المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الشرح بسم الله الرحمن الرحيم سورة (الشرح) مكية في قول الجميع، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: ‌ ‌سورة الشرح بسم الله الرحمن الرحيم سورة (الشرح) مكية في قول الجميع،

‌سورة الشرح

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة (الشرح) مكية في قول الجميع، وهي ثمان آيات، وسبع وعشرون كلمة، ومئة وثلاثة أحرف. انتهى. خازن.

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)}

الشرح: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي: ألم نفتح لك صدرك للإسلام؟! وروى أبو صالح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: ألم نلين لك قلبك؟ وروى الضحاك عن ابن عباس أيضا قال: قالوا: يا رسول الله! أينشرح الصدر؟! قال: «نعم وينفسح» . قالوا: يا رسول الله! وهل لذلك علامة؟ قال: «نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت قبل نزول الموت» . أخرجه الطبري عن ابن مسعود-رضي الله عنه. وانظر قوله تعالى في سورة (الزمر)[22]: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [125]: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} . قال ابن كثير: وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا سمحا سهلا، لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق. وروي عن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-قال:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قال: ملئ حكما، وعلما. فعن أنس بن مالك، عن مالك ابن صعصعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل-عليه السلام-وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرجه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (حليمة) فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون. قال أنس-رضي الله عنه:

وقد كنت أرى أثر الخيط في صدره. وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه. أقول: وهذا كان في صغره يوم كان صغيرا رضيعا عند حليمة السعدية-رضي الله عنها، وتكررت هذه العملية الجراحية في ليلة الإسراء والمعراج على الصحيح.

ص: 642

هذا؛ ومعنى {أَلَمْ نَشْرَحْ:} شرحنا. الدليل على ذلك قوله في العطف: {وَوَضَعْنا،} {وَرَفَعْنا} فهذا عطف على التأويل لا على التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل؛ لقال: ونضع ونرفع، فدل هذا على أن معنى:{أَلَمْ نَشْرَحْ:} قد شرحنا؛ لأن «لم» جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد على جحد رجع إلى التحقيق. انتهى. قرطبي.

أقول؛ وبعبارة أوضح: لما دخلت همزة الاستفهام الإنكاري الإبطالي على (لم) صار إثباتا؛ لأن نفي النفي إثبات، وهو ما يسمى في علم الإعراب: التقرير. وهذا كثير في كتاب الله تعالى، مثل قوله:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ..} . إلخ، وقوله تعالى:{أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} وفي سورة (التين) آخرها، وفي أول سورة (الفيل)، وغير ذلك، ومن ذلك قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان-وهو الشاهد رقم [11] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح؟

ولهذا كان هذا البيت أمدح بيت قالته العرب! قيل: لما بلغ البيت عبد الملك كان متكئا، فاستوى جالسا فرحا. وقال: من مدحنا؛ فليمدحنا هكذا، وأعطى جريرا مئة من الإبل، وثمانية أرقاء من السبي، وجام فضة.

{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي: حططنا عنك، وغفرنا لك ذنبك، وهذا مثل قوله تعالى في أول سورة (الفتح):{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} . وقيل: هو الخطأ، والسهو. وقيل:

ذنوب أمتك، فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها. وقيل: المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها؛ لأن الوزر في اللغة: الثقل تشبيها بوزر الجبل. وقيل: معناه: عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك؛ لو كان ذلك الوزر حاصلا، فسمى العصمة: وضعا مجازا، وقد بينت لك في سورة (الفتح)، وفي سورة (النساء) رقم [105] وغيرها: أن الرسل معصومون من مقارفة الجرائم، وأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد، وعوتب عليه، كإذنه للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وغير ذلك، وهي صغائر مغفورة لهم لهمهم بها، وتحسرهم على فعلها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم، وقربهم من خالقهم، كما قيل:

حسنات الأبرار سيئات المقربين. وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل الإنسان، ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية، وهذا كما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، وإن الفاجر، والمنافق يرى ذنوبه كالذّبابة تطير فوق أنفه، فيقول فيها: هكذا» .

{وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ:} قال مجاهد: يعني بالتأذين، وفيه يقول حسان-رضي الله عنه:[الطويل]

أغرّ عليه للنبوة خاتم

من الله مشهود يلوح ويشهد

ص: 643

وضمّ الإله اسم النّبيّ مع اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمد

وروي عن الضحاك عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يقول له: لا ذكرت؛ إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا، والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض، ومغاربها، ولو أن رجلا عبد الله جل ثناؤه، وصدّق بالجنة، والنار، وكلّ شيء، ولم يشهد: أن محمدا رسول الله؛ لم ينتفع بشيء، وكان كافرا. وقيل: أي: أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات. وقيل: هو عام في كل شيء، وكم من موضع في القرآن الكريم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم مقرونا مع ذكر الله تعالى، من ذلك قوله تعالى في سورة (التوبة):

{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ،} وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ،} وقوله تعالى:

{وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وغير ذلك.

