الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[من أحكام البدل وحكم اجتماع التوابع]
قال ابن مالك: (فصل: المشتمل في بدل الاشتمال هو الأوّل، خلافا لمن جعله الثّاني أو العامل، والكثير كون البدل معتمدا عليه، وقد يكون في حكم الملغى، وقد يستغنى في الصّلة بالبدل عن لفظ المبدل منه، ويقرن البدل بهمزة الاستفهام إن تضمّن متبوعه معناها.
وقد تبدل جملة من مفرد، ويبدل فعل من فعل موافق في المعنى مع زيادة بيان. وما فصّل به مذكور وكان وافيا ففيه البدل والقطع، وإن كان غير واف تعيّن قطعه إن لم ينو معطوف محذوف. ويبدأ عند اجتماع التّوابع بالنّعت، ثمّ بعطف البيان، ثمّ بالتّوكيد، ثمّ بالبدل، ثمّ بالنّسق).
قال ناظر الجيش: قال المصنف (1): مذهب الفارسي كون المشتمل هو الأول ومذهب غيره أنه التابع، وظاهر قول المبرد أنه العامل (2) ومذهب الفارسي هو الصحيح؛ لأن الثاني والثالث لا يطردان؛ لأن من البدل الاشتمال: أعجبني زيد كلامه وفصاحته، وكرهت عمرا ضجره، وساءني خالد فقره وعرجه، والثاني في هذا وأمثاله غير مشتمل على الأول فلم يطرد كون الثاني مشتملا، وأما عدم اطراد الثالث فظاهر؛ لأن من جملة بدل الاشتمال قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (3) والعامل فيه ليس مشتملا على المتبوع والتابع، والكثير كون البدل معتمدا عليه بما تدعو الحاجة إليه من خبر وغيره كقولك: إن الجارية هندا حسنها فاتن، وإن زيدا نجابته بيّنة، وكقول الشاعر:
3219 -
وما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنّه بنيان قوم تهدّما (4)
وقل الاعتماد على المبدل منه وجعل البدل في حكم الملغي كقول الشاعر: -
(1) شرح التسهيل (3/ 338).
(2)
ينظر المقتضب (4/ 211، 295، 399).
(3)
سورة البقرة: 217.
(4)
من الطويل لعبدة بن الطيب - الحلل (43)، وشرح الحماسة للمرزوقي (2/ 791، 792)، والكتاب (1/ 77).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
3220 -
فكأنّه لهق السّراة كأنّه
…
ما حاجبيه معيّن بسواد (1)
فجعل حاجبيه وهو بدل في حكم ما لم يذكر فأفرد الخبر، ولو جعل الاعتماد على البدل لثنّى الخبر كما تقول: إن زيدا يديه منبسطتان بالخير، ولو جعلت البدل في حكم الملغي لقلت: إن زيدا يديه منبسط بالخير، ومثل كأنه ما
حاجبيه معين قول الآخر:
3221 -
إن السّيوف غدوّها ورواحها
…
تركت هوزان مثل قرن الأعضب (2)
فجعل الخبر للسيوف وألغى غدوها ورواحها ولو لم يلغهما لقال: تركا كما تقول: الجارية خلقها وخلقها سيان. ومن الاعتماد على المبدل منه وجعل البدل في حكم الملغي قولك: زيد عرفت أخاه عمرا وجاء الذي رغبت فيه عامر. وقد يستغنى في الصلة عن لفظ المبدل منه كقولك: أحسن إلى الذي وصفت زيدا بالنصب على الإبدال من الهاء المقدرة وبالجر على الإبدال من الذي بالرفع على جعله خبر مبتدأ.
ويجب اقتران البدل بهمزة استفهام إن تضمن المبدل منه معناها نحو: كيف زيد أمريض أم صحيح. وما عندك أدرهم أم دينار وكم دراهمك أعشرون أم ثلاثون.
وقد تبدل جملة من مفرد كقولك: عرفت زيدا أبو من هو [4/ 144] أي عرفت زيدا أبوته. ومنه قول الشاعر:
3222 -
لقد أذهلتني أمّ سعد بكلمة
…
أتصبر يوم البين أم لست تصبر (3)
فالجملة الاستفهامية التي بعد «كلمة» بدل منها؛ لأن الكلمة هنا بمعنى الكلام.
