الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2ـ ويقعُ في كلامِ الشَّافعيِّ وأحمدَ وبعضِ أهلِ الحديثِ استعمالُ لفظِ (الكراهة) بمعنى التَّحريم وبمعنى الكراهةِ الاصطلاحيّضةِ، فلاحِظْ ذلكَ.
3ـ يُلاحظُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيءٍ، وثبتَ أنَّه فعلهُ، فإنَّ فعلهُ يدلُّ على الجوازِ، ولا يُقال: صُرفَ النَّهي عن التَّحريمِ إلى الكراهةِ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لا يفعلُ المكروهَ.
5ـ المباح
"تعريفه:
لُغَةً: مادَّتهُ ((بوح)) وتدلُّ على سعةِ الشَّيءِ، ومنه قيلَ:(باحَةُ الدَّارِ) ، ومنهُ جاءتْ (إباحَةُ الشَّيءِ) ، وذلك لكونِه مُوسعًا فيه غيرَ مُضيَّقٍ.
واصطلاحًا: ما خيَّر الشَّارعُ المكلَّف بين فعلهِ وتركهِ، ولا يلحقُهُ مدحٌ شرعيٌّ ولا ذمٌّ بفعلهِ أو تركِهِ، إلَاّ أن يقترنَ فعلُه أو تركُه بنيَّةٍ صالحةٍ فيُثابُ على نيَّتِهِ.
وهوَ: الحلالُ.
"صيغته:
تُعرفُ الإباحةُ بطرُقٍ، تعودُ جملتُها إلى أربعٍ:
1ـ الصِّيعةُ الصَّريحةُ في الحلِّ، كقوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5]، وقوله صلى الله عليه وسلم في البحرِ حينَ سألوهُ عنهُ:((هُوالطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ مَيْتَتُهُ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن] .
2ـ رفعُ الحرجِ أو الإثمِ أو الجُناحِ أو ما في معنى ذلك، كقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائكم} [النور: 61]، وقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29]، وعن أبي المِنهالِ عبد الرَّحمن بن مُطعمٍ قال: سألتُ البراءَ بن عازبٍ وزيدَ بن أرقمَ عن الصَّرفِ؟ فقالَا: كُنَّا تاجرَيْنِ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصَّرفِ؟ فقالَ:((إن كانَ يدًا بيدٍ فلا بأسَ، وإن كانَ نساءً فلا يصْلُحُ)) [رواه البُخاريُّ] .
3ـ صيغةُ الأمرِ الواردَةِ بعدَ الحظْرِ لِما كان مُباحًا في الأصلِ، كقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] ، فهذا أمرٌ جاءَ بعدَ حظْرِ البيعِ عند سماعِ نِداءِ الجُمُعةِ وإيجابِ السَّعيِ إليها، فلمَّا انتهى العرضُ من ذلكَ عادَ الأمرُ إلى الإباحةِ السَّابقةِ بصيغةِ طلبٍ أُريد بها رفعُ الجُناحِ العارضِ لأجلِ
الجُمُعةِ.
ومنها: صيغة الأمرِ الواردةِ لإفادةِ نسخِ الحظْرِ والعودَةِ بحكْمِ الشَّيءِ إلى الإباحَةِ كما لو لم يرِدِ الحظَرُ، كقوله صلى الله عليه وسلم:((نَهيْتُكُمْ عن زِيارَةِ القُبورِ فزُرُورها، ونهيتُكُمْ عن لُحومِ الأضاحِي فوقَ ثلاثٍ فأمسِكُوا ما بدَا لكُم، ونهيتُكمْ عن النَّبيذِ إلَاّ في سقَاءٍ فاشربُوا في الأسقيةِ كُلِّها ولا تشْرَبُوا مُسكِرًا)) [رواه مسلمٌ] ، فهذه أوامرُ جاءتْ لإزالةِ الحظْرِ الَّذي وردَ لسببٍ، وقد كانتِ الأشياءُ المذكورَةُ قبلَ الحظْرِ مباحَةً، فعادتْ بهذا الأمرِ إلى ما كانتْ عليهِ.
4ـ استصحابُ الإباحةِ الأصليَّةِ، وهذا الَّذي يُقالُ فيه:(الأصلُ في الأشياءِ الإباحَةُ) ، فكلُّ شيءٍ مباحٌ ما لم يرِدْ دليلٌ ينقلهُ من تلكَ الإباحةِ إلى غيرهَا من الأحكامِ التَّكليفيَّة، فلا يُدَّعى وجوبٌ أو استحبابٌ أو تحريمٌ أو كراهَةٌ إلَاّ بدليلٍ ناقلٍ إليها من الإباحةِ.
وهذا أصلٌ استُفيدَ من نصوصٍ صريحةٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وهو مناسبٌ للمعقولِ الصَّريح، فإنَّ من أعظمِ مقاصدِ التَّشريعِ: رفع الحرجِ، والإباحةُ تخييرٌ، ورفعُ الحرج ثابتٌ بها، بخلافِ ما هوَ مطلوبُ الفعلِ أو التَّركِ، فإنَّ المكلَّف محتاجٌ إلى تكلُّفِ القيامِ به ممَّا تحصلُ له به المشقَّةُ، والأشياءُ لا حصرَ لها، فإنْ عُلِّقتْ بغيرِ الإباحَةِ من الأحكامِ التَّكليفيَّةِ لزمَ منها تكليفٌ غيرُ مُتناهٍ، وهذا لا يتناسبُ
معَ قُدرةِ المكلَّفٍِ، ومعَ الرَّحمةِ بهِ.
