الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1]
الأمرُ بالصّلاةِ في مباركِ الغنمِ على سبيلِ النَّدبِ من جهةِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حثَّ عليها للبركَةَ فيها، وطلبُ البركةِ مندوبٌ إليه ليسَ بواجبٍ، ولذا لم يُعلمُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخذ من مباركِ الغنمِ موضعًا لصلاتِهِ، فلمَّا خرج النَّهيُ عن الصَّلاةِ في مباركِ الإبلِ نفسَ مخرجِ الأمرِ دلَّ على أنَّ قدرهُ في الحكمِ على المُقابلةِ لقدرِ الصَّلاةِ في مباركِ الغنمِ، فلمَّا كانَ هناكَ النَّدبُ فيُقابلهُ الكراهةُ.
[2]
قوله صلى الله عليه وسلم: ((وجُعلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا)) [متفقٌ عليه] ، فجعلَ جميعَ الأرضِ صالحةً للصَّلاةِ، وجاءَ الاستثناءًُ من هذا العمومِ في دليلٍ آخرَ وهو قولهُ صلى الله عليه وسلم:((الأرضُ كلُّهَا مسجدٌ إلَاّ الحمَّامَ والمقبرةَ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما من حديثِ أبي سعيدٍ الخدُريِّ] ، وليس في الاستثناءِ مباركُ الإبلِ، فدلَّ على أنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ فيها ليسَ على التَّحريمِ، إنَّما هو على الكراهَةِ.
هل النَّهي يقتضي الفساد
؟
إذا جاءَ نصُّ الكتابِ أو السُّنَّةِ بالنَّهيِ عن فعلِ، ولمْ يوجدْ لذلكَ النَّهي ما يصرِفُهُ عن دلالتهِ على التَّحريمِ، فهلْ يدلُّ التَّحريمُ لذلك الفعلِ على فسادِهِ وبُطلانِهِ لو وقعَ على الصُّورةِ المنهيِّ عنها أم لا؟
هذه مسألة خطيرةٌ تندرجُ تحتهَا أحكامٌ كثيرةٌ، وقدِ اختلفَ أهلُ
العلمِ فيها على مذاهبِ كثيرةٍ، والمُحققُ الَّذي تنصرُه الأدلَّةُ مذهبُ من ذهبَ من العلماءِ إلى التَّفصيلِ، وذلكَ بأنَّ النَّهي عن الشَّيءِ واردٌ على ثلاثِ صُورٍ:
1ـ أن يقترنَ بقرينةٍ تدلُّ على بُطلانِ المنهيِّ عنهُ، أو صحَّةِ المنهيِّ عنه، فهذا قد فصلتْ فيهِ القرينةُ، فلا يندرجُ تحتَ القاعدَةِ المذكورةِ.
أمثلتُهُ:
[1]
حديثُ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قالَ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمنِ الكلبِ وإن جاءَ يطلُبُ ثمنَ الكلبِ فاملأ كفَّهُ ترَابًا [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداود] .
فأبطلَ العِوضَ عنهُ، وهذا إبطالٌ للبيعِ وإفسادٌ، فالنَّهيُ قدِ اقتضى الفسادَ بالنَّصِّ.
[2]
حديثُ المغيرةَ بن شُعبةَ رضي الله عنه قالَ: أكلتُ ثُومًا، ثمَّ أتيتُ مُصلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم فوجدتُه قد سبقَنِي بركعةٍ، فلمَّا قمتُ أقضي وجَدَ ريحَ الثُّومِ، فقالَ:((من أكلَ من هذه البقلةِ فلا يقربَنَّ مسجِدَنا حتَّى يذهبَ ريحُهَا)) قال المغيرةُ: فلمَّا قضيتُ الصَّلاةَ أيتهُ، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّ لي عُذرًا، فناوِلْنِي يدَكَ، فناولنِي فوجدْتُه والله سهلاً، فأدخلتُها في كُمِّي إلى صدرِي فوجَدَهُ معصوبًا، فقالَ:((إنَّ لكَ عُذرًا)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداودَ وابنُ حبانَ وغيرهما] .
فنهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاةِ في المسجدِ من أكلَ الثُّومَ حينَ شَمَّ رائحتَهُ من بعضِ أصحابِهِ، ولم يُرتِّبْ على ذلكَ شيئًا من إعادَةِ صلاةٍ أو غيرهَا مع اقتضاءِ المقامِ للبيانِ، فدلَّ على الصحَّةِ.
[3]
حديثُ أبي هُريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ((لا تُصرُّوا الإبلَ والغَنمَ، فمنِ ابتَاعَها بعدَ ذلكَ فهوَ بخيرِ النَّظرينِ بعدَ أن يَحلبُهَا: فإنْ رضيهَا أمسكَهَا، وإن سخِطهَا ردَّهَا وصاعًا من تمرٍ)) [متفقٌ عليه] .
فمع النَِّهي عن التَّصريهِ فقد صحَّحَ البيع حيثُ جعلَ للمشتري الخِيارَ بسببِ المضرَّةِ الحاصلَةِ لهُ وهو الخِدَاعُ بالتَّصريةِ.
2ـ أن يأتي النَّهيُ عن الشَّيءِ لا لشيءٍ يتعلَّقُ بهِ، بلْ لأمرٍ خارجٍ عنهُ، فهذا يقتضي الإثمَ بفعلِ المنهيِّ عنهُ، ولا يقتضي الفسادَ، بلْ يصحُّ الفعلُ وتترتَّبُ آثارُهُ عليهِ.
من أمثلتهِ:
[1]
قولهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .
فهذا نهيٌ عن البيعِ في لفظِهِ، لكنَّهُ نهيٌ عن تفويتِ الجُمُعةِ في معناهُ، والمقصودُ المعنى لا اللَّفظُ، ولذا كانَ كلُّ عملٍ مباحٍ يُسبِّبُ تفويتَ الجُمعةِ داخلاً في هذا النَّهيِ، وليسَ هذا النَّهيُ لشيءٍ يتعلَّقُ
بنفسِ عقدِ البيعِ، فهو قدِ استوفَى ما يصحُّ بهِ، فكانَ البيعُ على أصلهِ في الصِّحةِ، وتفويتُ الجمُعَةِ معصيَةٌ يُستحقُّ بها الإثمُ لا غير.
[2]
قولهُ صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاةَ بحضرَةِ طَعامٍ، ولا هوَ يُدافعه الأخبثانِ)) [أخرجه مسلمٌ من حديثِ عائشَةَ] .
فهذا نفيٌ مُقتضاه النَّهيُ عن الصَّلاةِ عندَ حضورِ الطّعامِ وعندَ مُدافعةِ البولِ والغائطِ، والعلَّةُ فيه مُدرَكَةٌ لا تعودُ على الصَّلاةِ بإفسادٍ، وهي ما يقعُ للمصلِّي بذلكَ من التَّشويش في صلاتِهِ ممَّا يؤثِّرُ على خشُوعهِ فيها، لكنْ صحَّ الدَّليلُ على عدمِ اعتبارِ الخُشوعِ مِمَّا يشترطُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، بلْ تصحُّ بدونِهِ فلا يُطالبُ بالقضاءِ.
فالنَّهيُ هُنا لم يقتضِ الفسادَ للمنهيِّ عنهُ، لأنَّه لسببٍ خارجٍ عمَّا يصحُّ به ذلكَ المنهيُّ عنه.
3ـ أن يأتيَ النَّهيُ مطلقًا لا قرينةً معه تدلُّ على فسادِ أو صحَّةِ المنهيِّ عنه، فالأصلُ الَّذي دلَّت عليه الشَّريعةُ فيه أنَّه يقتضي الفسادَ.
ومن بُرهانِ ذلكَ:
حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدثَ في أمرنَا هذا ما ليسَ منهُ فهو ردٌّ)) .
هذا الحديثُ الصَّحيحُ قاعدَةٌ في إبطالِ كُلِّ عملٍ على غيرِ وفاقِ