الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تدعني إلاّ بيا عبدها
…
فإنه أشرف أسمائي
علما بأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر باسمه الصريح في القرآن الكريم، إلا قليلا، ذكر باسم محمد في سورة (آل عمران)، وسورة (الأحزاب)، وسورة (محمد)، وسورة (الفتح)، وذكر باسم أحمد في سورة (الصف)، وذكر باسم طه في سورة (طه)، وذكر باسم ياسين في سورة (يس). هذا؛ والعبد: الإنسان حرّا كان، أو رقيقا، ويجمع على: عبيد، وعباد، وأعبد، وعبدان، وعبدة، وغير ذلك. قال القشيري: لما رفعه الله إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية؛ ألزمه العبودية تواضعا للأمة.
أما «كاد» فهو فعل يدل على مقاربة وقوع الفعل بعده، ولذا لم تدخل عليه «أن» ؛ لأنه يخلص الفعل للاستقبال، وإذا دخل عليه حرف النفي دل على أن الفعل بعدها وقع، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة):{فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} وإذا لم يدخل عليها حرف النفي، لم يكن الفعل بعدها واقعا، ولكنه قارب الوقوع، والفعل منها واوي العين، ف «كاد» أصله كود بكسر الواو، كخوف، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار: كاد، ويكاد أصله: يكود، كيعلم، فقل في إعلاله: نقلت فتحة الواو إلى الكاف قبلها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثم يقال: تحركت الواو بحسب الأصل. وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا، فصار يكاد بوزن يخاف، ومصدرها: الكود، كالخوف، وهذا في الناقصة، وأما كاد التامة فهي يائية العين المفتوحة في الماضي، كباع، ومصدره الكيد، كالبيع، ولذا جاء المضارع في القرآن مختلفا، فمن الأول الناقص: قوله تعالى: {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ} ومن الثاني التام قوله تعالى: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} ومعنى الناقص: المقاربة، ومعنى التام: المكر، والحيلة، والأول ناقص التصرف، ويحتاج إلى مرفوع، ومنصوب، والثاني تام التصرف، ويكتفي بالفاعل، وينصب المفعول به.
فائدة:
قد تأتي كاد بمعنى أراد. قاله محب الدين الخطيب شارح شواهد الكشاف، وجعل منه قول الأفوه الأودي:[البسيط]
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمّع أسباب وأعمدة
…
وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
أي: الذي أرادوا. ومنه قول الآخر: [الكامل]
كدنا وكدت، وتلك خير إرادة
…
لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى
أي: أردنا، وأردت. دليله:(تلك خير إرادة).
تنبيه: شاع على الألسن أن نفي (كاد) إثبات، وإثباتها نفي، ولذا ألغز المعري بقوله:[الطويل]
أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة
…
جرت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبت
…
وإن أثبتت قامت مقام جحود
فأجابه الشيخ جمال الدين بن مالك صاحب الألفية بقوله: [الطويل]
نعم هي كاد المرء أن يرد الحمى
…
فتأتي لإثبات بنفي ورود
وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى
…
فخذ نظمها فالعلم غير بعيد
وقد اتفقت كلمة النحاة على أن (كاد) كسائر الأفعال، وكلامهم متقارب في المعنى في هذا الشأن، انظر الشاهد رقم [1127] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» والأشموني، وغيرهما.
وها أنذا أسوق لك ما ذكره السيوطي-رحمه الله تعالى-في كتابه (همع الهوامع) لتكون على بصيرة من أمرك.
قال-رحمه الله تعالى-: والتحقيق: أنها كسائر الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات، إلا أن معناها المقاربة، لا وقوع الفعل، فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منه نفي الفعل ضرورة أنّ من لم يقارب الفعل لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل، ولا يلزم من مقاربته وقوعه، فقولك:(كاد زيد يقوم) معناه: قارب القيام، ولم يقم، ومنه قوله تعالى:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يقارب الإضاءة، إلا أنه لم يضئ، وقولك:(لم يكد زيد يقوم) معناه لم يقارب القيام، فضلا عن أن يصدر منه، ومنه قوله تعالى:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقارب أن يراها، فضلا عن أن يرى، وقوله تعالى:{وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي: لا يقارب إساغته، فضلا عن أن يسيغه. وعلى هذا الزجاجي، وغيره. وذهب قوم، منهم ابن جني إلى أن نفيها يدل على وقوع الفعل ببطء ل: آية: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} رقم [71] من سورة (البقرة)، فإنهم فعلوا بعد بطء، والجواب: أنها محمولة على وقتين، أي: فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذبح، بل أنكروا أشد الإنكار بدليل قولهم:{أَتَتَّخِذُنا هُزُواً} .
وقال ابن هشام في مغنيه: فالجواب: أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولا بعداء عن ذبحها، بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم، وتكرار سؤالهم. انتهى.
