكيت؛ ولم يزك، واغتسلت؛ ولم يغتسل، فإذا كان يوم القيامة يختبر؛ حتى يظهر من أداها، ومن ضيعها. قال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: يبدي الله يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في وجوه، وشينا في وجوه. فمن أدى الفرائض، كما أمر؛ كان وجهه مشرقا مستنيرا يوم القيامة. ومن ضيعها، أو انتقص منها شيئا؛ كان وجهه أغبر. والله عالم بكل شيء، ولكن يظهر ما ذكر علامات للمؤمنين، وفيه ما فيه من السرور، والغبطة، والحبور.
قال محمد علي الصابوني-جزاه الله خيرا-: اكتشف الطب الحديث: أن هذا السائل من مني الإنسان يحوي حيوانات صغيرة، تسمى:(الحيوانات المنوية) وهي لا ترى بالعين المجردة، إنما ترى (بالمكروسكوب) وكل حيوان منها، له رأس، ورقبة، وذيل، يشبه دودة العلق في شكلها، ورسمها، وأن هذا الحيوان يختلط بالبويضة الأنثوية، فيلقحها، فإذا ما تم اللقاح؛ انطبق عنق الرحم، فلم يدخل بعده شيء إلى الرحم، وأما بقية الحيوانات؛ فتموت، وهذه الناحية العلمية:(وهي: أن الحيوان المنوي يشبه العلق في الشكل، والرسم). قد أثبتها القرآن في سورة (العلق): {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ} فهذه الآية معجزة بليغة من معجزات القرآن، لم يظهر وقت نزولها، ولا بعده بمئات السنين إلى أن اكتشف المجهر المكبر المذكور، وعرف كيف يتكون الإنسان بقدرة الله. انتهى.
الإعراب: {فَلْيَنْظُرِ:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: الفاء الفصيحة. وليس بشيء يعتد به.
(لينظر): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {الْإِنْسانُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، والفعل معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {مِمَّ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، و (ما) اسم استفهام مبني على السكون في محل جر ب:(من)، وحذفت ألفها فرقا بين الخبر، والاستخبار.
{خُلِقَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفعل يعود إلى {الْإِنْسانُ،} تقديره: «هو» ، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به للفعل:(ينظر). {خُلِقَ:} بدل من سابقه، والأول مطلق، والثاني مقيد بالجار، والمجرور. وقيل: الجملة مستأنفة، وليس بشيء. {مِنْ ماءٍ:}
متعلقان بما قبلهما. {دافِقٍ:} صفة {ماءٍ} . {يَخْرُجُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {ماءٍ،} والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل: {ماءٍ،} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم. {مِنْ بَيْنِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَيْنِ} مضاف، و {الصُّلْبِ} مضاف إليه. وقيل:{بَيْنِ} مقحمة بين الجار، والمجرور. {وَالتَّرائِبِ:} الواو: حرف عطف. (الترائب): معطوف على ما قبله. {إِنَّهُ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَلى رَجْعِهِ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {لَقادِرٌ:} خبر (إنّ)، واللام هي لام الابتداء زحلقت إلى الخبر، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ تعليلية لا محل لها.
{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالمصدر {رَجْعِهِ} ولا يجوز تعليقه ب: (قادر)؛ لأن الله تعالى قادر في كل الأوقات، لا تختص قدرته بوقت دون وقت، وفي المغني:{يَوْمَ} متعلق بفعل محذوف تقديره: يرجعه، ولا يتعلق بالمصدر:{رَجْعِهِ؛} لأنه فصل بينه، وبين معموله بالأجنبي، وهو قوله:(قادر). {تُبْلَى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {السَّرائِرُ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها.
