الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا؛ وقال القرطبي: هذا النداء ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب؛ إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، فلم يقل: يا محمد! ليستشعر اللين، والملاطفة من ربه، كما رأيت في شرح {الْمُزَّمِّلُ}. هذا؛ والدثار: هو كل ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في مدح الأنصار:«الأنصار شعار، والناس دثار» .
{قُمْ فَأَنْذِرْ} أي: قم من مضجعك قيام عزم وجد ونشاط، وخوّف قومك من عذاب الله؛ إن لم يؤمنوا، واشتغل بالإنذار؛ الذي تحملته، ولا تلتفت لما يقوله قومك فيك من افتراءات.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظم ربك، ونزهه عما يقوله عبدة الأوثان، وصفه بأنه أكبر، وأعظم من أن يكون له شريك في الملك، أو صاحبة، أو ولد. وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها، أذانا، وإقامة، وصلاة، وذكرا، وجهادا، واستعظاما للشيء العظيم، واستنكارا للشيء الغريب. وقد ذكر أنه لما نزل قوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: «الله أكبر» . وعلم: أن الشيطان لا يأمر بذلك، وكبرت خديجة-رضي الله عنها-أيضا، وأيقنت: أن الوحي من الله تعالى.
فائدة:
هذه الجملة تقرأ بالعكس، ولا يتغير لفظها، ولا معناها، وأيضا قوله تعالى:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ} ومثلهما قول الشاعر، وهو القاضي الجرجاني:[الوافر]
مودّته تدوم لكلّ هول
…
وهل كلّ مودّته تدوم؟
ويحكى عن العماد الكاتب: أنه لقي القاضي الفاضل، وهو راكب فرسا، فقال له: سر فلا كبابك الفرس، فقال له القاضي: دام علا العماد.
{وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة، لا تصح إلا بها، وهي الأولى، والأحب في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا! وقيل: هو أمر بتقصيرها، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب، وجرهم الذيول، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات، يقال: فلان طاهر الثياب، وطاهر الذيل، والأردان: إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، ومدانس الأخلاق، ومنه قول امرئ القيس. وقيل هو لأبي كبشة:[الطويل]
ثياب بني عوف طهارى نقيّة
…
وأوجههم بيض المسافر غرّان
ويقال: فلان دنس الثياب للغادر، وذلك؛ لأن الثوب الإنسان، ويشتمل عليه، فكنى به عنه، ومنه قول الشاعر، وكله من باب الكناية:[الرجز]
لا همّ إنّ عامر بن جهم
…
أوذم حجّا في ثياب دسم
أوذم الحج: أوجبه على نفسه بالإحرام، وثياب دسم: وسخة، ومعنى البيت: أنه حج، وهو متدنس بالذنوب، وملطخ بالمعاصي، والسيئات، ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه.
كما يقولون: أعجبني زيد عقله، وخلقه. ويقولون: المجد في ثوبه، والكرم تحت حلته. قال الشاعر:[الوافر]
ويحيى لا يلام بسوء خلق
…
ويحيى طاهر الأثواب حرّ
ولأن الغالب: أن من طهّر باطنه، ونقّاه عني بتطهير الظاهر، وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبث، وإيثار الطهر في كل شيء. انتهى. كشاف، وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: فيه ثمانية أقوال: أحدها: أن المراد بالثياب: العمل. الثاني: القلب. الثالث: النفس. الرابع:
الجسم. الخامس: الأهل. السادس: الخلق. السابع: الدين. الثامن: الثياب الملبوسات على الظاهر. وعاد فشرح كل واحد شرحا وافيا.
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ:} أصل الرجز: العذاب، وهو بكسر الراء، وهي قراءة الجمهور، وقرأ حفص، ومجاهد بضم الراء، فقيل: هما بمعنى واحد، يراد بهما هنا الأصنام، والأوثان. وقال تعالى في سورة (البقرة) رقم [59] وقريب منها في سورة (الأعراف) رقم [162]:{فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ} . وذكر الرجز بمعنى العذاب أيضا في سورة (الأعراف) برقم [134] و [135]. والمعنى: اهجر ما يؤدي إلى الرجز من عبادة الأوثان، وغيرها من المآثم. والمعنى:
الثبات على هجره؛ لأنه كان بريئا منه منزها عن كل أقذار الجاهلية. وذلك كما يقول المسلم في صلاته: {اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} ليس معناه: أنه ليس على الهداية، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية.
