الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حديث خاص بثم والفاء]
قال ابن مالك: (ويقال في ثمّ فمّ وثمت (وثمت)، وتشركها الفاء في التّرتيب. وتنفرد ثمّ بالمهلة، والفاء العاطفة جملة أو صفة بالسّببيّة غالبا، وقد يكون معها مهلة وتنفرد أيضا بعطف مفصّل على مجمل متّحدين معنى
وبتسويغ الاكتفاء بضمير واحد في ما تضمّن جملتين من صلة أو صفة أو خبر، وقد تقع موقع ثمّ، وثمّ موقعها، وقد يحكم على الفاء وعلى الواو بالزّيادة وفاقا للأخفش، وقد تقع ثمّ في عطف المقدّم بالزّمان اكتفاء بترتيب اللّفظ).
ــ
وليس فيه إلا أمر واحد وهو قوله إن لا في مثل: ما قام زيد ولا عمرو إذا لم تقصد المعية تكون مؤكدة لأن في جعلها مؤكدة منافاة لما قرره؛ لأن تقريره أفاد أن دخول لا وعدم دخولها إنما يكونان بحسب ما يراد من المعنى. فإن قصد نفي الحكم عن المتعاطفين حالة الاجتماع وحالة الافتراق أتى بها، وإن قصد نفيه حالة الاجتماع لا حالة الافتراق لم يؤت بها، وإذا كان كذلك كان ذكر لا مفيدا معنى يفوت بعدم ذكرها، وما كان شأنه ذلك فهو مسوق للتأسيس لا للتأكيد بل يكون دخولها عند قصد نفي الحكم في الحالين وعدم دخولها عند قصد نفيه في أحدهما متعينين.
قال ناظر الجيش: قال المصنف (1): قول من قال فم هو من إبدال الثاء فاء كقولهم في الحدث: حدف وفي الغاثور غافور. وزيادة الثاء مفتوحة وساكنة كزيادتها في ربّ، ومن ذلك قول الأسود بن يعفر (2):
3247 -
بدّلت شيئا قد علا لمّتي
…
بعد شباب حسن معجب
صاحبته ثمّت فارقته
…
ليت شبابا زال لم يذهب (3)
وحق المعطوف بها أن يكون مؤخرا بالزمان مع مهلة وحق المعطوف بالفاء أن يكون مؤخرا بلا مهلة ومن ذلك أن جبريل عليه السلام نزل فصلّى فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) -
(1) شرح التسهيل (3/ 352).
(2)
النهشلي الدارمي التميمي شاعر جاهلي، ويقال له: أعشى بني نهشل، كفّ بصره أواخر أيامه (ت 22 ق. هـ) - السمط (1/ 248)، والشعر والشعراء (1/ 255).
(3)
البيتان وانظرهما في التذييل (4/ 154).
(4)
ينظر البخاري: مواقيت (1)، وموطأ مالك: وقوت الصلاة (1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فعطف بالفاء المتأخر بلا مهلة وبثم المتأخر بمهلة. والغالب في الجملة المعطوفة بالفاء أن يكون معناها متسبّبا عن معنى الأول نحو: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ * (1)، وفَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ (2)، [و] وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ (3)، [و] كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (4)، وفَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ (5)، [و] وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ 24 فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ (6). [و] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (7) وفَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (8)، ونحو: أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً (9)، ونحو:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ (10) أو يكون بين مفصّل ومجمل متحدي المعنى نحو: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ (11) ونحو: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (12) ونحو: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (13) ونحو: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (14) ونحو: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً 35 فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً 36 عُرُباً أَتْراباً (15).
وقد يعطف بها لمجرد الترتيب في الجمل نحو: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ 26 فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ (16)، ونحو: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (17) ونحو: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها (18)، وفي الصفات نحو: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ 51 لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ -
(1) سورة البقرة: 22، وسورة إبراهيم:32.
(2)
سورة البقرة: 37.
(3)
سورة الكهف: 49.
(4)
سورة الكهف: 50.
(5)
سورة القصص: 15.
(6)
سورة ص: 24، 25.
(7)
سورة هود: 67.
(8)
سورة العنكبوت: 37.
(9)
سورة يوسف: 96.
(10)
سورة الزمر: 68.
(11)
سورة البقرة: 36.
(12)
سورة النساء: 153.