ومنه قول الآخر:
3223 -
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة
…
وبالشّام أخرى كيف يلتقيان (4)
قال أبو الفتح بن جني: كيف يلتقيان بدل من حاجة كأنه قال: إلى الله أشكو -
(1) من الكامل للأعشى - الدرر (2/ 221)، وشرح المفصل (3/ 67)، والكتاب (1/ 80)، والهمع (2/ 157).
(2)
البيت من الكامل للأخطل - ديوانه (28)، والمقتضب (1/ 103)، والأعضب: الكبش المكسور والقرن.
(3)
البيت من الطويل - التذييل (4/ 147)، والمغني (ص 456).
(4)
البيت من الطويل لابن أبي ربيعة - ملحقات ديوانه (495) - الأشموني (3/ 132) والتصريح (2/ 162) والدرر (2/ 166) والمغني (207، 426) والهمع (2/ 128).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هاتين الحاجتين تعذر التقائهما (1). ومن إبدال الجملة من المفرد قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (2) فإن وما عملت فيه بدل من ما وصلتها على تقدير: ما يقال لك إلا أن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم. وجاز إسناد «يقال» إلى «إنّ» وما عملت فيه كما جاز إسناد «قيل» إليها في وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ (3)، ومن إبدال الجملة من المفرد هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (4) قال
الزمخشري: «هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من «النجوى» » (5).
ومن إبدال الجملة من المفرد قول ابن الزبير الأسدي (6):
3224 -
لمّا دنا منّي سمعت كلامه
…
من أنت لا لاقيت أمر سرور (7)
ويبدل فعل من فعل موافق له في المعنى مع زيادة بيان كقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً 68 يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (8)، وكقول الشاعر:
3225 -
متى تأتنا تلمم بنا في دارنا
…
تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (9)
وكقول الآخر:
3226 -
إنّ عليّ الله أن تبايعا
…
تؤخذ كرها أو تجيء طائعا (10)
وإذا قصد تفصيل مذكور بما هو صالح للبدلية وكان وافيا بآحاد المذكور جاز -
(1) المصادر السابقة.
(2)
سورة فصلت: 43.
(3)
سورة الجاثية: 32.
(4)
سورة الأنبياء: 3.
(5)
السابقة، وانظر الكشاف (3/ 80).
(6)
عبد الله بن الزبير من شعراء الدولة الأموية كان كوفي المنشأ والمنزل يخاف الناس شره وهجاءه (ت 75 هـ) الأعلام (4/ 218) والخزانة (1/ 345).
(7)
البيت من الكامل التذييل (4/ 147).
(8)
سورة الفرقان: 78، 69.
(9)
البيت من الطويل لعبيد الله بن الحر، وينسب الحطيئة وليس في ديوانه - الكتاب (1/ 446) والمقتضب (1/ 66)، والهمع (2/ 128) ويس (2/ 162).
(10)
البيت من الرجز. والتصريح (2/ 161)، والخزانة (2/ 373)، والكتاب (2/ 87)، والمقتضب (2/ 63).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
البدل والقطع كقول الشنفرى:
3227 -
ولي دونكم أهلون سيّد عملّس
…
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل (1)
فلك في «سيد» وما بعده إن تجعله بدلا من أهلون ولك أن تقطعه على إضمار مبتدأ. فلو كان المفصل غير واف بأحاد المذكور تعين القطع على الابتداء وجعل الخبر من وضمير مجرورها كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا الموبقات: الشّرك بالله والسّحر» (2) على تقدير منهن الشرك بالله والسحر. ومثله قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ (3) أي منها مقام إبراهيم، ويروى «اجتنبوا الموبقات الشّرك بالله والسّحر» بالنصب على البدل وحذف معطوف، والتقدير: اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر وأخواتهما. وجاز الحذف لأن الموبقات سبع بيّنت في حديث آخر واقتصر هنا على ثنتين منها تنبيها على أنهما أحق بالاجتنباب. ويبدأ عند اجتماع التوابع بالنعت؛ لأنه كجزء من متبوعه، ثم بعطف البيان؛ لأنه جار مجراه ثم بالتوكيد؛ لأنه شبيه بعطف البيان في جريانه مجرى النعت ثم بالبدل؛ لأنه تابع كلا تابع لكونه كالمستقل ثم بعطف النسق؛ لأنه تابع بواسطة فيقال مررت بأخيك الكريم محمد نفسه رجل صالح ورجل آخر، والله تعالى أعلم.
