الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[إتباع النعت منعوته وغيره]
قال ابن مالك: (ويوافق المتبوع في التّعريف والتّنكير، وأمره في الإفراد وضدّيه والتّذكير والتّأنيث على ما ذكر في إعمال الصّفة، وكونه مفوقا في الاختصاص أو مساويا أكثر من كونه فائقا، وربما تبع في الجرّ غير ما هو له دون رابط إن أمن اللّبس وقد يفعل ذلك بالتّوكيد).
قال ناظر الجيش: يشتمل هذا الكلام على ثلاث مسائل:
الأولى:
أن النعت بعد موافقته في الإعراب لمتبوعه لا بد من موافقته له في التعريف والتنكير، وأما الموافقة في الإفراد وضديه وفي التذكير والتأنيث فلا بد منها أيضا أن كان النعت رافعا لضمير المنعوت سواء كان معناه له أم لما هو من سببه ولهذا يقول المعربون النعت يتبع المنعوت في أربعة من عشرة وهي واحد من وجوه الإعراب الثلاثة وواحد من التعريف والتنكير وواحد من الافراد والتثنية والجمع وواحد من التذكير والتأنيث. وإن كان يرفع النعت ضمير المنعوت بأن كان للسببي ورفع ذلك السببي جرى النعت في الأمور الخمسة التي هي الإفراد وضداه والتذكير والتأنيث - مجرى الفعل المسند إلى ذلك السببي وأما التبعية للمنعوت في اثنين من الخمسة الأول التي هي الرفع والنصب والجر والتعريف والتنكير فلا بد منها كما نفهمه من قول المصنف: ويوافق المتبوع في التعريف والتنكير بعد قوله: وهو التابع، وقد تقدم أن التابع هو الذي يشارك ما قبله في إعرابه فعرف من كلامه صريحا أن النعت لا بد من موافقته للمنعوت في اثنين من هذه الخمسة وأما الاثنان من الخمسة الأخر فقد حال الأمر في ذلك على ما ذكره في باب الصفة المشبهة، وأنت قد عرفت ذلك فيما تقدم (1).
وبعد: فأنا أورد كلامه هنا ليدل على مقاصده. قال رحمه الله تعالى (2): -
(1) انظر ذلك الباب عند قوله «وهي إما صالحة للمذكر والمؤنث معنى ولفظا، أو معنى لا لفظا، أو لفظا لا معنى، أو خاصة بأحدهما معنى ولفظا فالأول يجري على مثلها وضدها، والبواقي تجري على مثلها لا ضدها خلافا للكسائي والأخفش.
(2)
انظر شرح التسهيل لابن مالك (3/ 307).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
متبوع النعت يعم ذا النعت الجاري عليه لفظا ومعنى كرأيت رجلا طويلا (ذا ثوب قصير، وذا النعت الجاري عليه لفظا ومعناه لما بعده كرأيت رجلا طويلا) ثوبه قصيرة قامته، فلذلك قلت: وافق المتبوع لأن المنعوت إنما يصدق حقيقة على متبع ما هو لفظا ومعنى لا على المتبع لفظا لا معنى وكلا النوعين مراد.
وأشرت بقولي: وأمره في الإفراد وضدّيه وفي التّذكير والتّأنيث على ما ذكر في إعمال الصّفة إلى أن موافقة النعت لمتبوعه تجب إن كان معناه لما قبله كرأيت رجلا طويلا وامرأة طويلة وكذا إن كان معناه لما بعده ولم يرفعه كمررت برجل كريم الأب حسن وجها وبامرأة كريمة الأب حسنة وجها وكذلك التوافق في التثنية والجميع.
فإن رفع ما بعده أفرد وأعطي من التذكير والتأنيث ما يعطي الواقع موقعه نحو مررت برجل كريم أبوه حسنة أمه جميل ولداه ظريف غلمانه. وتكسير ما رفع جمعا أولى من إفراده نحو: مررت برجل حسان أبناؤه. وبسط الكلام في هذا سبق في باب إعمال الصفة المشبهة. والذي ذكرت هنا بعض ذلك استيفاؤه تكرار فأضربت عنه. انتهى.
واعلم أن ابن عصفور أورد هذه المسألة بكلام تضمن تقسيما فيه توعير وتشويش على الأذهان (1) وتبعه الشيخ (فأورد ذلك في كتابه)(2). والمصنف استغنى عن ذلك التقسيم، لأن الصور التي قصد ابن عصفور إخراجها أو إدخالها قد عرفت في أبوابها فكان المصنف في غنية عن التعرض إلى ذكرها والمتأمل إذا وقف على كل من الكلامين عرف ما بينهما.
ثم إن الشيخ قال إن الموافقة في التعريف والتنكير إنما تلزم إذا [4/ 114] كانت الصفة تابعة للموصوف في الإعراب فإن قطعت لم يلزم ذلك قال ذو الرمة: -
(1) قال في شرح الجمل له (1/ 196) وما بعدها «واعلم أن النعت لا يخلو من أن يرفع ضمير المنعوت أو ظاهرا من سببه، فإن رفع فلا يخلو من أن يكون مشتقّا أو في حكم المشتق
…
فإن كان مشتقّا فلا يخلو أن يكون جاريا على فعله أو غير جار، فإن كان جاريا فإنه يتبع النعت في أربعة من عشرة وإن كان غير جار فإنه يتبع في ثلاثة من ثمانية» انتهى بتصرف وتلخيص.