(13)
سورة القصص: 66.
(14)
سورة ق: 2.
(15)
سورة الواقعة: 35 - 37.
(16)
سورة الذاريات: 26، 27.
(17)
سورة ق: 22.
(18)
سورة الذاريات: 29.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنْ زَقُّومٍ 52 فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ 53 فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ 54 فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (1)، ومنه قول الشاعر:
3248 -
يا ويح زيّابة للحارث الصّا
…
بح فالغانم فالآيب
كأنه قال صبح فغنم فآب، وقد تكون مع السببية مهلة كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً (2)، وتنفرد الفاء أيضا بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد في ما تضمن جملتين من صلة أو صفة أو خبر أو حال نحو: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، ومررت برجل يبكي فيضحك عمرو، وخالد يقوم فيقعد بشر، كل هذا جائز بالفاء ولو جيء فيه بدلها بالواو لم يجز؛ لأن حق المعطوف بالواو على صلة أو صفة أو خبر أن يصلح لما صلح له المعطوف عليه والجملة العارية من ضمير الموصول والموصوف والمخبر عنه لا تصلح للوصل بها ولا للوصف بها ولا للإخبار بها فلا يجوز أن تعطف بالواو على صلة ولا صفة ولا خبر، واغتفر ذلك في الفاء؛ لأن ما فيها من السببية يسوغ تقدير ما بعدها وما قبلها كلاما واحدا. ألا ترى أن قولك الذي يطير فيغضب زيد الذباب بمنزلة الذي إن يطر يغضب زيد الذباب، ومثل هذا التقدير لا يتأتى مع الواو فلذلك لم يجر العطف بها في هذه الجمل مجرى العطف بالفاء.
وقد تقع الفاء موقع ثم كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ 13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً (3) فالفاء من (فخلقنا) ومن (فكسونا) واقعة موقع ثم لما في معناه من المهلة؛ ولذلك جاءت ثم بدلها في أول الحج (4).
ومن وقوع الفاء موقع ثم قول الشاعر:
3249 -
إذا مسمع أعطيك يوما يمينه
…
فعدت غدا عادت عليك شمالها (5)
-
(1) سورة الواقعة: 51 - 55.
(2)
سورة الحج: 63.
(3)
سورة المؤمنون: 12 - 14.
(4)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ [الحج: 5].
(5)
البيت من الطويل - التذييل (4/ 154).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد تقع ثم موقع الفاء كقول الشاعر:
3250 -
كهزّ الرّدينيّ تحت العجاج
…
جرى في الأنابيب ثمّ اضطرب (1)
فثم هنا واقعة موقع الفاء التي يعطف بها مفصل على مجمل؛ لأن جريان الهز في الأنابيب هو اضطراب المهزوز لكن في الاضطراب تفصيل وفي الهز إجمال.
[4/ 154] وقد تزاد الواو والفاء. فمن زيادة الواو قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها (2) قال [أبو] الحسن معناه قال لهم خزنتها (3). ومن زيادتها قول مروان ابن أبي حفصة (4):
3251 -
فما بال من أسعى لأجبر عظمه
…
حفاظا وينوي من سفاهته كسري (5)
ومن زيادتها قول الأسود بن يعفر:
3252 -
حتّى إذا قملت بطونكم
…
ورأيتم أبناءكم شبّوا
وقلبتم ظهر المجنّ لنا
…
إنّ اللّئيم الفاحش الخبّ (6)
ومن زيادتها قول الشاعر:
3253 -
فلمّا رأى الرّحمن أن ليس فيهم
…
رشيد ولا ناء أخاه عن الغدر
وصبّ عليهم تغلب ابنه وائل
…
فكانوا عليهم مثل راعية البكر (7)
ومن زيادتها أيضا قول الآخر:
3254 -
ولقد رمقتك في المجالس كلّها
…
فإذا وأنت تعين من يبغيني (8)
ومثله: -
(1) البيت من المتقارب لأبي دؤاد الإيادي - ديوانه (ص 292)، والمغني (119)، والهمع (2/ 131).
(2)
سورة الزمر: 73.
(3)
معاني الأخفش (1/ 307).
(4)
شاعر عالي الطبقة في العصر الأموي وأدرك العهد العباسي (ت 182 هـ)، الأعلام (8/ 95)، ورغبة الآمل (6/ 82)، والشعر والشعراء (ص
295).
