الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[بناء المنادى وإعرابه]
قال ابن مالك: (يبنى المنادى لفظا أو تقديرا على ما كان يرفع به لو لم يناد [إن] كان ذا تعريف مستدام أو حادث بقصد وإقبال غير مجرور باللام ولا عامل في ما بعده ولا مكمل قبل النّداء بعطف نسق. ويجوز نصب ما وصف من معرّف بقصد وإقبال، ولا يجوز ضمّ المضاف الصّالح للألف واللّام خلافا لثعلب، وليس المبنيّ للنّداء ممنوع النّعت خلافا للأصمعيّ.
ويجوز فتح ذي الضّمة الظاهرة إتباعا إن كان علما ووصف بابن متّصل مضاف إلى علم، لا إن وصف بغيره خلافا للكوفيّين، وربّما ضمّ الابن إتباعا.
ويلحق بالعلم المذكور نحو: «يا فلان بن فلان» ويا ضلّ بن ضلّ، ويا سيّد ابن سيّد، ومجوّز فتح ذي الضّمّة في النّداء موجب في غيره حذف تنوينه لفظا، وألف ابن في الحالين خطّا، وإن نوّن فللضّرورة وليس مركبا فيكون كمرء في إتباع ما قبل السّاكن ما بعده. خلافا للفارسي. والوصف بابنة كالوصف بابن، وفي الوصف ببنت في غير النّداء وجهان).
ــ
الثالث: التفصيل بين أن تكون الحال مؤكدة فيجوز أو مبنية فلا يجوز وهو مذهب الأخفش والمازني والفارسي (1). وقال: ولا نص عن سيبويه في إجازة ولا منع (2).
انتهى. والذي يظهر الجواز مطلقا، ويدل عليه ما أنشده المصنف من قول الشاعر:
3403 -
يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته (3)
قال ناظر الجيش: قال المصنف (4): المنادى على ضربين معرب ومبني. فالمعرب المجرور بلام الاستغاثة نحو: «بالله للمسلمين» (5)، أو بلام التعجب نحو: يا للماء، ويا للدواهي، والنكرة المحضة نحو: -
(1) انظر في تلك المسألة: الإنصاف (330)، والخزانة (1/ 285، 2/ 119)، والخصائص (3/ 106)، والدرر (1/ 148)، والشجري (2/ 80، 83)، والمحتسب (1/ 251)، والمقتضب (4/ 253)، والهمع (1/ 173).
(2)
التذييل (4/ 188).
(3)
تقدم في الصفحة السابقة.
(4)
شرح التسهيل لابن مالك (3/ 391).
(5)
انظره في الكامل للمبرد (2/ 168).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3404 -
[أ] يا راكبا إما عرضت فبلّغا
…
نداماي من نجران أن لا تلاقيا (1)
والعامل فيما بعده بإضافة وغير إضافة نحو: يا ذا الجلال والإكرام، ويا رؤوفا بالعباد، ويا عظيما فضله، ويا عشرين رجلا، والمكمل قبل النداء بعطف نحو:
يا زيدا وعمرا في المسمى بهما. والمبني على ضربين مبني بناء بسبب النداء ومبني بناء غير متجدد بسبب النداء. فالأول مبني على ضمة ملفوظ بها نحو: يا زيد ويا رجل، أو مقدرة نحو: يا مولى ويا هادي ويا ربي، وعلى ألف نحو: يا زيدان، وعلى واو نحو: يا زيدون. والثاني: مبني في التقدير على ضمة وفي اللفظ على ما كان مبنيّا عليه قبل النداء نحو: يا هؤلاء ويا سيبويه ويا رقاش ويا خمسة عشر ويا برق نحره. وهذه الأنواع كلها داخلية في قولي: يبني المنادى لفظا أو تقديرا على ما كان يرفع به أما دخول ما تجدد وبناؤه بسبب النداء فظاهر. وأما دخول ما سبق بناؤه فلأن هؤلاء وسيبويه ورقاش وبرق نحره [4/ 182] قد كانت قبل النداء تقع في موضع الرفع فتنوى ضمة الإعراب في مواضعها، ويجدد لها في النداء تقدير ضمة البناء ويدل على ذلك رفع تابعها نحو: يا هؤلاء الرجال ويا رقاش الحسنة.
ونبهت بقولي: على ما كان يرفع به لو لم يناد على نحو: يا مكرمان مما لا استعمال به في غير النداء. ثم بينت أن من شرط البناء المستحق بالنداء كون المنادى غير مجرور بلام الجر وكونه غير عامل في ما بعده ولا مكمل قبل النداء بعطف نسق، فخرج باستثناء المجرور باللام المستغاث نحو: يا لله للمسلمين والمتعجب منه نحو: يا للعبر ويا للآيات. وباستثناء العامل في ما بعده المضاف، نحو: يا ذا الجلال والإكرام والشبيه به نحو: يا عظيما فضله، ويا لطيفا بالعباد، ويا عشرين رجلا، وباستثناء المكمل قبل النداء بعطف نسق نحو: يا زيدا وعمرا في المسمى بهما.
وادعى المبرد أن تعريف نحو: يا زيد متجدد بالنداء بعد إزالة تعريف العلمية لئلّا يجمع بين تعريفين (2) والصحيح أن تعريف العلمية مستدام كاستدامة تعريف الضمير واسم الإشارة والموصول في: يا إياك ويا هذا ويا من حضر ولأن النداء لا يلزم من -
(1) من الطويل لعبد يغوث - الخصائص (2/ 449)، والشذور (111)، والكتاب (1/ 312)، والمقتضب (4/ 204).
