المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المرسلات بسم الله الرحمن الرحيم سورة (المرسلات) وهي مكية بالاتفاق، وآياتها - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ١٠

[محمد علي طه الدرة]

فهرس الكتاب

- ‌سورة التّحريم

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الملك

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القلم

- ‌فائدة:

- ‌سورة الحاقّة

- ‌خاتمة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الجنّ

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة المزّمّل

- ‌سورة المدّثر

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌فائدة:

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النّبإ

- ‌سورة النّازعات

- ‌فائدة:

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التّكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطفّفين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌فائدة:

- ‌سورة الطّارق

- ‌تنبيه: بل خاتمة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌فائدة:

- ‌سورة البلد

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الشمس

- ‌تنبيه، وخاتمة:

- ‌سورة الليل

- ‌تنبيه بل فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الضّحى

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التّين

- ‌فائدة:

- ‌سورة العلق

- ‌الشرح

- ‌خاتمة:

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البيّنة

- ‌فائدة:

- ‌خاتمة:

- ‌سورة الزّلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌فائدة:

- ‌سورة النّصر

- ‌سورة المسد

- ‌‌‌فائدةبل طرفة:

- ‌فائدة

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة النّاس

- ‌خاتمة

- ‌ترجمة موجزة للشيخ المفسر النحويمحمد علي طه الدرة رحمه الله تعالى1340 -1428 هـ-1923 - 2007 م

- ‌حليته وشمائله:

- ‌مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة:

الفصل: ‌ ‌سورة المرسلات بسم الله الرحمن الرحيم سورة (المرسلات) وهي مكية بالاتفاق، وآياتها

‌سورة المرسلات

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة (المرسلات) وهي مكية بالاتفاق، وآياتها خمسون، وكلماتها مئة وثمانون، وحروفها ثمانمئة وستة عشر. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: نزلت: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار بمنى، فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها؛ إذ وثبت علينا حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اقتلوها» . فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وقيت شرّكم، كما وقيتم شرّها» . أخرجه البخاري، ورواه مسلم مع اختلاف في بعض ألفاظه. والغار المذكور مشهور في منى يسمى غار المرسلات.

وعن كريب مولى ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قرأت سورة: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت. وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة؛ إنها لآخر ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب. أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك عن الزهري.

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)}

الشرح: اختلف المفسرون اختلافا كبيرا في تفسير هذه الآيات الخمس، فبعضهم حملها جميعا على الرياح، وبعضهم حملها جميعا على الملائكة، وبعضهم فصل، وتوقف الإمام ابن جرير، وقد اخترنا ما ذهب إليه ابن كثير، وما رجحه صاحب التسهيل؛ حيث قال: والأظهر في: (المرسلات، والعاصفات): أنها الرياح؛ لأن وصف الريح بالعصف حقيقة، والأظهر في (النّاشرات، والفارقات): أنها الملائكة؛ لأن قوله: {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً} المذكورة بعدها هي الملائكة. ولم يقل أحد: إنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء، فقال:(والمرسلات فالعاصفات) ثم عطف ما ليس من جنسها بالواو، فقال:(والنّاشرات) ثم عطف بالفاء، وهذا قول جيد.

هذا؛ ومعنى {عُرْفاً:} يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس، تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه، فأكثروا. وقيل:(عرفا): كثيرا. والأول أقوى. {فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً}

ص: 374

أي: الرياح الشديدة الهبوب بغير اختلاف قاله المهدوي. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه:

هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع، وحطامه. أقول: ويؤيده قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ} . {وَالنّاشِراتِ نَشْراً} (3): يعني الرياح اللينة. وقال ابن مسعود، ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى بشرا بين يدي رحمته؛ أي: تنشر السحاب للغيث. ويؤيده قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [57] وفي سورة (الفرقان) رقم [48]: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}

وما يشبه ذلك في سورة (النمل) رقم [63]، وفي سورة (الروم) رقم [46]:{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ..} . إلخ. وقيل: المراد الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها، وهو ضعيف، وأضعف منه القول: إنها آيات القرآن تنشر الهداية، والمعرفة في قلوب المؤمنين.

{فَالْفارِقاتِ فَرْقاً:} الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل. وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما تفرقه الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال، وعن مجاهد قال:

(الفارقات) الرياح تفرق بين السحاب، وتبدده. وهو ضعيف. وعن قتادة قال:(الفارقات):

الآيات القرآنية، فرق الله بها بين الحق، والباطل، والحلال، والحرام، والمعتمد الأول بدليل:

{فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً} فإنهم الملائكة بالإجماع، أي: يلقون كتب الله عز وجل إلى الأنبياء، عليهم الصلاة والسّلام.

هذا؛ وقد قيل: ليس المراد من هذه الآيات؛ بل الكلمات الخمس شيئا واحدا بعينه. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنّاشِراتِ نَشْراً} الرياح، ويكون المراد بقوله:{فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً:} الملائكة. بعد هذا ينبغي أن تعرف حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات، كما في هذه الآيات هنا، وفي أوائل (الصافات)، وأوائل (النازعات) وخذ قول ابن زيابة، -وهو الشاهد رقم [296] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [السريع]

يا لهف زيّابة للحارث الصّا

بح فالغانم فالآيب

قيل: إما أن تدل هذه الصفات على ترتيب معانيها في الوجود، كما في هذا البيت، كأنه قال: الذي صبّح، فغنم، فآب. وإما أن تدل على ترتيب موصوفاتها في ذلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«رحم الله المحلّقين فالمقصّرين» . وإما على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل، فالأكمل، واعمل الأحسن، فالأجمل. انتهى كشاف، وقرطبي بتصرف.

قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: وما المجانسة بين الرياح، والملائكة حتى جمع بينهما في القسم؟ قلت: الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم، وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح، فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه، فحسن الجمع بينهما في القسم.

ص: 375

هذا؛ وذكرت لك في مناسبات كثيرة عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-أنه قال: (إنّ الرّياح ثمان: أربع منها عذاب، وهي القاصف والعاصف، والصّرصر والعقيم، وأربع منها رحمة، وهي النّاشرات والمبشّرات والمرسلات والذّاريات). هذا؛ وإنما أقسم الله تعالى بالمرسلات وبما بعده، ومثل هذا كثير في أوائل السور، وأثنائها. قال الشعبي-رحمه الله تعالى-: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. وقال أبو حيان-رحمه الله تعالى-:

أقسم الله بهذه الأشياء تشريفا لها، وتنبيها على ما يظهر من عجائب الله، وقدرته، وقوام الوجود بإيجادها. وقيل: فيه مضمر، تقديره: ورب المرسلات

إلخ.