الإعراب: {وَأَنَّهُ:} الواو: حرف عطف. (أنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {لَمّا:}
انظر الآية رقم [13]. {قامَ:} فعل ماض. {عَبْدُ:} فاعله، و {عَبْدُ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {لَمّا} إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محل لها على اعتبار {لَمّا} حرفا. {يَدْعُوهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى:{عَبْداً لِلّهِ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:
{عَبْداً لِلّهِ،} والرابط: الضمير العائد إليه. هذا؛ وإن اعتبرت {قامَ} من أفعال الشروع؛ فالجملة الفعلية في محل نصب خبرها. {كادُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه،
والألف للتفريق. {يَكُونُونَ:} فعل مضارع ناقص مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو اسمه.
{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {لِبَداً} بعدهما؛ الذي هو خبر {يَكُونُونَ،} أو بمحذوف حال منه على مثال ما سبق، وجملة:{يَكُونُونَ..} . إلخ في محل نصب خبر {كادُوا،} والجملة الفعلية جواب {لَمّا} لا محل له، و {لَمّا} ومدخولها في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على الوجهين المعتبرين فيه.
{قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)}
الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ففيه التفات من الغيبة، وقرئ:(قال) بلفظ الماضي، وعليه فلا التفات. {إِنَّما أَدْعُوا:} أعبد. وقيل: هو بمعنى: أسمي، ولذا قدر الجلال له مفعولا ثانيا؛ لأنه بهذا المعنى ينصب مفعولين، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
دعتني أخاها أمّ عمرو ولم أكن
…
أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعدما كان بيننا
…
من الفعل ما لا يفعل الأخوان
{وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً:} قال القرطبي، وغيره: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك. فنزلت الآية. وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب. انظر الالتفات في سورة (الملك).
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» ، وعلى قراءته، بالماضي، فالفاعل تقديره:«هو» يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {أَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {رَبِّي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وعلى اعتباره بمعنى التسمية فالمفعول الثاني محذوف، تقديره: أدعو ربي إلها، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو:
حرف عطف. (لا): نافية. {أُشْرِكُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَحَداً} الذي هو مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21)}
الشرح: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ..} . إلخ: أي: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا، ولا أسوق لكم خيرا، وإنما يملك ذلك القوي القاهر رب العالمين. والرشاد:
والرّشد، والرّشد: الهدى، والخير، والفلاح، والنجاح، والضّرّ بفتح الضاد شائع في كل ضرر، ومصيبة، وبالضم خاص بما في النفس، كمرض، وهزال، وقد نظم بعضهم الفرق بينهما، كما أورد معاني أخر لهما، فقال:[الرجز]
وضدّ نفع قيل فيه ضرّ
…
وجود ضرّة لعرس ضرّ
وسوء حال المرء ذاك ضرّ
…
كذا هزال مرض أو كبر
وفي القاموس المحيط: الضّر، والضّر، والضرر: ضد النفع، والشدة، والضيق، وسوء الحال، والنقصان يدخل في الشيء، والجمع: أضرار. ولا تنس الطباق بين {ضَرًّا} و {رَشَداً} وهو من المحسنات البديعية.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {لا:} نافية. {أَمْلِكُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» .
{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما على التنازع. {ضَرًّا:}
مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {رَشَداً:}
معطوف على ما قبله، وجملة:{لا أَمْلِكُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)}
الشرح: {قُلْ:} الخطاب لسيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي:} لن ينقذني أحد من عذاب الله؛ إن عصيته. فهو كقوله تعالى حكاية عن قول صالح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} رقم [63] من سورة (هود)، ومثله في الآية رقم [30] منها. {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً:} ملجأ ألجأ إليه، ونصيرا أعتمد عليه، وملاذا ألوذ به، ومنه قول الشاعر:[البسيط]
يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية
…
عني وما من قضاء الله ملتحد
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يُجِيرَنِي:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {أَحَدٌ:}
فاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. (لن): حرف ناصب. {أَجِدَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» . {مِنْ دُونِهِ:}
متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال مما بعدهما، كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا. وبعضهم يعتبرهما مفعولا ثانيا تقدم على الأول. {مُلْتَحَداً:} مفعول به، والجملة الفعلية: (لن أجد
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.
الشرح: {إِلاّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ} أي: لا أجد ملجأ، وملاذا إلا إذا بلغت رسالة ربي، ونصحتكم، وأرشدتكم كما أمرني الله، فحينئذ يجيرني ربي من العذاب. فهو كقوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [67]:{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}
قال ابن كثير: أي: لا يجيرني من الله، ويخلصني منه إلا إبلاغي الرسالة، التي أوجب أداءها عليّ. انتهى. أي: فإن فيما ذكر الأمان، والنجاة من غضب الله، وسخطه.
{وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ:} يخالف أوامرهما، ونواهيهما فيما يأمران به، وينهيان عنه، {فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ،} فيه دليل على أن المراد بالعصيان: الشرك؛ لأن المؤمن لا يخلد في النار.
وقيل: هو المعاصي غير الشرك، ويكون الخلود والأبد كناية عن طول المكث في نار جهنم. أو يكون المعنى: إلا أن أعفو عنهم، أو تلحقهم شفاعة، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان لا يخالدون. هذا؛ والأبد: الزمان الطويل الذي ليس له حد، فإذا قلت: لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلم إلى آخر العمر.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {بَلاغاً:} مستثنى من مفعولي: أملك، وهما {ضَرًّا} و {رَشَداً} بعد تأويلهما ب: شيئا، كأنه قال: لا أملك لكم شيئا إلا بلاغا، فهو استثناء متصل.
هكذا قرر في بعض حواشي البيضاوي، وعبارة السمين قوله إلا بلاغا فيه أوجه: أحدها: أنه استثناء منقطع؛ لأن البلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً؛} لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله، وبإعانته، وتوفيقه. الثاني: أنه متصل، والمعنى لن أجد سببا إليه، وأعتصم به إلا أن أبلغ، وأطيع، فيجيرني، وإذا كان متصلا؛ جاز نصبه من وجهين:
أحدهما (وهو الأرجح): أن يكون بدلا من {مُلْتَحَداً؛} لأن الكلام غير موجب. والثاني: أنه منصوب على الاستثناء. وإلى البدلية ذهب أبو إسحاق. الثالث: أنه مستثنى من قوله: {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} . انتهى. جمل، أقول: وعلى القول بالبدلية من {مُلْتَحَداً،} فلا اعتراض، وعلى القول بالبدلية من مفعول {أَمْلِكُ} فالآية السابقة معترضة بين البدل، والمبدل منه، وبه قال الزمخشري.
هذا؛ وقيل: {بَلاغاً} مفعول مطلق فعله محذوف، و {إِلاّ} أصله:(إن لاّ) ف: (إن) حرف شرط جازم، و (لا) نافية بمعنى:«لم» ، والمعنى: لن أجد من دونه ملتحدا؛ إن لم أبلغ رسالات
ربي بلاغا. نقله مكي، والقرطبي بلفظ: قيل. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {بَلاغاً} أو بمحذوف صفة له. {وَرِسالاتِهِ:} معطوف على {بَلاغاً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْصِ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى (من). {اللهِ:}
مفعول به، ويقال: منصوب على التعظيم. {وَرَسُولَهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ) تقدم على اسمها. {نارَ:} اسم (إنّ) مؤخر، وهو مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف، للعلمية، والعجمة. {خالِدِينَ:} حال من الضمير المجرور باللام، وقد روعي فيه معنى (من)، كما رأيت في الشرح، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب: {خالِدِينَ} .
{أَبَداً:} ظرف زمان متعلق به أيضا، والجملة الاسمية: (إنّ له
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. هذا؛ وقرئ بفتح همزة (أنّ) وعليه ف: (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فجزاؤه الخلود في نار جهنم، مثل قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [41]:
{فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ،} وقوله تعالى في سورة (الحج) رقم [4]: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [14]. والجملة الاسمية: {وَمَنْ يَعْصِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)}
الشرح: {حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ:} من العذاب، والهلاك في الدنيا، كوقعة بدر؛ التي أذلهم الله فيها، ونكس رؤوسهم، وأخمد شوكتهم. أو المراد: العذاب؛ الذي سيلاقونه في الآخرة في نار الجحيم. {فَسَيَعْلَمُونَ:} حينئذ علم اليقين، علما لا يشوبه شك، ولا ارتياب. {مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً:} معينا، ومساعدا. {وَأَقَلُّ عَدَداً:} وأقل رجالا، ونفرا، وجندا، هل هم، أم المؤمنون الموحدون؟! ولا شك: أن الله ناصر عباده المؤمنين، فهم الأقوى ناصرا، والأكثر عددا؛ لأن الله معهم وملائكته الأبرار. قال تعالى في سورة (غافر) رقم [51]:{إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} وقال تعالى: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} رقم [47] من سورة (الروم)، انظر شرحهما في محلهما؛ تجد: أن النصر مشروط بالإيمان الحقيقي، والكامل.
هذا؛ وأصل {رَأَوْا} (رأى) فلما اتصل به واو الجماعة صار (رآوا) فالتقى ساكنان: الألف والواو، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. ثم تحرك الواو بالضمة إن وليها ساكن مثل (رأوا الآيات) ولم تحرك بالكسرة؛ لأن الكسرة لا تناسبها. وقيل: تحرك بالضم دون غيره، ليفرق بين الواو الأصلية وبين واو الجماعة في نحو قولك:(لو اجتهدت لنجحت). وقيل: تضم؛ لأن الضمة أخف من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو. وقيل: تحرك بحركة الياء المحذوفة. وقيل: غير ذلك.