(2)
المقتضب (4/ 204، 205).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وجوده تجدد تعريف ولولا ذاك لم تناد النكرة المحضة. فعلى هذا لا يلزم من دخوله على معرفة اجتماع تعريفين على أنه لو سلم اجتماع تعريفين لجعل أحدهما مؤكدا للآخر موسوقا لزيادة الوضوح كاتساق الصفة لذلك. ويكون ذلك نظير اجتماع دليلي المبالغة في علامة ودوّاري (1)، ويجوز في المفرد المعرف بالقصد والإقبال إجراؤه مجرى العلم المفرد في البناء وإجراؤه مجرى النكرة في النصب.
قال الفراء: النكرة المقصودة الموصوفة المناداة تؤثر العرب نصبها يقولون: يا رجلا كريما أقبل، فإذا أفردوا رفعوا أكثر مما ينصبون (2). قلت: ويؤيد قول الفراء ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده: «يا عظيما يرجى لكلّ عظيم، ادفع عنّي كلّ عظيم» (3). وأجاز ثعلب - رحمه الله تعالى - أن يضم المضاف إذا كان صالحا للألف واللام نحو: يا حسن الوجه لأن إضافته في نية الانفصال (4). وأظنه قاس ذلك على رواية الفراء عن بعض العرب: يا مهتم بأمرنا لا تهتم بضم مهتم مع مشابهته المضاف لتعلق بأمرنا به.
ويخرج هذا عندي بأن يجعل بأمرنا متعلقا بلا تهتم كأنه قال: يا مهتم لا تهتم بأمرنا فقدم وأخر. ومذهبه في هذه المسألة ضعيف؛ لأن بناء المنادى ناشئ عن شبهه بالضمير والمضاف عادم الشبه بالضمير وإن كان مجازيّ الإضافة. ومنع الأصمعي نعت المبني للنداء؛ لأنه شبيه بالمضمر والمضمر لا ينعت (5).
وما ذهب إليه مردود بالسماع والقياس. أما السماع فشهرته مغنية عن استشهاد. وأما القياس فلأن مشابهة المنادى المضمر عارضة. فمقتضى الدليل أن لا تعتبر مطلقا كما لم يعتبر مشابهة المصدر لفعل الأمر في نحو: ضربا زيدا لكن العرب اعتبرت مشابهة المنادى للضمير في البناء استحسانا فلم تزد على ذلك كما أن فعال العلم لما بني حملا على فعال المأمور به لم يزد على بنائه شيء من أحوال ما حمل عليه. ونظائر ذلك كثيرة. ويجوز في المنعوت بابن من نحو: يا زيد بن عمرو -
(1) في الأول وزن فعّال والتاء وفي الأخير الوزن وياء النسب.
(2)
الأشموني (3/ 138)، وشرح العمدة (ص 120)، والهمع (1/ 173).
(3)
البخاري: دعوات (27)، وابن حنبل (1/ 228، 1/ 245)، ومسلم: ذكر (83).
(4)
الأشموني (3/ 140)، والهمع (1/ 173).
(5)
الارتشاف (ص 997).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الضم استصحابا لحاله قبل النعت، والفتح اتباعا نحو: يا زيد بن عمرو. فلو فصل ابن من المنعوت تعين الضم نحو: يا زيد الفاضل ابن عمرو وكذا يتعين الضم إن فقدت علميّة المنعوت نحو: يا غلام بن زيد أو علميّة المضاف إليه نحو: يا زيد بن أخينا، أو علميتها نحو: يا غلام بن أخينا فلو لم تكن ضمة المنادى ظاهرة لم ينو تبدلها بفتحة؛ إذ لا فائدة في ذلك. وقد أجاز الفراء في «عيسى» من قوله تعالى:
يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ * (1) تقدير الضمة والفتحة (2).
وأجاز الكوفيون فتح المنعوت بمنصوب غير ابن نحو: يا زيد الكريم واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:
3405 -
فما كعب بن مامة وابن سعدى
…
بأجود منك يا عمر الجوادا (3)
على أن الرواية بفتح راء عمر. وخرج ذلك من انتصر للبصريين بأن قال: أراد يا عمرا فحذف الألف لالتقاء الساكنين وبقيت الراء مفتوحة. وهذا الانتصار لا يثبت على مذهب سيبويه؛ لأنه لم يذكر زيادة الألف في آخر المنادى في غير ندبة أو تعجب أو استغاثة (4) والثلاثة منتفية من هذا البيت.
وأجاز غير سيبويه زيادة الألف في آخر كل منادى لمد الصوت (5) ويجري مجرى يا زيد بن عمرو في جواز فتح المنعوت يا فلان، ويا ضل بن ضل، ويا فاضل بن فاضل. وزعم بعض العلماء أن المستعمل في يا ضل بن ضل ويا فاضل بن فاضل ونحوهما الفتح لا غير. قال ابن سعدان:
كلام العرب في نحو: يا ضل بن ضل ويا فاضل بن فاضل [و] ما أشبهه من المدح أن يتبع بالفتح، فإن أدخلت الألف واللام في الثاني جاز الوجهان. وسبب هذا الفتح كثرة الاستعمال فجاز في: يا زيد بن عمرو وامتنع في نحو: يا زيد بن أخينا ولزم في نحو: يا فاضل بن فاضل جعلوا الموصوف والصفة كالشيء الواحد في -
(1) سورة المائدة: 110، 116.
(2)
انظر الأشموني (3/ 144)، والهمع (1/ 176).
(3)
من الوافر لجرير - ديوانه (107)، والدرر (1/ 153)، والمغني (ص 19)، والمقتضب (4/ 208)، والهمع (1/ 176).
(4)
ينظر الكتاب (2/ 218، 220).
(5)
الأشموني (3/ 143)، والهمع (1/ 176).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما كثر استعماله فاتبعوا الأول والثاني كما فعلوا في امرئ (1). وقد روى الأخفش عن بعض العرب ضم نون الابن اتباعا لضم المنعوت (2) وهو نظير قراءة من قرأ «الحمد لله» (3) بضم اللام (4). بل ضم النون أسهل بكثير.