{عُذْراً أَوْ نُذْراً} أي: الملائكة ألقت ذكرا على الرسل بسبب الوحي؛ إما عذرا للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم، واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث، ونحوه، فيشكرونها. وإما إنذارا للذين لا يشكرون الله، وينسبون ذلك إلى الأنواء، وغيرها من الأسباب. وقيل:{أَوْ} هنا بمعنى الواو، فتكون الملائكة قد ألقت الذكر للإعذار، والإنذار معا.

{إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ:} هذا هو جواب القسم، أي: إن ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل واحد بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إن هذا كله لواقع؛ أي: لكائن، لا محالة، فلا مجال للشك والافتراء. هذا؛ وجواب القسم المتكرر في أول سورة (الذاريات) قوله تعالى:{إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} وهو يشبه الجواب هنا، ولا تنس الطباق بين {عُذْراً} و {نُذْراً} .

الإعراب: {وَالْمُرْسَلاتِ:} الواو: حرف قسم وجر. (المرسلات): مقسم به مجرور، أو المقسم به محذوف كما رأيت تقديره في الشرح، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: ورب الرياح المرسلات، ونائب فاعله مستتر يعود إلى الرياح، والجار، والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: أقسم، أو أحلف. {عُرْفاً:} حال من الضمير المستكن في (المرسلات)، والمعنى على التشبيه؛ أي: حال كونها عرفا؛ أي: شبيهة بعرف الفرس؛ من حيث تتابعها، وتلاحقها. وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: و {عُرْفاً} نقيض النكر، وانتصابه على العلة (مفعول لأجله) أي: أرسلن للإحسان، والمعروف. أو بمعنى المتتابعة من عرف الفرس، وانتصابه على الحال. وعلى تفسير المرسلات بالملائكة، فهو منصوب على نزع الخافض، التقدير: والمرسلات بالعرف. قاله أبو البقاء، ومكي. {فَالْعاصِفاتِ:} الفاء: حرف عطف.

(العاصفات): معطوف على (المرسلات). {عَصْفاً:} مفعول مطلق مؤكد لعامله، وهو (العاصفات). {وَالنّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً} هذه الكلمات معطوفة على ما قبلها، وهي مثلها بلا فارق. هذا؛ وقال القرطبي:(والناشرات) بالواو؛ لأنه استئناف قسم آخر. ولا وجه له؛ لأن الجواب الآتي لجميع المتعاطفات بالواو، أو بالفاء. {فَالْمُلْقِياتِ:} معطوف على ما قبله، وفاعل الجميع مستتر تقديره:«هي» . {ذِكْراً:} مفعول به لما قبله بلا شك.

ص: 376

{عُذْراً:} مفعول لأجله؛ إذ المعنى الملقيات ذكرا للإعذار، والإنذار. أو هما حال، التقدير:

يلقون الذكر في حال الإعذار، والإنذار؛ أي: معذرين، ومنذرين. وأجاز أبو البقاء اعتبارهما بدلا من {ذِكْراً} وهو قول للزمخشري ومن تبعه، كما أجاز أبو البقاء اعتبارهما مفعولين ل:{ذِكْراً} .

{إِنَّما:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم (إنّ). {تُوعَدُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، ونائب الفاعل الواو، وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني وهو العائد محذوف؛ إذ التقدير: إن الذي توعدونه. {لَواقِعٌ:} اللام: هي المزحلقة. (واقع): خبر (إنّ)، والجملة الاسمية جواب للقسم الأول، وما عطف عليه، وانظر ما ذكرته في أول النازعات بشأن الجواب للجميع، فإنه جيد. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مصدرية، فتؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب اسم (إنّ) التقدير: إن وعد الله لواقع.

{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}

الشرح: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ:} ذهب ضوءها ومحي نورها، أو محقت ذواتها، فهو كقوله تعالى في سورة (التكوير):{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ،} وفي سورة (الانفطار): {وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ} .

{وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ:} فتحت، وشقت، مثل قوله تعالى:{إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ،} و {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} وقوله تعالى في سورة (النبأ): {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً} . {وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ:} قلعت من أماكنها، وهو مثل قوله تعالى في سورة (طه) رقم [105]:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً} والنسف: الأخذ بسرعة، مثل الخطف، يقال: نسفت الشيء، وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة، ونحوه قوله تعالى في سورة (الواقعة):{وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا،} وقوله تعالى في سورة (المزمل) الآية [14]: {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً} ومثل ذلك في المعنى كثير.

{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي: جمعت لوقتها ليوم القيامة. وقال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت، الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، والوقت: الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، والمعنى الإجمالي: جمعت لميقات يوم معلوم، وهو يوم القيامة؛ ليشهدوا على الأمم، ونحوه قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [109]:{يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ..} .

إلخ. هذا؛ وقرئ: «(وقّتت)» والمعنى واحد، وإبدال الهمزة واوا كثير ومستعمل مثل:(وجوه وأجوه){لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أي: أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم، فهو استفهام على التعظيم، والمعنى: جمعت الرسل في ذلك اليوم، لتعذيب من كذبهم، وتعظيم من آمن بهم. ثم بين ذلك اليوم، فقال تعالى:{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يوم يفصل الرحمن فيه بين الخلائق بأعمالهم إلى الجنة، أو إلى النار.

ص: 377

{وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ:} هذا استفهام للتعظيم والتهويل؛ أي: وما أعلمك أيها الإنسان بيوم الفصل وشدته وهوله؟ فإن ذلك اليوم أعظم من أن يعرف أمره إنسان، أو يحيط به عقل، أو وجدان. قال الإمام فخر الرازي: عجب العباد من تعظيم ذلك اليوم، فقال: لأي يوم أجلت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل، وهي تعذيب من كذبهم، وتعظيم من آمن بهم، وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به، من الأهوال والعرض والحساب.

