المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فائدة: ذكرت الأصابع بلفظ الجمع هنا وفي سورة (البقرة) رقم - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: ‌ ‌فائدة: ذكرت الأصابع بلفظ الجمع هنا وفي سورة (البقرة) رقم

‌فائدة:

ذكرت الأصابع بلفظ الجمع هنا وفي سورة (البقرة) رقم [19] ولم تذكر بلفظ المفرد أبدا في القرآن الكريم، وذكرت الأنامل بلفظ الجمع في سورة (آل عمران) رقم [119] ولم تذكر بلفظ المفرد أبدا، والأنملة: رأس الأصبع، وفي مفردهما تسع لغات: تثليث همزتهما، وتثليث ميم أنملة، وتثليث باء أصبع، وتزيد أصبوعا، وقد نظم ذلك بعضهم بقوله:[البسيط]

يا إصبع ثلّثا مع ميم أنملة

وثلّث الهمز أيضا وارو أصبوعا

{ثِيابَهُمْ:} جمع ثوب، والقياس: ثوابهم، فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، ومثله:

حوض، وحياض، ودار، وديار، وريح، ورياح. ومثل ذلك مصدر الفعل الأجوف الواوي، مثل: صيام، وقيام، والأصل: صوام، وقوام، فقد ذكر السيوطي-رحمه الله تعالى-في «همع الهوامع» في باب الإبدال ما يلي:

تبدل الياء بعد كسرة من واو، هي عين مصدر لفعل معل العين، موزون بفعال، نحو قام قياما، وعاد عيادا بخلاف عين غير المصدر، كصوان، وسوان، والمصدر المفتوح أوله، كرواح، أو المضموم، كقوار، أو المكسور الذي لم تعل عين فعله، ك: لاوذ لواذا، وعاود، عوادا، أو الموزون ب:(فعل) كالحول، وتبدل أيضا بعد كسرة من واو هي عين جمع لواحد ساكن العين، أو معتلها، صحيح اللام، موزون بفعال، كثوب، وثياب، وحوض، وحياض، ودار، وديار، وريح، ورياح بخلاف عين المفرد. انتهى.

الإعراب: {وَإِنِّي:} الواو: حرف عطف. (إني): حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها {كُلَّما} يعربها المعاصرون أداة شرط غير جازمة، وتفصيل إعرابها كما يلي. (كل): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. (ما):

مصدرية توقيتية. {دَعَوْتُهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، و (ما) والفعل: دعا في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت دعوة، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل)، انظر مبحث:«كلما» في كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وقيل:

(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى وقت أيضا. {لِتَغْفِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {جَعَلُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {أَصابِعَهُمْ:} مفعول به. {فِي آذانِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَصابِعَهُمْ،} والهاء فيهما في محل جر بالإضافة. {وَاسْتَغْشَوْا:} الواو: حرف عطف. (استغشوا): ماض مبني على

ص: 184

فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {ثِيابَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جواب {كُلَّما،} لا محل لها مثلها، وأيضا الجملتان:(أصروا) و (استكبروا) معطوفتان عليها، ومتعلق الفعلين محذوف كما رأيت في الشرح. {اِسْتِكْباراً:} مفعول مطلق.

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)}

الشرح: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ:} إلى الإيمان بك وحدك. {جِهاراً} أي: مجاهرا بدعوتي لهم دون خوف، أو تحفظ. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} أي: كررت لهم الدعاء معلنا. {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً:}

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سرا بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك، وتوحيدك، ولا تنس الطباق بين {جِهاراً} و {إِسْراراً} .

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ذكر: أنه دعاهم ليلا، ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم في السر والعلن، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف، قلت: فعل عليه الصلاة والسلام، كما يفعل الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر في الابتداء بالأهون، والترقي في الأشد، فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا؛ ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر؛ ثلث بالجمع بين الإسرار، والإعلان. ومعنى {ثُمَّ} الدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

انتهى. كشاف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه، وخذ قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [29] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا

جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم؟

وأيضا قول الآخر، وهو الشاهد رقم [624] من الكتاب المذكور:[الطويل]

إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب

جهارا فكن في الغيب أحفظ للودّ

الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {دَعَوْتُهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {جِهاراً:} فيه أوجه يجوز أن يكون مفعولا مطلقا؛ لأن الدعاء يكون جهارا، وغيره، أي: عامله من غير لفظه من باب قعد القرفصاء، وأن يكون المراد ب:{دَعَوْتُهُمْ} جاهرتهم، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، أي: دعاء جهارا، ف:«دعاء» مفعول مطلق، و {جِهاراً} صفة له. وأن يكون مصدرا في موضع الحال، أي: مجاهرا، أو ذا جهار، وجعل نفس المصدر مبالغة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء

ص: 185

اسمها. {أَعْلَنْتُ:} فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والتي بعدها معطوفة عليها، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {إِسْراراً:} مفعول مطلق.

{فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11)}

الشرح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا..} . إلخ، قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: أمرهم بالاستغفار، الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي، وقدم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم، وأحب إليهم من المنافع الحاضرة، والفوائد الجليلة، ترغيبا في الإيمان، وبركاته، والطاعة ونتائجها من خير الدارين، كما قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [96]:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ،} وقال جل وعلا في سورة (المائدة) رقم [66]: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ،} وقال جل وعز في سورة (الجن) رقم [16]: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة؛ حبس الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، وروي سبعين، فوعدهم نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: أنهم إن آمنوا؛ رزقهم الله تعالى الخصب، ودفع عنهم ما كانوا فيه.

وعن عمر-رضي الله عنه-أنه خرج يستسقي، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء؛ التي يستنزل بها القطر، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ. وعن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا، ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا عليه هذه الآية، والتي بعدها. انتهى. كشاف.

هذا؛ و {كانَ} في القرآن الكريم على أوجه: تأتي بمعنى: الأزل، والأبد، وبمعنى: المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى: الحال، وبمعنى: الاستقبال، وبمعنى: صار، وبمعنى: حضر، وحصل، ووجد. وترد للتأكيد، وهي الزائدة، وهي هنا بمعنى: الاستمرار، فليست على بابها من المضي، وإن المعنى: كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة، وإلى أبد الآبدين في الدنيا والآخرة غفارا للذنوب، ستارا للعيوب، قابلا لتوبة من تاب. وانظر شرح (استغفر) في الآية رقم [6] من سورة (المنافقون)، وانظر (كان) في سورة (الانشقاق)[13].

هذا؛ و {السَّماءَ} كل ما علاك من سقف، أو غيره، والمراد هنا: يرسل ماء السماء عليكم، فالمضاف محذوف، ويجوز أن يراد السحاب، أو المطر، أي: يرسل المطر. قال معاوية بن مالك: [الوافر]

ص: 186

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء المطر، ثم أعاد عليه الضمير في رعيناه بمعنى: النبات، وهذا يسمى في فن البديع بالاستخدام. وأصل سماء: سماو، فيقال في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. هذا؛ و {السَّماءَ} تذكر، وتؤنث.

هذا؛ و (غفار) صيغة مبالغة، و (مدرار) كثيرة الدرور، أي: ذات مطر كثير، و «مفعال» صيغة مبالغة، وهو مما يستوي فيه المذكر، والمؤنث، كقولهم: رجل مهذار، وامرأة معطار. وخذ نبذة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستغفار.

فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا، ومن كلّ ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» . رواه أبو داود، والنسائي، وغيرهما. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على دائكم ودوائكم؟ ألا إنّ داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار» . رواه البيهقي. وعنه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ للقلوب صدأ كصدأ النّحاس، وجلاؤها الاستغفار» . رواه البيهقي.

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: وعزّتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم» . فقال: «وعزّتي، وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني!» . رواه أحمد، والحاكم.

وعن شداد بن أوس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيّد الاستغفار: اللهمّ أنت ربي لا إله إلاّ أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، من قالها موقنا بها حين يمسي، فمات من ليلته؛ دخل الجنة، ومن قالها موقنا بها حين يصبح، فمات من يومه دخل الجنة» . رواه البخاري، والنسائي، والترمذي.

الإعراب: {فَقُلْتُ:} الفاء: حرف استئناف. (قلت): فعل، وفاعل. {اِسْتَغْفِرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {رَبَّكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قلت

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {رَبَّكُمْ}. {غَفّاراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية معترضة بين الأمر، وجوابه، ومفيدة للتعليل لا محل لها. {يُرْسِلِ:} فعل مضارع مجزوم؛ لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، التقدير: إن تستغفروا

يرسل، والفاعل يعود إلى {رَبَّكُمْ،} والجملة الفعلية لا محل

ص: 187

لها، لوقوعها جوابا للطلب. {السَّماءَ:} مفعول به أول. {عَلَيْكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما. {مِدْراراً:} مفعول به ثان، أو هو حال من السماء، قاله السمين.

{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12)}

الشرح: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ:} يزدكم أموالا، وبنين. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ:} بساتين، وحدائق. {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً} أي: من ماء يجري في أراضيكم أطمعهم نوح-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بالحصول على بركات السماء، وبركات الأرض إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتيح هذه الخزائن. وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان: أن ما هم فيه من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق، والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده، إرسال المطر، وإغداق الرزق، والإمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بالله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها، لا تضر، ولا تنفع.