ولما كان وقوع ابن في النداء بين علمين على الوجه المذكور سببا للتخفيف بتبدل الضمة فتحة جعل في غير النداء سببا للتخفيف بحذف تنوين المنعوت إلا أن النداء وجه [4/ 183] واحد وغير النداء وجوه كثيرة، فكان غير النداء أحوج إلى التخفيف فجعل تخفيفه واجبا وتخفيف النداء جائز، واستوى النداء في التزام حذف ألف ابن خطأ وقد ينون المنعوت بابن في غير النداء اضطرارا كقول الأغلب العجلي (5):
3406 -
جارية من قيس بن ثعلبة
…
قبّاء ذات سرّة مقعّبه
ممكورة الأعلى رداح الحجبة
…
كأنّها حلية سيف مذهبه (6)
وزعم الفارسي أن نحو: زيد بن عمرو عند قصد النعت في غير النداء مركب وأن حركة المنعوت حركة إتباع كحركة ميم مرء على لغة من قال: هذا مرء ورأيت مرءا ومررت بمرء (7). وليس ما رآه في هذا صحيحا للإجماع على فتح المجرور الذي لا ينصرف نحو:
صلّى الله على يوسف بن يعقوب. ذكر هذا ابن برهان (8) رحمه الله تعالى.
وإذا كان المنعوت مؤنثا علما كهند في لغة من صرف ونعت بابنة مضاف إلى علم فحكمه في النداء وغير النداء حكم (9) زيد منعوتا بابن مضافا إلى علم. وفي غير -
(1) راجع المغني (19)، والهمع (1/ 176)، وابن يعيش (2/ 299).
(2)
الارتشاف (3/ 123)، والأشموني (143)، والهمع (1/ 176).
(3)
أول الفاتحة وانظر غيرها من سور القرآن الكريم.
(4)
البحر المحيط (1/ 118).
(5)
الأغلب بن عمرو بن عبيدة من بني عجل شاعر راجز معمر أدرك الجاهلية والإسلام واستشهد في نهاوند 21 هـ. المؤتلف والمختلف (ص 22).
(6)
رجز - الخصائص (2/ 491)، والكتاب (2/ 148)، والمقتضب (2/ 315)، والهمع (1/ 153).
(7)
التذييل (4/ 195).
(8)
شرح اللمع (181، 251) وما بعدها، والأصول (1/ 273)، والتذييل (4/ 196).
(9)
تكررت في الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المنادى المنعوت يثبت وجهان رواهما سيبويه عن العرب الذين يصرفون هندا ونحوه فيقولون: هذه هند بنت عاصم وهند بنت عاصم. وكل هذا مشار إليه في الأصل.
هذا آخر كلام المصنف رحمه الله تعالى (1).
وثم أمور يتعين الإشارة إليها:
منها: أن للمنادى بالنسبة إلى كونه مبنيّا ومعربا ستة أقسام. المبني منها قسمان، والمعرب أربعة. أما المبني فالمعرفة المفرد، والنكرة المقصودة إذا كانت مفردة أيضا وأما المعرب فمجرور باللام وهو المستغاث، ومنصوب وهو النكرة غير المقصودة، والمضاف والمطول وهو المشبه بالمضاف. وقد صرح المصنف بالأقسام المذكورة في الشرح إلا أنه عبر عن المضاف والمشبه به بعبارة واحدة وهي قوله: والعامل في ما بعده بإضافة وغير إضافة، وهي عبارة مختصرة حسنة. أما كلامه في المتن فربما فيه إخلال بقسم من هذه الأقسام وهو النكرة غير المقصودة؛ لأنه حكم ببناء المنادى إن كان ذا تعريف مستدام أو حادث بقصد أو إقبال، ثم استثنى ما يعرب بقوله غير مجرور باللام ولا عامل في ما بعده، ولم يتعرض إلى ذكر النكرة المشار إليها.
لا يقال إنه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنا قد علمنا أن المنادى له النصب بقوله أول الباب: المنادى منصوب لفظا أو تقديرا فإذا لا يحتاج مع ذلك إلا إلى ذكر ما يبنى منه ليخرجه من الحكم الذي يعم أقسام المنادى وهو النصب؛ لأنا نقول: هذا الذي قيل كلام صحيح لكن كان يلزم منه ألا يتعرض إلى ذكر شيء من أقسام المعرب؛ لأن الإعراب قد ثبت للمنادى بقوله: إنه منصوب وإنما يلزمه التعرض إذ ذاك إلى ذكر ما يبنى منه خاصة. لكنه قد تعرض إلى ذكر بعض ما يعرب فكان الواجب إما أن يستوفي أقسام المعرب وإما أن لا يذكر شيئا منها.
ومنها: أنهم ذكروا أن المنادى المضاف إلى نكرة نحو: يا أخا رجل ويا رجل سوء ليس بمعرفة، ولكنه جرى في الإعراب كالمضاف إلى معرفة ليكون الباب واحدا.
قالوا: ولا يجوز أن يقصد به واحد بعينه فيتعرف بالنداء لأن إضافته إلى النكرة سبب تنكير لفظي فلا يصح تضمنه للتعريف لأن المحل لا يقبل. فكان كالوصف للنكرة. -
(1) انظر شرح التسهيل لابن مالك (3/ 395).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قالوا: ونص عليه سيبويه (1).