انتهى كلام المصنف رحمه الله تعالى (4).
ثم إن الكلام يتعين في أمور:
الأول: أنك قد عرفت أن المشتمل في بدل الاشتمال فيه ثلاثة مذاهب وأن الأصح منها أن المبدل منه هو المشتمل على البدل. أما أن بدل الاشتمال نفسه أي شيء هو فلم يتقدم فيه كلام.
وقد اختلفت العبارات فيه، فقال الزجّاجي: وهو صفة من صفات المبدل منه -
(1) البيت من الطويل - لامية العرب بشرح العكبري (12)، وشرح المفصل (5/ 31)، والمحتسب (1/ 218)، هذا والعملس: الذئب القوي، والأرقط: النمر، والزهلول: الأملس، والعرفاء: الضبع الطويلة العرف، وجيأل: اسم للضبع.
(2)
ينظر البخاري: الطب (76)، والشرك والسحر .. (48)، ومسلم: إيمان (144)، وكذا شواهد التوضيح (112).
(3)
سورة آل عمران: 97.
(4)
انظر شرح التسهيل (3/ 343).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نحو: أعجبني زيد علمه (1) وردّ ذلك بقولهم: سرق زيد ثوبه.
وقال آخرون: هو الذي يكون محيطا بالمبدل منه كإحاطة الثوب في قولنا: سرق زيد ثوبه والقائلون بهذا هم الذين يقولون: إن الثاني مشتمل على الأول ورد ذلك بقولهم: سرق عبد الله فرسه والفرس ليس محيطا بالمبدل منه.
وقال آخرون: هو الذي يمكن الاكتفاء فيه بالمبدل منه عن البدل بمعنى أن الأول إذا ذكر وحده وكان المقصود إنما
هو البدل أمكن أن يستفاد منه المراد بطريق المجاز.
فتشمل هذه العبارة نحو: أعجبني عبد الله علمه، وأعجبني عبد الله ثوبه وأعجبني عبد الله فرسه، وهي التي صححها ابن عصفور (2) والتي يقتضيها كلام المصنف وهو قوله: ويسمى بدل اشتمال إن باين الأول وصح الاستغناء به عنه ولم يكن بعضه وهي أشد ما قيل:
وقد قال ابن الضائع (3): معنى الاشتمال أن يكون الاسم الأول يجوز أن يذكر ويراد به الثاني مجازا. قال: وهذا أولى من غيره من الأقوال (4). انتهى.
ومنهم من قال: هو ما بينه وبين المبدل منه تعلق ما عدا نسبة الجزئية. ولا شك أن هذه العبارة يدخل تحتها الأمثلة التي ذكرناها ولكن يشكل عليها نحو: مررت بزيد أبيه، فإن العبارة المذكورة تشمله لكن سيبويه نصّ على أنه ليس من بدل الاشتمال (5).
وقد قال المصنف: فإن كان الملابس لا يغني عنه الأول كالأخ والعم وجيء به بدلا فهو بدل إضراب أو غلط. فإن قيل: لأي شيء جعل نحو: أعجبني زيد علمه أو ثوبه مثلا أو فرسه من بدل الاشتمال ولم يجعل منه: أعجبني (زيد) أبوه أو أخوه مثلا، -
(1) الجمل بشرح ابن هشام (31) وما بعدها.
(2)
شرح الجمل (1/ 281) وما بعدها.
(3)
أبو الحسن علي بن محمد الإشبيلي لازم الشلوبين وأخذ عنه الكتاب، وله شرح عليه، وعلى الجمل وكان لا يستشهد بالحديث (ت 680 هـ) سبقت ترجمة مفصلة له.