(2)
التذييل (6/ 142، 143، 144).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3126 -
لقد حملت قيس بن عيلان حربها
…
على مستقلّ للنّوائب والحرب
3127 -
أخاها إذا كانت عضاضا سمالها
…
على كلّ حال من ذلول ومن صعب (1)
قال: فمستقل نكرة وصفته المقطوعة عنه وهي أخاها معرفة (2). هذا كلام الشيخ. وكأنه يستدرك على المصنف قوله ويوافق المتبوع في التعريف والتنكير وهذا غير مرضي منه رحمه الله تعالى فإن كان كلام المصنف الآن إنما هو في النعت التابع لا في النعت المقطوع لأن الضمير الذي هو فاعل يوافق راجع إلى التابع من قوله في الحد: وهو التابع .. فكيف يدخل النعت المقطوع في كلامه ليستدرك به عليه.
وفي شرح الشيخ أن بعض الكوفيين ذهبوا إلى جواز مخالفة النعت للمنعوت في تنكيره إذا كان لمدح أو ذم وأن الأخفش أجاز وصف النكرة بالمعرفة إذا كانت قد خصصت قبل ذلك بالوصف وأن بعض النحويين أجاز وصف المعرفة بالنكرة (3).
وأقول: إن مثل هذه الأقول الواهية لا ينبغي التشاغل بها ولا التطويل بذكرها وكيف تشاغل بما لا يقوم عليه دليل مع كونه مخالفا لأقوال الجماهير. أما لزوم موافقة النعت للمنعوت في التعريف والتنكير فقد ذكروا له عللا وأطالوا في ذلك.
والحق أن التابع لما قبله إن كان هو الأول في المعنى وجبت الموافقة بينهما وعدم التخالف كما هو في التوكيد وعطف البيان لأن التخالف ينافي الاتحاد وإنما جاز التخالف في البدل لأنه على نية تكرار العامل فكأنه منفصل عن الأول ولأن المبدل منه منوي به الطرح فصار البدل كأنه هو المقصود بالذكر.
المسألة الثانية:
أن النعت هل يجوز أن يكون أخص من المنعوت. أجاز المصنف ذلك لكنه جعل كونه مفوقا أو مساويا أكثر من كونه فائقا. قال في الشرح (4):
الأكثر أن يكون النعت دون المنعوت في الاختصاص أو مساويا له. فالأول: نحو -
(1) من الطويل ملحقات ديوانه: (662) والكتاب (1/ 250).
(2)
التذييل (7/ 329).
(3)
التذييل (7/ 331).
(4)
شرح التسهيل (3/ 307).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رأيت زيدا الفاضل، والثاني: نحو رأيت الرجل الصالح ولا يمتنع كونه أخص من المنعوت كرجل فصيح ولحان ومهذار وضحاك وأفاك، وغلام يافع ومراهق، وجارية عروب وشموع وخود وضناك، وماء فرات وأجاج، وتمر برني (1) وشهرير، وعنب ملاحي، ورمان أمليسي وملح داراني، وكلب ربيبي، وأمثال ذلك كثيرة. قال أبو علي الشلوبين: الفراء ينعت الأعم بالأخص (2) وهو الصحيح وحكى عنه مررت بالرجل أحيك على النعت. انتهى.
ولا يظهر كون النعت في الأمثلة التي ذكرها أخص من المنعوت؛ لأن شياع فصيح ولحان في الصفات كشياع ورجل وغلام في الأسماء والكلمة الشائعة في جنس نكرة بلا شك فكما أن رجلا نكرة هكذا فصيح نكرة وإذا كان كذلك فكيف تثبت الأخصية لنكرة دون نكرة. فإن قيل رجل فصيح أخص من رجل وإنما صار أخص بانضمام فصيح إليه فمن ثم نسبت الأخصية إلى النعت في المثال المذكور وشبهه. فالجواب أن الأخصية إنما هي للرجل للفصيح لا للفصيح فإذا لا فرق بين نعت ونعت بل كل نعت لنكرة هو أخص منها ولازم هذا أن يكون النعت فائقا أبدا. لكن قد قال هو - أعني المصنف - أن الأكثر كون النعت مفوقا أو مساويا فكيف يجمع بين أمرين متضادين ثم إن المصنف لم يمثل هذا الحكم الذي أشار إليه إلا بالنكرة. لكن قوله بعد ذلك أن الشلوبين قال عن الفراء إنه ينعت الأعم بالأخص وأنه الصحيح أنه حكى عنه مررت بالرجل أخيل على النعت وتقريره لما ذكره الشلوبين عن الفراء - دليل على أن حكم المعرفة عنده حكم النكرة في جواز أن يكون نعتها أخص منها كما كان ذلك في النكرة. ولا شك أن الذي عليه الجماعة خلاف ذلك فإنهم صرحوا بأن النعت لا يكون إلا مساويا للمنعوت في التعريف أو أقل منه تعريفا (3) وهذا هو الحق، والاستقراء يدل عليه. وأما مررت بالرجل أخيك فالتابع فيه بدل لا نعت وكيف ينعت بما هو غير مشتق. وكان -
(1) أحد أنواعه أصغر مدور وهو أجوده، واحدته برنية، قال أبو حنيفة: أصله فارسي. اللسان: برن.
(2)
الأشموني (3/ 81)، والتذييل (7/ 335).
