الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (العلق) وهي تسع عشرة آية، واثنتان وتسعون كلمة، ومئتان وثمانون حرفا. قال أكثر المفسرين: هذه السورة أول سورة نزلت من القرآن، وأول ما نزل منها خمس آيات من أولها إلى قوله:{ما لَمْ يَعْلَمْ} . وانظر ما ذكرته في أول سورة (المدثر).
فعن عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها-أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة-ولمسلم: الصادقة في النوم-فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها؛ حتى جاءه الوحي. وفي رواية: حتى فجأه الحقّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ!» قال: فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت:«ما أنا بقارئ!» فأخذني فغطني الثانية؛ حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت:«ما أنا بقارئ!» فأخذني فغطني الثالثة؛ حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال:{اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1)
…
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة بنت خويلد، فقال:«زمّلوني! زملوني!» فزملوه؛ حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة-رضي الله عنها:«أي: خديجة! مالي؟» وأخبرها الخبر. وقال: «لقد خشيت على نفسي!» قالت له خديجة-رضي الله عنها:
كلا أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق! فانطلقت به خديجة-رضي الله عنها-حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد، بن عبد العزى-وهو ابن عمّ خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي-فقالت له خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك! فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى. يا ليتني فيها جذعا! ليتني أكون حيا؛ إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم؟» . قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك حيا؛ أنصرك نصرا مؤزرا! ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
زاد البخاري؛ قال: وفتر الوحي فترة؛ حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدّى له جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ عينه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي؛ غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل؛ لكي يلقي نفسه منه؛ تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك. انتهى. خازن.
في هذا الحديث دليل صحيح صريح على أن سورة (العلق) أول ما نزل من القرآن، وفيه ردّ على من قال: إن (المدثر) أول ما نزل من القرآن، وقد تقدّم الكلام على ذلك، والجمع بين القولين في أول سورة (المدثر) وهذا الحديث من مراسيل الصحابة؛ لأن عائشة-رضي الله عنها لم تدرك هذه القصة، فيحتمل أنها سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من غيره من الصحابة، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك، فيأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأول علامات النبوة توطئة للوحي. انتهى. خازن.
هذا؛ وذكر السيوطي في إتقانه: أن أول سورة (اقرأ) مشتمل على ما اشتملت عليه (الفاتحة) من براعة الاستهلال، لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة، وفيها البداءة باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب، وإثبات ذاته، وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله:{عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} ولهذا قيل: إنها جديرة أن تسمى: عنوان القرآن؛ لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله. انتهى. جمل بحروفه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أي: اقرأ القرآن مفتتحا قراءتك باسم ربك الجليل؛ الذي خلق جميع المخلوقات، وأوجد جميع العوالم، فهو أمر صريح بافتتاح القراءة بالبسملة، بعد الاستعاذة التي أمر الله بها في سورة (النحل) رقم [98]:{فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} أي: سواء قرأت في الصلاة، أو في خارجها. وهذا إذا قرأ من أول السورة، أما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة؛ سنّ له أن يبسمل، وإن كان فيها لم تسن له البسملة؛ لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة. هذا؛ وحذف مفعول {خَلَقَ} للتعميم؛ أي: خلق جميع العوالم، ثم خص خلق الإنسان بقوله:{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ:} فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجنس؛ أي: كل إنسان. وقال: {مِنْ عَلَقٍ} ولم يقل: من نطفة لمناسبة رؤوس الآي. وخص الإنسان بالذكر تشريفا، وتكريما له على جميع المخلوقات.
{اِقْرَأْ} أي: القرآن. {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ:} الذي لا يساويه، ولا يدانيه كريم، ينعم على عباده بالنعم؛ التي لا تحصى، ويحلم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم، وجحودهم لنعمه، واقترافهم المناهي، وتركهم الأوامر، ويقبل توبتهم إذا تابوا، ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية، ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكريم بإفادة الفوائد العلمية تكريم؛ حيث قال:{الْأَكْرَمُ} .