(4)
المصدر السابق.
(5)
قال في الكتاب (1/ 151)«ولا يجوز أن تقول: رأيت زيدا أباه، والأب غير زيد؛ لأنك لا تبيّنه بغيره ولا بشيء ليس منه .. وإنما يجوز رأيت زيدا أباه ورأيت زيدا عمرا أن يكون أراد أن يقول رأيت عمرا أو رأيت أبا زيد فغلط أو نسي ثم استدرك كلامه بعد، وإما أن يكون أضرب عن ذلك فتحّاه وجعل عمرا مكانه» انتهى بتصرف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا شك أنه يحتاج إلى فرق بين قولنا أعجبني زيد ثوبه أو فرسه وبين قولنا: مررت بزيد أبيه. والذي يمكن أن يقال: قد تقرر أن من شرط صحة بدل الاشتمال صحة الاستغناء عنه بالمبدل منه وإذا كان كذلك فالذي لا تسبب له في ما يقتضي إستناد الإعجاب إليه كالعلم والثوب والفرس يصح فيه أن يكون بدل اشتمال لأن لو قلت:
أعجبني علم زيد أو فرسه أو ثوبه فهم منه أن لزيد مدخلا في الإعجاب، ولو قلت:
أعجبني أبو زيد وأخوه لا يفهم منه أن لزيد مدخلا في ذلك؛ لأن الأب والأخ كل منهما يصح أن يصدر منه [4/ 145] ما يقتضي صحة إسناد الإعجاب إليه
والحاصل: أن الاستغناء بالمبدل منه عن البدل شرط لصحة بدل الاشتمال ولا يمكن الاستغناء المذكور إلا إذا كان المبدل منه لا تسبب له في حصول المعنى الذي دلّ عليه العامل فيه للبدل.
فإذا كان كذلك صح بدل الاشتمال كقولك:
أعجبني زيد علمه أو ثوبه أو فرسه، فإن الموجب لإعجاب هذه الثلاثة إنما هو اعتناء زيد وإصلاحه لها بخلاف قولك: أعجبني زيد أبوه - فإن صلاح الأب المقتضي للإعجاب لا مدخل لزيد فيه إنما الأب مستقل به.
وقال الشيخ بدر الدين ولد المصنف رحمهما الله تعالى: «بدل الاشتمال هو ما يدل على معنى في متبوعه أو يستلزم معنى في متبوعه - فالأول نحو: أعجبني زيد حسنه، وكقول الراجز:
3228 -
وذكرت تقتد برد مائها
…
وعتك البول على إنسائها (1)
والدال على ما يستلزم معنى في المتبوع كقولك:
أعجبني زيد ثوبه، وكقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (2)؛ لأن القتال في الشهر الحرام يستلزم معنى فيه وهو ترك تعظيمه، وكذا قوله تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ (3) فإن وقت الانتباذ وما عقبه يستلزم معنى -
(1) البيت انظره منسوبا لأبي وجزة السعدي في العيني (4/ 183) وفرحة الأديب (15 / ب) ومعجم البلدان (تقتد) وبغير نسبة في الكتاب (1/ 75).
(2)
سورة البقرة: 217.
(3)
سورة مريم: 16.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في مريم عليها السلام وهو كونها على غاية من التقى والبر والعفاف فلذلك صح في اذ ان تكون بدل اشتمال (من مريم)(1) انتهى. ولم أتحقق ما قاله.
الأمر الثاني: قد عرفت قول المصنف: وقد يكون البدل في حكم الملغى واستدلاله على ذلك بالبيت الذي أوله:
والبيت الآخر الذي أوله: «إنّ السّيوف» .
ولا شك أن ما قاله المصنف هو الظاهر.