(3)
ينظر الأشموني (3/ 61)، والهمع (2/ 116).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الشيخ يفرق بين المعرفة والنكرة في ذلك فإنه بعد أن ذكر كلام المصنف الذي قدّمناه قال: وهذا الذي ذكره من أن النعت لا يمتنع أن يكون أخص من المنعوت غير مسلم له على الإطلاق. أما في النكرات فصحيح وأما في المعارف فنصوص أئمتنا على أن النعت يكون في درجة المنعوت تعريفا أو دونه في التعريف أما أن يكون أعرف من المنعوت فلا. هذا مذهب البصريين. قيل: وسبب ذلك أن الاختصار مؤثر على التطويل وإذا كان كل واحد منهما
موصلا إلى الغرض المقصود وجب لذلك أن يبدأ بالأخص ليقع الاكتفاء به فإن منع من الاكتفاء به عروض اشتراك أتى من النعوت بما يرفع به ذلك الاشتراك ولم نجد من الأسماء ما يرفع به ذلك الاشتراك إلا المساوي أو الأعم (1) انتهى.
وكان من الموجب للشيخ أن يفرق بين النكرة والمعرفة أن الجماعة - أعني المغاربة - تعرضوا لذكر المعرفة دون النكرة فتبعهم في ذلك ثم سلم للمصنف قوله أن النعت يكون أخص من المنعوت [4/ 115] فمن ثم فرق بين البابين. وأنت قد عرفت ما في كلام المصنف من البحث الذي قدمناه. وإذ قد عرف أن العمل إنما هو على أن النعت يجب أن يكون مساويا للمنعوت أو أقل منه تعريفا فلنذكر ما ذكره الجماعة مبنيا على هذا التقرير. وهو أنهم قالوا:
المعارف خمسة وهي المضمرات وأسماء الإشارة والأعلام وما عرف باللام وما أضيف إلى معرفة ولم يذكروا الموصولات لأنها عندهم من قبيل ما عرف باللام، ثم أعرف هذه المعارف المضمرات ثم الأعلام ثم أسماء الإشارة ثم ما عرف باللام والموصول في رتبته وما أضيف إلى معرفة من هذه المعارف فهو بمنزلة ما أضيف إليه إلا المضاف إلى المضمر فإنه في رتبة العلم. ثم إنهم أجروا على هذا الذي قرروه حكم النعت. وقد أخرنا الكلام على ذلك لنورده عند الكلام على الفصل الثالث من هذا الباب فإنه أمس بذلك.
المسألة الثالثة:
أن النعت قد يتبع في الجر غير ما هو له. والعلم على هذه المسألة قول العرب: -
(1) التذييل (7/ 335).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هذا جحر ضب خرب (1) قال المصنف: وأشرت بقولي: وربّما تبع في الجرّ غير ما هو له دون رابط إن أمن اللبس إلى قولهم: هذا جحر ضب خرب وأمثاله.
قال: فحق خرب أن يرتفع لأنه نعت جحر مرفوع لكنه جعل تابعا لضب لمجاورته إياه مع أمن اللبس ومثله قراءة الأعمش (2) ويحيى بن وثاب (3)(إنّ الله هو الرّزّاق ذو القوّة المتين) بخفض المتين (4). ومن الشواهد الشعرية في ذلك قول الشاعر:
3128 -
كأنّما ضربت قدّام أعينها
…
قطنا بمستحصد الأوتار محلوج (5)
ومثله:
3129 -
يريك سنة وجه غير مقرفة
…
ملساء ليس بها خال ولا ندب (6)
ومثله:
3130 -
فإيّاكم وحيّة بطن واد
…
هموز الناب ليس لكم بسيّ (7)
ومثله:
3131 -
جرى الله عنيّ الأعورين ملامة
…
وفروة ثغر الثّورة المتضاجم (8)
ومثله: -
(1) راجع الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 147: 149).
(2)
سليمان بن مهران الأسدي التابعي كان عالما بالقرآن والحديث والفرائض يروي نحو 1300 حديثا - ت 148 هـ بالكوفة، الأعلام (3/ 198) وطبقات ابن سعد (6/ 238) واللطائف (1/ 99).
(3)
الأسدي الكوفي إمام أهل الكوفة في القرآن تابعي ثقة قليل الحديث ت (103) هـ - الأعلام (9/ 223) وغاية النهاية (2/ 380) والنووي (2/ 159).
(4)
البحر المحيط (8/ 143)، والمحتسب (2/ 289).
(5)
من البسيط وانظره في الإنصاف (605، 615).
(6)
من البسيط وانظره في التذييل (7/ 337).
(7)
من الوافر للحطيئة - ديوانه (38) الحماسة (417) والخصائص (3/ 220) والشجري (1/ 342) شرح المفصل (2/ 85) واللسان: سوا. هذا ورواية الديوان: حديد بدل هموز.
(8)
من الطويل وهو للأخطل - ديوانه (277) والكامل (159) واللسان: ثفر وضجم وبرواية فردة، ومراتب النحويين (41)، ورواية الديوان: مذمة بدل ملامة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3132 -
كأنّ ثبيرا في عرانين وبله
…
كبير أناس في بجاد مزمّل (1)
ومثله:
3133 -
كأنّ نسيج العنكبوت المزمّل
…
على ذرى قلّامة المهدّل
سبوب كتّان بأيدي الغزّل (2)
قال: ونبهت بقولي وقد يفعل ذلك بالتوكيد على ما أنشده الفراء من قول الشاعر:
3134 -
يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم
…
أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب (3)
بجر كلّهم (4). انتهى كلام المصنف رحمه الله تعالى.