{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي: لا تعط عطاء، وتستكثره؛ لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كان كثيرا. أو لا تعط عطاء؛ وأنت تطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب. وهذا جائز شرعا، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نهيا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله اختار له أشرف الآداب، وأحسن الأخلاق. والثاني: أن يكون نهي تنزيه، لا تحريم له، ولأمته.
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي: تحلّ بالصبر لوجه الله تعالى على أذى المشركين، وعلى أعباء الرسالة، وعلى عبادته، وطاعته على جميع أوامره، ونواهيه. وينبغي أن تعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صار نبيا بنزول سورة (اقرأ) عليه، وبنزول سورة (المدثر) صار رسولا، لقوله تعالى:{قُمْ فَأَنْذِرْ} .
الإعراب: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ:} انظر مثلها في أول سورة (المزمل). {قُمْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها.
{فَأَنْذِرْ:} الفاء: حرف عطف. (أنذر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَرَبَّكَ:} الواو: حرف عطف. (ربك): مفعول به مقدم، والكاف في
محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَكَبِّرْ:} الفاء: واقعة في جواب شرط محذوف، التقدير: وأيا ما كان؛ فلا تدع تكبيره؛ أي: أي شيء حدث، ووقع؛ فلا تدع تكبيره. وهو مفاد قول المفسرين، وأرى صحة اعتبار الفاء صلة، ولا حاجة لهذه التقديرات، وهذه التكلفات. (كبر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية جواب للشرط المقدر على قول المفسرين، ومعطوفة على ما قبلها على اعتبار الفاء صلة، والجملتان بعدها معطوفتان عليها، والكلام عليهما مثلها.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): ناهية. {تَمْنُنْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {تَسْتَكْثِرُ:} فعل مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {تَمْنُنْ} المستتر، والرابط الضمير فقط، التقدير: لا تعط مستكثرا. هذا؛ وقرأ الحسن البصري «(تستكثر)» بالسكون. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون بدلا من {تَمْنُنْ} أي: لا تر ما تعطيه كثيرا.
والثاني: أنّه قدّر الوقف عليه؛ لكونه رأس آية، فسكّنه لأجل الوقف، ثم وصله بنية الوقف.
والثالث: أن يكون سكنه لتناسب رؤوس الآية، وهي:{فَأَنْذِرْ..} . إلخ، انتهى. قطر الندى، ومغني اللبيب. وقيل: مجزوم بجواب النهي، ولا وجه له؛ لأن المعنى يختل بتقدير إن قبل (لا) ومن شروط الجزم بعد النهي صحة وقوع «إن» قبل «لا» ، إلا إذا كان المعنى: إن لا تمتن بعملك تزدد من الثواب لسلامة ذلك من الإبطال بالمن. وهذا عكس ما رأيته في الشرح. تأمل. هذا؛ وقرأ الأعمش، ويحيى بالنصب على توهم لام التعليل. قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو على إضمار «أن» مثل قول طرفة بن العبد في معلقته رقم [60]: [الطويل]
ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي؟
وقراءة الرفع سبعية، بخلاف قراءة السكون، والنصب. {وَلِرَبِّكَ:} الواو: حرف عطف.
(لربك): متعلقان بما بعدهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَاصْبِرْ:} الفاء: قل فيها ما رأيته بما قبلها. (اصبر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، ولا تنس: أن تقديم المفعول في جميع الآيات يفيد الاختصاص.
الشرح: {فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُورِ:} إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، وهو القرع الذي هو سبب الصوت، والنقر في كلام العرب: الصوت، ومنه قول امرئ القيس:[الطويل]
أخفّضه بالنّقر لمّا علوته
…
ويرفع طرفا غير خاف غضيض
انظر ما ذكرته في شأن «الصور» والنافخ فيه، وهو إسرافيل-عليه السلام-في الآية رقم [13] من سورة (الحاقة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وأذكر هنا قوله تعالى في سورة (ق) رقم [41]:{يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} فالمنادي هو إسرافيل عليه السلام، ونداؤه في الحشر فيقول: أيتها العظام البالية! أيتها الأوصال المتقطعة! أيتها اللحوم المتمزقة! أيتها الشعور المتفرقة! إن الله يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء.
{فَذلِكَ} أي: وقت النقر، أي: النفخ في الصور. {يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي: شديد. {عَلَى الْكافِرِينَ:}
على من كفر بالله، وكتابه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء، والقدر خيره، وشره. {غَيْرُ يَسِيرٍ} أي: غير سهل، ولا هين، وذلك؛ لأن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، ولا يجتازون عقبة إلا وبعدها أصعب منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين، فإن عقدهم تنحل إلى ما هو أخف منها؛ حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى.