الشرح: {فَما لَهُ:} للإنسان المعاند للحق، المنكر للبعث، والحساب، والجزاء، {مِنْ قُوَّةٍ:} يمتنع بها من عذاب الله، وغضبه، وانتقامه. {وَلا ناصِرٍ:} ينصره من عذاب الله، وسخطه، {وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ} أي: ذات المطر، ترجع كل سنة بمطر بعد مطر، وترجع به كل وقت، وحين. قاله أهل اللغة، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء:[السريع]
أبيض كالرجع رسوب إذا
…
ما ثاخ في محتفل يختلي
ثاخت قدمه في الوحل، تثوخ، وتثيخ: خاضت وغابت فيه. وقد يسمى المطر أيضا: أوبا كما يسمى رجعا. قال المتنخل الهذلي: [البسيط]
ربّاء شمّاء لا يأوي لقلّتها
…
إلاّ السحاب وإلاّ الأوب والسّبل
{وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ} أي: تتصدع، وتنشق عن النبات، والشجر، والأنهار. قال تعالى في سورة:(عبس): {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} . {إِنَّهُ} أي: القرآن. {لَقَوْلٌ فَصْلٌ:} فاصل بين الحق، والباطل، كما قيل له:«فرقان» يفرق بين الحق، والباطل. {وَما هُوَ بِالْهَزْلِ:} باللعب، والعبث، والباطل، و (الهزل) ضد الجد، وقد هزل، يهزل. قال الكميت:[الطويل]
أرانا على حبّ الحياة وطولها
…
يجدّ بنا في كلّ يوم ونهزل
هذا؛ وروى الحارث عن علي-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل. من تركه من جبار؛ قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره؛ أضلّه الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم ينته الجنّ إذ سمعته؛ حتى قالوا: {إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ} من قال به؛ صدق، ومن عمل به؛ أجر، ومن حكم به؛ عدل، ومن دعا إليه؛ هدي إلى صراط مستقيم» .
هذا؛ والقول يطلق على خمسة معان: أحدها: اللفظ الدال على معنى، الثاني: حديث النفس، ومنه قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ} . الثالث: الحركة، والإمالة، يقال:
قالت النخلة؛ أي: مالت. الرابع: ما يشهد به الحال كما في قوله تعالى: {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} .
الخامس: الاعتقاد، كما تقول: هذا قول المعتزلة، وهذا قول الأشاعرة. أي: ما يعتقدونه.
وانظر الكلام بعد الإعراب.
الإعراب: {فَما:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية. {لَهُ:} جار، ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قُوَّةٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية السابقة، فهي في محل جر مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف.
(لا): نافية، أو هي صلة لتوكيد النفي. {ناصِرٍ:} معطوف على ما قبله. {وَالسَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. وانظر ما ذكرته في أول السورة. {ذاتِ:} صفة (السماء)، وهو مضاف، و {الرَّجْعِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ} (12): معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَقَوْلٌ:} خبرها، واللام المزحلقة. {فَصْلٌ:} صفة (قول)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ..} . إلخ جواب القسم لا محل لها.
{وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» ، أو هي مهملة لا عمل لها. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما)، أو هو في محل رفع مبتدأ.
{بِالْهَزْلِ:} الباء: حرف جر صلة. (الهزل): خبر (ما)، أو خبر المبتدأ، فهو مجرور لفظا، منصوب، أو مرفوع محلا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من اسم (إنّ) فالمعنى لا يأباه، وعليه فالرابط: الواو، والضمير.
تنبيه: بمناسبة الكلام على القول: فأتكلم على الكلام، فأقول: أما الكلام بالنسبة للبشر، فهو يدل على أحد ثلاثة أمور:
أولها: الحدث الذي يدل عليه لفظ التكليم، تقول: أعجبني كلامك، تريد تكليمك إياه.
