الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الأعلى) مكية في قول الجمهور. وقال الضّحّاك مدنية. وهي تسع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومئتان وواحد وتسعون حرفا. انتهى. خازن. وقال النووي-رحمه الله تعالى-:
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم، والخيرات، وعن عبد الرحمن بن جريج؛ قال: سألنا عائشة-رضي الله عنها-بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يقرأ في الأولى ب: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى،} وفي الثانية ب: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ،} وفي الثالثة ب: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي. وقال: حديث حسن غريب. انتهى. جمل والخازن.
وروى مسلم، وأهل السنن عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين، ويوم الجمعة ب:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى،} و {هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد، فقرأهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي: نزه يا محمد ربّك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، وعما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص، والقبائح. فقد روي: أنه لما نزل:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» . ولما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} من سورة (الواقعة) قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» . أخرجه أبو داود عن عقبة ابن عامر-رضي الله عنه. هذا؛ والتسبيح يأتي بمعنى الدعاء. قال جرير: [الطويل]
فلا تنس تسبيح الضّحى إنّ يوسفا
…
دعا ربّه فاختاره حين سبّحا
هذا؛ وقد جاء لفظ التسبيح في القرآن الكريم بالماضي أحيانا، وبالمضارع أحيانا، وبالأمر أحيانا، وبالمصدر أحيانا أخرى، استيعابا لهذه المادة من جميع جهاتها، وألفاظها، وهي أربع المصدر، والماضي، والمضارع، والأمر. وهذا الفعل بألفاظه الأربعة قد عدي باللام تارة، مثل
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلّهِ،} وقوله جلت حكمته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ..} . إلخ. وبنفسه أخرى، مثل الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (الفتح) رقم [9]:{وَتُسَبِّحُوهُ،} وفي سورة (الأحزاب) رقم [42]: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً،} وقوله تعالى في آخر سورة (ق): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} وأصله التعدي بنفسه؛ لأن معنى «سبحته» : بعدته من السوء، منقول من: سبح إذا ذهب، وبعد، فاللام إما أن تكون مثل: نصحته، ونصحت له، وشكرته، وشكرت له، وإما أن يراد: يسبح لله: اكتسب التسبيح لأجل الله، ولوجهه خالصا. انتهى. نسفي من سورة (الحديد).
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى} أي: خلق جميع المخلوقات، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات. قال في البحر: أي: كلّ شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتا، بل متناسبا على إحكام، وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم. انتهى. صابوني، والمعنى: خلق كل ذي روح فسوى اليدين، والرجلين، والعينين. وقيل: خلق الإنسان مستويا معتدل القامة. وانظر سورة (الانفطار) رقم [7] وانظر سورة (التين) أيضا.
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى:} قيل: قدر الأرزاق، وهدى لاكتسابها. وقيل: قدر لكل شيء شكله فهدى؛ أي: عرف كيف يأتي الذكر، والأنثى، سواء أكان من الإنسان، أو من الحيوان حتى الذبابة. وقيل: قدر مدة الجنين في الرحم، وهداه إلى الخروج منه. وقيل: قدر لأقوام الشقاوة، والسعادة لأقوام، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له، وعليه، فهذه الآية كقوله تعالى في سورة (طه) رقم [50]:{قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} انظر شرحها هناك، فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . أخرجه مسلم.
وفي الجمل نقلا عن الخطيب: أي: أوقع تقديره في أجناس الأشياء، وأنواعها وأشخاصها، ومقاديرها، وصفاتها، وأفعالها، وآجالها، وغير ذلك من أحوالها. فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين، ونحو ذلك. وقوله:{فَهَدى} أي: هدى الإنسان، ودله لسبيل الخير، والشر، والسعادة، والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل:
المعنى: قدر أقواتهم، وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا بشرا، ولمراعيهم إن كانوا وحوشا، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته، وأدويته، وأمور دنياه، ودينه، وإلهامات البهائم، والطيور، وهوام الأرض إلى معاشها ومصالحها. انتهى.