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فما فائدة قوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} و {عَسِيرٌ} مغن عنه؟ قلت: لما قال: {عَلَى الْكافِرِينَ} فقصر العسر عليهم؛ قال: {غَيْرُ يَسِيرٍ} ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا؛ ليجمع بين وعيد الكافرين، وزيادة غلظهم، وبشارة المؤمنين، وتسليتهم. ويجوز أن يراد: أنه عسير، لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما كان يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا، بل إنهم يناقشون الحساب، وتسود وجوههم، ويحشرون زرقا، ويفتضحون على رؤوس الأشهاد.
وعن أبي حيان؛ قال: أمّنا زرارة بن أوفى قاضي البصرة في صلاة الصبح، فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله تعالى:{فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُورِ..} . إلخ، شهق شهقة، ثم خر ميتا رحمه الله. هذا؛ والتعبير عن النفخ وعن الصور بالنقر في الناقور، لبيان هول الأمر، وشدته، فإن النقر في كلام العرب معناه: الصوت، وإذا اشتد الصوت؛ أصبح مفزعا. وينبغي أن تعلم أن الله تعالى لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء بقوله:{فَإِذا نُقِرَ..} . إلخ.
{يَوْمَئِذٍ:} التنوين ينوب عن جملة محذوفة دلت عليها الغاية، أي: يوم ينقر في الناقور، و (إذ) مضافة لهذه الجملة، فحذفت الجملة الفعلية، وعوض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت الهاء في: صه، ومه عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في: حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما. قال تعالى في سورة (الواقعة) رقم [84]:{وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} أي: حين إذ بلغت الروح الحلقوم تنظرون.
{غَيْرُ:} اسم شديد الإبهام، فلا يتعرف بالإضافة لمعرفة، وغيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها؛ إن فهم المعنى، أو تقدمت كلمة ليس عليها، يقال: قبضت عشرة ليس
غير، وهو مبني على الفتح، أو على الضم خلاف، وإن أردت الزيادة؛ فانظر مبحثها في كتابنا:
هذا؛ والمراد ب: {يَوْمٌ} في الآية الكريمة يوم القيامة، وهو مقدار ألف سنة من أيام الدنيا كما في الآية رقم [47] من سورة (الحج)، وأما اليوم في الدنيا فهو الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها، وهذا في العرف، وأما اليوم الشرعي فهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما يطلق اليوم على الليل، والنهار معا، وقد يراد به الوقت مطلقا، تقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي: لهذا الوقت، والجمع: أيّام، وأصله: أيوام، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وجمع الجمع:
أياويم، وأيام العرب: وقائعها، وحروبها، وأيام الله: نعمه، ونقمه. قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللهِ} رقم [5]، ويقال: فلان ابن الأيام، أي: العارف بأحوالها، ويقال: أنا ابن اليوم، أي: أعتبر حالي فيما أنا فيه.
الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف سبب، واستئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {نُقِرَ:}
فعل ماض مبني للمجهول. {فِي النّاقُورِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل. وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: «هو» أي: إسرافيل. ولا وجه له قطعا، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ولا يجوز اعتبارها في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وتعليق (إذا) بجوابها؛ لأن الجواب قد اقترن بالفاء، ولا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها. أفاده ابن هشام في المغني.
{فَذلِكَ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ذلك): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {يَوْمَئِذٍ:} بدل من اسم الإشارة مبني على الفتح في محل رفع، وبني لإضافته إلى غير متمكن، وهو (إذ)، فإنه في الأصل مبني على السكون. هذا؛ وأجيز تعليقه ب:{عَسِيرٌ،} {يَوْمٌ:} خبر المبتدأ. {عَسِيرٌ:} صفة يوم. والجملة الاسمية: (ذلك
…
) إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {عَلَى الْكافِرِينَ:} متعلقان ب: {عَسِيرٌ} أو بمحذوف صفة له، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه. أفاده ابن هشام في المغني. {غَيْرُ:} صفة ثانية ل: {يَوْمٌ،} و {غَيْرُ} مضاف، و {يَسِيرٍ} مضاف إليه، كما قال ابن هشام: ويحتمل تعليق الجار والمجرور {عَلَى الْكافِرِينَ} ب: {يَسِيرٍ،} وجعل منه قوله تعالى في سورة (الزخرف) رقم [18]: {وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} وقول الشاعر، وهو الشاهد رقم [1140] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فتى هو حقّا غير ملغ تولّه
…
ولا تتّخذ يوما سواه بديلا
وأيضا قول أبي زبيد الطائي، وهو الشاهد رقم [1141] من الكتاب المذكور:[البسيط]
إنّ امرأ خصّني يوما مودّته
…
على التنائي لعندي غير مكفور
الشرح: {ذَرْنِي:} اتركني، ودعني، وهي كلمة وعيد، وتهديد. {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي:
خلقته في بطن أمه، وأبرزته إلى الوجود وحيدا، لا مال له، ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته من النعم. وأجمع المفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإنما خصّ بالذكر؛ وإن كان الناس خلقوا مثله؛ لاختصاصه بكفر النعمة، وكثرة إيذائه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى الوحيد في قومه، وريحانة قريش، وهو الذي قالوا فيه كما حكى الله عنهم في سورة (الزخرف) رقم [31]:{وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وقال قوم: إن قوله تعالى:
{وَحِيداً} يرجع إلى الرب جل وعلا على معنيين: أحدهما: ذرني وحدي معه؛ فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني انفردت بخلقه، ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه، ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرت ذلك في سورة (ن) رقم [13].
{وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً} أي: خولته، وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل، ونحوها، والنعم، والجنان، والعبيد، والجواري. كذا كان ابن عباس-رضي الله عنهما-يقول. وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء، ولا صيفا.
{وَبَنِينَ شُهُوداً} أي: حضورا لا يغيبون عنه في تصرف يتمتع بلقائهم، لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش استغناء بماله، ونعمته، ولا يحتاج أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه. أو كانوا شهودا في المحافل، والأندية لوجاهتهم، وقد كانوا عشرة، أسلم منهم ثلاثة: خالد سيف الله، وكان أسلم قبله الوليد، وهشام أسلم بعد فتح مكة، وقد زلق الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي كعادتهما، وقال به الخازن أيضا؛ حيث ذكروا إسلام عمارة، ولم يذكروا إسلام الوليد بن الوليد، علما بأن عمارة هلك على كفره في بلاد الحبشة بعد أن بعثته قريش بصحبة عمرو بن العاص إلى النجاشي ليرد المسلمين؛ الذين هاجروا إلى الحبشة إلى كفار قريش، وقد استعمل عمرو بن العاص له مكيدة، فكانت سبب هلاكه، وعمارة المذكور كان أجمل فتيان قريش، وهو الذي قدمته قريش لأبي طالب يتبناه، ويسلم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لهم أبو طالب:
أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها؟.
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} أي: بسطت له في العيش بسطا؛ حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها، يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة، والتهيئة، ومنه: مهد الصبي. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي:
مالا، وولدا، وجاها، وتمهيدا على ما أوتيه. وهو استبعاد لطمعه، أو لأنه لا مزيد على ما
أوتيه؛ لأنه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم، ومعاندة المنعم. وانظر الطمع في الآية رقم [28] من سورة (الحاقة)، وانظر شرح المال في الآية رقم [12] من سورة (نوح) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {ذَرْنِي:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. (من):
اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، أو هو معطوف على ياء المتكلم.
{خَلَقْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذي خلقته. {وَحِيداً:} حال من (من)، أو من ضميره المحذوف، وهو مفعول {خَلَقْتُ،} أو هو حال من ياء المتكلم، أو من تاء الفاعل. انظر الشرح. {وَجَعَلْتُ:} الواو:
حرف عطف. (جعلت): فعل، وفاعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل مفعوله الثاني تقدم على الأول. {مالاً:} مفعول به. {مَمْدُوداً:} صفة {مالاً} . {وَبَنِينَ:}
معطوف على {مالاً} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {شُهُوداً:} صفة (بنين)، وجملة:{وَجَعَلْتُ لَهُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {خَلَقْتُ..} . إلخ فهي في حيز صلة الموصول. {وَمَهَّدْتُ:} فعل، وفاعل. (له): متعلقان بما قبلهما. {تَمْهِيداً:} مفعول مطلق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة الصلة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَطْمَعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من). {أَنْ أَزِيدَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل تقديره: «أنا» ، والمفعول محذوف، التقدير: أن أزيده، و (أن) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، أو هو في محل نصب بنزع الخافض، التقدير: ثم يطمع في الزيادة على ما ذكر من المال، والبنين، والتمهيد. وجملة:{يَطْمَعُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي من جملة الصلة.
{كَلاّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)}
الشرح: {كَلاّ} أي: لا أفعل، ولا أزيده. قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله، وولده؛ حتى هلك. انظر كيف كان هلاكه في الآية رقم [95] من سورة (الحجر).