وفي شرح الشيخ بيتان آخران فيستشهد بكل منهما على خفض النعت على الجوار. أحدهما قوله:
3135 -
موكّل بشدوف الصوم ينطرها
…
من المعارف مخطوف الحشارزم (5)
والثاني قول الآخر:
3136 -
فدافعت عنه الحبل حتّى تبدّدت
…
وحتّى علاني حالك اللّون أسود (6)
ثم إن المصنف لم يتعرض في الشرح لبيان ما احترز عنه بقوله في المتن دون رابط.
والظاهر أنه يريد بذلك أن النعت قد يتبع في الجر غير ما هو دون رابط يربطه بما هو له فإن الرابط المذكور إذا وجد جازت المسألة دون إشكال. وذلك بأن يقال: هذا جحر ضب خرب جحره فإن الخرب إنما هو للجحر والحجر سببي للضب وقد رفعه النعت الجاري على الضب فهو نظير قولك: مررت برجل قائم غلامه ولا ريب في جواز ذلك.
(1) من الطويل من معلقة امرئ القيس الخزانة (2/ 237)(3/ 639) والشجري (1/ 90) والمحتسب (2/ 135) هذا، وثبير: جبل، ويروى كأن أبانا وهي رواية اللسان: أبن، والبجاد: الكساء، والمزّمل: الملفف.
(2)
رجز العجاج - ديوانه (47) الخصائص (3/ 221)، وشرح السيرافي (1/ 495)، واللسان:
عنكب.
(3)
من البسيط لأبي الغريب، انظر: الدرر (2/ 70) والمغني (683)، والهمع (2/ 55).
(4)
معاني الفراء (2/ 74، 75).
(5)
من البسيط، وانظره في التذييل (7/ 338).
(6)
من الطويل - التذييل (7/ 338).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وليعلم أن التبعية على الجواز إنما هي خلاف الأصل وقد سمعت في النعت.
روى سيبويه وغيره عن العرب هذا جحر ضب خرب بالرفع، والجرّ (1) وروى الفراء في التوكيد البيت (2) الذي أنشده المصنف ولم يسمع ذلك في البدل. وأما عطف النسق فمن النحاة من أثبت ذلك فيه والجمهور على خلافةّ
ثم إن التبعية على الجواز إنما وردت في المجرور كما مثل، ومنهم من ادعى ثبوت ذلك في المرفوع أيضا.
وبعد: فأنا أشير إلى تفصيل ما ذكرته مجملا متبعا ذلك بالإشارة إلى علل ذكرت وإلى أبحاث تتعلق بالمسألة ولوازمها. فمن ذلك أن الشيخ علل عدم ورود التبعية ورود التبعية على الجواز في البدل بأنه معمول لعامل آخر لا للعامل الأول (3).
قال: على أصح المذهبين (4): وفي ما ذكره أمران:
أحدهما: أن مذهب سيبويه أن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه (5) كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى وإذا كان كذلك بطل التعليل الذي ذكره.
ثانيهما: أن التبعية على الجوار أمر خارج عما تقتضيه القواعد فإن ورد منه شيء احتيج فيه إلى توجيه وأما إذا لم يرد فلا حاجة إلى الاعتذار عنه؛ لأنه لم يرد شيء مخالف للأصل فيحتاج إلى ذلك ثم القائلون بجواز التبعية على الجوار في عطف النسق استدلوا بما سيذكر.
وقد ذكر الشيخ فرقا بين المعطوف نسقا والنعت وهو أن الاسم في باب النعت تابع لما قبله من غير وساطة فكان أشد مجاورة وفي العطف حصل الفصل بحرف العطف (6). وفي ما ذكره الشيخ من الفرق نظر، فإن حرف العطف لا يعد فاصلا لأن التبعية للأول إنما تحصل به وما لا يتصور التبعية في محل إلا به كيف يعد فاصلا مع وجوب ذكره وإنما يعد فاصلا ما يستغنى عنه أو يكون قد ذكر في غير محله وإذا كان البابان لا فرق بينهما بالنسبة إلى التبعية فلم يبق إلا أن يجاب عما استدل به الخصم ليندفع الحكم. والقائلون بذلك استدلوا عليه بقوله تعالى: وَامْسَحُوا -
(1) الكتاب (1/ 67، 436).
(2)
معاني الفراء (2/ 74، 75).
(3)
التذييل (7/ 337)، وما بعدها.
(4)
السابق، وانظر التبيان (422) وما بعدها، ومعاني الزجاج (2/ 167، 168).
(5)
الكتاب (2/ 386، 387).
(6)
التذييل (7/ 341).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (1) قال أبو البقاء:
وَأَرْجُلَكُمْ يقرأ بالنصب وفيه وجهان. أحدهما: هو معطوف على الوجوه والأيدي وذلك جائز في العربية بلا خلاف والثاني: أنه معطوف على موضع بِرُؤُسِكُمْ والأول أقوى؛ لأن العطف على اللفظ أقوى من العطف على الموضع (2). ويقرأ بالجر (3) وهو مشهور أيضا كشهرة النصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف [4/ 116] على الرؤوس في الإعراب والحكم مختلف فالرؤوس ممسوحة والأرجل مغسولة وهذا الإعراب الذي يقال هو على الجوار وليس يمتنع أن يقع في القرآن لكثرته فقد جاء في القرآن العزيز وفي الشعر. فمن القرآن قوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ (4) على قراءة من جر (5)، وهو معطوف على قوله تعالى:
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ (6) والمعنى مختلف إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين - وقال الشاعر:
3137 -
لم يبق إلّا أسير غير منفلت
…
وموثق في حبال القدّ مسلوب (7)
والقوافي مجرورة والجوار مشهور عندهم في الإعراب والصفات وقلب الحروف بعضها إلى بعض والتأنيث وغير ذلك. فمن الإعراب ما ذكرنا في العطف ومن الصفات قوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (8) واليوم ليس بمحيط وإنما المحيط العذاب وكذلك قوله تعالى: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (9) واليوم ليس بعاصف وإنما العاصف الريح، ومن قلب الحروف قوله عليه الصلاة والسلام «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (10)، والأصل موزورات ولكن أريد التآخي ومنه قولهم: إنه يأتينا -
(1) سورة المائدة: 6.