(5)
البيت من الطويل - التذييل (4/ 156) - منسوبا - أيضا - إليه.
(6)
البيت من الكامل - الإنصاف (ص 458)، والشجري (1/ 357)، ومعاني الفراء (1/ 107، 238) والمقتضب (2/ 81)، وابن يعيش (8/ 94).
(7)
تقدم ذكرهما.
(8)
البيت من الكامل لأبي العيال الهذلي - ديوان الهذليين (2/ 260) برواية: فلقد، والمغني (ص 362).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3255 -
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن
…
إلّا كلمة حالم بخيال (1)
وقال الأخفش في «المسائل الصغرى» : يقولون: كنا ومن يأتنا نأته يجعلون الواو زائدة في باب كان ولا يحسن زيادة هذه الواو في غير باب كان (2) يعني أنه لا يطرد زيادتها إلا في باب كان.
ومن زيادة الواو قول عدي بن زيد:
3256 -
ولكن كالشهاب وثمّ يخبؤوها
…
هادي الموت عنه لا يحار (3)
ومن زيادة الفاء قوله:
3257 -
يموت أناس أو يشيب فتاهم
…
ويحدث ناس والصّغير فيكبر (4)
ومن زيادتها قول الآخر:
3258 -
لما اتقى من عظيم جرمها
…
فتركت صاحبي جلده يتذبذب (5)
ومنه قول زهير:
3259 -
أراني إذا ما بتّ بتّ [على] هوى
…
فثمّ (إذا) أصبحت أصبحت غاديا (6)
وقال الأخفش: زعموا أنهم يقولون أخوك فوجد يريدون أخوك وجد (7). قال الفراء: والعرب تستأنف بثم والفعل الذي بعدها قد مضى قبل الفعل الأول من ذلك أن يقول الرجل: قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك مالا فيكون ثم عطفا على خبر المخبر كأنك قلت: أخبرك أني أعطيتك (اليوم) ثم أخبرك أني أعطيتك أمس (8).
وإلى هذا أشرت بقولي: وقد تقع ثمّ في عطف المقدّم بالزّمان. قلت: ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (9)؛ -
(1) البيت من الكامل لتميم بن مقبل - ديوانه (259)، وشرح العمدة (650)، واللسان: لمم.
(2)
الارتشاف (ص 874).
(3)
البيت انظره في التذييل (4/ 157).
(4)
البيت من الطويل - تعليق الفرائد (1/ 844)، والدرر (2/ 172)، برواية: أو يشيب، والهمع (2/ 131).
(5)
البيت ينظر في التذييل (4/ 156).
(6)
تقدم، هذا وفي الأصل: ذا بدل على.
(7)
معاني الأخفش (1/ 93).
(8)
الارتشاف (2/ 639).
(9)
سورة الأنعام: 154.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأن قبله: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ (1) والوصية لنا بعد إيتاء موسى الكتاب. انتهى كلامه رحمه الله تعالى (2).
ولم يكن فيه تعرض إلى ذكر خلاف في كون الحرفين المذكورين أعني ثم والفاء يفيدان الترتيب أو لا يفيدانه. وقد ذكر المغاربة الخلاف في ذلك.
أما الفاء: فقال ابن عصفور (3): مذهب أهل البصرة أنها للترتيب في كل موضع، والفراء موافق لهم في أنها للترتيب إلا في الفعلين اللذين أحدهما سبب للآخر ويؤولان إلى معنى واحد فإنها لا تكون عنده إذ ذاك مرتبة وذلك نحو قولك:
أعطيتني فأحسنت إليّ وأحسنت إليّ فأعطيتني فيجوز عنده أن يقدم الإحسان على الإعطاء وإن كان إنما وقع بعد الإعطاء؛ لأن الإعطاء سبب في الإحسان وهو إحسان في المعنى (4). ومذهب الجرمي أنها للترتيب إلا في الأماكن والمطر فزعم أنك تقول: عفا موضع كذا فموضع كذا وإن كانت هذه الأماكن إنما عفت في وقت واحد ونزل المطر مكان كذا فمكان كذا وإن كان المطر قد نزل في هذه الأماكن في وقت واحد (5). وذهبت طائفة من الكوفيين إلى أن الفاء لا ترتب بمنزلة الواو. أما الفراء فاستدل بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (6)، وبقوله جل ذكره: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا (7) ومعلوم أن القراءة والإهلاك مؤخران عن الاستعاذة ومجيء البأس وذلك لأن مجيء البأس من سبب الإهلاك وهو إهلاك في المعنى والاستعاذة من سبب القراءة شرعا فهي قراءة في المعنى (8). والجواب: أن ذلك يتخرج على أن يكون «قرأت» بمعنى أردت أن تقرأ؛ لأن العرب قد تقول: فعل فلان بمعنى قارب أن يفعل أو أراد أن يفعل ومنه قولهم: «قد قامت الصّلاة» (9) أي قد قرب
قيامها أو أريد قيامها، وقول الفرزدق: -
(1) سورة الأنعام: 153.