وقيل: كان يقول: إن كان محمد صادقا فيما يدعيه من وجود الجنة، فما خلقت إلاّ لي. {إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً} أي: معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء به. هذا؛ والعنيد: المعاند للحق، المجانب له.
والعنيد، والعنود، والعاند: المعاند للحق، والمخالف له، وفعله يأتي من الباب الأول، والثاني، والرابع، والخامس، والمصدر عندا، وعنودا، وعندا، وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية، والعاند: البعير؛ الذي يجوز عن الطريق، ويعدل عن القصد، والجمع: عنّد مثل: راكع، وركّع، وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي-وهو الشاهد رقم [1160] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الرجز]
إذا ركبت فاجعلوني وسطا
…
إنّي كبير لا أطيق العنّدا
وقال أبو صالح: عنيدا معناه: مباعدا. قال الشاعر: [الطويل]
أرانا على حال تفرّق بيننا
…
نوى غربة إنّ الفراق عنود
وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه، وجمع العنيد: عند مثل رغيف، ورغف. {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً:}
سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. و «الصّعود: جبل من نار يتصعّد فيه الكافر سبعين خريفا، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا» .
رواه أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قال: «هو جبل من نار يكلّف أن يصعده، فإذا وضع يده؛ ذابت، فإذا رفعها؛ عادت، وإذا وضع رجله؛ ذابت، فإذا رفعها؛ عادت، يصعد سبعين خريفا، ثم يهوي كذلك» . ورواه الترمذي، وأحمد، والحاكم.
أما القول في {كَلاّ} فإني أنقله لك بحروفه من مغني اللبيب لابن هشام-طيب الله ثراه- لتكون على بصيرة من أمرك. قال-رحمه الله تعالى-: وهي عند سيبويه، والخليل، والمبرد، والزجاج، وأكثر البصريين حرف معناه: الردع، والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك؛ حتى إنهم يجيزون أبدا الوقف عليها، والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت {كَلاّ} في سورة فاحكم بأنها مكية. وفيه نظر؛ لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتوّ بها، لا عن غلبته، ثم لا تمتنع الإشارة إلى عتوّ سابق. ثم لا يظهر معنى الزجر في {كَلاّ} المسبوقة بنحو قوله تعالى في سورة (الانفطار):{فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاّ} وقوله جل شأنه: {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاّ،} سورة (المطففين)، وقوله تعالت حكمته:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاّ..} . إلخ، سورة (القيامة).
وقولهم: المعنى انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي: صورة ما شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن تعسف؛ إذ لم يتقدم في الأولين حكاية نفي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين كلاّ وذكر العجلة، وأيضا فإن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة (العلق)، ثم نزل قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى} (6) فجاءت في افتتاح الكلام، الوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا كلها في النصف الأخير، وذلك في خمس عشرة سورة منه، وكلها مكية. قال الديربي في تفسيره المنظوم:[الطويل]
وما نزلت كلاّ بيثرب فاعلمن
…
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
ورأى الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما: أن معنى الردع، والزجر ليس مستمرا فيها، فزادوا فيها معنى ثانيا، يصح أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: للكسائي، ومتابعيه. قالوا: تكون بمعنى حقا. والثاني: لأبي حاتم، ومتابعيه. قالوا:
تكون بمعنى «ألا» الاستفتاحية. والثالث: للنضر بن شميل، والفراء، ومن وافقهما. قالوا:
تكون حرف جواب بمنزلة: إي، ونعم، وحملوا عليه قوله تعالى:{كَلاّ وَالْقَمَرِ..} . إلخ الآتي في هذه السورة، فقالوا: معناه: إي والقمر.
وقول أبي حاتم عندي أولى من قولهما؛ لأنه أكثر اطرادا، فإن قول النضر لا يتأتّى في آيتي (المؤمنون) و (الشعراء) على ما سيأتي. وقول الكسائي لا يتأتّى في نحو قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} وقوله جل شأنه: {كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ} وقوله تعالت حكمته:
{كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} الآيات الثلاث من سورة (المطففين)؛ لأن همزة (أنّ) تكسر بعد «ألا» الاستفتاحية، ولا تكسر بعد:«حقا» ، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم. وأما قول مكي: إن {كَلاّ} على رأي الكسائي اسم إذا كانت بمعنى حقا؛ فبعيد؛ لأن اشتراك اللفظ بين الاسمية والحرفية قليل، ومخالف للأصل، ومحوج لتكلف دعوى علة لبنائها، وإلا؛ فلم نوّنت؟!.
