الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البروج
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (البروج) وهي مكية باتفاق، وهي اثنتان وعشرون آية، ومئة وتسع كلمات، وأربعمئة وخمسة وستون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)}
الشرح: {وَالسَّماءِ:} هذا قسم، وإنما أقسم الله تعالى في هذه السورة، وفي أوائل (المرسلات) و (الذاريات) و (الصافات) أقسم بهذه الأشياء لشرف ذواتها، ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته، وقدرته. والمعنى: أقسم بالذاريات، والمرسلات، والسماء، وبهذه الأشياء
…
إلخ. قال الشعبي-رحمه الله تعالى-: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق. وقال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: أقسم الله بهذه الأشياء تشريفا لها، وتعظيما لشأنها على ما يظهر فيها من عجائب صنع الله، وقدرته، وقوام الوجود بإيجادها. وقيل: المقسم به مضمر، تقديره: ورب السماء، ونحوه. وانظر شرح {ذاتِ} في سورة (الملك) رقم [13].
{الْبُرُوجِ:} جمع: برج، وهي منازل للكواكب السبعة السيارة، وأصل البروج: القصور العالية. قال تعالى في سورة (النساء) رقم [78]: {أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} سميت هذه المنازل بروجا؛ لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة التي هي القصور لسكانها، وهي اثنا عشر، مختلفة الهيئات، والخواص مع ما دل عليه الرصد، والتجربة مع بساطة السماء، وأسماؤها: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والكواكب السيارة هي: المريخ، وله الحمل، والعقرب.
والزهرة، ولها الثور، والميزان. وعطارد، ويمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وله الجوزاء، والسنبلة، والقمر، وله السرطان. والشمس، ولها الأسد. والمشتري، وله القوس، والحوت.
وزحل، ويمنع من الصرف للعلمية والعدل، وله الجدي والدلو.
والعرب تعد معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجلّ العلوم، ويستدلون بها على الطرقات، والأوقات، والخصب، والجدب. وقالوا: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان، ونصف،
وأصل البروج: الظهور، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها، وهذه البروج تنزلها الشمس في مسيرها، وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلا، لكل برج منزلان، وثلث منزل، وهذه البروج الاثنا عشر مقسمة على فصول السنة كما يلي: فللربيع: الحمل، والثور، والجوزاء. وللصيف:
السرطان، والأسد، والسنبلة. وللخريف: الميزان، والعقرب، والقوس. وللشتاء: الجدي، والدلو، والحوت. وانظر منازل القمر في الآية رقم [39] من سورة (يس) تجد ما يسرك.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي: يوم القيامة من غير اختلاف بين أهل التأويل. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه. قال تعالى: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} الآية رقم [87] من سورة (النساء).
{وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ:} اختلف فيهما اختلافا كبيرا: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير؛ إلا استجاب الله له، ولا يستعيذ من شرّ؛ إلا أعاذه الله منه» . أخرجه الترمذي، وضعف أحد رواته من قبل حفظه. وهذا قول ابن عباس، والأكثرين: أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
وقيل: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم النحر. وقيل: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وإنما حسن القسم بهذه الأيام، لعظمها، وشرفها، واجتماع المسلمين فيها. وقيل:
الشاهد هو الله، والمشهود يوم القيامة. وقيل: الشاهد هم الأنبياء، والمشهود عليهم هم الأمم.
وقيل: الشاهد هو الملك، والمشهود عليه هو آدم، وذريته. وقيل: الشاهد هذه الأمة، ونبيها صلى الله عليه وسلم، والمشهود عليهم هم الأمم المتقدمة. وقيل: الشاهد الأنبياء، والمشهود له هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنبياء قد شهدوا له بالنبوة.
هذا؛ وكذلك سائر الأيام، والليالي، فكل يوم شاهد، وكذا كل ليلة، ودليله ما رواه أبو نعيم الحافظ عن معاوية بن قرة، عن معقل بن يسار-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس من يوم يأتي على العبد إلاّ ينادي فيه: يابن آدم! أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل فيّ خيرا؛ أشهد لك به غدا، فإنّي لو قد مضيت؛ لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك» . انتهى. قرطبي.
الإعراب: {وَالسَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. {ذاتِ:} صفة (السماء)، و {ذاتِ} مضاف، و {الْبُرُوجِ} مضاف إليه. {وَالْيَوْمِ:} الواو: حرف عطف. (اليوم):
معطوف على (السماء). {الْمَوْعُودِ:} صفة (اليوم) وهناك ضمير محذوف به تتم الصفة، التقدير:
الموعود به، ولولا ذلك ما صحت الصفة. مكي. {وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ:} معطوفان على ما قبلهما، وجواب القسم ما يأتي.