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى:} بعد أن ذكر ما يختص بالإنسان؛ أتبعه بما يختص بالحيوان من الحشائش، والأعشاب. وجميع أنواع النباتات، والزروع، من أخضر، وأصفر، وأحمر، وأبيض، وغير ذلك. {فَجَعَلَهُ غُثاءً} يابسا، هشيما، باليا كالغثاء الذي تراه فوق السيل. وغثاء
السيل: حميله، وغثت نفسه، تغثى غثيا من باب رمى، وغثيانا، وهو اضطرابها؛ حتى تكاد تتقيأ من خلط ينصبّ إلى فم المعدة. {أَحْوى} أي: أسود بعد الخضرة، وذلك: أن الكلأ إذا جف، ويبس؛ اسودّ. قال امرؤ القيس في معلقته رقم [89]:[الطويل]
كأنّ ذرا رأس المجيمر غدوة
…
من السّيل والإغثاء فلكة مغزل
و (الأحوى) الأسود؛ أي: إن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة، كالأسود، والحوة: السواد، قال ذو الرّمّة:[البسيط]
لمياء في شفتيها حوّة لعس
…
وفي اللّثات وفي أنيابها شنب
ويقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وجمعهما: حوّ، مثل: أحمر، وحمر، وقد حويت.
وبعير أحوى: إذا خالط خضرته سواد وصفرة.
تنبيه: تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به في ذاته، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، وأحكامه واجب. فأما في ذاته؛ فأن تعتقد: أنها ليست من الجواهر، والأعراض، وأما في صفاته؛ فأن تعتقد: أنها ليست محدثة، ولا متناهية، ولا ناقصة. وأما في أفعاله؛ فأن تعتقد: أنه سبحانه مطلق، لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور. وأما في أسمائه؛ فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصا بوجه من الوجوه، سواء ورد الإذن فيها، أم لم يرد. وأما في أحكامه سبحانه؛ فأن تعلم: أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه، بل لمحض المالكية. انتهى. جمل نقلا عن الخطيب.
الإعراب: {سَبِّحِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّكَ} مضاف إليه. وقيل: اسم صلة. قاله ابن عباس، والسدي، والمعنى: عظّم ربك الأعلى، فالمراد تعظيم المسمى. ومنه قول: لبيد-رضي الله عنه-وانظره في الشاهد رقم [976] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الطويل]
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما
…
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وعليه ف: {رَبِّكَ} مفعول به، مجرور لفظا، منصوب محلا، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{الْأَعْلَى:} صفة ل: {رَبِّكَ،} أو صفة {اِسْمَ،} فعلى الأول هو مجرور، وعلى الثاني هو منصوب، والكسرة، أو الفتحة مقدرة على الألف للتعذر. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة ثانية ل: {اِسْمَ،} أو في محل جر صفة ثانية ل: {رَبِّكَ} إلا أن اعتبار {الْأَعْلَى} صفة ل: {اِسْمَ} يمنع جعل {الَّذِي} صفة ل: {رَبِّكَ،} بل يتعين حينئذ جعله نعتا ل: {اِسْمَ،} أو نعتا مقطوعا لئلا يلزم الفصل بين الموصوف، وصفته بصفة غيره؛ إذ يصير التركيب مثل قولك: جاءني غلام هند العاقل الحسنة، وهو ممتنع. انتهى. سمين.
هذا؛ ويجوز في العربية اعتبار الموصول خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو في محل نصب بفعل محذوف، التقدير: أعني الذي. وهذان الوجهان لا يناسبان المقام مع جلال الله، وعظمته. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. (سوى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} والمفعول محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى} هذا الكلام معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه بلا فارق. (جعله): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} أيضا، والهاء مفعول به أول.