(2)
شرح التسهيل (3/ 357).
(3)
في شرح الجمل (1/ 228)، وما بعدها.
(4)
ينظر: الارتشاف (2/ 636) والتصريح (2/ 138) .. والهمع (2/ 131).
(5)
الأرتشاف (2/ 636)، والتصريح (2/ 138)، والهمع (2/ 131).
(6)
سورة النحل: 98.
(7)
سورة الأعراف: 4.
(8)
وانظر التصريح (2/ 2 / 138، 139) والهمع (2/ 131).
(9)
جزء من حديث شريف - سنن ابن ماجه (1/ 235) وسنن النسائي (2/ 7)، وعون المعبود (2/ 230).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3260 -
إلى ملك كاد النّجوم لفقده
…
يقعن وزال الرّاسيات عن الصّخر (1)
يريد: وأرادت الراسيات أن تزول أو قاربت أن تزول، وأما قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها (2) الآية الشريفة فيحتمل أمرين:
أن يكون كما تقدم كأنه قيل: أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا وأن يكون أريد [بأهلكناها] أنها أهلكت إهلاكا من غير استئصال فجاءها بأسنا فهلكت هلاك استئصال. وأما الجرمي فاستدل على ما ذهب إليه بقول الشاعر:
3261 -
عفا ذو حسي من فرّتنا فالفوارع
…
فجنبا أريك فالتلاع الدوافع (3)
ومعلوم أن هذه الأماكن لم تعف على ترتيب إذ الوقوف على أن يكون الآخر من الأماكن قد عفا عند انقضاء عفاء الأول من غير مهلة بينهما متعذر (4). وكذا قولهم:
نزل المطر فمكان كذا فمكان كذا إنما نزل المطر بهذه الأماكن في حين واحد.
والجواب عن ذلك: بأن يجعل الترتيب في مثل هذا بالنظر إلى الذكر وذلك أن القائل عفا موضع كذا فموضع كذا لا تحضره أسماء الأماكن في حين الإخبار دفعة واحدة فيبقى في حال الإخبار متذكرا لها متتبعا فما سبق إلى ذكره أتى به أولا وما تأخر في ذكره عطفه بالفاء.
واستدل من ذهب إلى أن الفاء لا ترتب مطلقا بما استدل به الفراء والجرمي إلا أنهم حملوا سائر الأماكن على ذلك. قال: والذي يدل على فساد مذهب هؤلاء أن العرب تقول: اختصم زيد وعمرو ولا تقول: فعمرو، ولو كانت الفاء بمنزلة الواو في جميع الأماكن لوجب أن يجوز مثل هذا العطف بالفاء (5).
وأما ثم: فللجمع والترتيب والمهلة. وزعم بعض النحويين أنها بمنزلة الواو لا ترتب.
واستدل على ذلك بقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [4/ 153] ثُمَّ جَعَلَ -
(1) البيت من الطويل - ديوانه (1/ 217)، والمغني (ص 688)، برواية: الجبال بدل النجوم.
(2)
سورة الأعراف: 4.
(3)
البيت من الطويل للنابغة الذبياني - ديوانه (ص 49)، والمقرب (1/ 230).
(4)
التصريح (2/ 139).
(5)
شرح الجمل (1/ 231) تحقيق صاحب أبو ضاح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِنْها زَوْجَها (1) ومعلوم أن جعل زوج آدم منه إنما كان قبل خلقنا، وبقوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ (2) ومعلوم أن أمر الملائكة بالسجود لآدم إنما كان قبل خلقنا وتصويرنا فدل ذلك على أن ثم بمنزلة الواو.
