الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث والأربعون باب التّوكيد
(1)
[أقسامه، وذكر أحكام التوكيد بالنفس والعين]
قال ابن مالك: (وهو معنويّ ولفظيّ. فالمعنويّ التّابع الرّافع توهّم إضافة إلى المتبوع، أو أن يراد به الخصوص ومجيئه في الغرض الأوّل بلفظ النّفس والعين مفردين مع المفرد، مجموعين مع غيره جمع قلّة، مضافين إلى ضمير المؤكّد مطابقا له في إفراده وغيره.
ولا يؤكّد بهما غالبا ضمير رفع متّصل إلّا بعد توكيده بمنفصل، وينفردان بجواز جرّهما بباء زائدة، ولا يؤكد مثنّى بغيرهما إلّا بكلا وكلتا وقد يؤكّدان ما لا يصحّ في موضعه واحد، خلافا للأخفش) (2).
قال ناظر الجيش: يقال أكد تأكيدا، ووكد توكيدا لغتان، والتابع مؤكد وإطلاق التوكيد عليه من باب إطلاق المصدر مرادا به الفاعل ولا أعلم السبب (3) في تقديم المصنف له في الذكر على النعت وكأنه اقتدى بصاحب الإيضاح فإنه
قدم ذكر التوكيد على بقية التوابع (4). واعتل ابن أبي الربيع لذلك بأن قال: التوكيد أولى (بالتبعية) من الصفة لأن مدلول المؤكد والمؤكد واحد. وأما الصفة فيستفاد منها زائد على ما يستفاد من الأول فلذلك قدم أبو علي التوكيد ثم أتى بالنعت بعده لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد؛ لأنه المنعوت في المعنى ثم أتى بعطف البيان لأن الأصل فيه أن يكون بدلا وإنما أجري مجرى النعت وليس به - وأما البدل فهو على تقدير تكرير العامل فالتبعية فيه ليست ببينة فوجب أن يذكر بعد النعت (وما -
(1) ينظر في هذا الباب الأشموني (3/ 73: 84) والأصول (2/ 17 - 21) وأوضح المسالك (3/ 327، 345)، والتذييل (4 / ق 103، ق 114)، والتصريح (2/ 70، 130)، والرضي (1/ 328 - 337) وشرح الجمل (1/ 262 - 279)، وشرح اللمع (206 - 209)، وشرح المفصل (3/ 39 - 46) والكتاب (1/ 158، 247، 251، 277، 279، 377، 399)(2/ 11، 12، 60، 125، 146، 184، 194، 351، 359، 360، 378، 379، 381، 385 - 387، 391)، (3/ 172، 202، 203، 385، 502)، والكفاية (96 - 100) والمقرب (1/ 238 - 241) والهمع (2/ 122 - 125).
(2)
ينظر الارتشاف (2/ 608).
(3)
استحسنه الأشموني (3/ 59).
(4)
الإيضاح (ص 50).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
جرى) (1) مجراه وهو عطف البيان، وأما العطف بحرف فالثاني فيه غير الأول وإن كان مثله في الإعراب والبدل ليس كذلك بل هو الأول في المعنى أو منزل منزلته فلذلك كان العطف بالحرف مؤخرا عنه (2) انتهى. وهكذا فعل المصنف في هذا الكتاب فأتى بالتوابع الخمسة على هذا الترتيب بخلاف ما فعل في الألفية (3) وغيرها من كتبه (4). ثم التوكيد قسمان معنوي ولفظي وأخر المصنف الكلام عليه وأما المعنوي فقال المصنف: هو المعتد به في التوابع وهو على ضربين: أحدهما:
الذي يقصد به رفع توهم السامع أن المتكلم قصد إسناد الحكم إلى مضاف إلى المذكور ثم حدقه وأقام الثاني مقامه نحو قتل العدو زيد نفسه فبذكر النفس يعلم أن زيدا باشر القتل وحده ولولا ذلك لأمكن اعتقاد كونه أمرا لا مباشرا. الثاني: أن يقصد به رفع توهم السامع أن المتكلم وضع العام موضع الخاص نحو قولك: جاء بنو فلان كلهم فبذكر كل علم السامع أن المتكلم لما قال: بنو فلان لم يرد أن يخص بالمجيء بعضا دون بعض ولولا التوكيد لأمكن اعتقاد ذلك فإن العرب قد تضع العام موضع الخاص مجازا. وقد شمل الحد المذكور الضربين.