{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي: هلاك كبير، وخسار عظيم في ذلك اليوم لأولئك المكذبين بهذا اليوم الموعود. قال المفسرون: كرر هذه الجملة في هذه السورة عشر مرات لمزيد الترغيب والترهيب، وفي كل جملة وردت إخبار عن أشياء عن أحوال الآخرة، وتذكير بأحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها بالويل والدمار للكفرة الفجار، ولما ذكر الله جلت قدرته في سورة (الدهر) السابقة بعضا من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين هناك، جاء في هذه السورة بالإطناب في وصف الكفار، والإيجاز في وصف المؤمنين.

هذا؛ وفائدة التكرار لقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في هذه السورة أن يجدد الكفار والفجار عند سماع كل نبأ اتعاظا، وخوفا من عقاب الله لهم في الآخرة، إن هم أصروا على تكذيبهم، ومثله التكرير لقوله تعالى في سورة (القمر):{فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وأيضا التكرير لقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} في سورة (الرحمن).

هذا؛ و {وَيْلٌ} كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، وأصلها في اللغة: العذاب، والهلاك. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: الويل: شدة العذاب، يقال: ويله وويلك وويلي، وفي الندبة: ويلاه! وتقول: ويل لزيد، وويلا لعمرو، فالرفع على الابتداء، والنصب على إضمار الفعل، هذا إذا لم تضفه، وأما إذا أضفته؛ فليس إلا النصب؛ لأنك لو رفعته لم يكن له خبر بخلافه في قول الأعشى وهو البيت رقم [21] من معلقته:[البسيط]

قالت هريرة لمّا جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

وقال عطاء بن يسار-رحمه الله تعالى-: الويل واد في جهنم لو أرسالات فيه الجبال؛ لماعت من شدة حره. انتهى. مختار الصحاح. وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . أخرجه الترمذي. هذا؛ والويل مصدر لم يستعمل منه فعل؛ لأن فاءه، وعينه معتلتان، ومثله: ويح، وويس، وويب، وهو لا يثنى، ولا يجمع. وقيل يجمع على: ويلات بدليل قول امرئ القيس في معلقته رقم [18]: [الطويل]

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت: لك الويلات إنّك مرجلي

ص: 378

وإذا أضيفت هذه الأسماء؛ فالأحسن النصب على المفعولية المطلقة، وإذا لم تضف؛ فالواجب فيها الرفع على الابتداء، وهي نكرات، وساغ ذلك لتضمنها معنى خاصا. هذا؛ وويل: نقيض وأل، وهو النجاة. وقد ينادى الويل إذا أضيف لياء المتكلم، أو نا، وسبقته أداة النداء، مثل قوله تعالى في سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، حكاية عن قول سارة زوج إبراهيم على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} رقم [72]، وقوله تعالى في سورة (الكهف) حكاية عن قول الكافرين يوم القيامة:{يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} رقم [49]. ولا تنس أنه قد أنث (الويل) في الآيتين المذكورتين، وأيضا في الآية رقم [31] من سورة (المائدة)، ورقم [28] من سورة (الفرقان) والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَإِذَا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {النُّجُومُ:}

فاعل لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده عند البصريين ما عدا الأخفش منهم، وللكوفيين في هذه الآية وشبهها ثلاثة أقوال: الأول: وافقوا فيه البصريين. والثاني: هو فاعل مقدم للفعل بعده؛ إذ يجوز عندهم أن يتقدم الفاعل على الفعل كما يتأخر عنه. والقول الثالث لهم: هو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، انظر الكلام على الشاهد رقم [990] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» . ففيه بحث واف كاف، والجملة الفعلية على قول البصريين في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجواب (إذا) محذوف، التقدير: فإذا طمست النجوم؛ وقع ما توعدون، لدلالة قوله تعالى:{إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ} عليه. وقيل: هو قوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} على إضمار القول؛ أي: يقال: لأي يوم أجلت، فالفعل في الحقيقة هو الجواب. وقيل:

الجواب هو {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} نقله مكي، وهو غلط؛ لأنه لو كان جوابا؛ للزمته الفاء لكونه جملة اسمية. انتهى جمل نقلا عن السمين. {طُمِسَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى {النُّجُومُ،} والجملة الفعلية مفسرة لشرط (إذا) عند البصريين، وهي في محل رفع خبر المبتدأ عند الكوفيين، والجمل:{وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} كلها معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها؛ لأن الأولى مستأنفة.

{لِأَيِّ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، و (أي): مضاف، و {يَوْمٍ} مضاف إليه.

{أُجِّلَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى {الرُّسُلُ،} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: يقال: لأي يوم أجلت، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي جواب ل:(إذا) كما رأيت سابقا. {لِيَوْمِ:} جار ومجرور بدل من قوله: {لِأَيِّ} بإعادة العامل. وقيل: بل متعلقان بفعل محذوف، التقدير: أجلت ليوم، و (يوم) مضاف، و {الْفَصْلِ} مضاف إليه.

ص: 379

{وَما:} الواو: حرف استئناف. وقيل: حرف عطف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَدْراكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (ما) تقديره:«هو» ، والكاف مفعول به أول. {ما:} مبتدأ. {يَوْمُ:} خبره، و (يوم) مضاف، و {الْفَصْلِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعول {أَدْراكَ} الثاني المعلق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. وقال زاده: في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني والثالث ل: (أدرى) لأنه بمعنى: أعلم، والجملة الفعلية:{أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ} في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو (ما) على الوجهين، والجملة الاسمية، لا محل لها على الوجهين المعتبرين بالواو. {وَيْلٌ:} مبتدأ. {يَوْمَئِذٍ:} (يوم): ظرف زمان متعلق ب: {وَيْلٌ} لما فيه من معنى الهلاك، و (إذ) ظرف مبني على السكون في محل جر بالإضافة، والتنوين عوض من جملة محذوفة مضافة إذ إليها. {لِلْمُكَذِّبِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} مستأنفة على المعتمد لا محل لها.

{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)}

الشرح: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} أي: ألم نهلك السابقين من لدن آدم إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح

إلخ، بتكذيبهم؟! {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} أي: السالكين سبيلهم في الكفر، والتكذيب، وهم كفار قريش؛ أي: نهلكهم بتكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم، وصدهم الناس عن الدخول في دين الله. {كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي: نهلك جميع المجرمين في كل وقت وحين.

وهذا وعد من العلي القدير. هذا؛ وقيل: المراد ب: {الْآخِرِينَ} قوم لوط، وشعيب، وموسى.