والله امتنَّ على عبادهِ بالإباحةِ للأشياءِ فسخَّر لهُم ما في السَّماواتِ والأرضِ نعمةً منه ورحمةً، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، وقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] .
وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في الفقهِ، فإنَّ الأصلَ في كلِّ شيءٍ الحلُّ حتَّى يوجدَ من الشَّرعِ دليلٌ يُخرجُه من الحلِّ، وأنَّ ما يخرجُ من الحلِّ إلى حُرمَةٍ أو كراهةٍ مفصَّلٌ في الكتابِ والسُّنَّة، وهو محصورٌ معدودٌ يُمكنُ أن تُستقصى أفرَادُه، ألم تقرأْ قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وقوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} .... [الأنعام: 145]، وقوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ....} [الأعراف: 33]، وقوله:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ؟ وحتى الَّذي يجري المنعُ منه عن طريقِ القياسِ فإنَّه لا يحوِّلُ الأصلَ إلى أن يُقالَ: (الأصلُ في الأشياءِ الحُرمَةُ) ، فلو وصَلَ القياسُ بأصحابِهِ إلى هذا المعنى المعكوس لكانَ ذلكَ دليلاً بنفسهِ على فسادِ قياسِهِمْ.
"انتقال الشيء عن حكم الإباحة:
ليستْ أصنافُ المباحاتِ قابلةً للحصرِ، لكنْ لمَّا كانتِ الإباحَةُ فيها استواءُ طرَفَي الفِعلِ والتَّركِ جازَ أن تيملَ إلى أحدِ الطَّرفينِ باعتبارِ عارضٍ، فالقاعدة أن يُقال: يبقى حُكمُ الإباحةِ للشيءِ ثابتًا ما لمْ يترجَّحْ فيهِ جانبُ المفسدَةِ أو جانبُ المصلحةِ، فإذا ترجَّحَ أحدُ الجانبينِ فإنَّ المفسدَةَ الرَّاجحَةَ تُحيلُ المُباحَ مكروهًا أو محرَّمًا، والمصلحة الرَّاجحة تُحيلهُ مندوبًا أو واجبًا، فالشَّيءُ يكتسبُ حكمًا تكليفيًّا جديدًا باعتبارِ عارضٍ أخرجهُ عنِ الإباحَةِ.
أمثلة:
1ـ الأكلُ والشُّربُ مباحانِ من جميعِ الطَّيِّباتِ، لكنَّ الإسراف فيهما إلى حدِّ التُّخمةِ مكروهٌ، قال الله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:((ما ملأ آدميٌّ وِعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابن آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبهُ، فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثلثٌ لشرابِهِ، وثلثٌ لنفسِهِ)) [حديثٌ صحيحٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرُه] .
2ـ اللَّهوُ واللَّعبُ مباحانِ في غاير محرَّمٍ معلومِ الحُرمةِ، فإذا سبَّبا تفويتَ فريضةٍ كإخراجِ الصَّلاةِ عن وقتها، أو جرَّا إلى محرَّمٍ كالتَّعدِّي على الغيرِ أو مواقعةِ فاحشةٍ، انتقلا إلى التَّحريمِ.
3ـ النَّومُ مباحٌ، فإذا كان للتَّقوِّي على طاعة الله أو كسبِ الرِّزقِ صارَ مُستحبًّا.
4ـ الصَّومُ في السَّفرِ مباحٌ، فقد قال أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه: كُنَّا نُسافرُ مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم يَعِبِ الصَّائمُ على المفطرِ، ولا المفطِرُ على الصَّائمِ.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ حمزة بن عمرٍو الأسلميِّ قال للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم: أأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّوم، فقال:((إن شئتَ فصُمْ وإن شئتَ فأفْطِرْ)) [متفقٌ عليهما] ، لكنَّ الفطرَ يكونُ واجبًا إذا أضرَّ الصَّومُ بالمسافرِ.
فعن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ عامَ الفتحِ إلى مكَّةَ في رمضانَ، فصامَ حتَّى بلغَ كُراعَ الغميمِ، فصامَ النَّاسُ، ثمَّ دعا بقدَحٍ من ماءٍ (وفي روايةٍ: فقيلَ لهُ: إنَّ النَّاسَ قد شقَّ عليهُمُ الصِّيامُ، وإنمَا ينظرونَ فيما فعلتَ، فدَعَا بقدحٍ من ماءٍ بعدَ العصرِ) فرفعهُ حتَّى نظر النَّاسُ إليه ثمَّ شرِبَ، فقيلَ لهُ بعد ذلكَ: إنَّ بعضَ النَّاسِ قد صامَ، فقالَ:((أُولئكَ العُصاةُ، أولئكَ العُصاةُ)) [أخرجهُ مسلمٌ بالرِّوايتينِ] ، ولا يسمَّى عاصيًا من فعلَ مُباحًا.
* * *