الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الانفطار
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (الانفطار) مكية في قول الجميع، وهي تسع عشرة آية، وثمانون كلمة، وثلاثمئة وسبعة وعشرون حرفا. انظر ما ذكرته في أول سورة (التكوير)، والله الموفق، والمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ} أي: تشققت بأمر الله تعالى لنزول الملائكة، كقوله تعالى في سورة (الفرقان) رقم [25]:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} . وقيل: تفطرت لهيبة الله تعالى. والفطر: الشق عن الشيء. يقال: فطرته، فانفطر. قال تعالى في سورة (المزمل):
{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ومنه: فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطر الشيء: تشقق، وسيف فطار؛ أي: فيه تشقق. قال عنترة: [الوافر]
وسيفي كالعقيقة وهو كمعي
…
سلاحي لا أفلّ ولا فطارا
العقيقة: شعاع البرق الذي يبدو كالسيف، والكمع: الضجيع. وقد ذكر {فاطِرِ} و (فطر) في كثير من الآيات. وانظر الآية رقم [3] من سورة (الملك). {وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ} أي: تساقطت.
وانظر ما ذكرته في سورة (التكوير). هذا؛ ويقال: نثرت الشيء، أنثره نثرا، فانتثر، والاسم:
النثار بكسر النون، وبضمها: ما تناثر من الشيء. ففي هذه الآية استعارة مكنية، حيث شبه الكواكب بجواهر قطع سلكها، فتناثرت متفرقة، وطوى ذكر المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الانتثار على طريق الاستعارة المكنية.
{وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ} أي: فجر بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا، وزال الحاجز الذي ذكر الله في سورة (الرحمن) بقوله:{بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ،} وفي سورة (الفرقان) بقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} . وقال الحسن-رحمه الله: {فُجِّرَتْ} ذهب ماؤها، ويبست، وذلك:
أنها أولا راكدة مجتمعة، فإذا فجرت؛ تفرقت، فذهب ماؤها. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي: قلبت، وأخرج ما فيها من أهلها أحياء، يقال: بعثرت المتاع: قلبته ظهرا لبطن، وبعثرت الحوض،
وبحثرته: إذا هدمته، وجعلت أسفله أعلاه. وقال قوم منهم الفراء:{بُعْثِرَتْ} أخرجت ما في بطنها من الذهب والفضة، وإن من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها، وفضتها. قال تعالى في سورة (الزلزلة):{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها} . {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ:} مثل قوله تعالى في سورة (القيامة): {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وانظر سورة (التكوير) رقم [14]. هذا؛ وتنكير {نَفْسٌ} يفيد التكثير. وانظر سورة (العاديات) رقم [9].
هذا؛ وقال الجمل نقلا عن الرازي: واعلم: أن المراد من هذه الآيات: أنه إذا وقعت هذه الأشياء؛ التي هي أشراط الساعة، فهناك يحصل الحشر، والنشر، وهي هاهنا أربعة: اثنان منها يتعلقان بالعلويات، واثنان يتعلقان بالسفليات. والمراد بهذه الآيات بيان تخريب العالم، وفناء الدنيا، وانقطاع التكاليف. والسماء كالسقف، والأرض كالبناء، ومن أراد تخريب دار؛ فإنه يبدأ أولا بتخريب السقف، ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب، ثم بعد تخريب السماء، والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض من البحار، ثم بعد ذلك تخرب الأرض؛ التي فيها الأموات، وأشار لذلك بقوله:{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} ثم إن قوله: {ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} يقتضي فعلا، وتركا، فإن كان قد قدم الكبائر، وأخر العمل الصالح؛ فمأواه النار، وإن كان قد قدم العمل الصالح، وأخر الكبائر؛ فمأواه الجنة، فيحصل العلم الإجمالي في أول زمان الحشر؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة في أول الأمر، وأما العلم التفصيلي؛ فلا يحصل إلا عند قراءة الكتب، والمحاسبة. انتهى.