الشرح: {قُتِلَ:} لعن. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كل شيء في القرآن (قتل) فهو: لعن. {الْأُخْدُودِ:} الشق العظيم المستطيل في الأرض، كالخندق، وجمعه: أخاديد، ومنه: الخد لمجاري الدموع، والمخدة؛ لأن الخد يوضع عليها. ويقال: تخدد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح، ونحوه. قال طرفة في معلقته رقم [11]:[الطويل]
ووجه كأنّ الشّمس حلّت رداءها
…
عليه نقيّ اللّون لم يتخدّد
{النّارِ ذاتِ الْوَقُودِ:} صاحبة الوقود بفتح الواو؛ أي: ما توقد به النار، وأما بضمها؛ فهو المصدر، وكذلك الاسم منه، وبعضهم قال: كلّ من الفتح، والضم يجري في المصدر، والآلة، وكذا يقال في الوضوء، والسحور، والطهور، ونحو ذلك، ولكن المشهور الأول، والمراد في الآلة مادة الفعل كالماء في الوضوء، والحطب في الوقود، والطعام في السحور، والمراد بالمصدر الفعل والحدث.
{إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ} أي: عند النار، وعلى بمعنى: عند. وقيل: (عليها) على ما يدنو منها من حافات الأخدود. قال الأعشى وهو الشاهد رقم [247] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الطويل]
تشبّ لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النّار النّدى والمحلّق
{وَهُمْ} أي: الملك الكافر الذي خدّ الأخدود وأصحابه. {عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ:} من الإحراق في النار، والتعذيب. {شُهُودٌ:} حضور. وقيل: يشهدون: أن المؤمنين ضلال حين تركوا عبادة الأصنام. وقيل: يشهد بعضهم لبعض عند الملك: أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به، وفوض إليه من التعذيب. وفيه حث للمؤمنين على الصبر، وتحمل أذى أهل مكة: وذلك:
أن هذه القصة كانت مشهورة عند أهل مكة، فذكر الله ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملهم بذلك على الصبر، وتحمل المكاره في الدين. واختلفوا في أصحاب الأخدود، وأكتفي برواية مسلم عن صهيب-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلّمه السّحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب، فقعد إليه، وسمع منه، فأعجبه كلامه، فكان إذا أتى الساحر؛ مرّ بالراهب، وقعد إليه، فإذا أتى الساحر؛ ضربه، وإذا رجع من السّاحر قعد إلى الراهب، وسمع كلامه، فإذا أتى أهله؛ ضربوه، فشكا ذلك إلى الرّاهب.
فقال: إذا خشيت الساحر؛ قل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك؛ فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم: الراهب أفضل،
أم الساحر؟ فأخذ حجرا، ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر؛ فاقتل هذه الدابة؛ حتى يمضي الناس، فرماها، فقتلها، فمضى الناس، فأتى الراهب، فأخبره، فقال له الراهب: أي بني! أنت أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت؛ فلا تدل عليّ. فكان الغلام يبرئ الأكمه، والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع؛ إن أنت شفيتني. قال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله؛ دعوت الله-عز وجل-فشفاك! فآمن به، فشفاه الله، عز وجل، فأتى الملك، فجلس إليه، كما كان يجلس، فقال الملك له: من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: ألك رب غيري؟ قال: ربي، وربك الله! فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك؛ أي بني! إنه قد بلغ من سحرك ما تبرئ به الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل، فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب، فجيء بالراهب. فقال له: ارجع عن دينك! فأبى، فدعا بالميشار، فوضع الميشار في مفرق رأسه، فشقه به؛ حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالميشار، فوضعه في مفرق رأسه، فشقه به؛ حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا، وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه؛ وإلا فاطرحوه. فذهبوا به، فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت! فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله! فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به، فاحملوه في قرقور (سفينة صغيرة) فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه؛ وإلا فاقذفوه. فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت! فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال:
كفانيهم الله تعالى! ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي؛ حتى تفعل ما آمرك به. فقال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع نخل، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله ربّ الغلام، ثم ارمني به، فإنك إن فعلت ذلك؛ قتلتني! فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله ربّ الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام! فأتي الملك، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر. قد والله نزل بك حذرك! قد آمن الناس.
فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فحفرت، وأضرم النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه، فأقحموه فيها. ففعلوا، فجاءت امرأة؛ ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمّه! اصبري، فإنك على الحق». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.
وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء، وفيه جواز الكذب في مصلحة ترجع إلى الدين، وفيه إنقاذ النفس من الهلاك، والدابة حية عظيمة، أو أسد. وهذه الحادثة كانت في الفترة بين عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، واختلف في مكانها، فقيل: كانت في اليمن. وقيل: كانت بنجران. وقيل:
كانت في الحبشة. هذا؛ وقد قال صاحب السيرة الحلبية، وقد تكلم جماعة في المهد، نظمهم الجلال السيوطي-رحمه الله تعالى-في قوله:[الطويل]
تكلّم في المهد النبيّ محمد
…
ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف
…
وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مرّ بالأمة التي
…
يقال لها تزني ولا تتكلّم
وما شطة في عهد فرعون طفلها
…
وفي زمن الهادي المبارك يختم
قال بعضهم: لكن النبي صلى الله عليه وسلم حصر من تكلم في المهد في ثلاثة، ولم يذكر نفسه، فقد روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-مرفوعا:«لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج، وابن المرأة التي مرّ عليها بامرأة، يقال لها: إنها زنت» . وقد يقال: هذا الحصر إضافي؛ أي: ثلاثة من بني إسرائيل، أو إن ذلك كان قبل أن يعلم بما زاد. انتهى. والله أعلم.
الإعراب: {قُتِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {أَصْحابُ:} نائب فاعله، و {أَصْحابُ} مضاف، و (الأخدود) مضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم، وحذف صدرها، التقدير: لقد قتل، وإنما احتيج لهذا المقدر؛ لأن المشهور عند النحاة: أن الماضي المثبت المتصرف؛ الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابا للقسم؛ تلزمه اللام وقد، ولا يجوز الاقتصار على إحداهما إلا عند طول الكلام، كما في قوله تعالى في سورة (الشمس):{وَالشَّمْسِ وَضُحاها..} . إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها،} أو في ضرورة، وعلى هذا فجملة:{قُتِلَ..} . إلخ خبرية، وليست دعائية، والأصل أن تكون دعائية دالة على الجواب، كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء على أنهم؛ أي: كفار مكة ملعونون، كما لعن أصحاب الأخدود. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود. هذا؛ وعلى إبقاء الجملة على أصلها؛ فالجواب محذوف، فيكون الجواب محذوفا تقديره: لتبعثن. وهذا اختيار ابن الأنباري. وقيل: الجواب جملة: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا..} . إلخ، وقيل: جملة: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ..} . إلخ وهو ضعيف؛ لأن الكلام قد طال. {النّارِ:} بدل اشتمال من: {أَصْحابُ الْأُخْدُودِ؛} لأن الأخدود مشتمل على النار، وحينئذ فلا بد من ضمير مقدر؛ أي: النار فيه. وقال الكوفيون: هو مخفوض على الجوار. قاله مكي. هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: وقرأ أشهب العقيلي وأبو السماك العدوي، وابن السميقع:(النار ذات) بالرفع فيهما؛ أي: فهما مبتدأ، وخبر، وتكون الجملة فيها معنى التفسير ل:{الْأُخْدُودِ} . {إِذْ:}
ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {قُتِلَ} . {هُمْ:} ضمير
منفصل مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.
{قُعُودٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.
{وَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {عَلى ما:} متعلقان ب: {شُهُودٌ} بعدهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:{عَلى} . {يَفْعَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: على الذي، أو على شيء يفعلونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر، التقدير: على فعلهم. {بِالْمُؤْمِنِينَ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة. {شُهُودٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَهُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.