وإذا صلح الموضع للردع، ولغيره؛ جاز الوقف عليها، والابتداء بها على اختلاف التقديرين. والأرجح حملها على الردع؛ لأنه الغالب فيها، وذلك نحو قوله تعالى في سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ،} وقوله جل شأنه فيها أيضا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} .
وقد تتعين للردع، أو الاستفتاح، نحو قوله تعالى في سورة (المؤمنون):{قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} لأنها لو كانت بمعنى حقا؛ لما كسرت همزة (إنّ)، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع؛ لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانا، فتقول: نعم، ونحو قوله تعالى في سورة (الشعراء):{فَلَمّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} وذلك لكسر (إنّ)، ولأن نعم بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر، نحو قوله تعالى الآتي في هذه السورة:{وَما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاّ وَالْقَمَرِ} إذ ليس قبلها ما يصح رده. وقول الطبري، وجماعة: إنه لما نزل في عدد خزنة جهنم قوله تعالى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} قال بعضهم: اكفوني اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر فنزل:{كَلاّ وَالْقَمَرِ} (32) زجرا له هو قول متعسّف، أو تعسّف؛ لأن الآية لم تتضمن ذلك. انتهى. مغني.
أقول: ويتلخص من هذا أن الأكثر في {كَلاّ} أن تكون حرف ردع زجر، وذلك إذا سبقها كلام يستدعي ذلك، ولا ردع في سورة (الانفطار)، ولا في سورة (العلق)، ولا في سورة (المطففين)، وما جرى مجراهن، وإنما هي للتنبيه، والاستفتاح كما هو واضح، وتكون بمعنى: إي، أي: حرف
جواب، كما في قوله تعالى الآتي:{كَلاّ وَالْقَمَرِ} ولا تكون بمعنى حقا كما بينه ابن هشام-رحمه الله تعالى-لعدم فتح همزة (إنّ) بعدها. ونقل الجمل عن السمين للنحويين فيها ستة مذاهب، والمعتمد ما لخصته لك من مغني اللبيب لابن هشام طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأوانا، ومأواه.
الإعراب: {كَلاّ:} حرف ردع وزجر هنا. {إِنَّهُ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (من). {لِآياتِنا:}
متعلقان بما بعدهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {عَنِيداً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، وفيها معنى التعليل للردع والزجر. {سَأُرْهِقُهُ:} السين: حرف استقبال، وهو مفيد للتأكيد هنا، تأكيد الوعيد، والتهديد. (أرهقه): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«أنا» ، والهاء مفعول به أول.
{صَعُوداً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت الكلام من قوله تعالى:{ذَرْنِي..} . إلخ، في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: قال الله تعالى: ذرني
…
إلخ؛ فلست مفندا.
الشرح: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي: فكر في الأمر الذي يريده، ونظر فيه، وتدبره، ورتب في قلبه كلاما، وهيأه لذلك الأمر، وهو المراد بقوله، و {وَقَدَّرَ} أي: وقدر ذلك الكلام في قلبه، وذلك: أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم من سورة (غافر): {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ..} . إلخ إلى قوله: {الْمَصِيرُ،} قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي؛ والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه؛ أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما، ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو، وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله.
فقالت قريش: صبأ والله الوليد! لتصبونّ قريش كلها! فقال أبو جهل الخبيث: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال له الوليد: ما لي أراك حزينا يا بن أخي؟! فقال: ما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك فيها على كبر سنك، ويزعمون: أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة؛ لتنال من
فضل طعامهما! فغضب الوليد، وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا، وولدا؟ وهل شبع محمد، وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟!.
ثم قام مع أبي جهل الخبيث حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون؛ فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا! قال: تزعمون: أنه كاهن؛ فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا: اللهم لا! قال: تزعمون: أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟ قالوا: اللهم لا! قال: تزعمون: أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟! قالوا: اللهم لا! (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمى قبل النبوة الأمين لصدقه) فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه، ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل، وأهله، وولده، ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر. فذلك قوله عز وجل:{إِنَّهُ فَكَّرَ} أي: في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، {وَقَدَّرَ} في نفسه ماذا يمكنه أن يقوله في شأنه صلى الله عليه وسلم والقرآن. انتهى. خازن. ومثله في الكشاف، والقرطبي، وغيرهما، وانظر ما ذكرته بشأن الوليد في سورة (ن) رقم [10] وما بعدها. ويشبه هذا ما ذكرته بشأن عتبة بن ربيعة في صدر سورة (فصلت)، انظر رقم [13] منها.