هذا؛ وتفسيره-رحمه الله تعالى-: {ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} بما تقدم، قد يكون غير واف بالغرض، والأحسن، والأولى هو ما ذكرته في تفسير، وشرح قوله تعالى في سورة (القيامة) رقم [13]:{يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} انظره فإنه جيد. هذا؛ ولا تنس الطباق بين (قدمت) و (أخرت)، وكذلك السجع المرصّع، وهو ما تراه في الآيات مختومة بتاء التأنيث الساكنة، وهو من المحسنات البديعية، وهو ناتج من توافق الفواصل رعاية لرؤوس الآيات، ومثل ذلك سورة (التكوير) كلها.
الإعراب: {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ..} . إلخ: مثل قوله تعالى في سورة (التكوير): {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ..} . إلخ بلا فارق. {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب قوله تعالى في سورة (التكوير): {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ} جملا، وإفرادا بلا فارق بينهما، فلا حاجة إلى إعراب هذه الآيات هنا، والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
الشرح: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: ما خدعك، وسوّل لك الباطل؛ حتى صنعت ما صنعت، وضيعت ما أوجب الله عليك؟! والمعنى: ما الذي أمنك من عقابه؟ قيل:
نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي بن خلف. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، واسمه أسيد. وقيل: كلدة بن خلف، وكان كافرا، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعاقبه الله، وأنزل هذه الآية. وقيل: الآية عامة في كل كافر، وعاص، وهو الأولى.
يقول الله: {ما غَرَّكَ} قيل: غرّه حمقه، وجهله. وقيل: غرّه تسويل الشيطان. وقيل: غرّه عفو الله عنه؛ حيث لم يعاجله بالعقوبة في أول مرة. {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: المتجاوز عنك، فهو بكرمه لم يعاجلك بعقوبته، بل بسط لك المدة لرجاء التوبة. قال ابن مسعود-رضي الله عنه:
ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به يوم القيامة، فيقول له: يابن آدم ما غرك بي؟ يا بن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه، فقال لك: يا بن آدم {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ماذا كنت تقول؟ قال:
أقول: غرني ستورك المرخاة؛ لأن الكريم هو الستار. نظمه ابن السماك، فقال:[السريع]
يا كاتم الذّنب أما تستحي
…
والله في الخلوة ثانيكا
غرّك من ربّك إمهاله
…
وستره طول مساويكا
وقال يحيى بن معاذ الرازي: لو أقامني بين يديه وقال: ما غرك بي؟ أقول: غرني برك بي سالفا، وآنفا. وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي: ما غرك بربك؟ لقلت: غرني كرم الكريم.
وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال: {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} دون سائر أسمائه، وصفاته، كأنه لقنه حجته في الإجابة، حتى يقول: غرني كرم الكريم. انتهى. خازن بتصرف.
{الَّذِي خَلَقَكَ:} أوجدك من العدم بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، وكان ذلك من نطفة مذرة.
{فَسَوّاكَ} أي: جعلك سويا سالم الأعضاء في بطن أمك، فجعل لك عينين تبصر فيهما، وأذنين تسمع بهما، ويدين تبطش بهما، ورجلين تسعى بهما. {فَعَدَلَكَ:} يقرأ بتشديد الدال: أي:
فصيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض، وبعضها أسود. وقيل: معناه: جعلك قائما معتدلا حسن الصورة، ولم يجعلك كالبهيمة، تأكل، وتشرب منحنيا. قال تعالى في سورة (التين):{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . ويقرأ بتخفيف الدال، وعليه فالمعنى: فأمالك وصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسنا، وإما قبيحا، وإما طويلا وإما قصيرا، انظر ما ذكرته في آيات (السجدة) رقم [7 و 8 و 9]، وفي سورة (الأعلى) أيضا.
{فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} أي: إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وقال مكحول: إن شاء ذكرا، وإن شاء أنثى.
وقيل: {فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} من الصور المختلفة، بحسب الطول، والقصر، والحسن،
والقبح، والذكورة، والأنوثة، وفي هذه دلالة على قدرة الصانع المختار القادر المقتدر، وذلك:
أنه لما اختلفت الهيئات، والصفات؛ دل ذلك على كمال القدرة، واتساع الصنعة، وأنّ المدبر المختار هو الله تعالى.