{غُثاءً:} مفعول به ثان. {أَحْوى:} قيل: صفة {غُثاءً،} وصحح ابن هشام اعتباره حالا من {الْمَرْعى،} وأخر لتناسب الفواصل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
الشرح: {سَنُقْرِئُكَ} أي: سنقرأ عليك القرآن يا محمد بواسطة جبريل. {فَلا تَنْسى:} هذا إخبار من الله، ووعد منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها. وهذه بشارة من الله عز وجل-لحبيبه صلى الله عليه وسلم بإعطائه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي؛ وهو أمي لا يقرأ، ولا يكتب، فيحفظه، ولا ينساه. وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين:
الأول: أنه كان رجلا أميا، فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة، ولا تكرار خارق للعادة، فيكون معجزة. الثاني: أن هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب، مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع، فيكون هذا إخبارا، فيكون معجزا.
انتهى. جمل نقلا من الخطيب. وفي الخازن: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم بأولها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينساها، فأنزل الله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى:} فلم ينس شيئا بعد ذلك. وانظر ما ذكرته في سورة (القيامة) الآية رقم [16] وما بعدها؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{إِلاّ ما شاءَ اللهُ:} يعني أن تنساه، وهو ما نسخ الله تعالى تلاوته من القرآن، ورفعه بالصدور. وقيل: معناه إلا ما شاء الله أن تنساه، ثم تذكره بعد ذلك، كما صح من حديث عائشة رضي الله عنها-قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في سورة بالليل، فقال:«رحمه الله! لقد أذكرني كذا، وكذا آية، كنت أنسيتها من سورة كذا، وكذا» . وفي رواية: «كنت أسقطتهن من سورة كذا» . أخرجاه في الصحيحين.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى:} من القول، والفعل. والمعنى: يعلم السر، والعلانية، قال الله تعالى في سورة (الأنعام):{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} . وقال في سورة (النحل): {وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما}
تُعْلِنُونَ. {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى} أي: نهون عليك أن تعمل خيرا، ونسهله عليك حتى تعمله. وقيل:
نوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السمحة. وروي من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«بعثت بالحنيفية السمحة» . وعن العرباض بن سارية-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك» . رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة.
الإعراب: {سَنُقْرِئُكَ:} السين: حرف تنفيس، واستقبال، ووعد وهي في حق الله تعالى تفيد التحقيق، والتوكيد. (نقرئك): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَلا:} الفاء: حرف تعليل. (لا): نافية. {تَنْسى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف التقدير: فلا تنسى منه شيئا. هذا؛ وأجيز اعتبار (لا) ناهية، والفعل مجزوما بها، والألف للإشباع، ومنع مكي أن يكون نهيا؛ لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وهذا غير لازم؛ إذ المعنى أن النهي عن تعاطي أسباب النسيان، وهو شائع. فسقط ما قاله. انتهى. جمل نقلا من السمين. وعلى اعتبار النهي فالفاء هي الفصيحة إذا؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر.
{إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء.
وقيل: (ما) هي المفعول به ل: {تَنْسى} وهو ضعيف. {شاءَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله).
{الْجَهْرَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل لمشيئة الله تعالى، لا محل لها. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على الجهر. {يَخْفى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها. {وَنُيَسِّرُكَ:} الواو:
حرف عطف. (نيسرك): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. وقال الجمل: معطوفة على: (نقرئك) كما ينبئ عنه الالتفات إلى الحكاية، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما اعتراض وارد للتعليل.
انتهى. {لِلْيُسْرى:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر.