وجعل ابن عصفور التوكيد المعنوي قسمين: قسما يراد به إزالة الشك عن المحدث عنه وعنى به هذين الضربين.
وقسما يراد به إزالة الشك عن الحديث وعنى به التأكيد بالمصدر نحو مات زيد موتا وقتل عمرو قتلا فالتأكيد فيهما أفاد وقوع الفعل حقيقة ونفي قصد التجوز (5). وهو كلام صحيح غير أن المصنف لا يلزمه بل لا يجوز له أن يذكر ذلك هنا كما فعل ابن عصفور، لأن الكلام في هذا الباب إنما -
(1) من م والأصل: وما جراه - تحريف.
(2)
التذييل (4/ 103، 104).
(3)
قال في الألفية:
يتبع في الإعراب الأسماء الأول
…
نعت وتوكيد وعطف وبدل
وانظر الأشموني (3/ 56) وما بعدها.
(4)
قال في الكافية الشافية (2/ 1146):
التابع التالي بلا تقيد
…
في حاصل الإعراب والمجدد
وهو لدى التقسيم بلغت الأمل
…
نعت وتوكيد وعطف وبدل
(5)
شرح الجمل (1/ 263) تحقيق أبو جناح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هو في المؤكد الذي يكون تابعا لا في المؤكد على الإطلاق. ولا شك أن ابن عصفور لم يقصد إلا الإشارة إلى المؤكد من حيث هو مؤكد من حيث هو تابع.
فإن قيل: جعله إياه من قبيل التوكيد المعنوي يقتضي إدخاله في هذا الباب لأن المعنوي قسيم اللفظي ولا شك أن الباب مشتمل عليهما فالجواب: أنه لا يلزم من إطلاق المعنوي عليه ما ذكره لأنه إنما سمي توكيدا لتقوية مدلول ما أكده وبيان إرادة الحقيقة منه فهو توكيد من حيث المعنى لا من حيث الصناعة. فإن قيل: هل يجوز في المصدر المؤكد أن يكون من قبيل التوكيد اللفظي. فالجواب: أنه يجوز أن يقال فيه إنه من قبيل اللفظي لأن الإتيان بالمصدر بعد الفعل كتكرير الفعل فهو مرادف. وهم قد جعلوا التوكيد بالمرادف من اللفظي نحو أنت بالخير حقيق قمن، لكن قد يفرق بينهما بأن مثل التابع المرادف لحقيق وهو قمن اسم فهو والمتبوع نوع واحد بخلاف المصدر مع الفعل. ومما يعكر على جعل المصدر من باب التوكيد اللفظي أنه غير تابع وما قبله غير صالح لأن يكون متبوعا له والتوكيد المعنوي واللفظي داخلان في مسمى التابع فكيف يجعل توكيدا مع عدم التبعية، وقد يجاب عنه بأن الحرف يؤكد بالحرف والجملة بالجملة ولا تبعية فيها. والحق: أن لا تبعية في جميع أنواع التوكيد اللفظي، وقد تقدمت
الإشارة إلى ذلك والاعتضاد فيه بقول المصنف: إن التوكيد المعنوي هو المعتد به في التوابع.
إذا تقرر هذا فليعلم أن مجيء التوكيد في الغرض الأول وهو رفع توهم الإضافة إلى المتبوع بلفظ النفس والعين خاصة، أما بكل منهما على الانفراد أو بهما معا مفردين مع المفرد مجموعين جمع قلة لا جمع كثرة مع المثنى، والمجموع مضافين مطلقا لفظا إلى ضمير مطابق للمؤكد في إفراد وتذكير وغير ذلك نحو: نفسه عينه، نفسها عينها، أنفسهما أعينهما، أنفسهم أعينهم، أنفسهن أعينهن، ولا يجوز نفوسهم وعيونهم بجمع الكثرة.