هذا؛ ويستدل بهذه الآية من يقول بتناسخ الأرواح، فهم يقولون: إن الإنسان إذا مات، وخرجت روحه من بين جنبيه؛ تحل بجسد آخر، فإن كانت صالحة طاهرة، عمل صاحبها الطاعات؛ تحلّ بجسد إنسان عاقل كريم، وإن كانت خبيثة، عمل صاحبها المعاصي، والإضرار للناس، والإفساد في الأرض؛ تحل بجسد حيوان، أو وحش، أو هوام
…
إلخ، وحلولها في الجسد الخبيث عقوبة لها، حتى إذا طهرت، وتهذبت يموت الجسد الخبيث، ثم تعود فتحل بجسد إنسان آخر عاقل كريم، وهذا التناسخ يقوله الهندوس في الهند، ويوجد في البلاد العربية من يقول به. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [61] من سورة (الواقعة).
تنبيه: تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} . فقال: «غره جهله» . وقال عمر رضي الله عنه: غره حمقه، وجهله. وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: غره والله شيطانه الخبيث! أي: زين له المعاصي. وقال له: افعل ما شئت، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أولا، وهو متفضل عليك آخرا؛ حتى ورطه، وأوقعه في المعاصي. هذا؛ ولا تنس: أن الشيطان اللعين يتبرأ من الذي أغواه، انظر الآية رقم [22] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
{كَلاّ:} ردع عن الاغترار بكرم الله، وعن الغفلة عن طاعته، وعبادته. {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ:}
الخطاب لأهل مكة ومن على شاكلتهم من الملاحدة في هذا الزمن؛ الذين ينكرون الصلاة، وغيرها من العبادات المعلومة من الدين بالضرورة. وهو إضراب انتقالي إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم.
الإعراب: {يا أَيُّهَا:} (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو أنادي. (أيها): منادى نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يجوز اعتبار الهاء ضميرا في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى. {الْإِنْسانُ:} بدل من (أيّ) أو عطف بيان عليه، والجملة الندائية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {غَرَّكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {ما،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {ما،} والجملة الاسمية لا محل لها مثل الجملة الندائية قبلها.
{بِرَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الْكَرِيمِ:} صفة (ربك). {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة ثانية. {خَلَقَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو
العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها، وجملة:(سواك فعدلك) معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها.
{فِي أَيِّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {رَكَّبَكَ،} و {ما} بعدهما مزيدة، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكاف؛ أي: ركبك حال كونه حاصلا في بعض الصور. أو هما متعلقان بالفعل: (عدلك)، التقدير: وضعك في صورة أي صورة. ذكر ذلك ابن هشام في المغني، واعترض عليه في الأخير بأن معنى (أي) الاستفهام فلها صدر الكلام، فكيف يعمل فيها ما قبلها.
هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) أداة شرط جازمة تجزم فعلين، فقد جزمت الفعلين بعدها، وعليه فالجملة الشرطية بمجموعها في محل جر صفة {صُورَةٍ}. {شاءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ربك، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل جر صفة {صُورَةٍ} على اعتبار {ما} زائدة، ومبتدأة لا محل لها على اعتبار {ما} أداة شرط. {رَكَّبَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ربك)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (ما) شرطية، وفي محل نصب حال من فاعل {خَلَقَكَ} و (سواك) و (عدلك) على اعتبار (ما) زائدة، وهي على تقدير «قد» قبلها.
{كَلاّ:} حرف ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى. وقال القرطبي: يجوز أن تكون بمعنى:
حقا، وبمعنى: ألا الاستفتاحية، فيبتدأ بها، ويجوز أن تكون بمعنى «لا» النافية، على أن يكون المعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. {بَلْ:} حرف إضراب انتقالي. {تُكَذِّبُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِالدِّينِ:}
متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)}
الشرح: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ} أي: رقباء من الملائكة. {كِراماً كاتِبِينَ:} كراما على الله، كقوله تعالى في سورة (عبس) رقم [16]:{كِرامٍ بَرَرَةٍ} . {كاتِبِينَ:} يكتبون أعمالكم، وأقوالكم.
{يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ:} لا يخفى عليهم شيء من أقوالكم، وأفعالكم، وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في الآية رقم [11] من سورة (الرعد):{لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ..} . إلخ، وأن تنظر قوله تعالى في سورة (ق):{ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وانظر سورة (الطارق)، وخذ هنا ما يلي:
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين: الخراءة، أو الجماع، فإذا اغتسل أحدكم، فليستتر بجرم حائط، أو بغيره، أو ليستره أخوه» .
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم عن التعرّي، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكاتبين الّذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات:
الغائط، والجنابة، والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء، فليستتر بثوبه، أو بجرم حائط، أو ببعيره». وسبب ورود هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض. وروي عن علي-رضي الله عنه-قال: لا يزال الملك موليا عن العبد ما زال بادي العورة، وروي: أن العبد إذا دخل الحمام بدون مئزر؛ لعنه ملكاه.
واختلف الناس في الكفار: هل عليهم حفظة، أم لا؟ فقال بعضهم: لا؛ لأن أمرهم ظاهر، وعملهم واحد. قال الله تعالى في سورة (الرحمن) رقم [41]:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ} وقيل: بل عليهم حفظة بدليل الآيات التي نحن بصدد شرحها، وقوله تعالى في سورة (الحاقة):{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ} . وقوله تعالى في سورة (الانشقاق): {وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} فأخبر الله: أن الكفار يكون لهم كتاب، ويكون عليهم حفظة. فإن قيل: الذي على يمينه؛ أي شيء يكتب، ولا حسنة له؟ قيل له: الذي يكتب عن شماله يكون بإذن صاحبه، ويكون شاهدا على ذلك؛ وإن لم يكتب. والله أعلم.
سئل سفيان الثوري-رحمه الله تعالى-: كيف تعلم الملائكة: أن العبد قد همّ بحسنة، أو سيئة؟! قال: إذا هم العبد بحسنة؛ وجدوا منه ريح المسك، وإذا هم بسيئة؛ وجدوا منه ريح النتن. هذا؛ ومن المعلوم، والمحفوظ: أن الحفظة من الملائكة غير الكتبة، انظر آية (الرعد) وآية (ق) ففيهما تفصيل، وتوضيح لذلك.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. (إن): حرف مشبه بالفعل. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إن) تقدم على اسمها. {لَحافِظِينَ:} اللام: لام الابتداء. (حافظين): اسم (إنّ) مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه اسم فاعل جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، التقدير: أعمالكم. أو حافظين لكم، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة في {تُكَذِّبُونَ،} والرابط:
الواو، والضمير وجوز اعتبارها مستأنفة. {كِراماً كاتِبِينَ:} صفتان ل: (حافظين)، وعند التأمل يتبين لك: أن الثلاثة صفات لموصوف محذوف هم: «الملائكة» . {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يعلمون الذي، أو شيئا يفعلونه. هذا؛ وإن اعتبرت {ما} مصدرية؛ فهي تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: يعلمون فعلهم، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثالثة ل:(حافظين)، أو صفة رابعة، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المستتر ب:(حافظين) فلست مفندا.