هذا؛ و (أموال) جمع: مال. قال ابن الأثير: المال في الأصل يطلق على كل ما يملك من الذهب، والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها أكثر أموالهم. وقال الجوهري: ذكر بعضهم: أن المال يؤنث، وأنشد لحسان بن ثابت-رضي الله عنه:[البسيط]

المال تزري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيّد المال

وعن الفضل الضبي: المال عند العرب: الصامت، والناطق، فالصامت: الذهب، والفضة والجواهر، والناطق: هو البعير، والبقرة، والشاة، فإذا قلت عن حضري: كثر ماله؛ فهو الصامت، وإذا قلت عن بدوي: كثر ماله؛ فهو الناطق. والنشب: المال الثابت، كالضياع، ونحوها، فلا يقال للمنقول المذكور آنفا: نشب. قال عمرو بن معدي كرب الزبيدي-رضي الله عنه-يوصي ولده: [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

هذا؛ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغنيّ لغناه؛ فقد ذهب ثلثا دينه» . وإنما كان كذلك؛ لأن الإيمان متعلق بثلاثة أشياء: المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فإذا تواضع بلسانه، وأعضائه؛ فقد ذهب الثلثان، فلو انضم إليه القلب؛ ذهب الكل.

{جَنّاتٍ:} جمع: جنة، وهي البستان الكثير الأشجار، وسميت بذلك؛ لأنها تجن، أي:

تستر من يدخل فيها لكثرة أشجارها، وكثافتها. {أَنْهاراً:} جمع: نهر، وهو معروف، ويجمع النهر على: أنهر، ونهر، ونهور، وهاء النهر تسكن، وتفتح.

ص: 188

الإعراب: {وَيُمْدِدْكُمْ:} الواو: حرف عطف. (يمددكم): معطوف على يرسل، والفاعل يعود إلى {رَبَّكُمْ} . والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بِأَمْوالٍ:} متعلقان بما قبلهما.

{وَبَنِينَ:} الواو: حرف عطف. (بنين): معطوف على ما قبله مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {وَيَجْعَلْ:} معطوف على ما قبله إفرادا وجملة. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {جَنّاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً} مثل سابقه.

{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)}

الشرح: {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: مالكم لا ترون لله عظمة. وقيل: معناه ما لكم لا تعرفون لله حقا، ولا تشكرون له نعمة؟! وقيل: معناه: ما لكم لا ترجون في عبادة الله ثوابا، ولا على توقيركم إياه أجرا، وخيرا؟! وقيل: معناه: ما لكم لا تخافون عظمة الله؟! فالرجاء بمعنى الخوف، والوقار: العظمة، من التوقير، وهو التعظيم. هذا؛ ووقوع الرجاء بمعنى الخوف مستعمل في اللغة العربية، قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [21]:

{وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا..} . إلخ. وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال، أي: الذي يقطف عسل النحل: [الطويل]

إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عواسل

وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد، أي: النفي. كقوله تعالى في هذه الآية. وقال بعضهم: بل يقع في كل موضع دل عليه المعنى. وهو المعتمد. هذا؛ وأصل الرجاء الأمل في الشيء، والطماعية فيه. قال الشاعر:[الوافر]

أترجو أمّة قتلت حسينا

شفاعة جدّه يوم الحساب

وقال خبيب بن عدي-رضي الله عنه، وأرضاه-:[الطويل]

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما

على أيّ جنب كان في الله مصرعي؟!

{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} أي: جعل لكم في أنفسكم آية تدل على قدرته، وعظمته. قال ابن عباس رضي الله عنهما:{أَطْواراً} يعني: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة؛ أي: طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر الله تعالى في آية (الحج) رقم [5] وآية (المؤمنون) رقم [14]. والطور في اللغة:

المرة. وقيل: المراد: مراحل الحياة من طفولة إلى شباب، إلى كهولة، إلى شيوخ، وضعفاء.

وقيل: {أَطْواراً} أي: أنواعا: صحيحا، وسقيما، وبصيرا، وضريرا، وغنيا، وفقيرا. وقيل:

ص: 189

اختلافهم في الأخلاق، والأفعال، والألوان، واللغات، والطبائع

إلخ. هذا؛ والطور الحال والهيئة، والجمع أطوار.

الإعراب: {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {لا:}

نافية. {تَرْجُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والعامل {ما} الاستفهامية. وقيل: العامل فيها معنى الاستقرار في {لَكُمْ} والرابط: الضمير فقط. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من:

وقارا، كان له صفة، فلما قدم عليه؛ صار حالا. {وَقاراً:} مفعول به. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبَّكُمْ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية من كاف الخطاب، أو هي في محل نصب حال من واو الجماعة، فتكون حالا متداخلة. {أَطْواراً:} حال من كاف الخطاب، فهي حال متداخلة. هذا؛ وخلق بمعنى: ابتدع، فلذلك لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد.

{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15)}

الشرح: انظر الآية رقم [3] من سورة (الملك) فالكلام فيها كاف واف. ومعنى {أَلَمْ تَرَوْا} الإخبار لا المعاينة، كما تقول: ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا؟ وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: نبههم على النظر في أنفسهم أولا؛ لأنها أقرب منظور فيه منهم. ثم على النظر في العالم، وما سوى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته، وعلمه من السموات، والأرض، والشمس، والقمر.