(2)
البحر المحيط (3/ 437) وما بعدها، وابن زنجلة (221).
(3)
المصادر السابقة.
(4)
سورة الواقعة: 22.
(5)
البحر المحيط (8/ 206) وابن خالويه في الحجة (340).
(6)
سورة الواقعة: 18.
(7)
من البسيط، وانظره في المقرب (1/ 172) برواية: لم ينو غير طريد غير منفلت ..
(8)
سورة هود: 84.
(9)
سورة إبراهيم: 18.
(10)
انظره في: سنن ابن ماجه: الجنائز (1/ 502، 503)، والأشباه والنظائر (1/ 11، 12) والإعقال (2/ 618) والدرر المصون (ص 1912) وشرح ابن يعيش (9/ 64) وفيض القدير (1/ 473) والمحتسب (2/ 332).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بالغدايا والعشايا (1) ومن التأنيث قوله تعالى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (2) فحذف التاء من عشر وهي مضافة إلى الأمثال وهي مذكرة ولكن لما جاورت الأمثال الضمير المؤنث أجري عليها حكمه - وكذلك قول الشاعر:
3138 -
لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت
…
سور المدينة والجبال الخشّع (3)
وقولهم ذهبت بعض أصابعه، ومما راعت العرب فيه الجوار قولهم قامت هند ولم يجيزوا حذف التاء إذا لم يفصل بينهما فإن فصل أجازوا الحذف ولا فرق بينهما إلا المجاورة وعدم المجاورة.
ومن ذلك قام زيد وعمرا كلمته استحسنوا النصب بفعل محذوف لمجاورة الجملة اسما قد عمل فيه الفعل ومن ذلك قلبهم الواو المجاورة للطرف همزة في أوائل كما لو وقعت طرفا ولذلك إذا بعدت عن الطرف لا تقلب نحو طواويس (4). قال:
وهذا موضع يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد قد جعل النحويين له بابا ورتبوا عليه مسائل وأصلوه بقولهم جحر ضب خرب حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع فأجاز الاتباع فيهما جماعة من حذاقهم قياسا على المفرد المسموع ولو كان لا وجه له في القياس بحال لاقتصروا فيه على السماع فقط. ويتأيد ما ذكرناه بأن الجر في الآية الشريفة قد أجيز غيره وهو النصب وكذا الرفع فإنه قراءة شاذة (5) على أن وَأَرْجُلَكُمْ (6) مبتدأ والخبر محذوف التقدير وأرجلكم مغسولة أو وأرجلكم كذلك والرفع والنصب غير قاطعين ولا ظاهرين على أن حكم الرجلين المسح فكذلك الجر يجب أن يكون كالنصب فالرفع في الحكم دون الإعراب. والوجه الثاني: أن يكون الجر في الأرجل بجار محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلا وحذف الجار وإبقاء الجر جائز قال الشاعر:
(1) أمالي القالي (2/ 210) والمصادر السابقة.
(2)
سورة الأنعام: 160.
(3)
البيت من بحر الكامل من قصيدة لجرير وهو في المقتضب (4/ 197)، والكتاب (1/ 62) والخزانة: تقدم البيت في باب الإضافة (جـ 11).
(4)
ينظر الأشباه والنظائر (1/ 11، 12)(147: 149)، والمغني (2/ 192، 193).
(5)
المحتسب: (2/ 332).
(6)
سورة المائدة: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3139 -
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة
…
ولا ناعب إلّا ببين غرابها (1)
وقال زهير:
3140 -
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى
…
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (2)
فجر بتقدير الباء وليس بموضع ضرورة. قال: وقد أفردت لهذه المسألة كتابا» (3).
انتهى كلام أبي البقاء رحمه الله تعالى.
وهو يدل على رفعة شأنه في علم العربية وقوة نظره وتمكنه وحسن تصرفه.
ولا شك في أنه كذلك، وعلم منه أنه يثبت التبعية في عطف النسق على الجوار.
والظاهر أن الأمر كما قال إذ لا فرق بين عطف النسق والنعت في مطلق التبعية فكما تثبت التبعية على الجوار في النعت - وإن كان الأمر فيها على خلاف الأصل؛ لورود ذلك في كلام العرب - هكذا تثبت في عطف النسق لوروده في كلامهم أيضا، ولا شك أن ظاهر الآية الشريفة فيه دليل على ما ذكرناه.