الشرح: {إِنَّ الْأَبْرارَ} أي: الذين بروا في وعودهم، وصدقوا في إيمانهم بأداء ما افترض الله عليهم، واجتناب معاصيه، وبروا الناس بالإحسان إليهم، واللطف بهم، والرفق في معاملاتهم، ومعاشرتهم. وانظر سورة (الدهر) رقم [5]. {لَفِي نَعِيمٍ:} لفي بهجة، وسرور لا يوصف، يتنعمون في رياض الجنة، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون في ذلك، لا يبرحون، ولا يهرمون. هذا؛ والنعيم: التنعم، والترفه، وأيضا النعيم: النعمة بفتح النون، يقال: نعمه الله، وناعمه، وامرأة منعمة ومناعمة بمعنى، والمعنى إن الأبرار في الجنات يتنعمون. {وَإِنَّ الْفُجّارَ} أي: الكفرة، والفسقة، والملاحدة؛ الذين عصوا ربهم في الدنيا، وخالفوا أوامره. {لَفِي جَحِيمٍ:} لفي نار محرقة، وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم. {يَصْلَوْنَها:} يدخلونها، ويقاسون حرها. {يَوْمَ الدِّينِ:} يوم الحساب، والجزاء؛ الذي كانوا يكذبون به في الدنيا. ما ألطف هذه المقابلة في الآيتين بين الأبرار، والفجار! وفيهما أيضا فنّ الترصيع، وكل ذلك من المحسنات البديعية. {وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ} أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف عنهم من عذاب النار، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت، أو الراحة؛ ولو يوما واحدا. وقيل: معناه: وما يغيبون عنها قبل ذلك؛ إذ كانوا يجدون سمومها في القبور، وهو كقوله تعالى:{وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها} رقم [37] من سورة (المائدة)، وأيضا سورة (البقرة) رقم [167].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْأَبْرارَ:} اسمها. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة.
(في نعيم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها. {يَصْلَوْنَها:} فعل مضارع مرفوع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر في الجار، والمجرور لوقوعهما خبرا عن {إِنَّ،} وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. وأجاز أبو البقاء اعتبارها صفة ل: {جَحِيمٍ،} والرابط: الضمير المنصوب. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {الدِّينِ} مضاف إليه. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» . {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع اسم (ما).
{عَنْها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {بِغائِبِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (غائبين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.
الشرح: {وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ} أي: أي شيء يوم الدين؟ تفخيما لشأنه، وتعظيما لهوله؛ أي: حقه أن يستفهم عنه لعظمه، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل. {ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ} المعنى: وأي شيء علمته عن يوم الدين؟ أي: إنك لا علم لك بكنهه، ومدى عظمه؛ لأنه من العظم، والشدة بحيث لا تبلغ حقيقته دراية المخلوقين، ومعرفتهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل فاهم، يهمه شأن يوم الدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بيوم الدين، ولكن بالصفة، فقيل تفخيما لشأنه:{وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ} أي: كأنك لست تعلمه؛ إذا لم تعاينه. قال يحيى بن سلام-رحمه الله تعالى-: بلغني أن كل شيء في القرآن {وَما أَدْراكَ} فقد أدراه إياه، وعلمه، وكل شيء قال:{وَما يُدْرِيكَ؟} فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة-رحمه الله تعالى-: كل شيء قال فيه: {وَما أَدْراكَ} فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه:{وَما يُدْرِيكَ} فإنه لم يخبر به.
{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي: لا تملك نفس كافرة لنفس كافرة شيئا من المنفعة، وكذلك المؤمنة لا تستطيع ذلك لغيرها بوجه، وإنما تملك الشفاعة، والمنفعة لغيرها بالإذن، وهو صريح قوله تعالى:{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ} كقوله تعالى في سورة (غافر) رقم [16]: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ} هذا؛ وفي هذه الآيات من البلاغة فنّ الإطناب بتكرير الجملة، وإعادتها.
بعد هذا فالفعل: «درى» بمعنى: علم من أفعال اليقين، فينصب مفعولين كقول الشاعر، وهو الشاهد رقم [6] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
دريت الوفيّ العهد يا عمرو فاغتبط
…
فإنّ اغتباطا بالوفاء حميد
وهو قليل؛ إذ الكثير المستعمل فيه أن يتعدى إلى واحد بالباء، نحو دريت بكذا، فإن دخلت عليه همزة النقل؛ تعدى إلى واحد بنفسه، وإلى واحد بالباء، نحو قوله تعالى:{قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ} الآية رقم [16] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. قال شيخ الإسلام: ومحل ذلك إذا لم يدخل على الفعل استفهام، وإلا تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قوله تعالى في سورة (القارعة):{وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟} فالكاف مفعول أول، والجملة الاسمية سدت مسد المفعولين. انتهى.