الإعراب: {أَلَمْ:} (الهمزة): حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَرَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والعامل الفعل:{خَلَقَ} . {خَلَقَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {سَبْعَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {سَماواتٍ} مضاف إليه. {طِباقاً:} فيه أوجه: المصدرية: على أنه مفعول مطلق عامله محذوف، التقدير: تطابق بعضها طباقا. والحالية: أي: ذات طباق، فحذف «ذات» وأقيم {طِباقاً} مقامه، والوصفية لسبع. ويجوز في العربية جره صفة ل:{سَماواتٍ} ولم يقرأ بالجر هنا، وفي سورة (الملك) رقم [3].

ص: 190

{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16)}

الشرح: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} أي: في سماء الدنيا. قال ابن كيسان: إذا كان في إحداهن؛ فهو فيهن. وروي: أن وجه القمر إلى السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات، وقال ابن عباس وابن عمر-رضي الله عنهما: وجهه يضيء لأهل الأرض، وظهره يضيء لأهل السماء.

{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً} يعني: مصباحا لأهل الأرض، وفي إضافتها لأهل السماء القولان الأولان، وحكى القشيري عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الأرض. ومعنى (سراجا) يبصر أهل الدنيا في ضوئها، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك، إنما هو نور لم يبلغ قوة ضياء الشمس، ومثله قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً} رقم [5]، والضياء أقوى من النور، وعبر عن الشمس بالسراج؛ لأنه يضيء بنفسه، وعبر عن القمر بالنور؛ لأنه يستمد نوره من غيره، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرضي مكتسب من نور الشمس، فسبحان من أحاط بكل شيء علما. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

أقول: وعلى قول ابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهما: فالسموات السبع إنما هي طبقات هوائية ينفذ فيها ضوء القمر، ونور الشمس، ولا يبقى لما قاله محمد الشنواني في حاشيته على مختصر ابن أبي جمرة في شرح حديث المعراج: إن السموات السبع طبقات مادية من فضة ورصاص، ونحاس. لا يبقى لهذا الكلام أيّ اعتبار، والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: (جعل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ} تقديره:«هو» . {الْقَمَرَ:} مفعول به أول. {فِيهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {نُوراً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {نُوراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية، والتي بعدها معطوفتان على ما قبلهما، وهما في محل نصب مقول القول أيضا.

{وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18)}

الشرح: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً:} قال الصابوني: بعد أن ذكر الله دليل الآفاق؛ ذكر هنا دليل الأنفس، وذلك؛ لأن في ذكر هذه الأمور دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته، وباهر مصنوعاته، والمعنى: خلقكم، وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها. قال المفسرون: لما كان إخراجهم، وإنشاؤهم إنما يتم بتناولهم

ص: 191

عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض؛ كانوا من هذه الجهة مشابهين للنبات؛ التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض؛ فلذا سمي خلقهم، وإنشاؤهم إنباتا، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم، حيث خلق من تراب الأرض، ثم جاءت منه ذريته، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض. انتهى. صفوة التفاسير.

وفي الآية استعارة تبعية استعير الإنبات للإنشاء، كما يقول: زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة أدل على الحدوث؛ لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات، ومنه قيل للحشوية: النابتة، والنوابت لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أولية فيه، ولا تنس: أن {نَباتاً} اسم مصدر، لا مصدر؛ إذ المصدر إنبات؛ لأن فعله أنبت. وفي الخازن: وقيل:

تقديره: أنبتكم، فنبتم نباتا. وفيه دقيقة لطيفة، وهي أنه لو قال: أنبتكم إنباتا، كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا. ولما قال: أنبتكم نباتا، كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا، وهذا الثاني أولى؛ لأن الإنبات صفة الله تعالى، وصفة الله تعالى غير محسوسة لنا، فلا يعرف: أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى، فكان موافقا لهذا المقام، فظهر بهذا: أن العدول عن تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف.

{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها} أي: يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم، فتدفنون فيها. {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً} أي: يخرجكم من الأرض يوم القيامة للحساب، والجزاء. وأكده بالمصدر لبيان أن ذلك واقع لا محالة. وهذه الآية، كقوله تعالى في سورة (طه) رقم [55]:{مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} .

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. (الله): مبتدأ. {أَنْبَتَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {نَباتاً:} مفعول مطلق. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُعِيدُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية والتي بعدها معطوفتان على ما قبلهما، وهما من مقول نوح، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {إِخْراجاً:} مفعول مطلق مؤكد لعامله، مثل: نباتا، وإسرارا، واستكبارا.