وقال الشاعر: [البسيط]
قالوا كلامك هندا وهي مصغية
…
يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا
ثانيها: ما يدور في النفس من هواجس، وخواطر، وكل ما يعبر عنه باللفظ؛ لإفادة السامع ما قام بنفس المخاطب، فيسمى هذا الذي تخيلته في نفسك كلاما في اللغة العربية. تأمل قول الأخطل التغلبي:[الكامل]
لا يعجبنّك من خطيب خطبة
…
حتّى يكون مع الكلام أصيلا
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
…
جعل اللّسان مع الفؤاد دليلا
وثالثها: كل ما تحصل به الفائدة، سواء أكان ما حصلت به لفظا، أو خطّا، أو إشارة، أو دلالة حال؟ انظر إلى قول العرب (القلم أحد اللّسانين) وانظر إلى تسمية المسلمين ما بين دفّتي المصحف:(كلام الله) ثم انظر إلى قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ} وقال جلّ شأنه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} . وإلى كلمته جلت حكمته: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً} . ثم انظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة؛ الذي نفى الكلام اللفظي عن محبوبته، وأثبت لعينها القول، وذلك في قوله:[الطويل]
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
…
إشارة محزون ولم تتكلّم
فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا
…
وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم
ثم انظر إلى قول نصيب بن رباح: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
الشرح: {إِنَّهُمْ} أي: مشركي قريش. {يَكِيدُونَ كَيْداً:} يحتالون بالمكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة، وتشاوروا فيه في ليلة الهجرة، يريدون الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم. {وَأَكِيدُ كَيْداً} أي:
أجازيهم على كيدهم بالإمهال، ثم النكال؛ حيث أخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى في سورة (القلم):{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو السعود: أي: أقابلهم بكيد متين، لا يمكن ردّه حيث أستدرجهم من حيث لا يعلمون. هذا؛ والكيد: الحيلة، والمكر، والخبث، والخداع، وهو بهذه المعاني مستحيل في حقه تعالى، وإنما هو هنا بمعنى: الجزاء، والعقاب. وإنما ذكره بلفظ الكيد من باب المقابلة. وهذا ما يسمى عند البلغاء بالمشاكلة؛ أي: ذكر الله سبحانه جزاءهم وعقابهم من جنس صنيعهم. ومنه قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [67]: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [40]: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} ومثل هذا كثير في الآيات القرآنية، والمراد: مقابلة القبيح بمثله، وإذا قال: أخزاك الله؛ فقل له: أخزاك الله، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها، ولا تعتد. وخذ قول ابن الرقعمق في المشاكلة:[الكامل]
أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة
…
وأتى رسولهم إليّ خصيصا
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه
…
قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا
وقال عمرو بن كلثوم في معلقته رقم [114]: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى جزاء الجهل: جهلا لازدواج الكلام، وحسن تجانس اللفظ، فالجملة الثانية على مثل لفظ الأولى، وهي تخالفها في المعنى؛ لأن ذلك أخف على اللسان. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«فإنّ الله لا يملّ؛ حتّى تملّوا» . فمعناه: أن الله تعالى لا يقطع عنكم فضله؛ حتى تملوا من مسألته، وتزهدوا فيها؛ لأن الله لا يمل في الحقيقة، وإنما نسب الملل إليه لازدواج اللفظين.
{فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ} أي: لا تستعجل عليهم، ولا تدع بهلاكهم. {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً:} أمهلهم قليلا، فسوف ترى ما أصنع بهم! وهذا منتهى الوعيد، والتهديد، ويقال: مهلا يا فلان! أي: رفقا، وسكونا. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [26] وهو الشاهد رقم [4] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
و (الرويد) في كلام العرب تصغير: رود، وكذا قال أبو عبيد، وأنشد قول الجموح الظفري:[البسيط]
تكاد لا تنل البطحاء وطأتها
…
كأنها ثمل يمشي على رود
و (رويد) مصغر تصغير الترخيم من إرواد، وهو مصدر: أرود، يرود.
وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رويد عمرا.
أي: أرود عمرا بمعنى: أمهله، فهو اسم فعل أمر مبني على السكون، وفاعله مستتر فيه.