تنبيه: من الملاحظ زيادة لفظ {لَكَ} في الآية الأولى، وزيادة لفظ {عَنْكَ} في الثانية، وزيادة لفظ {لَكَ} في الرابعة، فأي فائدة في تقديم الزيادة على المفاعيل الثلاثة؛ والمعنى مستقل بدونها؟ والجواب: أن زيادتها مقدمة عليها تفيد إبهام المشروح، والموضوع، والمرفوع، ثم توضيحه، والإيضاح بعد الإبهام أوقع في الذهن. انتهى. جمل نقلا عن زاده، بتصرف كبير مني. وانظر مثله في سورة (طه) رقم [25].

الإعراب: {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{نَشْرَحْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) والفاعل مستتر تقديره: «نحن» . هذا؛ وقال الزمخشري:

وعن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} بفتح الحاء. وقالوا: لعله بيّن الحاء وأشبعها في مخرجها، فظن السامع: أنه فتحها، انتهى. كشاف. هذا؛ وذكر ذلك ابن هشام رحمه الله في مغنيه، وأورد قول الأضبط بن قريع السعدي-وهو الشاهد رقم [1098] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [المنسرح]

لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما، والدّهر قد رفعه

وأيضا ما نسب لطرفة بن العبد-وهو الشاهد رقم [1099] من كتابنا المذكور-: [المنسرح]

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسّيف قونس الفرس

وأيضا قول الحارث بن المنذر الجرمي-وهو الشاهد رقم [502] من الكتاب المذكور-: [الرجز]

ص: 644

في أيّ يوميّ من الموت أفرّ

أيوم لم يقدر، أم يوم قدر؟

وخرج ابن هشام الآية الكريمة على أن الأصل: (ألم نشرحن لك صدرك) فحذفت نون التوكيد الخفيفة، وبقيت الفتحة دليلا عليها، وكذلك (لا تهين، واضرب، ولم يقدر) انظر شرح الأبيات الثلاثة، وإعرابها في كتابنا المذكور. ولا بد من القول: إن قراءة الآية بفتح الحاء قراءة شاذة، وعزاها الزمخشري لأبي جعفر المنصور، وهل يعدّ أبو جعفر من القراء؟!

{لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {صَدْرَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مبتدأة لا محل لها من الإعراب. {وَوَضَعْنا:} الواو: حرف عطف.

(وضعنا): فعل، وفاعل. {عَنْكَ:} متعلقان به. {وِزْرَكَ:} مفعول به، والكاف مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب بدلا من وزرك، أو هو صفة له، أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي، وهذان الوجهان على القطع، {أَنْقَضَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي،} وهو العائد. {ظَهْرَكَ:}

مفعول به، والكاف مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها، وجملة:{وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ} معطوفة على الجملة الأولى والثانية، لا محل لها مثلهما، وإعرابها مثلهما بلا فارق.

{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)}

الشرح: أي: إن مع الضيق والشدة يسرا؛ أي: سعة وغنى، ثم كرر، فقال {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام، كما يقال: ارم ارم. اعجل، اعجل. قال تعالى في سورة (التكاثر):{كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ونظيره في تكرير الجواب: بلى، بلى، لا، لا، نعم، نعم، وذلك للإطناب، والمبالغة. قاله الفراء. وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا، ثم كرروه؛ فهو هو، وإذا نكروه، ثم كرروه فهو غيره، وهما اثنان ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر. قاله ثعلب.

قال الحسن-رحمه الله تعالى-: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا فقد جاءكم اليسر، إنه لن يغلب عسر يسرين» . وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ويخرجه، إنه لن يغلب عسر يسرين. وابن مسعود لا يقول هذا من تلقاء نفسه. وكتب أبو عبيدة-رضي الله عنه-إلى الفاروق-رضي الله عنه-يذكر له جموعا كثيرة من الروم، فكتب له الفاروق: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه في سورة (آل عمران):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