ولا أراه قويا، وإنما أعتمد الأول. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} انظر التكرار في الآية السابقة. وقال البيضاوي: فليس تكرارا، وكذا إن أطلق التكذيب، أو علق في الموضعين بواحد؛ لأن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أن التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب. هذا؛ ولا تنس الطباق بين {الْأَوَّلِينَ} و {الْآخِرِينَ} .

الإعراب: {أَلَمْ} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{نُهْلِكِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْأَوَّلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الفعلية مستأنفة.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {نُتْبِعُهُمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» والهاء مفعول به أول. {الْآخِرِينَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة؛ لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد.

ص: 380

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار، والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نفعل بالمجرمين فعلا كائنا مثل فعلنا بالأولين، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {نَفْعَلُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» . {بِالْمُجْرِمِينَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)}

الشرح: هذا نوع آخر من تخويف الكفار، وهو من وجهين: الأول: أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكل من كانت نعمه تعالى عليه أكثر؛ كانت خيانته في حقه تعالى أقبح، وأفحش. الثاني: أنه تعالى ذكرهم: أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء؛ قادر على الإعادة. فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة؛ لا جرم قال تعالى في حقهم:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ،} ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة (السجدة): {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} . انتهى جمل نقلا من الخطيب.

والمعنى: ألم نخلقكم يا معشر الكفار من ماء مهين ضعيف حقير، هو مني الرجل؟! وفي الحديث القدسي، يقول الله عز وجل:«ابن آدم أنّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟!» . فقد روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: «يقول الله عز وجل:

ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سوّيتك، وعدّلتك مشيت بين برديك، وللأرض منك وئيد، فجمعت، ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي؛ قلت: أتصدّق، وأنّى أوان الصّدقة؟!». أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه.

{فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ} أي: فجعلنا الماء المهين في مكان حريز، وهو الرحم. سمي مكينا؛ لاستقرار النطفة فيه إلى وقت الولادة يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له كالهواء، ونحوه.

{إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ:} إلى مقدار معلوم من الوقت قدره الله تعالى للولادة، لا يعلم ذلك غيره.

{فَقَدَرْنا:} على ذلك، أو فقدّرناه من التقدير؛ أي: قدرنا ذلك تقديرا. {فَنِعْمَ الْقادِرُونَ:} نحن على ذلك حيث خلقناه في أحسن صورة وهيئة!.

هذا؛ و (نعم) فعل ماض جامد لإنشاء المدح، وضدها:«بئس» لإنشاء الذم. قال في المختار: نعم منقول من «نعم فلان» بفتح النون وكسر العين: إذا أصابته النعمة، و «بئس» منقول من «بئس فلان» بفتح الباء وكسر الهمزة: إذا أصابه بؤس، فنقلا إلى المدح، والذم، فشابها

ص: 381

الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم، وبئس بكسر فسكون، وهي أفصحن، وهي لغة القرآن، ثم: نعم، وبئس بكسر أولهما، وثانيهما، غير أن الغالب في نعم أن يجيء بعدها (ما) كقوله تعالى في سورة (النساء) رقم [58]:{إِنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ،} وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [271]: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ} . وبئس جاءت بعدها (ما) على اللغة الفصحى، كقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [90]:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} وقد تكرر هذا التركيب في القرآن كثيرا. واللغة الثالثة: نعم وبئس بفتح فسكون، والرابعة نعم وبئس بفتح فكسر، وهي الأصل فيهما.

ولا بد لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح، أو الذم، ويشترط في الفاعل أن يكون مقرونا ب:«أل» ، كما في قوله تعالى:{نِعْمَ الْعَبْدُ،} أو مضافا لمقترن بها، كما في قوله تعالى:

{فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» . وقال الكوفيون إلا الكسائي: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابي. وقد أخبر بأن امرأته ولدت بنتا له: «والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة» . وقول غيره: «نعم السّير على بئس العير» . وأوله البصريون على حذف كلام مقدر؛ إذ التقدير: والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد! ونعم السير على عير مقول فيه: بئس العير! والمعتمد في ذلك قول البصريين، ويلزم الكوفيين جر الولد، والعير بسبب الإضافة. والرواية بالرفع لا غير.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقدير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{نَخْلُقْكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ ماءٍ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مَهِينٍ:}

صفة {ماءٍ} . {فَجَعَلْناهُ:} الفاء: حرف عطف. (جعلناه): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فِي قَرارٍ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل المفعول الثاني له. {مَكِينٍ:} صفة (قرار). {إِلى قَدَرٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب؛ أي: مؤخرا إلى {قَدَرٍ} . {مَعْلُومٍ:} صفة {قَدَرٍ} . {فَقَدَرْنا:}

الفاء: حرف عطف. (قدرنا): فعل، وفاعل، ومفعوله محذوف. التقدير: قدرنا ذلك تقديرا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فَنِعْمَ:} الفاء: حرف عطف.

(نعم): فعل ماض لإنشاء المدح. {الْقادِرُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: الممدوحون: نحن، والكلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله.

ص: 382

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}

الشرح: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً} أي: ضامة، تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره، وسائر ما يزيله عنه. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«قصّوا أظافركم، وادفنوا قلاماتكم» . قال المفسرون: الكفت: الجمع، والضم، فالأرض تجمع، وتضم إليها جميع البشر، فهي كالأم لهم، الأحياء يسكنون فوق ظهرها في المنازل، والدور، والأموات يسكنون في بطنها في القبور. قال تعالى في سورة (طه) رقم [55]:

{مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} . وخذ قول الشاعر: [الوافر]

فأنت اليوم فوق الأرض حيّا

وأنت غدا تضمّك في كفات

هذا؛ وقد قال الزمخشري هناك: عدد الله على الخلق ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها لهم فراشا، ومهادا يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاؤوا، وأنبت لهم فيها أصناف النبات؛ التي منها أقواتهم، وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي تفرعوا منه، وأمهم التي ولدوا منها، ثم هي كفاتهم؛ إذا ماتوا، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«تمسّحوا بالأرض فإنّها بكم برّة» . انتهى. هذا؛ وخذ ما رواه ربيعة الجرشي-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقيموا ونعمّا إن استقمتم، وحافظوا على الوضوء فإن خير أعمالكم الصلاة، وتحفّظوا من الأرض؛ فإنها أمّكم، وإنه ليس أحد عامل عليها خيرا، أو شرّا إلاّ وهي مخبرة به» . رواه الطبراني.