لكن ابن عصفور في شرح الإيضاح لما ذكر أن الأول يعني المبدل منه ينوي به الطرح معنى لا لفظا قال:
الدليل على ذلك أن العرب إذا أتت بعد البدل بخبر أو حال أو غير ذلك فإنما يعتمد به على البدل لا على المبدل منه. ثم قال:
ولم يجيء ما ظاهره الاعتماد على المبدل منه إلا قول الشاعر، وأنشد البيتين اللذين استدل بهما المصنف، ثم خرج قوله: معين بسواد على أنه يراد به المصدر «كممزّق» في قوله تعالى: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ (2)، وإذا أخبر بالمصدر كان موحدا. وخرج قوله: غدوّها ورواحها على أنهما منصوبان على الظرف كحقوق النجم كأنه قال:
إن السيوف وقت غدوها ورواحها على هوازن تركتهم مثل قرن الأعضب.
فجاء الشيخ فقال في قول المصنف: وقد يكون البدل في حكم الملغى: هذا غير مسلم له، ولا حجة في الاستشهاد بما ذكر، ثم أورد كلام ابن عصفور هذا (3).
ولا يخفى ضعف التخريج الذي ذكر في البيتين ثم ليس المراد أن السيوف تركت هوازن في وقت غدوها ورواحها. وقول المصنف:
وقد يكون البدل في حكم الملغى مشيرا بقد إلى التقليل لا يصادم قول ابن عصفور: إن العرب إنما تعتمد على البدل لا على المبدل منه؛ لأن ما قاله هو الأغلب والأكثر. وقد تشذ العرب فتأتي بخلاف ذلك كما شذوا في أمور تخالف الأصول ووقع لهم ذلك في أبواب كثيرة لا تحصر (4). -
(1) النص في شرح بدر الدين على ألفية أبيه (ص 554).
(2)
سورة سبأ: 19.
(3)
التذييل (4/ 146).
(4)
ينظر الأشباه والنظائر (1/ 209، 212).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الثالث: قد علمت أن البدل يقرن بهمزة الاستفهام إن تضمن متبوعه معناه، وتقدمت أمثلة ذلك في كلام المصنف. لكن قال الشيخ:
وكان ينبغي للمصنف أن يضيف إلى هذه المسألة مسألة الشرط فإنها شبيهة بها وذلك أنك إذا أبدلت من اسم شرط فلابد أن تدخل على البدل إن الشرطية.
مثال ذلك:
متى تقم (إن) ليلا أو نهارا قمت معك، ومن يضرب إن رجلا أو امرأة ضربته (1)، قال: فأما قول الفرزدق:
3229 -
متى تردن يوما سفار تجد بها
…
أديهم يرمي المستجيز المعوّرا (2)
«فيوما» منصوب فيه بقوله:
تردن الناصب لمتى لأن الفعل يعمل في ظرفين اذا كان أحدهما مشتملا على الآخر ومتى مشتملة على اليوم لعمومها، ولا يجوز أن ينتصب يوما بتجد؛ لأن سفار في موضع نصب بتردن فيؤدي (ذلك) إلى الفصل به بين تردن ومعمولها وهو سفار وهو أجنبيّ منهما وبينه وبين عامله وهو تجد بسفار وهو أجنبي منهما، والفصل بالأجنبي بين عامل ومعمول غير جائز (3) انتهى.
وقد تقدم ذكر هذا البيت والكلام على بعض ذلك في باب المفعول المسمى ظرفا (4).
الرابع: وقد عرفت قول المصنف: وقد تبدل جملة من مفرد. وما ذكر في الشرح من الآيات الشريفة ومن أشعار العرب مستدلّا به على ذلك ثم إن الشيخ بعد إيراده ذلك قال:
وهذا الكلام الذي انتزعه من هذه الدلائل على زعمه منازع فيه ومنازع في ما استدل به. -
(1) التذييل (7/ 147).
(2)
البيت من الطويل - ديوانه (1/ 288) وفي الشذور (ص 96): أنه من إنشاد سيبويه، وليس في كتابه، والمغني (97) والمقتضب (3/ 50).
(3)
التذييل (4/ 147).
(4)
انظر باب المفعول فيه المسمى ظرفا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أما مسألة عرفت زيدا أبو من هو ففي الجملة الاستفهامية ثلاثة مذاهب:
أحدها: ما ذكر من أنها بدل من الاسم قبله.
والثاني: أنها في موضع الحال.