الإعراب: {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {رَأَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، وهو بصري، فلذا اكتفى بمفعول واحد. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة، مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوعَدُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو شيئا يوعدونه، وجملة:{رَأَوْا..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذا} إليها على المشهور المرجوح؛ لاقتران جوابها هنا بالفاء؛ لأن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. {فَسَيَعْلَمُونَ:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . السين: حرف مفيد للتوكيد، والتحقيق هنا. (يعلمون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.
{مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {أَضْعَفُ:} خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو أضعف، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وأجيز اعتبار {مَنْ} اسم استفهام مبتدأ، و {أَضْعَفُ} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به على أن الفعل قد علق عن العمل لفظا بالاستفهام. {ناصِراً:} تمييز. {وَأَقَلُّ:} الواو: حرف عطف. (أقل): معطوف على {أَضْعَفُ} . {عَدَداً:} تمييز، وجملة: (سيعلمون
…
) إلخ جواب {إِذا،} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. هذا؛ وأجيز اعتبار {إِذا} مجرورة ب:{حَتّى،} وهو رأي: الأخفش دائما في مثل هذا التركيب، والمعنى هنا يؤيده، لذا قال الجلال-رحمه الله تعالى-:{حَتّى} ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها، أي:
لا يزالون مستمرين على كفرهم إلى أن يروا
…
إلخ.
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)}
الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، {إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين المستهزئين بما تعدهم من العذاب، والهلاك: ما أدري: هل هذا العذاب الذي توعدونه قريب زمنه. {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي: أم هو بعيد له مدة طويلة وأجل محدود؟!.
قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم، كلما خوف الكافرين نار جهنم، وحذرهم أهوال الساعة؛ أظهروا الاستخفاف بقوله، وسألوه متى هذا العذاب؟! ومتى تقوم الساعة؟! فأمره الله تعالى أن يقول لهم: لا أدري وقت ذلك، هل هو قريب، أم بعيد؟ وقيل: المستهزئ والسائل العذاب هو النضر بن الحارث، وكان هذا شأنه، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله صبرا حينما وقع أسيرا بأيدي المسلمين في غزوة بدر. انظر ما ذكرته في سورة (الأنفال) رقم [32].
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} والأمد يكون قريبا، وبعيدا، ألا ترى إلى قوله تعالى:{تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} رقم [30] من سورة (آل عمران)؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة، أم مؤجل ضربت له غاية؟. انتهى.
وفي الخطيب: فإن قيل: أليس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» . فكان عالما بقرب وقوع القيامة، فكيف قال هاهنا: لا أدري أقريب أم بعيد
…
إلخ؟!. أجيب بأن المراد بقرب وقوع الذي علمه هو: أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، وأما معرفة مقدار القرب؛ فغير معلوم. انتهى. جمل.
الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنْ:} حرف نفي بمعنى:
«ما» . {أَدْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، وهو معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {أَقَرِيبٌ:} الهمزة: حرف استفهام. (قريب): خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، وأجيز اعتبارها مصدرية، وهو ضعيف، ويجوز اعتبار (قريب) مبتدأ، و {ما} فاعلا به سادا مسد الخبر لاعتماد الوصف على الاستفهام، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعولي أدري المعلق عن العمل لفظا بهمزة الاستفهام، والجملة الفعلية:{إِنْ أَدْرِي..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وانظر مثل هذه الجملة في الآية رقم [109] من سورة (الأنبياء)، معنى، ومحلا، وإعرابا. {أَمْ:} حرف عطف. {يَجْعَلُ:} فعل مضارع. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَمَداً،} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، وبعضهم يعتبر الجار والمجرور في محل نصب مفعول به ثان. {رَبِّي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَمَداً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{إِنْ أَدْرِي..} . إلخ فهي في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26)}
الشرح: {عالِمُ الْغَيْبِ:} الغيب: ما غاب عن العباد، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [12] من سورة (الملك). {فَلا يُظْهِرُ:} فلا يطلع. {عَلى غَيْبِهِ} أي: على الغيب المخصوص به علمه. {أَحَداً:} من الناس.
هذا؛ و «أحد» أصله: وحد؛ لأنه من الوحدة، فأبدلت الواو همزة، وهذا قليل في المفتوحة، إنما يحسن في المضمومة والمكسورة، مثل قولهم في وجوه: أجوه، وفي وسادة: إسادة، وهو مرادف للواحد في موضعين: أحدهما: وصف الباري جل علاه، فيقال: هو الواحد، وهو الأحد. والثاني: أسماء العدد، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون. وفي غير هذين الموضعين يفرق بينهما في الاستعمال، فلا يستعمل أحد إلا في النفي، وهو كثير في الكلام، أو في الإثبات مضافا، كما في قوله تعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بخلاف الواحد، وقولهم:«ما في الدار أحد» ، هو اسم لمن يعقل، ويستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث. قال تعالى:{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} رقم [32] من سورة (الأحزاب)، وقوله جل ذكره في سورة (الحاقة) رقم [47]:{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} .