وقد استظهر الشيخ على المصنف، فقال: ينبغي أن يقيد جمع القلة بكونه على «أفعل» فإن عينا جمعت على أعيان أيضا، ولا يجوز أن يقال قام الزيدان أعيانهما ولا قام الزيدون أعيانهم (1). والجواب: أن المصنف قد قال [4/ 105] في ألفيته: -
(1) التذييل (7/ 291).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأجمعهما بأفعل (1)
…
وكلام الرجل الواحد إذا كان مطلقا في موضع ومقيدا في آخر حمل المطلق على المقيد، ثم إن جمع عين على أعيان في غاية من الندور فلم يحتج إلى الاحتراز عنه.
وذكر الإمام بدر الدين في شرح الألفية: أنه يجوز أن يقال في تأكيد المثنى: قام الزيدان نفساهما عيناهما وأجرى ذلك على القاعدة المعروفة في إضافة الجزئين إلى ما يتضمنهما (2).
وعلى ما قاله يجوز: الزيدان نفسهما بالإفراد أيضا فتجيء ثلاثة الأوجه هنا وهي الجمع والتثنية والإفراد ثم أن الشيخ ذكر ذلك عنه ونسبه فيه إلى الوهم، وقال: لم يذهب إلى ذلك أحد من النحويين (3). ولم يذكر الشيخ لذلك علة.
وقد يقال: إن العلة في منع التثنية والإفراد أن المراد بلفظ النفس والعين في باب التوكيد الشخص نفسه لا جزء منه. فإذا قيل: جاء الزيدان وأريد التوكيد بالنفس والعين قيل أنفسهما أعينهما بالجمع لأن الإفراد غير جائز؛ إذ الاثنان لا يكونان واحدا وامتنعت التثنية لاتحاد المضاف والمضاف إليه. وإنما جازت الإضافة بتأويل، وهم قد كرهوا الإتيان بالتثنية في مثل: قلبا كما مع أن المتضايفين غير متحدين في المعنى فلم يبق بعد الكراهية في المتحدين إلا الامتناع في المتحدين. واعلم أن النفس والعين أختصا في التوكيد عن بقية الألفاظ بحكمين أحدهما: أنه لا يؤكد بهما ضمير رفع متصل إلا بعد توكيده بمنفصل نحو: قمتم أنتم أنفسكم، وقمنا نحن أنفسنا، وقاموا هم أنفسهم، وزيد قام هو نفسه. وقد علل (ذلك) بأن النفس والعين إذا لم يرد بهما التأكيد يليان العوامل فلو لم
يؤكد قبلهما بضمير الرفع المنفصل لأدى ذلك إلى اللبس في بعض المواضع كما إذا قيل: هذه ذهبت نفسها فإنه يحتمل التأكيد والفاعلية فإذا أكد بالضمير قبل ذكر النفس والعين ارتفع اللبس المذكور ثم حمل ما لا لبس فيه على غيره. قال المصنف: وقاموا أنفسهم جائز على -
(1)
واجمعهما بأفعل إن تبعا
…
ما ليس واحدا تكن متّبعا
وانظر الأشموني (3/ 73) وما بعدها.
(2)
شرح الألفية لبدر الدين بن مالك (501) تحقيق د/ عبد الحميد السيد.
(3)
التذييل (7/ 291).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ضعف. ذكر ذلك الأخفش في «المسائل» (1) وعنه احترز بقوله: غالبا.
الحكم الثاني: جواز جرهما بباء زائدة نحو جاء زيد بنفسه ورأيت عمرا بعينه، ولا يجوز ذلك في غيرها من ألفاظ التوكيد؛ فأما قول العرب: جاءوا بأجمعهم بضم الميم وفتحها ففيه معنى التوكيد وليس من ألفاظه إذ لو كان منها لجاز استعماله بلا باء بل كان ترك الباء أكثر كما كان في النفس والعين. وأجمعهم هذا كذا مضافا غير مستعمل توكيدا.