{الَّذِي عَلَّمَ} أي: الخط، والكتابة. {بِالْقَلَمِ:} فدل على كمال كرمه، وفضله بأنه علّم عباده ما لم يعلموا. وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه سبحانه بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة؛ لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين، ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي؛ ما استقامت أمور الدين، والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم، والخط؛ لكفى، وسمي قلما؛ لأنه يقلم؛ أي:
يقطع، ومنه تقليم الأظافر. وقال بعض الشعراء المحدثين في وصف القلم:[الكامل]
فكأنّه والحبر يخضب رأسه
…
شيخ لوصل خريدة يتصنّع
ألاّ ألاحظه بعين جلالة
…
وبه إلى الله الصحائف ترفع
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: يا رسول الله! أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: «نعم اكتب فإن الله علّم بالقلم» . وروى مجاهد عن ابن عمر قال: خلق الله عز وجل أربعة أشياء بيده، ثم قال لسائر المخلوقات: كن، فكان: القلم، والعرش، والجنة، وآدم عليه السلام. واختلف فيمن خط بالقلم أولا: فقيل: إدريس. وقيل: آدم، على نبينا، وحبيبنا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أميا لم يتعلم الكتابة، والقراءة، وكان عيسى عليه السلام حسن الخط.
هذا؛ وقال العلماء: فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأول الذي خلقه الله بيده، وأمره أن يكتب ما كان، وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة. والقلم الثاني: أقلام الملائكة؛ التي جعلها الله بأيديهم، يكتبون بها المقادير، والكوائن، والأعمال، والآجال، والأرزاق
…
إلخ.
والقلم الثالث: أقلام الناس جعلها الله بأيديهم يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها إلى مآربهم.
وفي الكتابة فضائل جمة، وفوائد عظيمة، والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص الله به الآدمي. انتهى. قرطبي بتصرف كبير. وانظر مطلع سورة (القلم)، وما ذكرته في سورة (الانفطار) وفي سورة (ق)، و (الطارق).
{عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} قيل: الإنسان هنا: آدم عليه السلام، علمه الله أسماء كل شيء حسب ما نطق به القرآن في سورة (البقرة) رقم [31]:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} فلم يبق شيء إلا وعلّم الله سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه، وبذلك ظهر فضله، وعلا قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة الله على الملائكة، وامتثلت الملائكة الأمر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة. انظر آية (البقرة) المذكورة. وقيل: المراد بالإنسان النبي صلى الله عليه وسلم، دليله قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [113]:{وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وقيل: هو عام لجميع البشر لقوله تعالى في سورة (النحل) رقم [78]: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} والله أعلم بمراده.
تنبيه: وإنا لنفخر نحن معاشر المسلمين بقرآننا الذي يحثنا على العلم، ويرغبنا فيه، ودليلنا هذه الآيات التي أنزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أول ما أنزل عليه، كيف لا؟ وقد أقسم الله ب:{ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ} بسورة (القلم) ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالهدى، والعلم، والنور، رغبنا في طلب العلم، وجعله جهادا أعظم الجهاد، وخذ ما يلي:
فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع. وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض؛ حتى الحيتان في الماء.
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء. وإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظّ وافر». رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءه أجله، وهو يطلب العلم لقي الله؛ ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوّة» . رواه الطبراني في الأوسط.
وعن أبي أمامة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالعالم والعابد، فيقال للعابد: ادخل الجنة، ويقال للعالم: قف حتى تشفع للنّاس» . رواه الأصبهاني، وغيره.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . رواه مسلم، وغيره. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد سبعون درجة، ما بين كلّ درجتين حضر الفرس سبعين عاما، وذلك؛ لأن الشيطان يبدع البدعة للناس، فيبصرها العالم فينهى عنها، والعابد مقبل على عبادة ربّه لا يتوجّه لها، ولا يعرفها» . رواه الأصبهاني.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» . رواه الترمذي، وابن ماجه، والبيهقي.
الإعراب: {اِقْرَأْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف، التقدير:
اقرأ القرآن. {بِاسْمِ:} متعلقان بمحذوف حال، التقدير: مفتتحا باسم. وقيل: الباء صلة.
و (اسم) هو المفعول، التقدير: اقرأ اسم، و (اسم): مضاف، و {رَبِّكَ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة {رَبِّكَ،} أو بدل منه، ويجوز اعتباره خبرا لمبتدأ محذوف، التقدير: هو الذي، كما يجوز اعتباره مفعولا به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي.
وهذان الوجهان على القطع.
{خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة {الَّذِي}. {خَلَقَ:} بدل من سابقه، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} أيضا. {الْإِنْسانَ:}
مفعول به. {مِنْ عَلَقٍ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْإِنْسانَ} .