نعم قد ينازع أبو البقاء في بعض ما استدل به على ذلك لاحتمال تخريجه على وجه غير الوجه الذي ذكره ومع الاجتماع يندفع الاستدلال. أما البيت الذي أنشده وهو: لم يبق إلّا أسير فالمحفوظ فيه لم يبق غير طريد غير منفلت هكذا أنشده ابن عصفور في المقرب (4) وعلى هذا فتبعية المعطوف ليست تبعية مجاورة بل هو معطوف على المجرور بغير لفظا ومعنى وإن ثبتت رواية (إلا أسير) فقد يقال فيه إن العطف بالجر لصلاحية وقوع غير موقع إلا وقد أجاز ذلك بعضهم وإن كان الأصح خلافه وأما الحديث الشريف «ارجعن مأزورات غير مأجورات» ففيه تشاكل لا مجاورة. وأما قوله تعالى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (5) فقد ذكروا أنه مما حذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه التقدير: فله عشر حسنات أمثالها ولكن التأنيث في تهدمت سور المدينة وذهبت بعض أصابعه للمجاورة بلا ريب. وأما استدلاله بقولهم قامت هند لزوما وجواز حذف التاء مع الفصل فلطيف. وأما الاستدلال بقولهم قام -
(1) البيت من الطويل، وهو للأحوص وانظره في الحلل (111).
(2)
من الطويل ديوانه (107)، والخصائص (2/ 353، 424)، والدرر (2/ 195)، والكتاب (1/ 83)، (2/ 278)، والهمع (2/ 141).
(3)
التبيان (423، 424).
(4)
المقرب (1/ 172).
(5)
سورة الأنعام: 160.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زيد وعمرا كلمته فغير ظاهر، إذ لا مجاورة فيه. وإنما المراعى في أرجحية النصب طلب مشاكلة الجملتين في الفعلية. وأما مسألة أوائل وطواويس فليس النظر فيها إلى المجاورة إنما النظر إلى القرب مما هو محل تغيير أو البعد عنه مع شيء آخر وهو توالي ثلاث لينات فليس الأمر موقوفا على القرب [4/ 117] خاصة حتى يجعله العلة لقلب حرف العلة همزة بل العلة المجموع المركب. وأما الاستدلال بقوله تعالى:
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (1) ويَوْمٍ عاصِفٍ (2) فقد خرّجوه على ما خرّج عليه قولهم: نهارك صائم، وليلك قائم، ووجهه أن اليوم ظرف لإحاطة العذاب فهو ظرف له فتوسع في الظرف بأن جعل فاعلا للإحاطة وكذا عصف الريح واقع في اليوم فهو ظرف له فتوسع فيه بأن جعل فاعلا للعصف كما أن النهار والليل ظرفان للصوم والقيام الواقعين فيهما فتوسع فيهما بأن جعلا فاعلين للصوم والقيام، وإذا كان كذلك فلم يقصد بمحيط وصف العذاب ولا بعاصف وصف الريح حتى يقال إنهما أجريا على اليوم لمجاورة المقصود بالوصف وهو العذاب والريح.
ثم إن الذي ذكره أبو البقاء إن تمشى له في عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ لا يتمشّى له في: عاصِفٍ إذ المقصود بالوصف على تقريره هو الريح، وهي لم تذكر، وإذا لم تكن مذكورة فأين المجاورة، وإذا تعين في: عاصِفٍ أنه صفة لليوم في المعنى مما هو في اللفظ تعين أن يكون مُحِيطٍ من عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ كذلك.
ومما استدل به القائلون بالتبعية على الجوار في عطف النسق قوله تعالى:
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ (3) في قراءة من خفض «ونحاس» (4)، وكذا بقول جرير:
3141 -
فهل أنت إن ماتت أباؤك راحل
…
إلى آل بسطام بن قيس فحاطب (5)
فأما الآية الشريفة: فالأمر فيها يتوقف على تفسير النحاس ما المراد به. فإن كان -
(1) سورة هود: 84.
(2)
سورة يونس: 22.
(3)
سورة الرحمن: 35.
(4)
ينظر البحر المحيط (8/ 195) والحجة لابن خالويه (340)، هذا وقراءة الجر لابن أبي إسحق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو.
(5)
البيت من الطويل، وليس في ديوانه بتحقيق البستاني طبعة بيروت (1384 هـ - 1964 م) وانظره في التذييل (7/ 341).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
معناه يرجع إلى معنى الشواظ فالتبعية في «ونحاس» بالجر على الجوار حينئذ، وأما بيت جرير فلم يظهر لي أن التبعية فيه على غير الجوار وإذا كان كذلك تم الاستشهاد به على المسألة. فأما قول امرئ القيس:
3142 -
وظلّ طهاة اللّحم ما بين منضج
…
صفيف شواء أو قدير معجّل (1)
فقد استشهد به أيضا، ولكن قد تقدم الكلام في آخر باب الأفعال الرافعة المبتدأ الناصبة الخبر بما يعلم منه أنه ليس من هذا القبيل (2).
والذي يظهر أن التبعية في العطف على الجوار لا مانع منها من حيث الصناعة.
وأقوى الأدلة عليها الآية الشريفة أعني آية الوضوء لأن قراءة وأرجلكم (3) بالجر ثابتة بالتواتر وغسل الأرجل واجب بالأدلة القاطعة فوجب أن يكون وَأَرْجُلَكُمْ في قراءة من جر معطوفة على ما تقدم من منصوب فَاغْسِلُوا فيكون مستحقّا للنصب مع أنه قد جر ولا وجه لجره إلا أن يكون على الجوار، والوجه الآخر الذي ذكره أبو البقاء وهو أن يكون الجر بجار محذوف التقدير:
وافعلوا بأرجلكم غسلا لا يخفى ضعفه وأن ما قدره في غاية البعد عن فصاحة كلام العرب فضلا عن فصاحة الكتاب العزيز. فإن قيل شرط التبعية على الجوار أمن اللبس وجر الأرجل يوهم عطفها على الرؤوس فوجب العدول عن القول بذلك.