ومنها: أن المنادى المفرد المعرفة إنما بني؛ لأنه لإفادته الخطاب أشبه الضمير وهو الكاف في أدعوك في إفادته الخطاب وأنه معرفة مفرد. والأسماء الظاهرة موضوعة على الغيبة بدليل عود الضمير إليها بلفظ الغيبة نحو: زيد قائم ولا يصح أن تكون علة البناء إفادته الخطاب فحسب؛ لأنه يلزم منه بناء المضاف والمشبه به إذا أريد به واحد معين، ولا مع التعريف لأنه يلزم منه بناء المضاف والمشبه به إذا كان معرفة، فثبت أن المجموع وهو إفادته الخطاب وتعريفه وإفراده هو العلة ليكون كالكاف في أدعوك فإنها مقيدة للخطاب وهي معرفة مفردة. وفي شرح الشيخ:
ذهب سيبويه إلى أنه بني إجراء له مجرى الأصوات (2). وكذا قال ابن أبي الربيع أيضا: إن سيبويه علل بناء المنادى بأنه صار بمنزلة الصوت (3). لكن قال ابن عمرون في شرح المفصل عند ذكره سبب بناء المنادى: وقيل بني لشبهه بالأصوات التي يصوت بها للبهائم عند ما يراد منها كعدس وهاب (4)، وليس بشيء لأنه لو كان البناء كذلك لبني النكرة؛ لأنه لا فرق في الصوت بين المعرفة والنكرة.
وكان بناؤه على حركة لأن بناءه عارض، وكل اسم يعرب في حال ويبنى في حال إذا بني بني على حركة كقبل وبعد، وكانت الحركة ضمة أو قام مقامها لشبهه بقبل وبعد، ووجه الشبه أنه إذا أضيف أو نكر أعرب وإذا كان معرفة مفردا بني. وقيل بني على الضم لئلّا يشبه المضاف؛ لأن المضاف إلى غير ياء المتكلم منصوب في النداء والمضاف إلى ياء المتكلم يكون مكسورا والمختار فيه حذف الياء وإبقاء الكسرة فبني على الضم لئلّا يلبس بأحدهما.
وقد ذكر لبناء المنادى أسباب غير ما ذكرنا لكنها غير معتبرة عند التحقيق فتركت إيرادها لذلك. -
(2)
التذييل (4/ 189)، والكتاب (2/ 199).
(3)
السابق.
(4)
راجع التذييل (4/ 189) وما بعدها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد شذ الكسائي والرياشي (1) في دعواهما أن الحركة في يا زيد حركة إعراب (2)، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي التشاغل به، إذ فيه خرم للقواعد وهدم للأصول، نعم الأخفش يقول إن نحو يا رجل معرب لأنه يقول إنه في نية يا أيها [4/ 184] الرجل ونابت مناب الألف واللام ولهذا سقط التنوين. وقد رد مذهبه بقول العرب: يا فاسق الخبيث والخبيث، وما ذاك إلّا لأنه غير معرب.
ومنها: أنك قد عرفت أن قول المصنف: ولا عامل في ما بعده يشمل المضاف والمشبه به وهو المعبر عنه بالمطول وبالممطول أيضا من قوله: مطلت الحديدة إذا مددتها، وهو كل اسم موصول بشيء هو كالتمام له عمل الأول في الثاني النصب لفظا، نحو: يا ضاربا زيدا، أو محلّا نحو: يا خيرا من زيد، أو الرفع نحو:
يا حسنا وجهه ويا مضروبا غلامه، أو لم يعمل لكن ثم ما يقوم مقام العامل وهو حرف العطف نحو: يا ثلاثة وثلاثين إذا كان اسم رجل واحد فالأول منصوب لأنه مشبه بالمضاف من حيث إن الثاني من تمام الأول؛ لأن التسمية وقعت بالكلمتين مع حرف العطف. ولما كان حرف العطف يقتضي معطوفا عليه وهو بمنزلة العامل صار كأن بعض الاسم عمل في الآخر فأشبه ضاربا زيدا والثاني منصوب بالعطف على الأول. ولما لم يعبر المصنف عن المطول بما عبر به غيره وكانت العبارة التي أتى بها إنما يدخل تحتها مع المضاف من المطول ما يكون عاملا في ما بعده احتاج أن يقول بعد ذلك: ولا مكمل قبل النداء بعطف نسق. وأفاد قوله: قبل النداء فائدة وهي:
أن العطف لو حصل حال النداء لم يكن له أثر في نصب المنادى.
ومن ثم قال ابن السراج في قولنا: (يا) ثلاثة وثلاثين إذا كانا اسما واحدا وليس هذا بمنزلة قولك للجماعة: يا ثلاثة وثلاثون، لأنك في هذا يا أيها الثلاثة والثلاثون (3). انتهى.
فقد فرق بين المسألتين كما رأيت. وليس الفرق إلّا ما أفاده كلام المصنف من أن -
(1) أبو الفضل العباس بن الفرج، كان أبوه عبدا لرجل من بني جذام اسمه رياش، أخذ عن المازني، تصانيفه غير نحوية، قتل في موقعة الزنج بالبصرة (257 هـ)، الأعلام (4/ 37)، والنشأة (ص 112)، ووفيات الأعيان (1/ 246).
(2)
الارتشاف (3/ 120)، والهمع (1/ 172).
(3)
الأصول (1/ 344).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عطف النسق في المسألة الأولى وجد قبل النداء فكان الثاني من تمام الأول، وأما في الثانية فليس كذلك إنما وجد حال النداء فهو منفصل عنه أي ليس من تمامه ولا بطول المنادى بمعموله إلّا إذا كان المعمول ملفوظا به. فعلى هذا: إذا ناديت وقلت:
يا ذاهب بنيته على الضم ولم تنصبه وإن كان عاملا في ضمير المرفوع. وكذا إذا قلت: يا ذاهب وزيد تبني الاسمين. فإن قدرت زيدا معطوفا على الضمير لزم نصب ذاهب؛ لأنه عامل في زيد بوساطة حرف العطف، ولو قلت: يا مشتركا وزيد لم يجز في مشترك إلّا النصب؛ لأن عطف زيد على الضمير متعين إذ لا يجوز عطفه على مشترك لأن مشتركا لا بد أن يسند إلى ما زاد على واحد.