هذا؛ و «أحد» أكمل من الواحد، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد؛ جاز في المعنى أن يقوم له اثنان، فأكثر، بخلاف قولك: لا يقوم له أحد. وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد، تقول: ليس في الدار أحد، فيجوز ألا يكون في الدار الدواب، والطير، والوحش، والإنس، فيعم الناس، وغيرهم، بخلاف ليس في الدار واحد، فإنه مخصوص بالآدميين.
ويأتي «الأحد» في كلام العرب بمعنى الواحد، فيستعمل في النفي، والإثبات، نحو قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أي: واحد، وقوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [19]:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أي: واحدا منكم، وبغير معنى الواحد، فلا يستعمل إلا في النفي، تقول: ما جاءني من أحد، ومنه قوله تعالى في سورة (البلد):{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} و «واحد» يستعمل فيهما مطلقا، و «أحد» يستعمل في المذكر، والمؤنث، كما رأيت في آية (الأحزاب)، بخلاف الواحد، فلا يقال: كواحد من النساء، بل كواحدة، و «أحد» يصلح للإفراد، والجمع، ولهذا؛ وصف به في آية (الحاقة) المتقدمة، بخلاف الواحد. و «الأحد» له جمع من لفظه، وهو: الأحدون، والآحاد، وليس للواحد جمع من لفظه، فلا يقال: واحدون، بل اثنان، وثلاثة. و «الأحد» ممتنع من الدخول في شيء من الحساب، بخلاف الواحد، فتلخص من ذلك سبعة فروق. انتهى.
الإعراب: {عالِمُ:} خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو عالم، وأجيز اعتباره بدلا من {رَبِّي،} أو عطف بيان له، وقرئ بنصبه على المدح بفعل محذوف، و {عالِمُ} مضاف،
و {الْغَيْبِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية المقدرة:«هو عالم» مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها حالا من {رَبِّي} ضعيف. {فَلا:} الفاء:
حرف استئناف، وتفريع. (لا): نافية. {يُظْهِرُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود على ما قبله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {عَلى غَيْبِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {أَحَداً:} مفعول به.
الشرح: {إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} أي: فإن الله يظهره على شيء من غيبه، فهو كقوله تعالى في آية الكرسي:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ؛} لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها: الإخبار عن بعض الغائبات. قال تعالى حكاية عن قول عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في سورة (آل عمران) رقم [49]:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} والمعنى لا يظهر الله على غيبه إلا من اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته.
قال العلماء-رحمهم الله تعالى-: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب، واستأثر به دون خلقه؛ كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم، ومن ضاهاه ممّن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير ممن ارتضاه الله من رسول، فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله، مفتر عليه بحدسه، وتخمينه، وكذبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان، على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم: الملك، والسوقة، والعالم، والجاهل، والغني، والفقير، والكبير، والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله تعالى: إنما أغرقهم الطالع، الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك: أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم، وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:[الكامل]
حكم المنجّم أنّ طالع مولدي
…
يقضي عليّ بميتة الغرق
قل للمنجّم صبحة الطوفان هل
…
ولد الجميع بكوكب الغرق؟!
قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم؛ والقمر في العقرب؟! فقال-رضي الله عنه، وكرم الله وجهه: فأين قمرهم؟! وكان ذلك في آخر الشهر، فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم! وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة، وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال له-رضي الله عنه:
ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة؛ أصابك، وأصاب أصحابك بلاء، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت، وأصبت ما طلبت! فقال-رضي الله عنه:
ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده، في كلام طويل يحتج فيه بآيات التنزيل، فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندّا، أو ضدّا. اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهانا عنها.
ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس! إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر، والبحر، وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، وتعمل بها؛ لأخلدنك في الحبس ما بقيت، وبقيت! ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان! ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم، فقتلهم، وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم، ثم قال: لو سرنا في الساعة، التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا؛ لقال قائل: سار في الساعة، التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده، وفتح الله علينا بلاد كسرى، وقيصر، وسائر البلدان، ثم قال: أيها الناس! توكلوا على الله، وثقوا به، فإنه يكفي عن سواه. انتهى. قرطبي بحروفه.