فالجواب: أنا نقول لا لبس؛ وذلك أن غسل الأرجل في قراءة من نصب واجب قطعا لثبوتها بالتواتر فوجب أن يكون الحكم في قراءة من جر كالحكم في قراءة من نصب وهو وجوب الغسل كيلا تتصادم القراءتان، ولا يعكس هذا فيقال: قراءة الجر ثابتة بالتواتر أيضا. ولا شكّ أن الأرجل معطوفة على الرؤوس وحكمها المسح -
(1) من الطويل ديوانه (22)، وتعليق الفرائد (1/ 1015) وشرح العمدة (328) وشواهد التوضيح (115) واللسان: ضعف، وطهى، ومعاني الفراء (1/ 346).
(2)
قال: لأن المنصوب باسم الفاعل يجر كثيرا بإضافته إليه فكأنه إذا انتصب مجرور. وجواز جر المعطوف على منصوب اسم الفاعل مشروط بالاتصال كاتصال منضج بالمنصوب فلو كان منفصلا لم يجز الجر، نحو أن يقال بين منضج بالنار ضعيف شواء؛ لأن الانفصال يزيل تصور الإضافة المقتضية للجر؛ فلذلك لا يجوز جر المعطوف مع انفصال اسم الفاعل من معموله.
(3)
سورة المائدة: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فوجب أن يكون الحكم في قراءة من نصب كالحكم في قراءة من جر للعلة التي ذكرتموها لأن أحدا لم يقل بمسح الأرجل إلا من لا يعبأ به ولا يلتفت إليه.
وقد عرف من الذي قررناه أن وَأَرْجُلَكُمْ (1) في قراءة من جر معطوف على منصوب فَاغْسِلُوا وأن الجر فيه إنما هو
بمجاورة المجرور، والذين لا يثبتون التبعية في العطف على الجوار يقولون إن وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على بِرُؤُسِكُمْ مع حكمهم بوجوب غسل الأرجل بتأويل أنا ذاكره، وقد أشار إلى شيء من ذلك أبو علي في الحجة (2)، وكان الزمخشري نحا إليه فاقتصرت على كلامه لأنه أمتن من كلام أبي علي، قال رحمه الله تعالى:«قرأ جماعة وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب فدل على أن الأرجل مغسولة، فإن قلت ما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة مغسولة تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها وقيل إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة؛ لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة» (3) ثم قال: «وذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح، وعن الحسن أنه جمع بين الأمرين، وعن الشعبي (4): نزل القرآن العزيز بالمسح والغسل سنة» (5) انتهى.
وإذ قد ذكر هذا فلنذكر ما انتظم من كلام المعربين في الآية الشريفة فنقول: قرئ وَأَرْجُلَكُمْ رفعا ونصبا وجرّا. فأما توجيه الرفع فقد تقدم. وأما النصب فقد ذكر أبو البقاء فيه توجيهين كما عرفت:
أحدهما: أنه معطوف على الوجوه والأيدي، والثاني: أنه معطوف على موضع برؤوسكم (6).
(1) سورة المائدة: 6.
(2)
الحجة (3/ 324 - 326).
(3)
الكشاف (1/ 474).
(4)
عامر بن شراحيل عن عبد ذي كبار الحميري راوية من التابعين يضرب المثل بحفظه مات فجأة بالكوفة (103 هـ) وهو من رجال الحديث الثقات، الأعلام (4/ 18)، والحلية (4/ 310)، والسمط (751).
(5)
الكشاف (1/ 475).
(6)
البحر المحيط (3/ 437) وابن خالويه (ص 129) وتقدم ذلك تقريبا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أما الوجه الأول: فهو الظاهر بل الحق وكذا قال: وذلك جائز في العربية بلا خلاف. وقال غيره إن فيه الفصل بجملة أجنبية والحق أن هذه الجملة لا تعد أجنبية لأن الوضوء عمل واحد. وإذا قيل إن الترتيب مقصود تأكد القول بعدم الأجنبية.
وأما الوجه الثاني: فقد قال إن الوجه الأول أقوى منه قال: لأن العطف على اللفظ أقوى من العطف [4/ 118] على الموضع. ومقتضى كلامه صحة عطف وَأَرْجُلَكُمْ على موضع بِرُؤُسِكُمْ وهو غير ظاهر فإن ذلك يلزم منه أن يكون المأمور به مسح الأرجل والحق أن التوجيه الأول هو المتعين ولا يجوز غيره.
وأما الجر فقد ذكر أبو البقاء فيه وجهين أيضا:
أحدهما: أنه على الجوار فتكون الأرجل معطوفة على ما تقدم من المنصوب وهو الوجوه والأيدي كما تقدم تقرير ذلك. وقد قدمنا أن هذا هو الظاهر بل ربما يتعين.
والثاني: أن يكون الجر بجار محذوف تقديره وافعلوا برؤوسكم غسلا. ولا شك في ضعف هذا الوجه. وأما البيتان اللذان استدل بهما فلا دليل فيهما؛ لأن الجر في: ولا ناعب، وفي ولا سابق إنما هو على توهم وجود الباء داخلة على مصلحين وعلى مدرك.
وقد فهمت من تقرير الزمخشري وجها ثالثا وهو أن العطف على بِرُؤُسِكُمْ لقوله فعطفت على الرابع الممسوح وهو لم يثبت القول بالعطف على الجوار مع أنه قائل بوجوب الغسل فلازم قوله أن يكون «وأرجلكم معطوفا على برؤوسكم» والمقصود غسل الأرجل وإنما عطفت على يمسح وهو الرؤوس للمعنى الذي ذكره وهذا الوجه غير الوجه الصائر إلى العطف على الجوار؛ لأن القائل بذلك عنده أن وَأَرْجُلَكُمْ معطوف على الوجوه والأيدي كما تقدم.