هذا؛ وقد ورد بأن الأرض تضم كل إنسان يدفن فيها بعد موته؛ لأنها أمه، والأم من بني آدم تضم ولدها إذا كان غائبا، وحضر، ولكن ضمة الأرض للعبد المؤمن، والأمة المؤمنة ضمة عطف، ولطف، وشفقة، وحنان، وضمها للكافر، والفاجر، والفاسق، والأمة من ذلك ضمة غضب، وسخط، وقسوة، وإزعاج. اللهم وفقنا للعمل بكتابك، وللاهتداء بهدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم!

{وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ} أي: جعلنا في الأرض جبالا راسخات، عاليات مرتفعات لئلا تضطرب بكم، ومنه شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا. قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [31]:{وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} ومثلها في (النحل) رقم [15]، ومثلها في سورة (الرعد) رقم [3]. وقال تعالى في سورة (فصلت) رقم [10]:{وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها} انظر شرحها هناك فإنه جيد جدا جدا والحمد لله.

هذا؛ وقد قال الصابوني في كتابه: «صفوة التفاسير» : لقد كشف القرآن عن حكمة وجود الجبال فوق الأرض قبل أن يكتشفها العلم الحديث، فالجبال كالأوتاد للأرض تثبتها، وتقيها

ص: 383

الاضطراب والميدان، كما تقي أوتاد الخيمة الخيمة، وقد كشف الوحي عن هذا المعنى، فقال في سورة (النحل) رقم [15]:{وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ولولا هذه الجبال الشاهقة؛ لكانت الأرض بما في جوفها من الغازات، والأبخرة، والمواد المتراكمة المشتعلة دائمة الاضطراب، والخفقان، ولكانت كالريشة في مهب الهواء. فسبحان الحكيم العليم! على أن في خلق الجبال الشوامخ نعمة أخرى هي: نشوء السحب فوقها، وهطول الأمطار والثلوج عليها، فتتكون بسبب ذلك الأنهار، والعيون، وثم تكثر الأشجار، والزروع. فالجبال مخازن للثلوج، والأمطار، ومستودعات عامة لبركات السماء، ولهذا قرن تعالى بها نعمة الماء، فقال:

{وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً} فلله ما أبدع أسرار القرآن. انتهى.

هذا؛ و (الفرات) الماء العذب، يشرب منه، ويسقى الزرع. وفي القاموس: فرت الماء، ككرم فروتة عذب. قال تعالى في سورة (الفرقان) رقم [53]:{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} وقال يزيد بن الصعق-وهو الشاهد رقم [351] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الوافر]

فساغ لي الشّراب وكنت قبلا

أكاد أغصّ بالماء الفرات

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{نَجْعَلِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْأَرْضَ:} مفعول به أول. {كِفاتاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {أَحْياءً وَأَمْواتاً:} حالان عاملهما، وصاحبهما، مضمون الجملة السابقة، التقدير: تضمهم، وتجمعهم الأرض في هاتين الحالتين. وقيل: هما مفعولان ل: {كِفاتاً؛} لأنه مصدر: كفت، يكفت. وقيل: بل هو جمع:

كافت، كصيام، وقيام في جمع: صائم، وقائم. {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل المفعول الثاني، تقدم على الأول. {رَواسِيَ:} مفعول به، وهو صفة لموصول محذوف. {شامِخاتٍ:} صفة ثانية للموصوف المحذوف، وإن اعتبرته حالا منه بعد وصفه ب:{رَواسِيَ} فلست مفندا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَأَسْقَيْناكُمْ:} الواو: حرف عطف. (أسقيناكم): فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {ماءً:} مفعول به ثان. {فُراتاً:} صفة {ماءً،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} انظر إعراب هذه الجملة برقم [15].

{اِنْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) اِنْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}

الشرح: {اِنْطَلِقُوا إِلى..} . إلخ: أي: يقال للكفار: اذهبوا إلى ما كنتم به تكذبون من

ص: 384

العذاب؛ يعني: النار فقد شاهدتموها عيانا. {اِنْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ} أي: دخان، سماه الله ظلا تهكما، واستهزاء بالمكذبين. {ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} أي: الدخان الذي يرتفع من نار جهنم يتشعب إلى ثلاث شعب، وهذا شأن الدخان العظيم في الدنيا، إذا ارتفع تشعب. وقيل: يخرج لسان من النار، فيحيط بالكفار كالسرداق، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب. فتظلهم؛ حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش، ولا سيما المذكورون في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: الإمام العادل، وشابّ نشأ في عبادة ربّه عز وجل، ورجل قلبه معلّق في المساجد. ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» . أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة-رضي الله عنه.

{لا ظَلِيلٍ} أي: ليس هو كالظل الذي يقي حر الشمس. فهو تهكم بهم، وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. {وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} بمعنى: لا يدفع عنهم من لهب جهنم شيئا، واللهب: ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر، وأصفر، وأخضر. قيل: يتفرق الدخان المذكور ثلاث شعب: شعبة تقف فوق الكافر، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن يساره.

{إِنَّها:} الضمير يعود إلى جهنم؛ لأنها مفهوم من سياق الكلام. {تَرْمِي بِشَرَرٍ:} جمع شررة، مثل: رقبة، ورقاب، ورحبة، ورحاب. {كَالْقَصْرِ} أي: كل شررة من نار جهنم كالقصر العظيم من القصور في عظمها. وقيل: هو الغليظ من الشجر الواحدة: قصرة، مثل: جمرة، وجمر، وقرئ بفتحتين، وهي أعناق الإبل، أو أعناق النخل، مثل شجرة وشجر. {كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ} جمع: جمل، وتجمع «الجمالة» جمع الجمع على: جمالات. هذا؛ وقيل: القصر:

الجبل العظيم، فشبه الله الشرر بالقصر في مقاديره، ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر، وهي الإبل السود، والعرب تسمي السود من الإبل: صفرا. قال الأعشى: [الخفيف]

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب

أي: هن سود، وإنما سميت السود من الإبل صفرا؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: الأدم؛ لأن بياضها تعلوه كدرة، والشرر إذا تطاير، وسقط؛ وفيه بقية من لون النار أشبه الإبل السود؛ لما يشوبها من صفرة. وفي شعر عمران بن حطان الخارجي:[الطويل]