والجواب عن ذلك: أما قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فالفعل الذي هو جَعَلَ معطوف على ما في وحدة: من معنى الفعل كأنه قيل من نفس وحدت أي أفردت ثم جعل منها زوجها، وأما قوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فمعطوف على خَلَقْناكُمْ إلا أن الكلام محمول على حذف مضاف لفهم المعنى كأنه قيل: ولقد خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.
ومما يدل على فساد هذا المذهب امتناع اختصم زيد ثم عمرو ولو كانت ثم بمنزلة الواو لجاز ذلك كما جاز اختصم زيد وعمرو (3). انتهى كلام ابن عصفور - رحمه الله تعالى -.
والظاهر أن الترتيب في مثل عفا مكان كذا فكذا ونزل المطر بمكان كذا فكذا إنما هو بالنظر إلى الذكر، أي الإيراد بمعنى أن المتكلم قصد إلى أن يوردها مترتبة بهذا الترتيب الخاص. ثم إنه ذكر في شرح الإيضاح أدلة أخر استدل بها القائلون بأن الفاء لا تقتضي الترتيب وهي قوله تعالى: فَتَعاطى فَعَقَرَ (4)، وثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (5)، وفَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها (6)، وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ 7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (7) بعد قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (8) وقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (9)
…
الآية. قال: ومن ذلك قول الشاعر: -
(1) سورة الزمر: 6، وفي الأصل هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وهو خطأ وتحريف إذ خلط بين هذه الآية وبين آية الأعراف (189) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها والعطف في الأخيرة بالواو كما ترى.
(2)
سورة الأعراف: 11.
(3)
شرح الجمل (1/ 232).
(4)
سورة القمر: 29.
(5)
سورة النجم: 8.
(6)
سورة الشمس: 14.
(7)
سورة الزلزلة: 7، 8.
(8)
سورة الزلزلة: 6.
(9)
سورة المائدة: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3262 -
وإنّي متى ما أدع باسمك لا تجب
…
وكنت جديرا أن تجيب فتسمعا (1)
وقول الآخر:
3263 -
ويعزر أناسا عزة يكرهونها
…
فنحيا كراما أو نموت فنقتل (2)
أي: أو نقتل فنموت. ثم أجاب عن ذلك بأن قال: ليس المراد فتعاطى الذنب فعقر، بل يمكن أن يكون المراد: فتعاطى السبب فعقر، وليس المراد به ثم تدلى فدنا بتدليه بل المراد ثم دنا فبقى بعد الدنو متدليا، والتدلي هو التعلق في الهواء وليس المعنى على أنهم عقروا وكذبوا بعد العقر، بل المعنى فكذبوه في أنها آية وحملهم التكذيب بكونها آية على عقرها. قال: والمراد بقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ: ومن يظهر في صحيفته مثقال ذرة من الخير يره. قال: وأما قول الشاعر:
أن تجيب فتسمعا، فالمراد منه أن تجيب فيتبين من ذلك أنك قد سمعت دعائي باسمك، ويكون ذلك نظير قولهم: من يقتصد في نفقته فهو عاقل إذ المراد فقد ظهر عقله بذلك ولو لم يكن التقدير كذلك لزم أن يكون جواب الشرط
متقدما عليه؛ لأن عقله قبل اقتصاده وذلك باطل قال: وأما قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ .... الآية فقال ابن جني: معناه إذا عزمتم وتهممتم بها. قال: فليس الغرض والله تعالى أعلم في قمتم النهوض والانتصاب الذي هو ضد القعود. وقال أبو سعيد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة (3). قال: وأما قول الآخر: فنحيا كراما أو نموت فنقتل فإنه أراد بقوله نموت نقارب أسباب الموت. وذكر في الشرح المذكور (4) أدلة أخر أيضا استدل بها القائلون بأن ثم لا تقتضي الترتيب وهي قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ (5)، ثم قال تعالى:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (6) لأن السماء مخلوقة قبل الأرض بدليل قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (7) إلى أن قال تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (8). -
(1) البيت من الطويل لمتمم بن نويرة - الارتشاف (ص 1157)، والعقد الفريد (2/ 17).
(2)
البيت من الطويل - التذييل (4/ 155).
(3)
معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 166).
(4)
يريد: شرح الإيضاح.