واعلم أنك إذا ناديت جماعة عدتهم ما ذكرت من العدد نحو: يا ثلاثة وثلاثين فإن كانت غير معينة نصبت المعطوف والمعطوف عليه. أما الأول فلأنه اسم نكرة غير مقصودة، وأما الثاني فلأنه معطوف عليه وإن (كانت) الجماعة معينة فلا بد من بناء ما باشرته «يا» لكونه مفردا معرفة. وأما المعطوف عليه فيجوز فيه ما يجوز في غيره من العطف على اللفظ فيرفع أو على المحل فينصب.
لكنهم ذكروا أن دخول «أل» في الثاني حينئذ واجب، ولم يظهر لي وجهه.
وذكر عن ابن خروف أنه يجيز دخول «أل» وتركها (1)، والذي قاله ابن خروف هو الظاهر. ويتصل بما ذكر مسألة وهي:
أنك إذا ناديت اثني عشر فإنك تقول: يا اثنا عشر. ولا يتوهم أنه بمنزلة المضاف من أجل حذف النون؛ لأن النون لما حذفت نزلت عشر منزلتها فصار في الحكم بمنزلة قولك: اثنان، ولو ناديت هذه الكلمة لقلت: يا اثنان، وكذا يا اثنتا عشرة ويا ثنتا عشرة. ونقل عن الكوفيين أنهم يلحظون فيه الإضافة فيجيزون يا اثني عشر.
ومنها: أنك قد عرفت من كلام المصنف أنه يرى تعريف النكرة المقصودة إذا نوديت إنما هو النداء وعبر عنه بقوله: أو حادث بقصد وإقبال، ومن ثم عدّ النداء من جملة المعرفات لما ذكر المعارف في أول الكتاب (2). -
(1) التذييل (4/ 191).
(2)
قال في شرحه على التسهيل (1/ 115) تحقيق د/ عبد الرحمن السيد: «فالمعرفة مضمر وعلم ومشار به ومنادى وموصول ومضاف وذو أداة» ثم أخذ في الشرح، والتفصيل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا شك أن في المسألة للنحاة مذهبين. أحدهما: ما اختاره المصنف. والآخر:
أن تعريف مثل ذلك بأل وأنها حذفت وناب حرف النداء منابها. قال ابن عصفور:
لأن الخطاب لا يعرّف. ألا ترى أنك تقول: أنت رجل قائم فتخاطبه ويبقى الاسم بعد ذلك نكرة. انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال؛ لأن النكرة لم يخاطب بها. ومسألة النداء إنما هي النكرة المخاطب بها لأنك إذا قلت: يا رجل، فكأنك قلت: يا أنت. وقد رد ابن الضائع قول من قال إن التعريف بأل بأن تعريف «أل» بالعهد، وإذا قلت:
يا أيها الرجل فلا عهد فيه. قال: فإن زعم القائل بذلك أن أل للحضور فالحضور هو المعرف وهو معنى قول من قال إنه تعرف بالخطاب (1).
ومنها: أن الكوفيين (2) يخالفون البصريين في جواز نداء النكرة غير المقبل عليها ويزعمون أن النكرة غير المقبل عليها لا تكون في النداء إلّا موصوفة نحو: يا رجلا ذاهبا، أو صفة في الأصل حذف موصوفها وخلفته نحو: يا ذاهبا.
فمن مجيء النكرة الموصوفة قول القائل:
3407 -
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة
…
فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق (3)
فالنكرة المناداة موصوفة بحزوي. وقول الآخر:
3408 -
ألا يا نخلة من ذات عرق
…
عليك ورحمة الله السّلام (4)
فنخلة موصوفة بقوله «من ذات عرق» ، وقول الآخر:
3409 -
لعلّك يا تيسا نزا في مريرة
…
معذب ليلى أن تراني أزورها (5)
فالجملة في موضع صفة المنادى. ومن مجيء النكرة التي هي صفة قول القائل:
3410 -
أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن
…
نداماي من نجران أن لا تلاقيا (6)
-
(1) شرح الجمل لابن الضائع (63).
(2)
عزاه البغدادي إلى الكسائي والفراء - الخزانة (1/ 313).
(3)
من الطويل لذي الرمة - ديوانه (1/ 456)، والتصريح (2/ 280)، والحلل (ص 191)، والكتاب (1/ 311)، والمقتضب (4/ 203).
(4)
تقدم في باب عطف النسق.
(5)
من الطويل لتوبة بن الحمير - الكتاب (1/ 312)، والمقتضب (4/ 203)، والنوادر (ص 72).
(6)
تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فنصب راكبا لأنه صفة لمحذوف، وليست جملة الشرط والجزاء صفة لأنها [4/ 185] لا تحتمل الصدق والكذب لتضمنها الأمر. وحاصل الأمر أن الذي يشترطه الكوفيون في نداء النكرة غير المقصودة أن تكون موصوفة فقط؛ لأنها إذا كانت صفة خلفا عن موصوف كان المنادي في الحقيقة إنما هو الموصوف والصفة نائبة عنه وحينئذ يكون المنادى نكرة موصوفة. وعلى هذا لا حاجة إلى أن يجعل قولهم أو صفة في الأصل قسيما لقولهم: نكرة موصوفة؛ إذ ليس إلا قسم واحد.
ولا يجوز عند الكوفيين أن يقال: يا رجلا، ويقولون: إنه لم يسمع شيء من ذلك عن العرب، وإنما لم يجيزوا ذلك لأن انتصاب المنادى من قولنا: يا رجلا ذاهبا عندهم إنما هو لطوله بالصفة وانتصاب ذاهب من يا ذاهبا بسبب أن الأصل فيه يا رجلا ذاهبا فإذا لم توصف النكرة انتفى الطول الموجب للنصب.