{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)}

الشرح: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً} أي: جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم، وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات، كما قال تعالى في غير ما آية:{وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ}

ص: 192

{تَمِيدَ بِكُمْ} جعلها الله منبسطة؛ ليتقلب الإنسان عليها بالذهاب والإياب، كما يتقلب على بساطه وفراشه. قال في التسهيل: شبه الأرض بالبساط في امتدادها، واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من الآية أن الأرض غير كروية، وفي ذلك نظر، قال الآلوسي: وليس في الآية دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية؛ لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا، ثم إن اعتقاد الكروية، أو عدمها ليس بلازم في الشريعة، لكن كرويتها كالأمر اليقيني، ومعنى جعلها بساطا أي: تتقلبون عليها كالبساط. انتهى صفوة التفاسير، وانظر ما ذكرته في سورة (الرعد) رقم [3]:{لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً:} لتتخذوا منها طرقا. {فِجاجاً:} مسالك، والفج الطريق الواسع بين جبلين. هذا؛ وفي سورة (الأنبياء) رقم [31] تقديم الفجاج، وأخر هنا لتناسب الفواصل.

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. (الله): مبتدأ. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {بِساطاً} كان صفة له

إلخ. {الْأَرْضَ:} مفعول به أول. {بِساطاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {لِتَسْلُكُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {جَعَلَ}. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {سُبُلاً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {سُبُلاً:} مفعول به. {فِجاجاً:} صفة {سُبُلاً} .

{قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً (21)}

الشرح: {قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي:} فيما أمرتهم به من الإيمان، والاستغفار. {وَاتَّبَعُوا} أي: السفلة، والفقراء، والضعفاء. {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ} أي: الرؤساء، والكبراء، والأغنياء؛ الذين لم يزدهم كفرهم، وأموالهم، وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا، وهلاكا في الآخرة. وفحوى الآية الكريمة: شكوى نوح-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-إلى الله تعالى، وأنهم عصوه، ولم يتبعوه فيما دعاهم إليه من الإيمان بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم، وهم على كفرهم، وعصيانهم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء، فيأتي منهم الولد بعد الولد، حتى بلغوا سبعة قرون، فلم يزدادوا إلا ضلالا، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، فاستجاب الله دعاءه، وأغرقهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما، حتى كثر الناس، وفشوا.

ص: 193

الإعراب: {قالَ نُوحٌ:} ماض، وفاعله. {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء، فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، انظر إعراب (يا قوم) في الآية رقم [2]. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَصَوْنِي:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية، والجملة الندائية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ نُوحٌ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَاتَّبَعُوا:} الواو: حرف عطف. (اتبعوا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَزِدْهُ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ،} والهاء مفعول به أول. {مالُهُ:} فاعله. (ولده): معطوف عليه، والهاء فيهما ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {خَساراً:} مفعول به ثان. وجملة: {لَمْ يَزِدْهُ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها.

{وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً (22)}

الشرح: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً} يعني: كبيرا عظيما. يقال: كبير، وكبار، وكبّار، مثل:

عجيب، وعجاب، وعجّاب، ويقال: رجل حسن، وحسّان، وجميل، وجمّال، وقرّاء للقارئ، ووضّاء للوضيء. وأنشد ابن السكيت:[الكامل]

بيضاء تصطاد القلوب وتستبي

بالحسن قلب المسلم القرّاء

وقال آخر: [الكامل]

والمرء يلحقه بفتيان النّدى

خلق الكريم وليس بالوضّاء

و {كُبّاراً} بالتشديد أعظم في المبالغة، والماكرون: هم الرؤساء، والقادة، فيكون قد روعي لفظ {مَنْ} بقوله:{لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ} وروعي معناها بقوله: {(مَكَرُوا)} ومكرهم:

احتيالهم في الدين، وكيدهم لنوح، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وتحريش السفلة على أذاه، وصد الناس عن الإيمان به، والميل إليه، والاستماع منه. وقيل: مكرهم: هو قولهم: لا تذرنّ آلهتكم، وتعبدوا إله نوح.

هذا؛ والمكر أصله في لسان العرب: الاحتيال، والخديعة، وقد مكر به، يمكر، فهو ماكر، ومكّار. قال الشاعر:[الطويل]

قهرت العدا لا مستعينا بعصبة

ولكن بأنواع الخديعة والمكر

ص: 194

وقال زياد بن يسار-وهو الشاهد رقم [1021] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [7] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الطويل]

تعلّم شفاء النفس قهر عدوّها

فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر

هذا، ونسب المكر إلى الله في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى في سورة (الرعد) رقم [42]:{فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} وهو بمعنى المجازاة، والعقاب، والانتقام.

الإعراب: (مكروا): ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مَكْراً:}

مفعول مطلق. {كُبّاراً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{لَمْ يَزِدْهُ..} . إلخ فهي من جملة الصلة، لا محل لها.

{وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: قال الرؤساء، والكبراء من قوم نوح. وقيل: كفار قريش. ولا وجه له قطعا. {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي: لا تتركوا آلهتكم التي تعبدونها. {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا..} . إلخ: هذا تخصيص بعد تعميم؛ لأنهم كانت لهم أصنام غير هذه الخمسة، وهذه أعظمها عندهم، وهذا على مثال قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [238]:{حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} ، وقوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [7]:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} . وانظر التعميم بعد التخصيص في الآية الأخيرة، وكلاهما من باب الإطناب، وهو من المحسنات البديعية.