{اِقْرَأْ:} فعل أمر، وفاعله: أنت، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية مؤكدة لسابقتها، لا محل لها مثلها، الأولى بالابتداء، والثانية بالإتباع. {وَرَبُّكَ:} الواو: واو الحال. (ربك الأكرم): مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير.
{الَّذِي:} قل فيه مثل سابقه، وجملة:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} صلة الموصول، لا محل لها، والمفعول الأول محذوف، والمفعول الثاني: الجار، والمجرور. {عَلَّمَ:} فعل ماض بدل من سابقه أيضا، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} أيضا. {الْإِنْسانَ:} مفعول به أول. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {عَلَّمَ:} حرف جازم. {يَعْلَمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {عَلَّمَ،} والفاعل يعود إلى الموصول أيضا، والجملة صلة {ما} والعائد محذوف، التقدير: الذي لم يعلمه.
{كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)}
الشرح: {كَلاّ:} ردع لمن كفر بنعمة الله لطغيانه؛ وإن لم يذكر لدلالته عليه. وانظر شرح {كَلاّ} في سورة (المدثر) رقم [16]. {إِنَّ الْإِنْسانَ:} المراد به: أبو جهل الخبيث، {لَيَطْغى:}
ليتجاوز الحد، ويتعالى على ربه بكفره، وخروجه عن طاعته. ويقال: طغى، يطغى، يطغو، طغيانا، وطغوانا: جاوز الحد، وكل مجاوز حده في العصيان طاغ، كل مسرف في الظلم، والمعاصي طاغ، وطغى البحر: هاجت أمواجه، وطغى السيل: جاء بماء كثير. قال تعالى: {إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} رقم [11] من سورة (الحاقة).
{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} أي: رأى نفسه غنيا، فقد تعدى الفعل إلى ضميرين لواحد. وهذا خاص بأفعال القلوب. يقال: رأيتني، وعلمتني، ومعنى الرؤية: العلم، ولو كانت بمعنى الإبصار؛ لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين.
{إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى} أي: المرجع في الآخرة، وفيه تهديد، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان. ثم هو عام لكل طاغ متكبر، وإن الله سيحاسب العبد على المال؛ الذي يصل إليه من أين جمعه؟ وفيم أنفقه؟ وهو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما تزال قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟» . رواه البيهقي، وغيره عن معاذ-رضي الله عنه. ولا تنس: أن {الرُّجْعى} بمعنى الرجوع فهي مصدر، ولا تنس الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. وانظر الآية رقم [20] من سورة (الملك).
الإعراب: {كَلاّ:} حرف ردع، وزجر. وقيل: هي بمعنى حقا. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {الْإِنْسانَ:} اسمها. {لَيَطْغى:} اللام: هي المزحلقة. (يطغى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ} تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{إِنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {رَآهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو في محل نصب ب:{إِنَّ،} والفاعل مستتر تقديره: «هو» ، والهاء مفعول به أول.
{اِسْتَغْنى:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانَ} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به ثان، و {إِنَّ} والفعل (رأى) في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: لأن رآه، أو لأجل، ولذا قالوا عنه: في محل نصب مفعول لأجله. والجار والمجرور متعلقان بالفعل (يطغى). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل، {إِلى رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ} تقدم على اسمها، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، {الرُّجْعى:} اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلّى (10)}
الشرح: نزلت السورة في أبي جهل الخبيث، ما عدا الآيات الخمس الأول التي حدثتك عنها، وعن سبب نزولها. والمناسبة بين تلك الآيات الخمس، وبين بقية السورة مع تطاول الزمن بين النزولين هو المقارنة بين العلم، والجهل وما يؤول إليه أمر كل منهما، وهو معروف لدى كل إنسان، لذا أحمد الله، وأتمثل بقول القائل:[الوافر]
رضينا قسمة الجبار فينا
…
لنا علم وللجهّال مال
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلّى:} تعجيب من حال ذلك الشقي الفاجر؛ أي: أخبرني يا محمد عن حال ذلك المجرم الأثيم؛ الذي ينهى عبدا من عباد الله عن الصلاة، ما أسخف
عقله، وما أشنع فعله! قال أبو السعود: هذه الآية تقبيح وتشنيع لحال الطاغي، وتعجيب منها، وإيذان بأنها من الشناعة، والغرابة بحيث يقضي منها العجب. وقد أجمع المفسرون على أن العبد المصلي هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذي نهاه هو أبو جهل اللعين؛ حيث قال: لئن رأيت محمدا يصلي؛ لأطأن عنقه! وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات، والعزى لئن رأيته يفعل ذلك؛ لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب! قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو يصلي؛ ليطأ على رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه! فقيل له: مالك؟! قال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا، وأجنحة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» . فأنزل الله هذه الآية. انتهى. خازن.