وقد ردّ مذهبهم بأن الوصف لو كان يؤثر الطول في المنادى فينصب لكان يجب نصب زيد من قولنا: يا زيد الطويل، ولا قائل بذلك.
قال ابن عصفور: «فإن قيل: الطول بالوصف لا يوجب النصب إلّا إذا كان الوصف لازما والوصف لا يلزم في يا زيد الطويل ويلزم النكرة غير المقبل عليها.
فالجواب: أن الطول بالوصف وإن كان لازما لا يوجب النصب بدليل: يا أيها الرجل، وإذا بطل أن الطول بالوصف لازما كان أو غير لازم غير موجب النصب كان موجب النصب إنما هو التنكير، وإذا كان موجب النصب التنكير لم يمنع مانع من جواز مجيء النكرة غير المقبل عليها، وإن كانت غير موصوفة، وما يقبله القياس لا يقدح فيه عدم السماع».
وقد ادعى ابن الطراوة أن «دارا» من قوله: أدارا بحزوى، «وتيسا» من قوله:
لعلّك يا تيسا نزا معرفتان. قال: وإلا فكيف يقول: هجت للعين عبرة لدار لا يعرفها، وكيف يقول: لعلّك معذّب ليلى لمن يكون مجهولا عنده. وخرّج البيتين على أن ثم موصولا محذوفا هو الوصف، والمجرور والجملة صلتان. التقدير أدارا التي بحزوى، ويا تيسا الذي نزا وكذا التقدير عنده في: ألا يا نخلة من ذات عرق أي التي من ذات عرق (1). قال: والدليل على جواز حذف الموصول وإبقاء صلته -
(1) انظر ادعاء ابن الطراوة هذا في الارتشاف (3/ 121).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (1)، وقال الشاعر:
3411 -
عدس ما لعبّاد عليك إمارة
…
نجوت وهذا تحملين طليق (2)
المعنى: وما تلك التي بيمينك يا موسى، وهذا الذي تحملين طليق. قال: وكذا قول النابغة:
3412 -
يا دار ميّة بالعلياء فالسّند
…
أقوت وطال عليها سالف الأبد (3)
المعنى يا دار مية التي بالعلياء، وقول امرئ القيس:
3413 -
ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا
…
على جدد الصّحراء من شدّ ملهب (4)
المعنى ترى الفأر الذي في مستنقع القاع لاحبا).
قال ابن عصفور: وهذا الذي ذهب إليه باطل بدليل أنه لا يحفظ من كلامهم وصف دار وتيس وأمثالها بالمعرفة.
وأما قوله: إنه لا يقال: هجت للعين عبرة لدار لا يعرفها، ولعلك معذب ليلى لمن يجهله، فصحيح إلا أنه لا حجة له في ذلك على ما ادعاه من كون دارا وتيسا معرفتين؛ لأن الاسم لا يكون معرفة إلا إذا قدر المخاطب أن المخاطب قد ساواه في العلم به. وأما إذا قدر المخاطب أن المخاطب يجهله فإنه لا يكون إلّا نكرة وسواء في ذلك جهل المخاطب به، أو علمه. ألا ترى أنك إذا قلت: أذنب إلي رجل من أصحابي صفحت عنه كان رجل نكرة لأنك أبهمته على المخاطب فلم يعلم من عنيت به مع أنه معلوم عندك فكذلك دار وتيس ونخلة من الأبيات مجهولة عند غير المتكلم؛ لأنه لم يقبل بندائه على المنادى فيتعين لذلك، وإن كان جميع ذلك معلوما عند المنادى. وما ذهب إليه من حذف الموصول وإبقاء صلته باطل على ما عرف في باب الموصول، وما استدل به مخرج على خلاف ما ذكره.
(1) سورة طه: 17.
(2)
من الطويل ليزيد بن مفرغ الحميري - ديوانه (ص 115)، والشذور (ص 147)، والعيني (1/ 442)، واللسان: عدس، والمحتسب (2/ 94).
(3)
من البسيط للذبياني - ديوانه (ص 15)، والتصريح (1/ 140، 2/ 243)، والكتاب (1/ 364) والمجالس (ص 503)، والمحتسب (1/ 251).
(4)
من الطويل - ديوانه (ص 51).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما: يا دار مية بالعلياء؛ فالعلياء في موضع الحال من دار مية عند من يجيز مجيء الحال من المنادى ومن لا يجيز جعله متعلقا بما بعده والتقدير: أقوت وطال عليها سالف الأبد بالعلياء فالسند. وأما قوله: ترى الفأر في
مستنقع القاع فيخرج على أن في مستنقع القاع في موضع الحال من ضمير الفاعل المستتر في ترى فيكون العامل فيه إذ ذاك محذوفا، ولاحبا حال من الفأر، والمعنى ترى الفأر لاحبا على جدد الصحراء وأنت في مستنقع القاع. يريد أن الفأر إذا سمع حفيف هذا الفرس في جريه ظنه مطرا فخاف من سيله ومرّ على جدد الصحراء طلبا للنجاة منه فإذا بلغ راكب هذا الفرس مستنقع القاع الذي كان فيه الفأر أبصره متعلقا بجدد الصحراء.
فأما قول الشاعر:
3414 -
أيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله
…
جرير ولكن في كليب تواضع (1)
فليس من قبيل المنادى المنكور لأنه قصد بذلك شخصا بعينه ولم يرد أن يبهمه على المخاطب، بل بينه بقول جرير: وإنما هو منصوب بناصب مضمر على جهة الإغراء أي: عليكم شاعرا لا شاعر اليوم مثله (2). انتهى كلام ابن عصفور رحمه الله تعالى.
ولم يظهر لي قوله: إن في مستنقع القاع في موضع الحال من ضمير الفاعل المستتر في ترى مع قوله: فيكون العامل فيه إذ ذاك محذوفا، لأن العامل في الضمير هو ترى، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها.