قال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فلما ماتوا كان أتباعهم يقتدون بهم، ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة، فجاءهم إبليس -لعنه الله-، وقال لهم: لو صورتم صورهم كان ذلك أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا ذلك.

ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس-أخزاه الله-: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء؛ لأنهم صوروها على صور أولئك القوم الصالحين من المسلمين.

وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة: أن أم حبيبة، وأم سلمة-رضي الله عنهن، ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة تسمى: مارية، فيها تصاوير فذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنّ أولئك كانوا إذا مات الرجل الصالح منهم بنوا على قبره مسجدا، ثم صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرّ الخلق عند الله يوم القيامة» . هذا؛ وقال السيوطي في كتابه مبهمات القرآن: وذكر تقي الدين بن مخلد: أن ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا كانوا أولاد آدم لصلبه. حكاه ابن عساكر. وقد أخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة. انتهى.

ص: 195

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: صارت الأوثان، التي كانت تعبد قوم نوح في العرب بعد، أما ود؛ فهو أول صنم عبد من دون الله، وكان في العرب لقبيلة بني كلب بدومة الجندل، وفيه يقول شاعرهم:[البسيط]

حيّاك ودّ فإنّا لا يحلّ لنا

لهو النّساء وإنّ الدّين قد عزما

وأما سواع؛ فكان لهذيل بساحل البحر. وأما يغوث؛ فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ. وأما يعوق؛ فكان لهمدان في اليمن، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:[الوافر]

يريش الله في الدنيا ويبري

ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر؛ فكان لذي الكلاع من حمير. وكانت للعرب أصنام أخر، فاللات كانت لثقيف، والعزى كانت لسليم، وغطفان، وجشم، ومناة كانت لخزاعة بقديد، وأساف، ونائلة، وهبل كانت لأهل مكة، ولذلك سمّت العرب أنفسهم ب: عبد ودّ، وعبد يغوث، وعبد العزى، وعبد مناة، ونحو ذلك من الأسماء.

هذا؛ وأساف اسم رجل، ونائلة اسم امرأة، كلاهما من قبيلة جرهم، قد خلا أساف بنائلة في جوف الكعبة، وزنى بها، فمسخهما الله حجرين، فأصبح الناس، فوجدوهما داخل الكعبة حجرين، فوضعوا أحدهما على الصفا، والثاني على المروة للاعتبار، والاتعاظ، ثم زين الشيطان لأحفاد الأولين عبادتهما. وقيل: كان أساف بحيال الحجر الأسود، ونائلة بحيال الركن اليماني، وهبل في جوف الكعبة.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لا:} ناهية جازمة. {تَذَرُنَّ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والنون للتوكيد حرف لا محل له، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {لَمْ يَزِدْهُ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {آلِهَتَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والأسماء الأربعة معطوفة على {وَدًّا،} و {يَغُوثَ} و (يعوق) ممنوعان من الصرف للعلمية، ووزن الفعل إن كانا عربيين، وللعلمية والعجمة إن كانا أعجميين. وقرأ الأعمش بصرفهما:«(ولا يغوثا ويعوقا)» لأمرين: أحدهما أنه صرفهما للتناسب؛ إذ قبلهما اسمان منصرفان، وبعدهما اسم منصرف، كما صرف (سلاسل) في سورة (الدهر) رقم [4]. والثاني:

أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا، وهي لغة حكاها الكسائي. انتهى. جمل نقلا عن السمين. ولم تذكر (لا) مع الأسماء الثلاثة لكثرة التكرار، وعدم اللبس.

ص: 196

{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً (24)}

الشرح: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً:} الضمير للرؤساء، والكبراء؛ أي: أضلوا كثيرا من أتباعهم، فهو عطف على قوله:{وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً} وقيل: الضمير يعود إلى الأصنام المذكورة في الآية السابقة، والمعنى ضل بسببها كثير من الناس، فإنه قد استمرت عبادتها في العرب، والعجم، وسائر صنوف بني آدم، نظيره قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ} فإسناد الإضلال إلى الأصنام مجاز عقلي؛ لأنها سبب في حصول الإضلال، والهادي والمضل في الحقيقة هو الله وحده. وانظر الآية رقم [17] من سورة (المزمل). هذا؛ وقد جمع الضمير العائد على الأصنام بالواو التي هي لجماعة الذكور العقلاء؛ لأن الكفار كانوا يخاطبونها مخاطبة من يعقل، فنزلت منزلتهم.

{وَلا تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ ضَلالاً:} دعاء من نوح عليه السلام على قومه؛ لتمردهم، وكفرهم، وعنادهم. وهذا منه عليه السلام لما أيس من إيمانهم بإخبار الله له بقوله:{لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} رقم [36] من سورة (هود) عليه السلام، كما دعا موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-على فرعون، وملئه بقوله:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ..} .