الثالث: أن عرفت ضمن معنى علمت المتعدية إلى اثنين وهو الصحيح عند بعض أصحابنا.
وأما قوله: بكلمة أتصبر فأتصبر في موضع نصب بكلمة وهو محكي لأن بكلمة في معنى بقوله فكما أن الكلام قد
يحكى به إجراء له مجرى القول فكذلك الكلمة، وأما كيف يلتقيان فليس بدلا في موضع نصب كما ذكر بل لما ذكر تباين ما بين الحاجتين مكانا استبعد التقاءهما، فقال: كيف يلتقيان على سبيل استبعاد التقائهما وتعذره.
وأما الآية الأولى: فإنه يؤدي إلى أن الحمل يسند إليها إذا يكون في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وذلك غير جائز على مذهب البصريين.
وقد سبق لنا ذكر [4/ 146] المذاهب الثلاثة في هذه المسألة - يفرق في الثالث بين أن يكون الفعل مما يعلق نحو: ظهر لي أقام زيد أم عمرو فيجوز، أو مما لا يعلق فلا يجوز وأما الآية الثانية فـ هَلْ هذا في موضع نصب محكي بحال محذوفة أي قائلين: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (1) كقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا (2) أي قائلين ربنا تقبل منا، وأما بيت ابن الزبير فمن أنت محكي بقوله كلامه؛ لأن معناه سمعت قوله فهو في موضع نصب على الحكاية (3). انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
وفي ما ذكره بحث. أما عرفت زيدا أبو من هو: فقد اعترف هو بأن في الجملة الاستفهامية ثلاثة مذاهب:
أحدها: ما ذكره المصنف وابن عصفور قد ذكر أيضا أن الجملة المذكورة بدل وأن ذلك من باب بدل الشيء من الشيء وأن التقدير: عرفت شأن زيد أبو من هو.
نعم قال بعد ذلك: إن بعضهم جعل هذا ونحوه من باب التضمين وإن عرفت -
(1) سورة الأنبياء: 3.
(2)
سورة البقرة: 127.
(3)
التذييل (4/ 147) - بتصرف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ضمن معنى علمت فتكون الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. قال: وهو الصحيح عندي. فغاية الأمر أن البدلية في هذا الكلام قد قال بها النحاة غير المصنف واحتمل الكلام المذكور مع ذلك وجها آخر فقيل به.
ولا شك أن قولا لا يدفع بقول. فكيف يتجه للشيخ أن يبطل قول المصنف في مسألة بأن فيها قولا آخر يخالف ما قاله. بل كان الواجب إبطال ذلك بدليل.
وأما قوله: إن أتصبر في موضع نصب بكلمة وهو محكي لأن بكلمة في معنى بقولة وأن الكلام يحكى به إجراء له مجرى القول فكذلك الكلمة. فلا شك أن توجيه المصنف البدلية بأن الكلمة هنا بمعنى الكلام أقرب وأولى من قول الشيخ: إن كلمة في معنى قولة.
وأما قوله: إن «كيف يلتقيان» إنما قيل على سبيل استبعاد الالتقاء وتعذره فغير ظاهر؛ لأن هذا التقدير يقتضي انقطاع هذا الكلام عن الكلام الذي قبله وحينئذ يفوت مقصود الشاعر؛ لأن شكواه إنما هي تعذر التقاء الحاجتين لا الحاجتان أنفسهما إذ لا معنى لقول القائل: أشكو بالمكان الفلاني حاجة وبالمكان الفلاني حاجة أخرى، ويكفيك بفهم ابن جني وتخريجه فهما وتخريجا (1).
وأما قوله في الآية الشريفة أعني قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (2) إن ذلك - يعني تخريج المصنف - يؤدي إلى أن الحمل يسند إليها إلى آخر ما ذكره
…
فكلام عجيب؛ لأن المصنف لما ذكر ذلك كمل كلامه بأن قال: وجاز إسناد يقال إلى إن وما عملت فيه كما جاز إسناد قيل إليها في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ (3) فأقام الدليل من الكتاب العزيز على صحة إسناد فعل القول إلى الجملة.