وأما قوله: إن شاعرا من قول الشاعر: أيا شاعرا منصوب على الإغراء فغير ظاهر، لأن أيا حرف نداء لا حرف تنبيه وليس ثم منادى محذوف فوجب أن يكون شاعرا منادى، وأما نصبه فلا شك أن المنادى المعرفة المبني يجوز أن ينون للضرورة، وإذا نون فلك فيه وجهان. الضم تشبيها بمرفوع اضطر إلى تنوينه وهو مستحق لمنع الصرف، والنصب تشبيها بالمضاف لطوله بالتنوين. وسيأتي ذكر هذه المسألة في آخر الفصل. فعلى هذا يتوجه نصب شاعرا لا على ما قاله من الإغراء. -
(1) من الطويل للصلتان العبدي يفضل جريرا على الفرزدق شعرا، ويفضل الفرزدق على جرير شرفا وفضلا - الشجري (2/ 142)، والكتاب (1/ 328)، والمقتضب (3/ 215).
(2)
راجع شرح الجمل لابن عصفور (2/ 85، 86).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[4/ 186] واعلم أن الذي ادعاه ابن الطراوة في المناديات المتقدمة وهي أنها معارف تنزع إلى ما يزعمه المازني من أن النكرة لا يتصور أن تكون غير مقبل عليها وإن وجد من ذلك شيء فتنوينه لأجل الضرورة كقوله: أدارا بحزوى وكأن العلة عنده أن المجهول لا ينادى (1). ورد ذلك على المازني بأنه يمكن أن يكون الشاعر نادى دارا مبهمة من ديار حزوى لأن هذا الموضع كان به دار محبوبته .. فمن أجل ذلك كل دار به تهيج عبرته إذا رآها، لأنها
تذكره محبوبته فيكون كقول متمم بن نويرة (2) في رثاء أخيه مالك:
3415 -
وقالوا بكى كل قبر رأيته
…
لقبر ثوى بين اللّوى فالدكادك
فقلت لهم إنّ الأسى يبعث البكا
…
دعوني فهذا كلّه قبر مالك (3)
قالوا: وأما يا تيسا، ويا نخلة فإن قائله كنى عن بعل محبوبته بتيس مبهم وعن محبوبته بنخلة مبهمة.
هذا وقد تقدم من جواب ابن عصفور عن مثل هذا أيضا بأن النظر فيه إنما هو إلى جهل المخاطب وعلمه، فالذي يقدر المتكلم أن المخاطب يجهله هو نكرة مع أن المتكلم يعلمه ولا يحكم بتعريف النكرة إلّا إذا قدر المتكلم أن المخاطب قد ساواه في العلم به.
ومنها: أنك قد عرفت أن الأصمعي يمنع نعت المنادى المبني. وأن المصنف ذكر أن ما ذهب إليه مردود بالسماع والقياس، ثم مما يبطل مذهبه قول العرب: يا زيد ابن عمرو بفتح دال زيد ولو كان ابن عمرو منصوبا بفعل مقدر لكان جملة مستأنفة ولم يكن للفتح وحذف التنوين منه وجه، فلم يبق إلّا أن يكون ابن عمرو صفة لزيد لتكون فتحة دال زيد فتحة إتباع. قالوا: ويلزم على مذهبه أن تكون أي في النداء تامة يحسن السكوت عليها، لأن المرفوع عنده خبر مبتدأ محذوف كما أن المنصوب معمول لفعل محذوف، وما ينعت على القطع يلزم استقلاله. -
(1) الارتشاف (3/ 121) والتصريح (2/ 167)، والمازني وأثره (ص 325) وما بعدها.
(2)
ابن حمزة بن شداد اليربوعي التميمي شاعر فحل صحابي عاش في الجاهلية والإسلام ت 30 هـ - الأعلام (6/ 154، 155)، والجمهرة (ص 141)، والسمط (ص 87)، والمرزباني (ص 466).
(3)
البيتان من الطويل وهما - بنسبتهما - في التذييل (4/ 192).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما قول الأصمعي: إن المنادى أشبه الضمير، فالجواب عنه أنه اسم ظاهر ولا يلزم من وقوعه موقع الضمير مشابهته له من كل وجه. وقد قالت العرب: يا تميم كلهم فراعوا أصله ولو كان بمنزلة الضمير من كل وجه لم يجز كما لم يجز إنكم كلهم. واتفاقهم على الرفع في: يا أيها الرجل دليل على أنه للإتباع إذ لو كان للقطع لجاز نصبه.
واستدل سيبويه على أنه ليس موضع قطع بوقوع أجمعين فيه نحو: يا تميم أجمعون ولا يكون إلّا تابعا (1).
قيل: وهذا لا يلزم لأنه لا يقول: إنه محل للقطع مطلقا لأنه لا يمنع التأكيد؛ لأن المضمر يؤكد ويدل منه.
ومنها: أن المصنف ذكر في شرح الكافية عن المبرد أنه يزعم أن الضم في: يا زيد ابن عمرو أجود من الفتح وأنه
أنشد بالفتح قول القائل:
3416 -
يا حكم بن المنذر بن الجارود
…
سرادق المجد عليك ممدود (2)
ثم قال: ولو قال: يا حكم بن المنذر كان أجود. انتهى (3).
وزعم ابن كيسان أن الفتح أكثر في كلام العرب وإن كان الضم هو القياس (4).
ومما ورد بالفتح قول الشاعر:
3417 -
يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت
…
لك الجنان وروّحت [المها] العينا (5)
وإنما جاز إتباع الدال لحركة نون ابن مع الفصل بينهما؛ لأن الفاصل ساكن وهو حاجز غير حصين ومسوغ الإتباع أن ابنا لما كان صفة لما قبله جعلا كالشيء الواحد، واللفظان إذا كثر استعمالهما معا يجعلهما العرب كالشيء الواحد يدل على ذلك أنهم -
(1) الكتاب (2/ 184).