وأما قول المصنف: ولا يؤكد مثنى بغيرهما إلا بكلا وكلتا إلى آخره ..... فاعلم أن كلا وكلتا إنما يؤكد بهما في الغرض الثاني فكان الواجب أن يؤخر الكلام عليهما إلى أن يذكر الألفاظ التي يؤكد بها في ذلك [الغرض]، لكنه لما ذكر أن النفس والعين يؤكدان المثنى في الغرض الأول ولم يكن المثنى في الغرض الثاني يؤكد بغير كلا وكلتا ذكرهما ليكون مستوفيا الألفاظ المستعملة توكيدا له ولما ذكرهما لهذا القصد استطرد فذكر حكما متعلقا بهما وهو أنهما قد يؤكدان ما لا يصح في موضعه واحد. أما كون المثنى لا يؤكد في الغرض الثاني إلا بكلا في التذكير وكلتا في التأنيث فهو مذهب البصريين، والعمدة فيه استعمال العرب. وحاصل الأمر الاستغناء بهما في ذلك عن غيرهما كما حصل الاستغناء في غير هذا الباب بلفظ عن آخر يؤدي معناه. وأما كونهما يجوز أن يؤكد بهما ما لا يصح في موضعه واحد فقد رآه المصنف وذكر أن الأخفش لا يجيزه. وذكر ابن عصفور أن ذلك ممتنع وأن الأخفش يجيزه (2) فاختلف النقل عنه.
وذكر الشيخ أن الفراء وهشاما وأبا علي ذهبوا إلى المنع (3) وأن الجمهور ذهبوا إلى الجواز وذلك نحو قولك:
اختصم الرجلان كلاهما، احتج المانع بعدم الفائدة إذ لا يجوز أن يراد بالرجلين أحدهما فيدفع هذا الاحتمال بتوكيد. قال ابن عصفور:
وحجة الأخفش في إجازة ذلك أنه يجعله بمنزلة التأكيد بعد التأكيد وذلك فاسد، -
(1) ينظر الارتشاف (2/ 608) والتذييل (7/ 291).
(2)
شرح الجمل (1/ 270).
(3)
التذييل (7/ 291)، وينظر الارتشاف (2/ 609).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأنك إذا قلت: قام الزيدون كلهم، جاز أيضا أن تعني بذلك البعض وأكدت بكل مبالغة فإذا قلت: أجمعون زال ذلك الاحتمال وكذا ما بقي من ألفاظ التوكيد يتطرق إليه الاحتمال تطرقا ضعيفا، فإذا استوفيت ألفاظ التوكيد حينئذ زال ذلك الاحتمال وعلم أن المقصود العموم، وإذا قلت: اختصم الزيدان لم يتصور احتمال أصلا أن المراد أحدهما (1). ومثل المصنف هذه المسألة بجلست بين الرجلين كليهما وضربت أحد الرجلين كليهما، حيث قال: ولا يمتنع عندي ضربت أحد الرجلين كليهما لأن فيه فائدة وذلك أن موضع الرجلين صالح للعموم فيمكن توهم السامع أن المتكلم قصد الجمع فغلط فوضع المثنى موضعه فبذكر كليهما يزول ذلك التوهم فلم يخل من فائدة، وأيضا فإن موضع الرجلين صالح للفرسين والبعيرين وغير ذلك فلا يمتنع توهم السامع قصد المتكلم شيئا من ذلك ما لم يأت بكليهما أو نعت يقوم مقامه، فإذا جاء بكليهما علم اعتناؤه بما ذكر قبله وأنه قاصد اعلام السامع بصحة العبارة ونفي الغلط. انتهى. وفي ما قاله أمران:
الأول: أن الاحتجاج الذي ذكره لا يتجه، فإن التأكيد بكلا وكلتا وأخواتهما إنما يؤتي به لرفع توهم إرادة بعض ما وضع له اللفظ كما عرف لا لرفع توهم إرادة العموم، وأما إذا قصد رفع توهم الغلط فإنما يؤتى بالتأكيد اللفظي أو بشيء آخر يفيد ذلك إذ التأكيد المعنوي لا يرفع [4/ 106] به التوهم الذي أشار إليه. الأمر الثاني:
أن ابن عصفور ذكر أنه لا يجوز توكيد ما ليس بمقصود للمخبر من الكلام، نحو:
ضربت عبد الزيدين كليهما لأنك لم تقصد الإخبار عن الزيدين، قال: فلو أكدتهما لكنت كالمناقض لأنك من حيث أكدتهما ينبغي أن تكون قاصدا نحوهما ومن حيث لم تنو الإخبار عنهما لم يكونا مقصودين (2) انتهى.
والمسألة محل نظر. وفي شرح الشيخ: أن مثل ذلك لم يسمع ولا يحفظ عن عربي قط شيء منه (3).
(1) شرح الجمل (1/ 270، 271).
(2)
شرح الجمل (1/ 274).
(3)
التذييل (7/ 293).