الشرح: {وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما كرهوا منهم. بمعنى: ما عاب الملك، وأشياعه الذين عاونوه من الذين حرقهم-وهم المؤمنون-إلا الإيمان بالله وحده، وهذا لا يستوجب التحريق، فهذا استثناء صفة مدح من صفة ذم منفية. ومنه قول النابغة الذبياني في مدح الغسانيين:[الطويل]
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
…
بهنّ فلول من قراع الكتائب
هذا ما يسمى في فن البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، ومنه قول قيس بن الرقيات:[المنسرح]
ما نقموا من بني أميّة إلاّ
…
أنّهم يحلمون إن غضبوا
ومنه قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [74]: {وَما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [126]: {وَما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا} وقوله جل ذكره في سورة (المائدة) رقم [59]: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللهِ} هذا؛ والفعل نقم يأتي من باب ضرب، تقول: نقم ينقم، ويأتي من باب: فهم، تقول:
نقم ينقم لغتان، والأولى هي الفصحى. {الْعَزِيزِ:} القوي الغالب؛ الذي لا يغلب، {الْحَمِيدِ:}
المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال، وهو مستحق للحمد في ذاته، تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} وما فيهما من عبيد، ومال، وخلق، وأفلاك وكواكب في السماء، وما على ظهر الأرض من جبال، وأنهار، وبحار
…
إلخ فكل ذلك هو ملك لله تعالى،
لا يشركه فيه أحد، وما يملكه الإنسان في هذه الدنيا الفانية؛ فإنما هو ملك له في الظاهر، قد منحه الله له؛ ليتمتع به على سبيل الوكالة، والأمانة. وويل ثم ويل لمن قصر في الوكالة، وخان في الأمانة! واللام مفيدة للملك الحقيقي؛ الذي هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور. {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: عالم بأعمال خلقه، لا تخفى عليه خافية. ففيه وعد للمؤمنين، ووعيد عظيم للكافرين، والظالمين، والفاجرين.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {نَقَمُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من (المؤمنين) فلست مفندا. والرابط على الاعتبارين: الواو، والضمير. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يُؤْمِنُوا:} فعل مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ يُؤْمِنُوا} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، أو هو في محل نصب مفعول لأجله، التقدير: لأجل إيمانهم. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ:} بدلان من لفظ الجلالة؛ لأنهما اسمان، وليسا بصفتين.
{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة، أو هو في محل جر بدل ثالث من لفظ الجلالة، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول لا محل لها، و {مُلْكُ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال.
(الله): مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {شَهِيدٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه.
{شَهِيدٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة اللفظ الكريم. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} أي: حرقوهم بالنار، والعرب تقول: فتن فلان الدرهم: إذا أدخله الكور؛ لينظر جودته، ودينار مفتون؛ أي: مجود. ونظيره قوله تعالى في سورة (الذاريات) رقم [13]: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ} أي: يحرقون في النار، وهو من قولهم:
فتنت الذهب؛ أي: أحرقته، لتختبره، وأصل الفتنة: الامتحان، والاختبار. وهي بهذا المعنى كثيرة في القرآن الكريم. قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [35]:{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ}
{بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} هذا؛ ويسمى الصائغ: الفتان، وكذلك الشيطان، وورق فتين:
أي: فضة محترقة. وانظر سورة (الصافات) رقم [162]. {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي: من قبيح صنيعهم مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم، وقومه من الآيات البينات على يدي الغلام. وفيه دليل واضح على أنهم لو تابوا، وآمنوا؛ قبل منهم، ويخرجون من هذا الوعيد، وأن الله تعالى يقبل منهم التوبة، وأن توبة القاتل مقبولة.
قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد كل من فعل ذلك. قال: وهذا أولى؛ لأن اللفظ عام، والحكم بالتخصيص ترك الظاهر من غير دليل. ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة، ولو طال الزمان، عبر سبحانه بأداة التراخي. فقال:{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} .
{فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ:} بسبب كفرهم. {وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ:} بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب الحريق في الدنيا، وذلك: أن الله أحرقهم بالنار؛ التي أحرقوا فيها المؤمنين، ارتفعت إليهم من الأخدود، فأحرقتهم، ولهم عذاب جهنم في الآخرة.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ. {وَالْمُؤْمِناتِ:} الواو: حرف عطف. (المؤمنات): معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم.
{ثُمَّ:} حرف عطف. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَتُوبُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها.
(لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابُ:} مبتدأ مؤخر، و {عَذابُ} مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {إِنَّ} والتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل رفع مثلها، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، فهي هنا صلة. قال البيضاوي: ومنع سيبويه إدخال الفاء في خبر (إنّ) كليت، ولعل، ولم يتعرض ابن هشام-رحمه الله تعالى-لدخول الفاء على خبر (إنّ)، أو إحدى أخواتها والذي تعرض لذلك الأشموني-رحمه الله تعالى-حيث قال: وإذا دخل شيء من نواسخ الابتداء على المبتدأ الذي اقترن خبره بالفاء أزال الفاء، إن لم يكن إنّ، أو أنّ، أو لكنّ بإجماع المحققين، فإن كان الناسخ: إنّ، أو أنّ، أو لكنّ جاز بقاء الفاء. نص على ذلك في (إنّ) و (أنّ) سيبويه، وهو الصحيح الذي ورد نص القرآن المجيد به، وأورد آيات كثيرة من جملتها الآية التي نحن بصدد شرحها، فأنت ترى أن البيضاوي-رحمه الله تعالى-قد نقل عن سيبويه عكس ما ذكره الأشموني، والمنقول عن الأخفش-رحمه الله تعالى-أنه هو الذي منع دخول الفاء الزائدة على