(2)
رجز لرؤبة - ملحقات ديوانه (ص 172)، والكتاب (1/ 313)، واللسان: سردق والمقتضب (4/ 232)، وابن يعيش (2/ 5).
(3)
شرح الكافية الشافية (3/ 1298) والمقتضب (4/ 231) والمصادر السابقة.
(4)
التصريح (2/ 196)، والهمع (! / 176).
(5)
من البسيط لأبي بكر الصديق - التذييل (4/ 194)، والشذور (ص 39) - الأمير - برواية:
بوئت بدل روحت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقولون في مقلوب لعمري: رعملي، وذلك أن لام الابتداء لما كثر استعمالها مع عمرو جعلوها معه كالشيء الواحد، فلما قلبوا صيروا اللام كأنها من حروف عمرو.
وليعلم أن الأول أعني المنادى إذا كان مضموما جاز في ابن مع كونه نعتا أن يكون بدلا وعطف بيان، وإذا فتح لم يكن ابن إلّا نعتا لما علمت أن الإتباع لا بد أن يكون الكلمتان كالشيء الواحد. ولا يتصور ذلك إلّا إن كانت الكلمة الثانية نعتا.
ومنها: أن الشيخ ناقش المصنف في أمرين ذكرهما في الشرح.
أحدهما: أنه قال ويجري مجرى: يا زيد بن عمرو في جواز فتح المنعوت يا فلان ابن فلان بن فلان، ويا ضل بن ضل ثم قال: ولزم في يا فاضل بن فاضل (1).
قال: وهذا تناقض، ولعله من الناسخ. ثانيهما: قوله: وما أشبهه من المدح بعد قوله: يا فلان بن فلان، ويا ضل بن ضل، ويا فاضل بن فاضل (2). قال: والذي ذكره أصحابنا أن المسألة مفروضة في ما إذا كان المنادى غير علم ووصف بابن مضاف إلى غير لكنه مما اتفق فيه لفظ المنادى ولفظ ما أضيف إليه ابن نحو: يا كريم ابن الكريم، ويا شريف بن الشريف ويا كلب بن الكلب، ويا وثن بن وثن، ويا وثن ابن الوثن ولم يخصوه بالمدح (3). قال: وذكروا خلافا في ذلك. فالبصريون يضمون المنادى وينصبون ابنا، والكوفيون وابن كيسان يجرونه مجرى يا زيد بن عمرو في جواز البناء على الضم وجواز الفتح تبعا لفتحة ابن كما أجرت العرب ذلك في غير النداء في حذف التنوين من الموصوف.
قال الكميت:
3418 -
تناولها كلب بن كلب فأصبحت
…
ترائي بها الأطواد لهبا إلى لهب (4)
وقال آخر:
3419 -
فإنّ أباكم ضلّ بن ضلّ
…
وأبا من أبائكم برّاء (5)
قال: وما ذهب إليه البصريون هو القياس لأن الأعلام أقبل للتغيير من غيرها، -
(1) التذييل (4/ 195).
(2)
السابق.
(3)
التذييل (4/ 195).
(4)
من الطويل - التذييل - بغير نسبة (4/ 195).
(5)
وانظره في التذييل (4/ 195).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهو الأكثر في السماع، وإنما أجرى ابن مع المتفقين مجراه مع العلمين للتساوي في كثرة الاستعمال، وأيضا فمدح الأب أو ذمه بما مدح به الابن أو ذم مبالغة في المدح أو الذم.
وكأنك قلت: يا عريقا في الكرم حيث قلت: يا كريم بن كريم، أو في الخبث [4/ 187] حيث قلت: يا خبيث بن خبيث، فلو خالفت بين اللفظين لم يكونا بمنزلة الكلمة الواحدة (1).
ومنها: أنك قد عرفت أن تنوين قيس من قول الشاعر: «جارية من قيس ابن ثعلبة» إنما هو للضرورة وعلى أن ذلك ضرورة أنشده سيبويه (2) وأنشد أيضا على أنه ضرورة قول الآخر:
3420 -
هي ابنتكم وأختكم زعمتم
…
لثعلبة بن نوفل بن جسر (3)
لكن ابن جني خرّج البيتين على البدل (4). ورد ذلك بأن العرب لم تجعل ابنا في ذلك وأمثاله إلا صفة بدليل أنهم لم ينونوا إلا في الشعر ولو كان ابن بدلا لجاء التنوين في فصيح الكلام. ثم اعلم أن التنوين قد يحذف من العلم المخبر عنه بابن كما يحذف من المنعوت به ذكر المصنف هذه المسألة في الكافية فقال:
وقد يعامل الذي ابن خبره
…
بمالمنعوت ونظم أكثره
وشرح هذا بأن قال (5): نبهت بهذا على أن المخبر عنه بابن قد يعامل معاملة المنعوت به فيسقط تنوينه وأكثر ما يقع ذلك في الشعر كقوله:
3421 -
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
…
شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر (6)
ومما جاء في نثر قراءة عاصم والكسائي: وقالت اليهود عزير ابن الله (7)، -
(1) التذييل (4/ 195).
(2)
في الكتاب (3/ 506).
(3)
من الطويل - الكتاب (3/ 505)، وثعلبة بن نوفل: حي من اليمن.
(4)
الخصائص (2/ 491)، وانظر الشجري (1/ 382)، والكتاب (2/ 148)، والمقتضب (2/ 315)، والهمع (1/ 153)، وابن يعيش (2/ 6).
(5)
شرح الكافية الشافية (3/ 1299 - 1302).
(6)
تقدم قريبا (باب عطف النسق)، وانظر شرح الكافية الشافية (510).
(7)
سورة التوبة: 30. والقراءة بتنوين «عزير» البحر المحيط (5/ 31)، والكشاف (2/ 185).