وبعد: فالشيخ جرى في ذلك على ما يقوله المغاربة في نحو: قيل زيد منطلق، وما قاله أبو البقاء لما تكلم على قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (4) وهو أن قيل مسند إلى ضمير المصدر والتقدير: قيل هو أي قول والجملة مفسرة لذلك الضمير (5). والحق في هذه المسألة أن الإسناد إنما هو إلى لفظ الجملة والممتنع إنما هو -
(1) ينظر الهمع (2/ 128).
(2)
سورة فصلت: 43.
(3)
سورة الجاثية: 32.
(4)
سورة البقرة: 11.
(5)
راجع التبيان (27، 28).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإسناد إلى معنى الجملة.
وقد عرف أن الإسناد اللفظي غير مختص بالاسم. ولا تظن أن هذا نظير قولنا ضرب فعل ماض؛ لأن الاسناد هنا إلى اللفظ دون نظر إلى المعنى. وأما في ما نحن بصدده وإن كان الإسناد فيه إلى اللفظ فمعنى اللفظ المسند إليه مقصود أيضا كما أن اللفظ مقصود.
وأما قوله في الآية الشريفة الثانية وهي: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (1) إن هذه الجملة محكية بحال محذوفة أي قائلين: «هل هذا إلا بشر مثلكم» (2) فغير ظاهر؛ لأن المراد إظهار ما أسروه وتكلموا به قاصدين إخفاءه عن المؤمنين واستيقاف بعضهم بعضا عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذي أسروه هو قولهم: هل هذا إلا بشر مثلك
فالقصد من الآية الشريفة الإخبار بعين ما تكلموا به سرّا، فالنجوى التي أسروها هي هذا الكلام لا غيره. وتخريج الشيخ لا يقتضي أن يكون الذي أسروه هو هذا، بل يقتضي أن يكون الذي أسروه شيئا آخر وأنهم أسروا ذلك حال قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم.
ولا شك في أن هذا يبعد أن يكون مرادا.
وانظر إلى حذق هذا الرجل - الذي هو الزمخشري - في قوله مشيرا إلى الجملة الاستفهامية «هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى» (3).
ولا شك أنه هدي في ما قاله إلى الصواب، ثم قد تبين أن المصنف لم يكن مستبدّا بالقول بأن الجملة تبدل من مفرد ولم يكن هو المنتزع لما قاله من الأدلة التي ذكرها بل قال ابن جني بذلك في شيء (4) وقال الزمخشري به في شيء آخر، وكذا قال ابن عصفور وغيره من النحاة به في الشيء الآخر (5) فكيف يقول الشيخ: وهذا الذي انتزعه - يعني المصنف - من هذه الدلائل على زعمه منازع فيه ومنازع في ما استدل به. لم يكن هو المنتزع ولا المستدل بل المنتزع والمستدل غيره. والذي انتزعه هو واستدل به إنما هو قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ (6) -
(1) سورة الأنبياء: 3.
(2)
التذييل (4/ 147).
(3)
الكشاف (3/ 80).
(4)
ينظر المحتسب (2/ 62، 263).
(5)
شرح الجمل (1/ 281) وما بعدها.
(6)
سورة فصلت: 43.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الآية .... وقد بينّا صحة استدلاله بذلك.
وبعد .. فنقول إن إبدال الجملة من مفرد لا يظهر كونه ممتنعا وذلك أن المبدل تابع كما أن النعت تابع، وقد ثبت النعت بالجملة فما المانع من البدل. فإن قيل:
المانع على نية تكرار العامل، والعوامل لا تسلّط لها على الجمل: فالجواب أن الجملة إذا أولت بالمفرد أعطيت حكمه. ثم إنك قد عرفت أن العامل في البدل إنما هو العامل في المبدل منه على مذهب سيبويه (1).
وقولنا: إن البدل على نية تكرار العامل: المراد به أن البدل هو المستقل بمقتضى العامل لا أن ثم عاملا مقدرا. وقد تقدم لنا تقرير هذا البحث في أول الباب.