{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي: لعن كيف قدر؟! وقال بعضهم، معناه: قهر، وغلب. وكل مذلّل مقتّل. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [30]:[الطويل]
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
…
بسهميك في أعشار قلب مقتّل
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: تعجيب من تقديره، وإصابته فيه المحزّ ورميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به، على معنى قول القائل: قتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! للإشعار بأنه قد بلغ المبلغ، الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك، والجملة الثانية تأكيد للأولى.
{ثُمَّ نَظَرَ:} بأي: شيء يرد الحق، ويدفعه؟ {ثُمَّ عَبَسَ} أي: كلح. {وَبَسَرَ:} قطب بين عينيه كالمتهم المتفكر في شيء يدبره. وقيل: كلح وجهه، وتقطب جبينه في وجوه المؤمنين، ومنه قوله تعالى في سورة (القيامة):{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ} ومنه قول بشر بن أبي خازم: [المتقارب]
صبحنا تميما غداة الجفار
…
بشهباء ملمومة باسره
وقال توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية: [الطويل]
وقد رابني منها صدود رأيته
…
وإعراضها عن حاجتي وبسورها
وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة.
{ثُمَّ أَدْبَرَ} أي: ولى، وأعرض ذاهبا إلى أهله. {وَاسْتَكْبَرَ} أي: عن الإيمان حين دعي إليه. {فَقالَ إِنْ هذا} أي: ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم. {إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: سحر يأثره، وينقله عن غيره.
{إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} أي: ما هذا إلا كلام المخلوقين، تنخدع به القلوب كما تنخدع بالسحر.
هذا؛ و (بشر) يطلق على الإنسان ذكرا كان، أو أنثى، مفردا كان، أو جمعا، مثل كلمة الفلك، تطلق على المفرد والجمع، وسمي بنو آدم بشرا لبدوّ بشرتهم، التي هي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات فإنها مكسوة بالشعر، أو بالصوف، أو بالريش. هذا؛ و (بشر) يطلق على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} الآية رقم [17] من سورة (مريم).
ولذا ثني في قوله تعالى: {فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا} الآية رقم [47] من سورة (المؤمنون)، كما يطلق على الجمع، كما في الآية التي بين أيدينا، وقوله تعالى في سورة (مريم) رقم [26]:{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} .
هذا؛ وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ما معنى {ثُمَّ} الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت: الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى، ونحوه قول حميد بن ثور الهلالي:[الطويل]
ومالي من ذنب إليهم علمته
…
سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
نعم فاسلمي ثم اسلمي ثمّت اسلمي
…
ثلاث تحيات وإن لم تكلّمي
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: الدلالة على أنه قد تأنّى في التأمل وتمهل وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد، فإن قلت: فلم قيل: {فَقالَ إِنْ هذا} بالفاء بعد عطف ما قبله ب: {ثُمَّ؟} قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبّث. فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد. انتهى. كشاف.
هذا؛ والسحر كل ما لطف، ودق، يقال: سحره: إذا أبدى له أمرا يدق عليه، ويخفى، وقال الغزالي-رحمه الله تعالى-في الإحياء ما نصه: السحر نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر، وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الخواص هيكل على صورة الشخص المسحور، ويترصد له وقت مخصوص من المطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور. انتهى. هذا؛ والمعتمد: إن تعلمه لدفع الضرر عن نفسه، أو عن غيره، أو اتخذه الشخص ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله؛ بقي على الإيمان، فلا كفر باعتقاد حقيقته، وجواز العمل به من غير إضرار بأحد.
الإعراب: {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {فَكَّرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الوليد المحدث عنه، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للوعيد، والتهديد. (قدر): فعل ماض، والفاعل تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية
معطوفة على ما قبلها. {فَقُتِلَ:} الفاء: حرف عطف. (قتل): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى الوليد أيضا. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من فاعل {قَدَّرَ} بعده. {قَدَّرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الوليد، والجملة الفعلية فيها معنى التعليل للعنه، والتي بعدها معطوفة عليها، وهي مؤكدة لها، والجمل {نَظَرَ،} {عَبَسَ،} {وَبَسَرَ،} {أَدْبَرَ،} {وَاسْتَكْبَرَ} معطوفة على جملة: (قتل
…
) إلخ وهي في محل رفع مثلها. {فَقالَ:} الفاء: حرف عطف. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الوليد أيضا. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى ما. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {سِحْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قال
…
) إلخ معطوفة على ما قبلها.
{يُؤْثَرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {سِحْرٌ،} والجملة الفعلية صفة {سِحْرٌ،} وجملة: {إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} كالتأكيد لسابقتها، ولذلك لم تعطف عليها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى، و {قَوْلُ} مضاف، و {الْبَشَرِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله.
الشرح: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ:} سأدخله سقر؛ كي يصلى حرها. هذا؛ وقال الجوهري: يقال:
صليت الرجل نارا، إذا أدخلته النّار، وجعلته يصلاها، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف، وصلّيته تصلية، ويقال أيضا: صلي بالأمر: إذا قاسى حره وشدته، واصطليت بالنار، وتصلّيت بها إذا استدفأت بها، وفلان لا يصطلى بناره: إذا كان شجاعا لا يطاق. {سَقَرَ:} واد من أودية النار، ودركة من دركاتها، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في باب ما لا ينصرف:[الرجز]
كذا مؤنث بهاء مطلقا
…
وشرط منع العار كونه ارتقى
فوق الثلاث أو كجور، أو سقر
…
أو زيد اسم امرأة لا اسم ذكر
وإنما سميت سقر من: سقرته الشمس: إذا أذابته، ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. وروى أبو هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سأل موسى ربّه، فقال: أي ربّ! أيّ عبادك أفقر؟ فقال: صاحب سقر» . ذكره الثعلبي.
{وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ:} هذه مبالغة في وصفها، أي: وما أعلمك أي شيء هي؟ وهي كلمة تهويل، وتعظيم لشأنها، وأمرها. {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي: لا تترك لهم عظما، ولا لحما، ولا دما
إلا أحرقته. وكرر اللفظ تأكيدا؛ لأن اللفظين مترادفان، وهما بمعنى واحد. وقال مجاهد -رحمه الله تعالى-: لا تبقي من فيها حيا، ولا تذره ميتا، بل تحرقهم كلما جدّدوا.
هذا؛ وقال مكي بن أبي طالب القيسي: إنما حذفت الواو من (تذر)؛ لأنه حمل على نظيره في الاستعمال، والمعنى، وهو «يدع» ؛ لأنه بمعناه، ولأنهما جميعا لم يستعمل منهما ماض، فحمل «يذر» على «يدع» فحذفت فاؤه، كما حذفت في يدع، وإنما حذفت في «يدع» لوقوعها بين ياء، وكسرة، ولأن فتحة الدال عارضة، إنما انفتحت من أجل حرف الحلق، والكسر أصلها، فبني الكلام على أصله، وقدر ذلك فيه، فحذفت واو «يدع» لذلك، وحمل عليه «يذر» ؛ لأنه بمعناه، ومشابه له في امتناع استعمال الماضي. انتهى. وانظر ما قيل في ماضي «يدع» في الآية رقم [3] من سورة (الضحى).
{لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أي: مغيرة للوجوه، والأبدان. من: لاحه: إذا غيره. قال أبو رزين: تلفح النار وجوههم لفحة، تدعها أشد سوادا من الليل، والعرب تقول: لاحه البرد، والحر، والسقم، والحزن: إذا غيره، ومنه قول الشاعر:[الرجز]
تقول ما لاحك يا مسافر
…
يا بنة عمّي لاحني الهواجر
وقال آخر: [الطويل]
وتعجب هند أن رأتني شاحبا
…
تقول لشيء لوّحته السّمائم
وقال لبيد-رضي الله عنه-في معلقته رقم [25]: [الكامل]
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه
…
طرد الفحول وضربها وكدامها
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما. {لَوّاحَةٌ} أي: تلوح للبشر من مسيرة خمسمئة عام.
وقال الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. قال تعالى في سورة (الشعراء):
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ،} وفي سورة (النازعات): {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى،} وفي سورة (التكاثر):
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ} . هذا؛ وفي (البشر) وجهان: أحدهما: أنه الإنس من أهل النار، والثاني: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة.
{عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} أي: على سقر تسعة عشر ملكا يلقون فيها أهلها. ثم قيل: هم خزنتها:
مالك أحد العشرة الملائكة المقربين، وثمانية عشر ملكا، ويحتمل أن يكون هذا العدد نقباء، وتحت أمرهم ملائكة كثيرون. وعلى الأول أكثر المفسرين، ولا ينكر هذا؛ لأنه إذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق، كان أحرى أن يكون تسعة عشر ملكا على عذاب الخلائق.
وقال ابن جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم، فقال:«فكأن أعينهم البرق، وكأنّ أفواههم الصياصي، يجرون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة، وعلى رقبته جبل، فيرميهم في النار، ويرمي فوقهم الجبل» . انتهى. قرطبي وكشاف.