أقول: ومن هذه المشكاة ما قيل للمعتصم العباس حينما أراد غزو عمورية، ولكنه خالف المنجم، وانتصر، وفي ذلك قال شاعره أبو تمام:[البسيط]
السّيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
أقول: نص الآية الكريمة يفيد صراحة: أن الله عز وجل يطلع من ارتضى، واختار من الرسل على شيء من الغيب، وكذلك يطلع بعض أوليائه على شيء منه، وقد أثبت أهل السنة كرامات الأولياء، خلافا للمعتزلة، وأن الله-عز وجل-يجوز أن يلهم بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل، فيخبر به، وهو من إطلاع الله إياه على ذلك، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدّثون، من غير أن يكونوا أنبياء، وإن يكن في أمتي أحد؛ فإنه عمر بن الخطاب» . أخرجه البخاري. قال ابن وهب: تفسير «محدثون» : ملهمون. ولمسلم عن عائشة-رضي الله عنها-عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «قد كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم» . ففي هذا إثبات كرامات الأولياء. انتهى. خازن بتصرف.
أما الكهانة فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، ونهى عن تصديق الكهان، وعن الجلوس إليهم، والأخذ منهم. وخذ ما يلي:
عن عمران بن حصين-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من تطيّر، أو تطيّر له، أو تكهّن، أو تكهّن له، أو سحر، أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . رواه الطبراني، والبزار، ورحم الله من يقول:[البسيط]
لا يعلم المرء ليلا ما يصبّحه
…
إلا كواذب ممّا يخبر الفال
والفأل والزجر والكهّان كلّهم
…
مضلّلون ودون الغيب أقفال
وقال آخر: [البسيط]
دع المنجم يكبو في ضلالته
…
إن ادّعى علم ما يجري به الفلك
تفرّد الله بالعلم القديم فلا
…
يشركه فيه إنسان ولا ملك
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ:} يدخل. {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ:} من أمامه. {وَمِنْ خَلْفِهِ:} والمراد جميع جهاته.
{رَصَداً:} حراسا من الملائكة يحرسونه، والضمير يعود إلى من ارتضاه، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين السمع، وإلقائه إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك. قالوا:
هذا شيطان؛ فاحذره، وإن جاءه الملك؛ قالوا: هذا رسول ربك.
هذا؛ والرصد: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وربما قالوا: أرصادا، والراصد للشيء: الراقب له، يقال: رصده، يرصده رصدا، ورصدا، والترصد: الترقب، والمرصد: موضع الرصد، وفي سورة (التوبة) رقم [5]:{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ،} وفيها أيضا رقم [107]: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ} . ومعنى {يَسْلُكُ} يرسل ويجعل من أمام الرسول المرتضى ومن خلفه ملائكة حراسا يحفظونه من الجن، ويحرسونه في ضبط ما يلقيه الله تعالى إليه من علم الغيب. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ والتعبير عن الأمام، والخلف بقوله تعالى:{مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} كثير في القرآن الكريم، وإن اختص كل موضع بتفسير حسب مقتضيات الأحوال، واختلافها، فمثلا قوله تعالى في الآية رقم [28] من سورة (الأنبياء) يفسر بغير ما في هذه الآية، وكذلك الآية رقم [9] من
سورة (سبأ): {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ،} والآية رقم [110] من سورة (طه) كلتاهما تخالفان معنى قوله تعالى: {ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا} الآية رقم [64] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وهكذا والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مستثنى من {أَحَداً،} فهو استثناء متصل، وجوز السمين اعتباره منقطعا؛ أي: لكن من ارتضاه، فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي، ثم قال: ويجوز أن تكون من شرطية، أو موصولة متضمنة معنى الشرط، وقوله:{فَإِنَّهُ..} . إلخ خبر المبتدأ على القولين، وهو من الاستثناء المنقطع أيضا. انتهى. وتفصيله كما يلي:
{مَنِ:} اسم شرط مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم لفعل شرطه، أو هو في محل رفع مبتدأ، والأول أقوى؛ لأن الفعل بعده متعد، ولم يستوف مفعوله. {اِرْتَضى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (الله). {مِنْ رَسُولٍ:} متعلقان بمحذوف حال من: (من)، و {مَنِ} بيان لما أبهم في (من). {فَإِنَّهُ:} الفاء:
واقعة في جواب الشرط. (إنه): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَسْلُكُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) أيضا. {مِنْ بَيْنِ:} متعلقان بما قبلهما، و {بَيْنِ} مضاف، و {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى صورة، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَمِنْ خَلْفِهِ:} معطوفان على ما قبلهما. {رَصَداً:}
مفعول به، وجملة:{يَسْلُكُ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [14]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا فهي مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف، التقدير: الذي ارتضاه، والجملة الاسمية:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ..} . إلخ في محل رفع خبره، واقترنت بالفاء؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والكلام:{مَنِ ارْتَضى..} . إلخ في محل نصب على الاستثناء المنقطع، كما رأيته سابقا.
الشرح: {لِيَعْلَمَ} أي: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم: أنّ جبريل عليه السلام قد بلغ إليه رسالات ربه.