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)}
الشرح: {فَذَكِّرْ:} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: فعظ قومك يا محمد بالقرآن. {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى} أي: الموعظة. روى يونس عن الحسن البصري؛ قال: تذكرة للمؤمن، وحجة على
الكافر. وكان ابن عباس-رضي الله عنهما-يقول: تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، فحذف، كما قال تعالى في سورة (النحل) رقم [81]:{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . وقال ابن كثير: أي: ذكر حيث تنفع التذكرة. ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي-رضي الله عنه:(ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم). وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! والظاهر: أن أمره بالتذكير مشروط بنفع الذكرى، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش؛ أي: فذكر إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى، كما قال أبو تمام-رحمه الله تعالى-:[الوافر]
لقد أسمعت لو ناديت حيا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
هذا؛ وقال الفخر الرازي-رحمه الله تعالى-: واعلم: أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الكل، فيجب عليه أن يذكرهم، سواء نفعتهم الذكرى، أم لم تنفعهم؟ والجواب: أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين، ونبه على الحالة الأخرى. كقوله تعالى:{سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، وأجيب عنه أيضا بأن التذكير العام واجب في أول الأمر، وأما التكرير، فلعله يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط، والتذكير المأمور به: هل هو محصور في عشر مرات، أو غير محصور، والجواب أن الضابط فيه العرف.
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى:} سينتفع بهذه الذكرى، والموعظة من يخاف الله. قال الفخر الرازي-رحمه الله تعالى-: اعلم: أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحة المعاد، ومنهم من جوز وجوده، ولكنه غير قاطع فيه بالنفي، والإثبات، ومنه من أصر على إنكاره (أي: المعاد) وقطع بأنه لا يكون، فالقسمان الأولان، تكون الخشية حاصلة لهما، وأما القسم الثالث فلا خشية، ولا خوف، فلما قال الله جلّ ذكره:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى} بين: أن الذي تنفعه الذكرى من يخشى، ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنيا على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب لا يطلع عليها إلا الله، وجب على الرسول صلى الله عليه وسلم تعميم الدعوة تحصيلا للمقصود، فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير، والسين في:{سَيَذَّكَّرُ} بمعنى سوف، وسوف من الله واجب كقوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى} انتهى. جمل. نقلا من الفخر.
هذا؛ والخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وهو المراد منه بخشية عباد الله المؤمنين المتكررة في القرآن الكريم. هذا؛ والماضي: خشي، والمصدر: خشية، والرجل: خشيان، والمرأة: خشيا، وهذا المكان أخشى من ذلك؛ أي: أشد خوفا. هذا؛ وقد يأتي الفعل «خشي» بمعنى: علم القلبية. قال الشاعر المسلم: [الكامل]
ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى
…
سكن الجنان مع النّبيّ محمّد
قالوا: معناه: علمت. وقوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [81]: {فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا. والله أعلم بمراده.
الإعراب: {فَذَكِّرْ:} الفاء: هي الفصيحة. (ذكر): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف للتعميم. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم مقدر ب:«إذا» ، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فذكر. {إِنْ:} حرف شرط جازم.
{نَفَعَتِ:} فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث. {الذِّكْرى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها غير منفكة عنها. {سَيَذَّكَّرُ:} السين: حرف استقبال. (يذكر): فعل مضارع. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، وجملة {يَخْشى} صلة الموصول، لا محل لها.
الشرح: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} أي: يرفض الموعظة، ويبتعد عن قبولها الكافر المبالغ في الشقاوة. وهذا المقدر له ذلك في علم الله الأزلي. {الَّذِي يَصْلَى النّارَ الْكُبْرى:} هي نار الآخرة، والنار الصغرى هي نار الدنيا. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ناركم هذه مما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنّم» . قالوا: والله إن كانت لكافية! قال:
«إنّها فضّلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلهنّ مثل حرّها» . رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما.
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} أي: لا يموت، فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه، كقوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [36]:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها،} وقوله تعالى في سورة (إبراهيم) رقم [17]: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ،} وقال الشاعر: [الطويل]
ألا من لنفس لا تموت فينقضي
…
عناها ولا تحيا حياة لها طعم
وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون، ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فيميتهم إماتة؛ حتى إذا ما صاروا فحما؛ أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثّوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة في حميل السّيل» . رواه الإمام مسلم، وأحمد. ولا تنس الطباق بين {يَمُوتُ} و {يَحْيى} والمقابلة بين الآيتين [10] و [11].