وبعد: فلم يبق إلا الإشارة إلى بقية المسائل والأبحاث التي تقدم الوعد بذكرها.
فمنها: أنه هل يجوز التبعية على الجوار في التثنية والجمع. وقد تقدم قول أبي البقاء وأصلوه بقولهم: هذا جحر ضّبّ خرب، حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فأجاز الاتباع فيهما جماعة من حذاقهم قياسا على المفرد المسموع ولو كان لا وجه له في القياس بحال لاقتصروا فيه على المسموع فقط. انتهى.
والمراد بالتثنية أن يثنى المضاف والمضاف إليه أعني الجحر والضب فيقال: هذان جحرا ضبين خربين. وبالجمع أن يجمعا أيضا فيقال: هذه جحرة ضباب (1) خربة. هذا مراد الشيخ أبي البقاء فإن ثني الجحر دون الضب بأن يقال هذا جحرا ضب خربان فقالوا: ليس في الصفة إلا الرفع وأجاز سيبويه الخفض على الجوار اتكالا على فهم المعنى وأنشد شاهدا على ذلك:
3143 -
كأنّ نسج العنكبوت المرمّل (2)
ووجه الاستدلال أن العنكبوت مؤنث والمزمل مذكر فلم يشترك التابع والمتبوع في التأنيث كما لم يشتركا في
التثنية (3).
قال الشيخ: وقياس قول سيبويه في التثنية أن يجيز ذلك في الجمع (4). ثم قال:
وينبغي أن ذلك لا يجوز يعني في التثنية والجمع (5) قال: لأن ما ورد من ذلك إنما هو خارج عن القياس فلا يتعدى فيه السماع (6). وقد قال الفراء وغيره (7):
لا يخفض بالجوار إلا ما استعملته العرب كذلك.
قال الشيخ «وتقول: إذا كانوا لا ينعتون المفرد بالتثنية ولا بالجمع في ما يكون معنى النعت مسندا للمنعوت فكيف يجوز ذلك في ما لا يكون معناه مسندا لغير المنعوت ألا تراهم لا يوجد في كلامهم مررت برجل قائمين ولا برجل قائمين ولا قيام (8).
ومنها: أن بعض النحاة المتأخرين لم يخص التبعية على الجوار بالمجرور بل أجاز ذلك في المرفوع مستدلا بقول الشاعر:
(1) جمع ضب: أضبّ وضباب وضبّان. اللسان: ضبب.
(2)
الكتاب (1/ 437).
(3)
السابق.
(4)
التذييل (7/ 340) والكتاب (1/ 437).
(5)
التذييل (7/ 339).
(6)
السابق.
(7)
الهمع (2/ 55).
(8)
التذييل (7/ 340).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3144 -
السّالك الثّغرة اليقظان سالكها
…
مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل (1)
قال: رفعوا الفضل إتباعا لما قبله لقربه وما قاله غير معمول به. وقد تقدم الكلام على هذا البيت في باب إعمال المصدر وأن الفضل نعت للهلوك على الموضع، كما كان ذلك في قول الآخر:
3145 -
(حتّى تهجّر في الرّواح وهاجها)
…
طلب المعقّب حقّه المظلوم (2)
برفع المظلوم.
ومنها: أن التبعية على الجوار قال بها جمهور النحويين من البصريين والكوفيين.
وقد خالف في ذلك السيرافي وابن جني وخرجا قول العرب: هذا جحر ضب خرب على غير ذلك.
فأما السيرافي فقال: الأصل هذا جحر ضب خرب الجحر، كما تقول: حسن الوجه. وحذف الضمير للعلم به أي حسن الوجه منه ثم أضمر الجحر فصار «خرب» ولم يبرز الضمير كما لم يبرز في قولهم: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين فـ «لا قاعدين» جار في الإعراب على رجل، ولم يبرز الضمير؛ لأنه لو برز لقيل لا قاعدهما (3) وأما ابن جني فقال: الأصل هذا جحر ضب خرب جحره نحو مررت برجل حسن وجهه ثم نقل الضمير فصار خرب الجحر ثم حذف (4) قال: فهذا جر صحيح وهو نعت للضب ثم إنه تمثل مستحسنا للتخريج المذكور بقول القائل:
3146 -
[يقول من تطرق أسماعه]
…
كم ترك الأول للآخر (5)
ثم إن الشيخ رد ذلك وقال: إن ما قالاه خطأ من غير وجه (6). وذكر في تقرير -
(1) من البسيط للمتنخل الهذلي ديوان الهذليين (240)، والارتشاف (2/ 583)، والعيني (252) واللسان: هلك.
(2)
شطر بيت من الكامل للبيد - ذكرنا صدره - ديوانه (128) والأشموني (2/ 290) والتصريح (1/ 278، 2/ 65) والدرر (2/ 202) وشرح المفصل (2/ 24، 46، 6/ 66) والهمع (2/ 145).
(3)
شرح السيرافي على الكتاب (2/ 149 ب، 150 أ).
(4)
الخصائص (1/ 191).
(5)
الخصائص (1/ 191). هذا والبيت - وقد ذكرنا صدره - للطائي الكبير في ديوانه (143).
(6)
التذييل (7/ 343) قال: وهو فاسد، للدور، إذ لا يوجد في كلام العرب مررت برجل حسن -