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم

بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى

هذا ففي قوله تعالى: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} تشبيه مرسل مجمل. وفي قوله جل ذكره:

{كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ} تشبيه مرسل مفصل. هذا؛ وقال أبو العلاء: [الكامل]

حمراء ساطعة الذّوائب في الدّجى

ترمي بكلّ شرارة كطراف

ص: 385

فشبهها بالطراف، وهو بيت الأدم في العظم، والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبجحه بما سول له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله:«حمراء» توطئة لها، ومناداة عليها، وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمي-جمع الله عليه عمى الدارين-عن قوله عز وجل:{كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ} فإنه بمنزلة قوله (كبيت أحمر) وعلى أن التشبيه بالقصر، وهو الحصن تشبيه من جهتين، من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء، وفي التشبيه بالجمالات، وهي القلوص بل القلص تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم، والطول، والصفرة، فأبعد الله إغرابه في أطرافه، وما نفخ شدقيه من استطرافه. انتهى. كشاف من بيت المعري إلى هنا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {اِنْطَلِقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{إِلى ما:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، والقائل لهم الملائكة، و {ما} موصولة مبنية على السكون في محل جر ب:{إِلى} . {كُنْتُمْ:}

فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وجملة:«تكذبون به» المقدرة في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{اِنْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ} تأكيد لسابقتها، أو هي بدل منها. {ذِي:} صفة {ظِلٍّ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذِي} مضاف، و {ثَلاثِ} مضاف إليه، و {ثَلاثِ} مضاف، و {شُعَبٍ} مضاف إليه. {لا:} نافية. {ظَلِيلٍ:} صفة ثانية ل: {ظِلٍّ} وتوسطت {لا} بين الصفة والموصوف، كما في قوله تعالى:{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} رقم [35] من سورة (النور)، وأيضا قوله تعالى في سورة (الواقعة):{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وقبله بآيات: {وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} . {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُغْنِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {ظِلٍّ}. {مِنَ اللَّهَبِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثالثة لظل، وهي صفة منفية أيضا، وجيء بالصفة الأولى اسما، وبالثانية فعلا دلالة على نفي ثبوت هذه الصفة، ونفي التجدد، والحدوث للإغناء عن اللهب. انتهى جمل نقلا عن السمين.

هذا؛ وأرى جواز اعتبار الجملة الفعلية في محل نصب حال من {ظِلٍّ؛} لأنه وصف بصفتين قبلها، والنكرة إذا وصافات تخصصت، فتأتي الحال منها بلا ضعف. قال ابن مالك -رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

ولم ينكّر غالبا ذو الحال إن

لم يتأخّر أو يخصّص أو يبن

{إِنَّها:} حرف مشبه بالفعل، و (ها): اسمها. {تَرْمِي:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى جهنم المفهومة من سياق الكلام، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)،

ص: 386

والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {بِشَرَرٍ:} متعلقان بما قبلهما. {كَالْقَصْرِ:} متعلقان بمحذوف صفة (شرر). هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى مثل، فهي الصفة، وتكون مضافة، و (القصر) مضاف إليه. {كَأَنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {جِمالَتٌ:} خبرها.

{صُفْرٌ:} صفة {جِمالَتٌ،} والجملة الاسمية في محل جر صفة ثانية ل: (شرر)، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدم على مثال ما تقدم. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} انظر إعرابها ومحلها في الآية رقم [15].

{هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)}

الشرح: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ:} يعني بحجة تنفعهم. قيل: هذا في بعض مواطن القيامة، ومواقفها، وذلك؛ لأن في بعضها يتكلمون، وفي بعضها يختصمون، وفي بعضها يختم على أفواههم، فلا ينطقون. وهذا مروي مثله عن ابن عباس-رضي الله عنهما. {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ:} انظر سورة (غافر) رقم [52].

والمعنى: لا يكون لهم إذن، واعتذار. قال الجنيد-رحمه الله تعالى-: أي: عذر لمن أعرض عن منعمه، وجحده، وكفر أياديه، ونعمه؟! فإن قلت: قد توهم أن لهم عذرا، ولكن قد منعوا من ذكره؛ قلت: ليس لهم عذر في الحقيقة؛ لأنه قد تقدم الإعذار، والإنذار في الدنيا، فلم يبق لهم عذر في الآخرة، ولكن ربما تخيلوا خيالا فاسدا: أن لهم عذرا، فلم يؤذن لهم في ذلك العذر الفاسد. انتهى. خازن.

وقال أيضا: عطف {فَيَعْتَذِرُونَ} على ما قبله، واختير ذلك؛ لأن رؤوس الآي بالنون، فلو قال: فيعتذروا لم يوافق الآيات. والعرب تستحب وفاق الفواصل، كما تستحب وفاق القوافي، والقرآن نزل على ما تستحب العرب من موافقة المقاطع، والمعنى لا يكون إذن، واعتذار. انتهى.

هذا؛ وقال الجلال: عطف على (يؤذن) من غير تسبب عنه، فهو داخل في حيز النفي؛ أي:

لا إذن، فلا اعتذار. قال الجمل: ما قاله جواب عما يقال: إن العطف بالفاء، أو بالواو على المنفي يقتضي نصب المعطوف؛ فلم رفع في الآية؟ وحاصل الجواب: أنه إنما ينصب إذا كان متسببا عن المنفي، نحو قوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [36]:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أما إذا لم يكن متسببا، كما هنا، وإنما قصد توجه النفي إلى كل من المعطوف، والمعطوف عليه، فإنه يرفع. انتهى. جمل. أقول: ومثل ذلك قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [63]: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} حيث رفع (تصبح) ولم ينصب بعد الفاء؛ لأن خضرة الأرض لا تتسبب عن الرؤية، وإنما تتسبب عن نزول المطر.

ص: 387

وفي السمين: وفي رفع {فَيَعْتَذِرُونَ} وجهان: أحدهما: أنه مستأنف؛ أي: فهم يعتذرون.

قال أبو البقاء: ويكون المعنى: أنهم لا ينطقون نطقا ينفعهم، أو ينطقون في بعض المواقف، ولا ينطقون في بعضها. والثاني: أنه معطوف على {يُؤْذَنُ} فيكون منفيا، ولو نصب لكان مسببا عنه. وقال ابن عطية: ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان.