الإعراب: {وَيَتَجَنَّبُهَا:} الواو: حرف عطف. (يتجنبها): فعل مضارع، و (ها): مفعول به.
{الْأَشْقَى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {الْأَشْقَى،} أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني، أو أذم. {يَصْلَى:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {النّارَ:} مفعول به. {الْكُبْرى:} صفة {النّارَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يَمُوتُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، والتي بعدها معطوفة عليها. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَذَكَرَ اِسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (15)}
الشرح: {قَدْ أَفْلَحَ:} فاز، ونجا. {مَنْ تَزَكّى:} من طهر نفسه بالإيمان، وأخلص عمله للرحمن، روى جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى} أي: «من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله» .
وروى عطاء عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: نزلت في عثمان-رضي الله عنه-قال:
كان بالمدينة منافق، وكانت له نخلة بالمدينة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، فكانت إذا هبت الرياح أسقطت البسر، والرطب إلى دار الأنصاري، فيأكل هو، وعياله منه. فخاصمه المنافق، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى المنافق، وهو لا يعلم نفاقه، فقال:«إن أخاك الأنصاري ذكر: أن بسرك، ورطبك يقع إلى منزله، فيأكل، هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟!» . فقال: أبيع عاجلا بآجل؟ لا أفعل! فذكروا: أن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته، ففيه نزلت:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى} ونزلت في المنافق:
{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} . وذكر الضحّاك أنها نزلت في أبي بكر.
هذا؛ وقيل: قد أفلح من كان عمله زاكيا. قيل: هو صدقة الفطر. روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه-في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى} قال: أعطى صدقة الفطر. {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} قال:
خرج إلى العيد، فصلى. وكان ابن مسعود-رضي الله عنه-يقول: رحم الله امرءا تصدق، ثم صلى، ثم يقرأ الآية. وقال نافع-رضي الله عنه، كان ابن عمر-رضي الله عنهما-إذا صلى الغداة يوم العيد.
قال: يا نافع! أخرجت الصدقة؟ فإن قلت: نعم؛ مضى إلى المصلى، وإن قلت: لا؛ قال: فالآن فأخرجها، فإنما هذه الآية في هذا:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} (15).
فإن قلت: فما وجه هذا التأويل، وهذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد، ولا زكاة فطر؟ قلت: يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم، كما قال تعالى:{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ،} وهذه السورة مكية، وظهر أثر الحل يوم فتح مكة، وكذا نزل بمكة:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} من سورة (القمر) وكان ذلك يوم بدر. قال عمر-رضي الله عنه: كنت لا أدري أي جمع سيهزم؟ فلما كانت غزوة بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . ووجه آخر، وهو:
أنه كان في علم الله تعالى: أنه سيكون ذلك، فأخبر عنه. وقيل:{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى} يعني:
الصلوات الخمس. وقيل: أراد بالذكر: تكبيرات العيد، وبالصلاة: صلاة العيد. انتهى. خازن.
الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَفْلَحَ:} فعل ماض. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {تَزَكّى:}
فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من)، وهو العائد، والجملة الفعلية صلة {مَنْ} لا محل لها. {وَذَكَرَ:} الواو: حرف عطف. (ذكر): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. {اِسْمَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها، والتي بعدها معطوفة عليها لا محل لها أيضا.
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)}
الشرح: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا:} المعنى: الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي. قال عرفجة الأشج: كنا عند عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-فقرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا! قال: لأن الدنيا حضرت، وعجل لنا طعامها، وشرابها، ونساؤها، ولذتها، وبهجتها، وإن الآخرة غيبت، وزويت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل. وهذا يعني: أن الخطاب يعم الناس أجمعين، والمؤمنون لهم الحظ الأكبر من هذا الخطاب؛ لينزجروا، ويتعظوا، ويكون في الكلام التفات من الغيبة في الآيات السابقة إلى الخطاب في هذه الآية. وانظر الالتفات في الآية رقم [20] من سورة:(الملك) هذا؛ ويقرأ: «(يؤثرون)» بالياء؛ فعليه؛ فالكلام راجع للأشقياء، ولا التفات.