إلخ رقم [88] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يريد نوح لهم الضلال، ويدعو الله بزيادته؟! قلت:

المراد بالضلال أن يخذلوا، ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر، ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن، وجميل، ويجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال:

الضياع، والهلاك. وأحسن منه قول الخازن: إنما دعا عليهم بعد أن أعلمه الله: أنهم لا يؤمنون، وهو قوله تعالى:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} من سورة (هود) كما رأيت.

الإعراب: {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{أَضَلُّوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {كَثِيراً:} مفعول به، وهو في الأصل صفة مفعول به، التقدير: أضلوا ناسا كثيرا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة.

بقوله: (قالوا)، أو من: ود، وما عطف عليه حسب ما رأيت في الشرح من اعتبار رجوعه إلى الكبراء، أو إلى الأصنام، وعلى الاعتبارين؛ فالرابط: الواو، والضمير. هذا؛ واعتبر بعضهم الجملة مقولة لقول محذوف، التقدير: وقال: قد أضلوا. وهذا القول المقدر معطوف على القول السابق، أي: قال: إنهم عصوني، وقال: قد أضلوا. وهذا ينافي الشرح المتقدم، فالجملة الفعلية هذه من مقول نوح ضمنا لا صراحة، لوقوعها حالا عاملها الفعل (قالوا) المعطوف مع مقوله كله على جملة:{لَمْ يَزِدْهُ..} . إلخ الواقعة صلة للموصول، كما رأيت سابقا، فتبقى الجملة

ص: 197

التالية معطوفة على جملة: {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا} فهي من مقول نوح بسبب العطف. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. (لا): دعائية. {تَزِدِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا)، والفاعل تقديره:

«أنت» . {الظّالِمِينَ:} مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {ضَلالاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{إِنَّهُمْ عَصَوْنِي..} . إلخ، وقول الجلال: عطف على: (قد أضلوا) لا أحبذه أبدا.

{مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (25)}

الشرح: {مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا} أي: أغرقوا بالطوفان من أجل خطيئاتهم، جمع: خطيئة، فقد جمعت بالألف والتاء، كما في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [161]:{وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} وقرئ: «(مما خطاياكم)» كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [58]: {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ} فهو جمع تكسير، كما تجمع على:

فعالل، فتقول:«خطائئ» مثل: صحائف جمع صحيفة، وأصله خطايء مثل: صحايف، فقل في إعلاله تحركت الياء فيهما، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتد بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الأصلية، والألف المنقلبة عن الياء، فقلبت هذه همزة، فصار (خطائيء) على فعالل، فلما اجتمعت الهمزتان، قلبت الثانية ياء؛ لأن قبلها كسرة، ثم استثقلت، والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك، فقلبت الياء ألفا، ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. أما خطايا فهو جمع خطيّة، وأصلها: خطيئة، فقلبت الهمزة ياء، وأدغمت الياء فصار: خطيّة.

{فَأُدْخِلُوا ناراً} أي: بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر، ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كما قال تعالى في سورة (غافر) رقم [46]:{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وقد ذكرت هناك: أنه يستدل بها على عذاب القبر أيضا. وروى أبو روق عن الضحاك: أنه قال: يعني: عذّبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة؛ كانوا يغرقون في جانب، ويحترقون في الماء من جانب. وبه قال القرطبي، والخازن، والزمخشري، وأنشد أبو بكر بن الأنباري:[البسيط]

الخلق مجتمع طورا ومفترق

والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبنّ لأضداد إن اجتمعت

فالله يجمع بين الماء والنار

هذا؛ والنار: جوهر لطيف مضيء محرق، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكر، وأصلها:

نور، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وتصغيرها نويرة، والجمع أنور، ونيران،

ص: 198

ونيرة، قلبت الواو فيهما ياء لانكسار ما قبلها، ويكنى بها عن جهنم التي سيعذب بها الكافرين، والفاسقين، والمجرمين، كما أنها تستعار للشدة، والضيق، والبلاء، قال الشاعر:[الطويل]

وألقى على قيس من النار جذوة

شديدا عليها حرّها والتهابها

فهي مستعارة في هذا البيت لشدة النكاية؛ التي أذاقها قبيلة قيس، والفعل: نار، ينور يستعمل لازما، ومتعديا إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون. {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً} أي: تنصرهم، وتمنعهم من العذاب الذي نزل بهم، فهو تعريض لهم باتخاذهم آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم، قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [43]:

{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا} .

الإعراب: {مِمّا:} (من): حرف جر، و (ما) صلة. {خَطِيئاتِهِمْ:} اسم مجرور ب: (من)، والجار والمجرور متعلقان بما بعدهما. {أُغْرِقُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، الواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {ناراً:} مفعول به ثان، والمفعول الأول واو الجماعة؛ التي هي نائب فاعل. {فَلَمْ:} الفاء: حرف عطف. (لم): حرف نفي وقلب وجزم. {يَجِدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما وهما في محل نصب مفعوله الثاني.

{مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من {أَنْصاراً،} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وبعضهم يعتبرهما مفعولا ثانيا، تقدم على الأول و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{أَنْصاراً:} مفعول به، والجملة:{فَلَمْ يَجِدُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.

{وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً (26)}

الشرح: توجه نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بهذا الدعاء حينما أيس من إيمان قومه بإعلام الله له:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} رقم [36] من سورة (هود) عليه السلام، فأجاب الله دعوته، وأغرق أمته. وقيل: سبب دعائه: أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر به على نوح، فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبت أنزلني! فأنزله، فرماه فشجه، فحينئذ غضب، فدعا عليهم. وقال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع، وعطية، وابن زيد:

إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم، وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء، وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب.

قال ابن العربي: دعا نوح على قومه أجمعين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين، وألّب عليهم، وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين

ص: 199

لم تعلم خاتمته؛ فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة، وشيبة، وأصحابهما لعلمه بمآلهم، وما كشف له من الغطاء عن حالهم، والله أعلم. انتهى. قرطبي. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [68] من سورة (الأحزاب) بشأن اللعن تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وقال أبو السعود-رحمه الله تعالى-: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ..} . إلخ عطف على نظيره السابق، وقوله:{مِمّا خَطِيئاتِهِمْ..} . إلخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام، للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق، والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطاياهم؛ التي عددها نوح، وإشارة إلى أن استحقاقهم للإهلاك لأجلها. وهذا منه-رحمه الله-بيان للحكمة في تأخيره الدعاء عن قوله:{مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا} مع أن الدعاء مقدم في الواقع على إغراقهم.

هذا؛ و (ديّار) بمعنى: أحد، وديّار، وأحد لا يستعملان إلا بعد نفي، أو شبهه، ومنه الآية الكريمة، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال الشاعر-وهو الشاهد رقم [813] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [73] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [البسيط]

وما نبالي إذا ما كنت جارتنا

ألاّ يجاورنا إلاّك ديّار

ووزن ديّار: فيعال من الدور، أو من الدار، وأصله ديوار، فلما اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ولو كان وزنه فعّالا بتكرير العين لكان دوّارا. هذا؛ ومثل ديّار، وأحد في المعنى، وتقدم النفي عليهما: عريب، قال عبيد بن الأبرص من معلقته رقم [3]:[مخلع البسيط]

فعردة فقفا حبرّ

ليس بها منهم عريب

الإعراب: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ:} الجملة الفعلية معطوفة على مثلها في الآية رقم [21] وهي مثلها في الإعراب. {لا:} دعائية. {تَذَرْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا،} والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» . {عَلَى الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ الْكافِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {دَيّاراً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . {دَيّاراً:} مفعول به، وجملة:{لا تَذَرْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً (27)}

الشرح: قال نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-هذا الكلام لعلمه بالتجربة من أحوالهم: أن أولادهم يكونون مثلهم؛ لأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق إليه بابنه، ويقول له: احذر هذا؛ فإنه كذاب، وإن

ص: 200

أبي حذرني منه، فيموت الكبير، وينشأ الصغير على ذلك. وقد ذكرت لك في سورة (هود) أنه تعاقب عليه أربعة أجيال، كل جيل يكون أكفر وأخبث من سابقه، وانظر ما ذكرته في الآية السابقة، كيف أعقم الله أصلاب الرجال، وأرحام النساء، قبل الطوفان بأربعين، أو سبعين سنة، لذا فقد استجاب الله له دعاءه، فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين، حتى ولد نوح لصلبه؛ الذي اعتزل عن أبيه، وقال:{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً} .

عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رحم الله من قوم نوح أحدا؛ لرحم امرأة لما رأت الماء؛ حملت ولدها، ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء؛ صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها؛ وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها؛ رفعت ولدها بيدها، فلو رحم الله منهم أحدا؛ لرحم هذه المرأة» . أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير:

حديث غريب، ورجاله ثقات، أقول: وهذا يتنافى مع ما قدمته من عقم رجالهم، ونسائهم، فليتأمل! والله أعلم.

الإعراب: {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{تَذَرْهُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها شرط غير ظرفي. {يُضِلُّوا:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عِبادَكَ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وفيها معنى التعليل. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَلِدُوا:} فعل مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلاّ:} حرف حصر، {فاجِراً:} مفعول به. {كَفّاراً:} صفة {فاجِراً} مؤكدة.

{رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظّالِمِينَ إِلاّ تَباراً (28)}

الشرح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي:} وذلك أنه لما دعا على الكفار، قال: رب اغفر لي. يعني: ما صدر مني من ترك الأفضل. وقيل: يحتمل: أنه حين دعا على الكفار: أنه إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم، فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام منهم، فاستغفر من ذلك، لما فيه من طلب حظ النفس، أو لأنه ترك الاحتمال. انتهى. خازن. {وَلِوالِدَيَّ:} وكانا مسلمين، واسم أبيه: لمك، واسم أمه: شمخى بوزن سكرى، بنت أنوش. وقيل: هما آدم وحواء. ولا وجه له، وقرئ:

ص: 201