وقيل: معناه: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم: أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم إلى أقوامهم، وأن الله حفظهم، ودفع عنهم. وقيل: معناه: ليعلم الله علم ظهور، فإنه تعالى عالم بما كان، وما يكون أن رسله الكرام قد بلغوا عنه وحيه كما أوحاه إليهم محفوظا من الزيادة، والنقصان، فلا يخفى
عليه شيء من أمورهم، فقد قال المفسرون: ما جاء في القرآن من تعليل لعلم الله تعالى كقوله في سورة (البقرة) رقم [143]: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ،} وقوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [140]: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ،} ومنها أيضا رقم [166]: {وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} وبعدها: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا} فإنما هو علم ظهور، لا علم بداء، فإن الله تعالى عالم بالأشياء أزلا، وإنما يظهر علمه لعباده. {وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ} أي: أحاط علمه بما عند الرسل، وبما عند الملائكة، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم.
{وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي: علم الله تعالى علم ضبط، واستقصاء جميع الأشياء، المنبثة في الأرضين والسموات، من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحار، فلا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف لا يحيط علما بما عند رسله من رسالاته، ووحيه؛ التي أمرهم بتبليغها إلى خلقه؟! وكيف يمكن لرسله أن يفرطوا في تلك الرسالات، أو يزيدوا، أو ينقصوا، أو يحرفوا فيها، أو يغيروا منها، وهو تعالى محيط بها، محص لجميع الأشياء، جليلها وحقيرها؟ قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [59]:{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} .
الإعراب: {لِيَعْلَمَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى الله، أو إلى الرسول حسبما رأيت في الشرح، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يَسْلُكُ} على اعتبار الفاعل عائدا إلى (الله)، أو بمحذوف تقديره: أخبرناه على اعتبار الفاعل عائدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَنْ:}
مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَبْلَغُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {أَنْ،} والمصدر المؤول من {أَنْ} واسمها، وخبرها في محل نصب سد مسد مفعول (يعلم). {رِسالاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، و {رِسالاتِ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَأَحاطَ:} الواو: واو الحال. (أحاط): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، وهذا يؤكد عود فاعل (يعلم) إلى (الله)، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل (يعلم) المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَدَيْهِمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما)، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء لاتصاله
بالضمير، الذي هو في محل جر بالإضافة. {وَأَحْصى:} الواو: حرف عطف. (أحصى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله). {كُلَّ:} مفعول به، و {كُلَّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {عَدَداً:} تمييز، وقال الزمخشري، ومتابعوه: حال. هذا؛ وأجيز اعتباره مفعولا مطلقا؛ لأن أحصى بمعنى عدّ.
تنبيه: أذكر لك هنا الفرق بين الملائكة، والجن من تعريف علماء التوحيد للملائكة، والجن بما يلي: فالملائكة: أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل، والتمثل بأية صورة أرادوا، لا يأكلون، ولا يشربون، لا يبولون، ولا يتغوطون، لا ينامون، ولا يموتون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لا يتناسلون، ولا يتناكحون، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، لا يوصفون بذكورة، ولا بأنوثة، فمن وصفهم بذكورة فسق، ومن وصفهم بأنوثة كفر، ولهم قدرة خارقة، ولا تحكم عليهم الصورة، وهم كثيرون، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. قال تعالى في سورة (المدثر):{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} يقومون بأعمال مختلفة، كل فيما وكل إليه من أعمال، ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر، ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار، ويتشكلون بأشكال حسنة.
أما الجن؛ فهم أجسام نارية سفلية، مخلوقون من مارج من نار، أي: من أخلاط نار صافية، وأنهم قادرون على التشكل بأية صورة أرادوا، وفي الغالب يتشكلون بصور مخيفة، وأنهم يتناسلون، ولهم ذرية، وفيهم الذكر، والأنثى، وهم مكلفون كالبشر، وفيهم المؤمن والكافر، وأن الصورة تحكم عليهم. ومما تقدم يتبين لنا بوضوح أن بين خلق الملائكة، وبين خلق الجن تفاوتا واضحا، وتباينا ظاهرا في أصل الجبلة، والخلقة.
فالملائكة مخلوقون من نور، والجن مخلوقون من نار، يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم ممّا وصف لكم» . رواه مسلم، وقال تعالى في سورة (الحجر) رقم [27]:{وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} .
والملائكة ليس لهم نسل ولا ذرية، بخلاف الجن، فإنهم يتناسلون ويتناكحون، ولهم نسل وذرية. قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [50]:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} فالملائكة يخلقهم الله خلقا جديدا مبتدأ؛ لأنه ليس فيهم ذكر، أو أنثى، حتى يحصل التناسل، أما الجن؛ ففيهم الذكر، والأنثى، ويقع بينهم التناكح والتناسل، كما هو الحال بين البشر.