وانظر شرح {الْحَياةَ الدُّنْيا} في الآية رقم [38] من سورة (النازعات).
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي: والحال أن الآخرة خير من الدنيا، وأبقى، والباقي خير من الفاني، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى؟! وكيف يهتم عاقل بدار الغرور، ويترك الاهتمام بدار البقاء، والخلود؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما الدنيا في الآخرة إلاّ كما يضع أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟!» . أخرجه مسلم عن المستورد أخي بني فهر-رضي الله عنه، وأشار يحيى بن
يحيى بالسبابة. وعن سهل بن سعد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . رواه ابن ماجه، والترمذي.
وقال مالك بن دينار-رحمه الله تعالى-: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف؛ والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى؟! هذا؛ والأحاديث في ذم الدنيا كثيرة مشهورة في كتاب:
«الترغيب والترهيب» . للحافظ المنذري، وغيره.
الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {تُؤْثِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {الْحَياةَ:} مفعول به.
{الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.
{وَالْآخِرَةُ:} (الواو): واو الحال. (الآخرة): مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الحياة الدنيا، والرابط: الواو، وضمير مقدر ب: خير منها. {وَأَبْقى:}
الواو: حرف عطف. (أبقى): معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.
{إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)}
الشرح: {إِنَّ هذا} أي: الذي ذكر من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ..} . إلخ. وهو أربع آيات.
{صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى:} يعني الكتب المنزلة عليهما، ولم يرد: أن هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما هو على المعنى؛ أي: إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف، واستدل الحنفية بذلك على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة؛ لأنه جعله مذكورا في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم، وبهذه اللغة.
هذا؛ وروي عن أبي ذر-رضي الله عنه-أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله من كتاب؟: فقال:
«مئة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ (وهو: إدريس) ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان» . والمحفوظ زيادة على ذلك: عشر صحائف أنزلت على موسى، فيكون المجموع مئة وأربع عشرة بعدد سور القرآن الكريم.
فعن أبي ذر-رضي الله عنه-قال: دخلت المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن للمسجد تحية» . فقلت: وما تحيته يا رسول الله؟! قال: «ركعتان تركعهما» . قلت: يا رسول الله! هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم، وموسى؟ قال:«يا أبا ذر! اقرأ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى..}. إلى {صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» }. قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال:
«كانت عبرا كلها، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن أيقن بالنّار كيف يضحك؟! وعجبت لمن رأى الدنيا، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟! وعجبت لمن أيقن بالقدر، ثم يغضب؟! وعجبت لمن أيقن بالحساب، ثم لا يعمل؟!» . قال: قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالا كلّها: أيها الملك المتسلّط، المبتلى المغرور، إني لم أبعثك؛ لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها، ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات:
ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع الله، عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم، والمشرب. وعلى العاقل ألاّ يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمّة لمعاش، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، ومن عدّ كلامه من عمله؛ قلّ كلامه إلا فيما يعنيه». أخرج هذا الحديث رزين في كتابه. وذكره ابن الأثير في كتابه جامع الأصول، ولم يعلّم عليه شيئا.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسم {إِنَّ،} والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {لَفِي:} (اللام): هي المزحلقة. (في الصحف): متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} . {الْأُولى:} صفة ل: {الصُّحُفِ} . {صُحُفِ:} بدل مما قبله، وهو مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه. {وَمُوسى:} الواو: حرف عطف. (موسى):
معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{إِنَّ هذا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وسلم.
انتهت سورة (الأعلى) شرحا، وإعرابا.
والحمد لله رب العالمين.