والذي في «الهمع» و «المغني» -قيل: وهو الأوجه-: أن الجملة الاسمية سدت مسدّ المفعول الثاني المتعدي إليه بالحرف، فتكون في محل نصب بإسقاط الجار، كما في فكرت:
أهذا صحيح أم لا؟ أي: فكرت بما ذكر. انتهى. جرجاوي، وينبغي أن تعلم أن الفعل أدراك هنا معلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام بعده، والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في التعليق، إلا أن النحويين لم يعدوا «لعل» من المعلقات، والحق مع الكوفيين، وهو ظاهر في قوله تعالى في سورة (عبس):{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى،} وقوله جل شأنه: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} سورة (الأحزاب) رقم [63] فإن كان «درى» بمعنى: «ختل» ؛ أي: خدع كان متعديا إلى واحد بنفسه، مثل دريت الصيد؛ أي: ختلته، وخدعته. قال الأخطل التغلبي:[الطويل]
فإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني
…
بسهمك فالرّامي يصيد ولا يدري
أي: يصيد، ولا يختل. ومثله قول الآخر:[الطويل]
فإن كنت لا أدري الظّباء فإنني
…
أدسّ لها تحت التراب الدّواهيا
أي: لا أختل، وإن كانت بمعنى: حك، مثل: درى رأسه بالمدرى؛ أي: حك رأسه بالمشط؛ فهو كذلك. هذا؛ وانظر شرح اليوم في الآية رقم [9] من سورة (المدثر). هذا؛ و {يَوْمُ الدِّينِ} يوم الدينونة، والحساب، والجزاء. والدّين (بكسر الدال): اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى، والدّين أيضا: الملة، والشريعة. ومن هذا قوله تعالى:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} رقم [76] من سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. و {يَوْمُ الدِّينِ:}
يوم الحساب، والجزاء، وهو ما في الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، ومنه: كما تدين تدان؛ أي: كما تفعل؛ تجازى. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: يوم الدين يوم حساب الخلائق، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرا؛ فشرّ؛ إلا من عفا الله عنه، والأمر أمره، ثم قرأ:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . هذا؛ والدّين بفتح الدال القرض المؤجل، وجمع الأول: أديان، وجمع الثاني: ديون، وأدين. هذا؛ والدينونة: القضاء، والحساب. والديانة اسم لجميع ما يتعبد به الله تعالى. هذا؛ والدين: العادة، والعمل، ومنه قول الشاعر:[الوافر]
تقول إذا أدرت لها وضيني
…
فهذا دينها أبدا وديني
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَدْراكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (ما)، تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول. {ما يَوْمُ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعول:{أَدْراكَ} الثاني المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. وقال زاده: في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني، والثالث؛ لأنه بمعنى: أعلم، و {يَوْمُ} مضاف، و {الدِّينِ} مضاف إليه، وجملة:{أَدْراكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: (ما أدراك
…
) إلخ مستأنفة، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محل لها
مثلها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {يَوْمُ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اذكر، ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو يوم. هذا؛ وقال الزمخشري: هو بدل من {يَوْمُ الدِّينِ} على القراءتين، فعلى الرفع؛ فظاهر، وعلى الفتح؛ فهو مبني على الفتح في محل رفع.
وقال الكوفيون بقول الزمخشري. {لا:} نافية. {تَمْلِكُ:} فعل مضارع. {نَفْسٌ:} فاعله.
{لِنَفْسٍ:} متعلقان بما قبلهما. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمُ} إليها. {وَالْأَمْرُ:} الواو: حرف استئناف. (الأمر): مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} (يوم): ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، و (إذ) ظرف زمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة، التقدير: يوم إذ لا تملك نفس
…
إلخ. {لِلّهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها حالا ضعيف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهت سورة (الانفطار) شرحا، وإعرابا بحمد الله وتوفيقه.
والحمد لله رب العالمين.