ص: 645

هذا؛ وزيف أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني هذا القول؛ حيث قال: وهذا قول مدخول فيه، إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، فهو لا يوجب أن يكون الفارس واحدا، والسيف اثنين، فمجاز قوله صلى الله عليه وسلم:«لن يغلب عسر يسرين» . أن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك، حتى قالوا له: إن كان بك طلب الغنى؛ جمعنا لك أموالا؛ حتى تكون أيسر أهل مكة، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وظن: أن قومه إنما كذبوه لفقره، فعدد الله عليه في هذه السورة نعمه، ووعده الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الغم، فقال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أي: لا يحزنك الذي يقولون، فإن مع العسر الذي في الدنيا يسرا عاجلا، ثم أنجز ما وعده، وفتح عليه القرى القريبة، ووسع ذات يده؛ حتى كان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السنية، ثم ابتدأ فضلا آخر من أمور الآخرة، فقال تعالى:{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} والدليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو. وهذا وعد لجميع المؤمنين.

والمعنى: إن مع العسر الذي في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة، وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا، وهو ما ذكره الله في الآية الأولى، ويسر الآخرة، وهو ما ذكره في الآية الثانية، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لن يغلب عسر يسرين» . أي: إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا. فأما يسر الآخرة فدائم أبدا غير زائل؛ أي: لا يجتمعان في الغلبة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم:«شهرا عيد لا ينقصان» أي: لا يجتمعان في النقص. انتهى. خازن، وقرطبي بتصرف، ولا تنس أن تنكير {يُسْراً} للتفخيم، والتعظيم. هذا؛ ويقرأ في السبعة بسكون السين في الكلم الأربع. وقرأ ابن وثاب، وأبو جعفر، وعيسى بضمها. وفيه خلاف: هل هو أصل، أو مثقل من المسكن. وقال عيسى بن عمر-رحمه الله تعالى-: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله، وذلك مثل رحم، وحلم

إلخ، بعد هذا روح عن نفسك بما يلي. قال الشاعر:[الكامل]

ولربّ نازلة يضيق بها الفتى

ذرعا وعند الله منها المخرج

كملت فلمّا استحكمت حلقاتها

فرجت، وكان يظنّها لا تفرج

ومما يروى عن الشافعي-رضي الله عنه-قوله: [المنسرح]

صبرا جميلا ما أقرب الفرجا

من راقب الله في الأمور نجا

من صدق الله لم ينله أذى

ومن رجاه يكون حيث رجا

وقال إسحاق بن بهلول القاضي: [الوافر]

فلا تيأس إذا أعسرت يوما

فقد أيسرت في دهر طويل

ص: 646

ولا تظنن بربّك ظنّ سوء

فإن الله أولى بالجميل

فإن العسر يتبعه يسار

وقول الله أصدق كلّ قيل

الإعراب: {فَإِنَّ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف مشبه بالفعل. {مَعَ} ظرف مكان، أو ظرف زمان؛ لأنها بمعنى:«بعد» متعلق بمحذوف خبر (إنّ) تقدم على اسمها، و {مَعَ} مضاف، و {الْعُسْرِ} مضاف إليه. {يُسْراً:} اسم (إنّ) مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها تأكيد لها، لا محل لها مثلها.

{فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}

الشرح: لمّا عدّد الله-عز وجل-على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السالفة؛ بعثه على الشكر، والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها، وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة؛ أتبعها بأخرى. والنصب: التعب. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة؛ فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: إذا فرغت من الفرائض؛ فانصب في قيام الليل. وقيل: إذا فرغت من التشهد، فادع لدنياك، وآخرتك. وقيل: إذا فرغت من جهاد عدوك؛ فانصب في عبادة ربك. وقيل: إذا فرغت من تبليغ الرسالة؛ فانصب في الاستغفار لك، وللمؤمنين. قال عمر-رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا، لا في عمل دنياه، ولا في عمل آخرته. السبهلل الذي لا شيء معه. وقيل: السبهلل: الباطل. انتهى. خازن.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية «(فانصب)» بكسر الصاد والهمز في أوله. وقالوا: معناه انصب الإمام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة باطل في المعنى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا. انتهى. {وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي: تضرع إليه راغبا في الجنة راهبا من النار. وقيل: اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك لا إلى أحد سواه.

قال تعالى في مدح زكريا، وغيره من الأنبياء في سورة (الأنبياء):{إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب.

{فَرَغْتَ:} فعل، وفاعل، والمتعلق محذوف للتعميم. انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها. {فَانْصَبْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (انصب): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية جواب (إذا)، لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف،

ص: 647

لا محل له. {وَإِلى رَبِّكَ:} متعلقان بما بعدهما، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {فَارْغَبْ:} الفاء: حرف صلة. (ارغب): فعل أمر، وفاعله: أنت، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثله. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (الشرح) شرحا وإعرابا.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 648