انتهى جمل. والله أعلم بمراده، وأسراره كتابه.

الإعراب: {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَوْمُ:} خبر المبتدأ. ويقرأ بالنصب على أنه ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والكوفيون يعتبرونه مبنيا على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [119]:{قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ..} . إلخ. {لا:} نافية. {يَنْطِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُؤْذَنُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {فَيَعْتَذِرُونَ:} الفاء: حرف عطف. (يعتذرون): مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وانظر الشرح. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} انظر رقم [15].

{هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}

الشرح: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي: يقال لهم يوم القيامة: هذا هو يوم الفصل بين العباد، يفصل فيه بين المحق، والمبطل، وبين المحسن، والمسيء، فيثيب المحق المحسن، ويعاقب فيه المبطل المسيء. {جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يجمع الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، ويجمع الذين كذبوا النبيين قبله. والجملة الفعلية هذه فيها معنى التوكيد للجملة الاسمية قبلها؛ لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء، والأشقياء، وبين الأمم ورسلهم؛ فلا بد من جمع الأولين، والآخرين، حتى يقع الفصل بينهم. هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق الوقوع، وهذا أسلوب بلاغي مستعمل في القرآن الكريم كثيرا.

{فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ:} توبيخ، وتقريع للكافرين يوم القيامة على كيدهم لدين الله، وأتباعه، وتسجيل عليهم بالعجز، والذلة، والإهانة. وقيل: المعنى: إن قدرتم على حربي؛ فحاربوني! وقيل: المعنى: إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتنجوا من حكمي؛ فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك! كما قال تعالى في سورة (الرحمن):{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ}

ص: 388

وعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-أنه قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم، ويسمعهم الداعي، ويقول الله: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} اليوم لا ينجو منّي جبّار عنيد، ولا شيطان مريد). أخرجه ابن أبي حاتم، وانظر (جمع) في سورة (المعارج) رقم [18].

الإعراب: {هذا يَوْمُ:} مبتدأ، وخبر، و {يَوْمُ} مضاف، و {الْفَصْلِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر تقديره في الشرح. {جَمَعْناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من يوم الفصل، والرابط محذوف، التقدير: جمعناكم فيه، والعامل في الحال اسم الإشارة، مثل قوله تعالى:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً،} {وَهذا بَعْلِي شَيْخاً،} وقيل: مفسرة موضحة لقوله: {هذا يَوْمُ الْفَصْلِ} . {وَالْأَوَّلِينَ:}

معطوف على (الكاف)، أو هو مفعول معه، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} تقدم على اسمها. {كَيْدٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَكِيدُونِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (كيدون): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة، المدلول عليها بالكسرة مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف بالنسبة لما قبله، وهو في محل نصب مقول القول للقول المحذوف. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} انظر رقم [15].

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاِشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)}

الشرح: لما ذكر الله في سورة (الدهر) السابقة أحوال الكفار في الآخرة على سبيل الاختصار، وأطنب في ذكر أحوال المؤمنين الأبرار فيها؛ ذكر في هذه السورة أحوال الكفار على سبيل الإطناب، وأحوال المؤمنين على سبيل الإيجاز، فوقع التعادل بين السورتين. انتهى جمل نقلا من البحر.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي: الذين خافوا ربهم في الدنيا، واتقوا عذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. {فِي ظُلَلٍ} أي: تكاثف أشجار؛ إذ لا شمس يظل من حرها. {وَعُيُونٍ:} من ماء، وعسل، ولبن، وخمر، كما قال تعالى في سورة (محمد صلى الله عليه وسلم رقم [15]:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ}

ص: 389

الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى. هذا؛ وقال تعالى في سورة (يس) رقم [56]: {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ} . وقال تعالى في سورة (الذاريات) رقم [15]: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} .

{وَفَواكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ} أي: وفواكه كثيرة متنوعة مما يستلذون، ويستطيبون. قال تعالى في سورة (الواقعة):{وَفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ،} وقال تعالى فيها أيضا: {وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} . {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ويقال لهم على سبيل الأنس، والتكريم:

كلوا أكلا لذيذا، واشربوا شربا هنيئا بسبب ما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال. وهذه الآية مذكورة في سورة (الطور) برقم [19]. وقال تعالى في سورة (الحاقة) رقم [24]:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} انظر ما ذكرته في شرحها هناك تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، فالبحث قيم جدا؛ إن شاء الله تعالى.

{إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ:} هذه الآية مكررة كثيرا فقد ذكرت في سورة (الصافات) وحدها خمس مرات، وهي تذكر بعد ذكر الصالحين، وما عملوا من أعمال صالحة، والمعنى: نثيب المحسنين العمل ثوابا عظيما، ونجزيهم جزاء جزيلا، وما أكثر ما يذكر ضدها {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ،} {وَكَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ،} {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} والمعنى: نعاقب المسيئين العمل، والظالمين، والمفترين، والخبثاء عقابا شديدا، ونعذبهم عذابا أليما.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُتَّقِينَ:} اسم {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {فِي ظُلَلٍ:} متعلقان بمحذوف خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. {وَعُيُونٍ:} معطوف على {ظِلالٍ} . {وَفَواكِهَ:} معطوف أيضا مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (فواكه)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {يَشْتَهُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء يشتهونه. {كُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، يقع حالا من الضمير المستقر في {ظِلالٍ،} والقائل لهم الله، أو الملائكة، وجملة:{وَاشْرَبُوا} معطوفة عليها، ومفعول الفعلين محذوف للاختصار، والتعميم أيضا.

{هَنِيئاً:} حال من واو الجماعة، بمعنى: مهنئين، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: كلوا أكلا هنيئا، واشربوا شربا هنيئا. وفاعله مستتر محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: هنيئا لكم الأكل. وهنيئا لكم الشرب. وقيل: الفاعل (ما) المجرورة بالباء، وعليه يكون مثله قول كثير عزة:[الطويل]

ص: 390

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

فيكون مثل (ما) يرتفع بالفعل؛ أي: كما تقول: هنأكم ما كنتم تعملون، أو هنأكم الأكل، والشرب. فعلى الأول الباء زائدة في الفاعل، وعلى الثاني فالباء أصلية. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {هَنِيئاً،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة {تَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: هنيئا بالذي، أو بشيء كنتم تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: هنيئا بعملكم.

{إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار، والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير:

نجزي المحسنين جزاء كائنا مثل جزاء المتقين. واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{نَجْزِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:

«نحن» . {الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} انظر إعرابها الآية رقم [15].

{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)}

الشرح: {كُلُوا:} خطاب للكفار في الدنيا على وجه التهديد، كقوله تعالى لهم:{اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} الآية رقم [40] من سورة (فصلت). هذا؛ وإن كان في ظاهر اللفظ أمرا، إلا أنه في المعنى نهي بليغ، وزجر عظيم، واعتبره الزمخشري فيما يخاطبون به في الآخرة، وعلله بقوله:

يقال لهم ذلك في الآخرة إيذانا بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيرا بحالهم السمجة، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم، والملك الخالد.

وفي طريقته قول فاطمة بنت الأخرم الخزاعية تبكي إخوتها، وتندبهم-وهو الشاهد رقم [362] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» إعراب شواهد مغنى اللبيب-: [المديد]

إخوتي لا تبعدوا أبدا

وبلى والله قد بعدوا

كلّ ما حيّ وإن أمروا

واردو الحوض الّذي وردوا

وما قاله الزمخشري لم يوافقه أحد عليه. {وَتَمَتَّعُوا} أي: تمتعوا من دنياكم، واستمتعوا بلذائذها الفانية. كما هو شأن البهائم التي همها ملء بطونها، ونيل شهواتها زمانا قليلا إلى

ص: 391

منتهى آجالكم، وانقضاء أعماركم. {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ:} كافرون، فاسدون، مفسدون، لا تستحقون الإنعام، والتكريم.

قال بعض العلماء: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطرا من أن يؤثر فيهم حب الدنيا، وبغضها، وجمعها، وتركها. انتهى جمل نقلا من الخطيب.

وما أحسن قولهم: الكافر يتمتع، والمنافق يتزين، والمؤمن يتزود. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (لقمان) رقم [24]:{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ} .

هذا؛ والتمتع: التلذذ بالشيء، والانتفاع به، ومثله: الاستمتاع، والاسم: المتعة. فهنيئا لمن تمتع واستمتع بالحلال المباح! وويل، ثم ويل لمن تمتع، واستمتع بالحرام! هذا؛ والمتعة بكسر الميم وضمها: اسم للتمتيع، والزاد القليل، وما يتمتع به من الصيد، والطعام، ومتعة المرأة: ما وصلت به بعد الطلاق من نحو قميص، وإزار، وملحفة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [236]:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . والمراد من الآية، وأمثالها الأمر للكفار بأن يتمتعوا بدنياهم قليلا، أو بعبادتهم الأوثان، أو باتباعهم الأهواء، فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها، وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدّد عليه كالمطلوب؛ لإفضائه إلى المهدد به.

الإعراب: {كُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، وجملة:{وَتَمَتَّعُوا} معطوفة عليها. {قَلِيلاً:} صفة «زمان» محذوف؛ أي: زمانا قليلا، أو صفة «مصدر» محذوف، التقدير:

تمتيعا قليلا. {إِنَّكُمْ:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {مُجْرِمُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} انظر الآية رقم [15].

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ} أي: للكافرين المكذبين بيوم الحساب، والجزاء. {اِرْكَعُوا:}

صلوا. {لا يَرْكَعُونَ:} لا يصلون. قاله مجاهد. وقال مقاتل: نزلت في بني ثقيف، امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«أسلموا» . وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني

ص: 392

فإنها مسبة علينا. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين، ليس فيه ركوع ولا سجود» . يذكر: أن مالكا رحمه الله-دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر، فجلس، ولم يركع، فقال له صبي: يا شيخ! قم فاركع، فقام، فركع، ولم يحاجه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك. فقال: خشيت أن أكون من الذين {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} .

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود، فلا يستطيعون. انتهى أقول: انظر ما ذكرته في سورة (القلم) رقم [42] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. هذا؛ وقال ابن العربي: هذه الآية حجة على وجوب الركوع، وإنزاله ركنا في الصلاة، وقد انعقد الإجماع عليه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [43]:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ} وقال جل ذكره في سورة (آل عمران) رقم [43]: {يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ} وقال عز وجل في سورة (الحج) رقم [77]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} .

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ:} بعد القرآن. {يُؤْمِنُونَ:} إذا لم يؤمنوا به، وهو معجز في ذاته، مشتمل على الحجج الواضحة، والمعاني الشريفة. هذا؛ وقد جاء التعبير عن القرآن بالحديث في كثير من الآيات قال تعالى في سورة (الطور) رقم [34]:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ} وقال في سورة (الواقعة): {أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ،} وقال في سورة (القلم) الآية [43]: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ،} وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [184]: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} انظر ما ذكرته في آخر سورة (القيامة).

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [8]. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اِرْكَعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ} أفاده ابن هشام في مغنيه، وهذا يكون جاريا على القاعدة العامة:«يحذف الفاعل ويقام المفعول به مقامه» . وهذا لا غبار عليه، وقد ذكرت لك مرارا أن بعضهم يعتبر نائب الفاعل ضميرا مستترا تقديره:«هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام؛ أي:

وقيل قول، وبعضهم يعتبر الجار، والمجرور (لهم) المذكور، أو المقدر في كثير من الآيات هو نائب الفاعل. والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في المغني، حيث قال: إن الجملة التي يراد بها لفظها، يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع مبتدأ، نحو:(لا حول ولا قوة إلا بالله: كنز من كنوز الجنة) ونحو: (زعموا: مطية الكذب) وجملة: {قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} في محل جر بإضافة (إذا) إليها، على المرجوح المشهور. {لا:} نافية. {يَرْكَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ:} انظر الآية رقم [15].

ص: 393

{فَبِأَيِّ:} الفاء: هي الفصيحة. (بأي): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (أي):

مضاف، و {حَدِيثٍ} مضاف إليه. {بَعْدَهُ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف صفة {حَدِيثٍ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وحاصلا؛ فبأي: حديث بعد القرآن يؤمنون؛ إذا لم يؤمنوا به؟! ولم يتقدم للقرآن ذكر؛ لأنه مفهوم من المقام. والكلام كله مستأنف، لا محل له. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

انتهت سورة (المرسلات) شرحا، وإعرابا بعون الله وتوفيقه.

والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 394