والملائكة قادرون على التمثل بأمثال الأشياء، والتشكل بالأشكال الجسمانية، المحسوسة فقد ثبت ذلك في النصوص العديدة من الكتاب والسنة. قال تعالى عن جبريل عليه السلام:
{فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} وقال تعالى عن ضيوف إبراهيم من الملائكة الأبرار:
{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ..} . إلخ. الآيات من سورة (الذاريات) فقد دخلوا عليه في صورة رجال، وحين قدم لهم الطعام امتنعوا عن الأكل، فأوجس منهم خيفة، فأخبروه: أنهم ليسوا بشرا، وإنما هم ملائكة أرسلهم الله لإهلاك المكذبين من قوم لوط.
وحين قدم الملائكة على نبي الله لوط عليه السلام، جاؤوه على صورة شباب مرد حسان، مما جعل السفهاء يطمعون بفعل الفاحشة بهم؛ حيث جاؤوا يتسابقون إلى دار لوط، عليه السلام.
كما قال تعالى: {وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ..} . إلخ الآيات رقم [78] وما بعدها من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
فالملائكة إذا قادرون على التصور، والتشكل بأية صورة شاؤوا، وقد ثبت في الصحيحين عن عمر-رضي الله عنه-أنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعن الساعة، فأجابه الرسول عنها بالتفصيل، وأخيرا سأل الصحابة:«أتدرون من السّائل؟» . قالوا: الله، ورسوله أعلم! قال:«فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم» .
والجن أيضا قادرون على التمثل، والتشكل بأية صورة شاؤوا، فقد اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة نفر من الرجال، وسمعوا القرآن، ثم رجعوا إلى قومهم منذرين، كما قال تعالى في سورة (الأحقاف) رقم [29]:{وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} . فهم يشبهون الملائكة من هذه الناحية، وهي قدرة التمثل، والتشكل بأي صورة شاؤوا، ولكنهم يختلفون عن الملائكة في أنهم تحكم عليهم الصورة، بينما الملائكة لا تحكم عليهم الصورة، بمعنى: أن الجني لو تصور وتشكل في صورة إنسان، أو طير، وصوب إنسان سهما نحوه، فإن الجني يموت، كما لو قتله إنسان بسيف، أو رمح، فيجري عليه حكم الصورة، بخلاف الملك إذا ما سدد إنسان سهما نحوه، أو جني عليه بجناية، فلا يناله شيء من الأذى فيما لو تشكل بصورة إنسان، أو غيره. ثم إن الملائكة يختلفون عن الجن في أنهم لا يأكلون، ولا يشربون، وليس فيهم نزوع إلى البشر، وليس عندهم استعداد للمعصية، بل خلقوا على الاستقامة، وجبلوا على العبادة، والطاعة، كما قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [20]:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ،} وأما الجن؛ ففيهم المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، فهم كالبشر في هذه الناحية، كما قال تعالى عن إبليس في سورة (الكهف) رقم [50]:{كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . وما ذكر في هذه السورة رقم [14] يدل كذلك على أن فيهم المسلم، والكافر. وهم مكلفون بالتكاليف الشرعية كسائر البشر. قال تعالى في سورة (الذاريات):{وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} .
ولهم رسل، وأنبياء يبلغونهم أوامر الله، ونواهيه، كما قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [130]:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} انظر شرحها في محلها، فقوله تعالى:(منكم) يدل على أن هناك رسلا من الإنس، ورسلا من الجن. وبه قال الضحاك، ومقاتل. وأما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي عامة لجميع الخلق: إنسهم، وجنهم، كما قال تعالى في الآية رقم [1] من سورة (الفرقان):{تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} ومثلها كثير.
والجن مخلوقون قبل الإنس، يدل لذلك قوله تعالى في سورة (الحجر):{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} انظر شرح الآيتين هناك، والجن يرون البشر، ولا يرونهم يدل لذلك قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [27]:{إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} . ثم إن الملائكة يختلفون عن الجن في أن لهم قدرة عجيبة خارقة، فهم يستطيعون أن يقتلعوا الجبال، ويغوصوا البحار، ويقلبوا الأرض بأهلها، كما فعل الملائكة بقوم لوط، وكما اقتلع جبريل عليه السلام جبل الطور، ورفعه فوق بني إسرائيل، كما قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [171]:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} .
وللملائكة أجنحة، فمنهم من له جناحان، ومن له ثلاثة، أو أربعة، أو أكثر. انظر الآية رقم [1] من سورة (فاطر) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ والشياطين فرقة من الجن، وهم المردة العصاة، ورئيسهم إبليس اللعين عليه لعنة الله، فكل متمرد من الجن يسمى: شيطانا، كما أن كل عاص من الإنس يسمى فاسقا، وكل جاحد يسمى كافرا، فكل شيطان جني، وليس كل جني شيطانا، والله الموفق والمعين. انتهى. كله من كتاب «النبوة والأنبياء» للصابوني بتصرف كبير. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهت سورة (الجن) شرحا وإعرابا بتوفيق الله، وفضله.
والحمد لله رب العالمين