وعلى هذا يتم قول ابن جني والزمخشري والمصنف ومن قال بقولهم: أن الجملة تبدل من مفسر، قال الإمام بدر الدين ولد المصنف: وكثيرا ما تبدل الجملة من الجملة إذا كانت الثانية أوفى بتأدية المقصود من الأولى كما قال:
3230 -
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا
…
وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما (2)
فأبدل «لا تقيمن» من «ارحل» ؛ لأنه أوفى منه بتأدية معنى الكراهة لدلالته عليه بالمطابقة ودلالة ارحل عليه بالالتزام، ومن أمثلة ذلك في التنزيل: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ 81 قالُوا أَإِذا مِتْنا (3)، وأَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ 132 أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (4)، واتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ 20 اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (5). انتهى.
وهذا ذكره أصحاب علم المعاني، وذكروا أن الجملة المبدلة قد تنزل منزلة بدل البعض وقد تنزل منزلة بدل الاشتمال، وقرروا ذلك تقريرا حسنا (6). -
(1) تقدم ذلك وانظر الكتاب (1/ 150).
(2)
البيت من الطويل - الأشموني (3/ 132)، والتصريح (2/ 162)، والعيني (4/ 200)، والمغني (426، 456).
(3)
سورة المؤمنون: 81، 82.
(4)
سورة الشعراء: 132، 133.
(5)
سورة يس: 20، 21 وانظر نص بدر الدين هذا في شرحه على الألفية (563، 564) تحقيق د/ عبد الحميد السيد محمد.
(6)
ينظر بغية الإيضاح: كمال الاتصال (2/ 71، 77).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والحق أن: البدل الإعرابي بين الجمل لا يتحقق. كيف والجملة المبدل منها قد لا يكون لها موضع من الإعراب. وإنما المراد بذلك الإبدال اللفظي وهو الانتقال من ذكر جملة إلى ذكر جملة أخرى لوفاء الثانية بالدلالة على المقصود. نعم إن كانت الجملة الأولى لها موضع من الإعراب أمكن أن تكون الثانية مبدلة من الأولى بدلا إعرابيّا؛ لأن الجملة التي لها موضع من الإعراب حكمها حكم المفرد.
الخامس: قد عرفت قول المصنف ويبدل فعل من فعل موافق في المعنى مع زيادة بيان - فقال الشيخ لا يلزم ما ذكره أنه يكون مع زيادة بيان بل قد يكون ذلك بالمرادف وهذا ظاهر من قوله: متى تأتنا تلمم بنا.
لأن أتاه وألمّ به مترادفان (1)، ثم ذكر عن صاحب البسيط أنه قال في بدل الفعل من الفعل: اتفقوا على أنه يكون فيه
بدل الشيء من الشيء ولا يكون فيه بدل البعض لأنه لا يتبعض، واختلفوا في بدل الاشتمال فيه، فقيل: لا يكون لأن الفعل لا يشتمل على الفعل. وقيل: يكون ومنه يَلْقَ أَثاماً 68 يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ (2).
وأما بدل الغلط فيه فجوزه سيبويه (3) وجماعة من النحويين (4)، والقياس يقتضيه (5).
ثم ختم الشيخ الكلام على الباب بذكر مسألة وهي أن يقال: الأحسن أن لا يفصل بين البدل والمبدل منه وهو دون الصفة لأنه ليس من التمام فيفصل بالظرف والصفات ومعمول الفعل نحو: أكلت الرغيف في اليوم ثلثه، وقال تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2 نِصْفَهُ (6)، ونحو ذلك والله سبحانه أعلم (7).
* * *
(1) التذييل (4/ 174).
(2)
سورة الفرقان: 68، 69.
(3)
الكتاب (1/ 439).
(4)
ينظر الأشموني (3/ 131).
(5)
التذييل (4/ 147، 148).
(6)
سورة المزمل: 2، 3.
(7)
من التذييل (4/ 148). هذا وذكر الأشموني أن عطف البيان والبدل يفترقان في ثماني مسائل، وللصبان في ذلك كلام طيّب فانظره - إن شئت - في (3/ 88، 89)، وانظر شرح المفصل (3/ 72، 73)، والكافية بشرح الرضي (1/ 337، 338)، والكفاية في علم الإعراب (ص 107).