والمعنى: أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية لله عن طاعته لله تعالى، وهذا دأبه، وعادته.
وقيل: إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة، وعن طاعة الله تعالى، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة؛ لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة، ولا يلزم من ذلك أيضا عدم جواز السيد عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل، وصوم التطوع، والاعتكاف؛ لأن في ذلك استيفاء مصلحة، إلا أن يأذن فيه المولى، والزوج. انتهى. خازن.
هذا؛ والمراد ب: {عَبْداً} النبي صلى الله عليه وسلم، والتنكير للتفخيم، والتعظيم، وللمبالغة في تقبيح النهي، والدلالة على كمال عبودية المنهي. هذا؛ وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه؛ لسماه به في المقام العظيم في ليلة الإسراء، والمعراج؛ حيث قال جل ذكره:
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ} . وفي معناه أنشدوا: [السريع]
يا قوم قلبي عند زهراء
…
يعرفه السّامع والرّائي
لا تدعني إلاّ بيا عبدها
…
فإنه أشرف أسمائي
علما بأنه صلى الله عليه وسلم، لم يذكر باسمه الصريح في القرآن إلا قليلا، ذكر باسم محمد في سورة (آل عمران) وسورة (الأحزاب) وسورة (محمد) وسورة (الفتح) وذكر باسم: أحمد في سورة (الصف) وذكر باسم طه في سورة (طه) وذكر باسم: ياسين في سورة (يس). هذا؛ والعبد:
الإنسان حرا كان، أو رقيقا، ويجمع على: عبيد، وعباد، وأعبد، وعبدان، وعبدة، وغير ذلك.
الإعراب: {أَرَأَيْتَ:} الهمزة: حرف استفهام تعجبي. (رأيت): فعل، وفاعل. {الَّذِي:}
اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. وانظر الكلام على المفعول الثاني
فيما بعد. {يَنْهى:} فعل مضارع مرفوع، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عَبْداً:} مفعول به. {إِذا:} ظرف زمان مجرد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {صَلّى:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {عَبْداً،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.
{أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12)}
الشرح: {أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى} أي: أخبرني إن كان هذا العبد المصلي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي تنهاه عن الصلاة صالحا مهتديا على الطريقة المستقيمة في قوله، وفعله. {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى} أي: أو كان المنهي عن الصلاة آمرا بالإخلاص، والتوحيد، وطاعة الله، داعيا إلى الهدى، والرشاد، كيف تنهاه، وتزجره؟! فما أبلهك أيها الغبي الذي تنهى من أوصافه هذه: عبد مطيع لله مهتد منيب، داع إلى الهدى، والرشاد؟
فما أعجب من ينهى عن الخير، ويأمر بالشر، وهو أبو جهل الخبيث؛ الذي يتهدد النبي صلى الله عليه وسلم ويتوعده: ليفعلن كذا، وكذا! إن وجده يصلي بجوار الكعبة! هذا هو الظاهر: أن الذي على الهدى، أو أمر بالتقوى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار ابن عطية، والقرطبي، والخازن، وغيرهم.
وذهب الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي كعادتهما إلى أن المراد الناهي.
لذا قال الزمخشري: ومعناه: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته، إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمرا بالمعروف، والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد. والمعنى عليه ضعيف كما ترى، لذا فالمعتمد الأول.
الإعراب: {أَرَأَيْتَ:} الهمزة: حرف استفهام تعجبي. (رأيت): فعل، وفاعل. وانظر الكلام على مفعوليه فيما بعد. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه يعود إلى المنهي، أو الناهي، كما رأيت في الشرح. {عَلَى الْهُدى:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ،} والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. وجواب الشرط محذوف، التقدير:
إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. قال الزمخشري: فإن قلت: فكيف صح أن يكون (الم يعلم) جوابا للشرط؟ قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك؛ أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ {أَوْ:} حرف عطف، وهي بمعنى الواو. {أَمَرَ:} فعل ماض، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى المنهي، أو إلى الناهي. {بِالتَّقْوى:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كانَ..} . إلخ.