(5)
سورة فصلت: 9.
(6)
سورة فصلت: 11.
(7)
سورة النازعات: 27.
(8)
سورة النازعات: 30.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (1)؛ لأن الاهتداء هو ما تقدم ذكره فتراخيه عنه لا يتصور.
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا (2)؛ لأن الاتقاء والإيمان لم ينقطعا ثم حدث بعدهما بمهلة اتقاء وإيمان آخران. وقوله تعالى:
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (3) لأن التوبة لا تتراخى عن الاستغفار. وقوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ 7 ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ 8 ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ (4)؛ لأن التسوية والنفخ لآدم المتقدم ذكره في وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، وقد تقدم عليهما جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ وهو متأخر عنهما، وقوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (5)؛ لأن إنكار النعمة غير متراخ عن معرفتها.
وأورد أبياتا منها قول الشاعر:
3264 -
سألت ربيعة من خيرها
…
(أبا) ثمّ أمّا فقالت لمه (6)
قال: لأن كون الشخص خيرا أمّا من غيره لا يتأخر عن كونه خيرا أبا من غيره.
وقول الآخر:
3265 -
إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه
…
ثمّ قد ساد بعد ذلك جدّه (7)
لأن المدح إنما هو بتوارث السؤدد كما قال القائل:
3266 -
ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا (8)
وكما قال الآخر:
3267 -
بقيّة قدر من قدور تورّثت
…
لآل الجلاح كابرا بعد كابر (9)
-
(1) سورة طه: 82.
(2)
سورة المائدة: 93.
(3)
سورة هود: 90.
(4)
سورة السجدة: 7 - 9.
(5)
سورة النحل: 83.
(6)
البيت من المتقارب - التذييل (4/ 156).
(7)
من الخفيف - الدرر (2/ 173، 174) والهمع (2/ 131)، برواية قبل بدل بعد.
(8)
البيت شطر بيت من الطويل - وانظره في التذييل (4/ 156).
(9)
البيت من الطويل - الشجري (2/ 270، 283) وفيه: تورّثت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكما قال الآخر:
3268 -
وكابرا سادوك عن كابر (1)
ثم ذكر الأجوبة عن ذلك فقال: أما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (2) ففيه جوابان:
أحدهما: أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة ثم دحيت بعد ما ذكره الله تعالى من أمر السماء.
والآخر: أن تكون بعد بمعنى مع كما أنها بمعناها في قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (3) أي مع ذلك. وأما قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ (4) الآية فالمعنى من ثم اهتدى داوم على الهدى ويقوي ذلك أنهم قد أمروا بالدوام على الإيمان في قوله [4/ 154] تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا (5) وكذا معنى اتَّقَوْا وَآمَنُوا (6):
ثم داوموا على الاتقاء والإيمان ثم داوموا على الاتقاء والإحسان. وكذا معنى قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (7) ثم دوموا على التوبة. وأما قوله تعالى:
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (8) الآية فمعناها وبدأ خلق آدم من طين ثم حكم بجعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه، هذا إن جعل النفخ والتسوية لآدم عليه الصلاة والسلام كما أنهما له في قوله تعالى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ 71 فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (9) وإن جعلا لنسله لم يحتج في الآية الشريفة إلى تأويل.
وأما قوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (10) فإن ثُمَّ فيه للبعد المعنوي الذي بين المعطوف والمعطوف عليه لا للبعد الزماني لأن من عرف شيئا ينبغي أن يكون أبعد الناس عن إنكاره. ونظير ذلك في البعد من جهة الزمان قولك:
أشعر الناس فلان ثم فلان إذا تباعد ما بينهما في جودة الشعر. وكذلك هي للبعد المعنوي في البيت الذي هو: سألت ربيعة، لأن الشر الذي يلحق في الأنساب من -
(1) البيت في الشجري (2/ 270) «ومنه قولهم: سادوك كابرا عن كابر أي كبيرا بعد كبير، ثم ذكر البيت المتقدم.
(2)
سورة البقرة: 29.
(3)
سورة القلم: 13.
(4)
سورة طه: 83.
(5)
سورة النساء: 136.
(6)
سورة المائدة: 93.
(7)
سورة هود: 90.
(8)
سورة السجدة: 7.
(9)
سورة ص: 71، 72.
(10)
سورة نحل: 83.