الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
مسألة تأخير البيان:
يُرادُ بها أنَّ الله تعالى حينَ شرعَ الشَّرائع كأمرِهِ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ وغيرها أمرًا مجملاً، كقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110]، فهلْ يُتصوَّرُ أن يأمُرَ بذلكَ من غير بيانٍ لمُرادهِ بما أمرَ: صفَتِهِ وأحكامِهِ؟ ههنَا مسألتَانِ أُصوليَّتانِ تتَّصلانِ بالكتابِ والسُّنَّةِ جميعًا:
1ـ يمتنِعُ في الدِّينِ أن يُؤخِّرَ الشَّارعُ البيانَ عن وقتِ الحاجَةِ، لأنهُ تكليفٌ بمجهولٍ، وذلكَ غيرُ مقدُورٍ عليه، فلو لم ينْزِلْ غيرُ قولهِ:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لمَا أمكنَ المُكلَّفينَ أن يعرفُوا كيفَ الصَّلاة.
ويتفرَّغُ عن هذه المسألةِ: أنَّ الدَّليلَ إذا جاءَ بِبيانِ حكمٍ في قضيَّةٍ وسكتَ عن زيادَةِ التَّفصيلِ مع اقتضاءِ المقامِ بيانَ المسكوتِ عنهُ لوْ كانَ من جملةِ المطلُوبِ، فذلكَ دالٌّ على عدَمِ إرادَةِ الشَّارعِ لهُ، لأنَّهُ لو أرادَهُ لما صحَّ سُكُوتُهُ عنهُ في موضعٍ يحتاجُ فيه المكلَّفُ إلى معرفةِ الحُكمِ.
مثالهُ: قصَّةُ الرَّجلِ المُسيءِ صلاتَهُ، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخلَ المسجدَ، فدخلَ رجلٌ فصلَّى، ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فردَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقالَ:((ارجِعْ فصلِّ، فإنَّك لم تُصلِّ)) ، ثم جاء فسلَّم على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((ارجِعْ فصلِّ،
فإنَّك لم تُصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والَّذي بعثكَ بالحقِّ، فما أُحسنُ غيرَهُ فعلِّمني، قالَ:((إذا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فكبِّرْ، ثمَّ اقرَأْ ما تيسَّرَ معكَ من القُرآنِ، ثمَّ اركعْ حتَّى تطمئنَّ راكعًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تعتَدِلَ قائمًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفعْ حتَّى تطمئنَّ جالسًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ افعَلْ ذلك في صلاتِكَ كُلِّهَا)) [متفقٌ عليه] .
فهذا مقامُ تعليمٍ للصِّفةِ الَّتي تصحُّ بها الصَّلاةُ، فالواجبُ أن يستغرقَ كلَّ ما تنبني عليهِ صحَّتُها، وما يخرُجُ عن هذا البيانِ فليسَ مِمَّا تصحُّ به، ولهذا فجديرٌ بأن تُجمعَ رِوَاياتُ هذه القصَّةِ الصَّحيحًةُ لمعرفَةِ أنَّ جميعَ ما لم يُذكرْ فيها مِمَّا يفعلُهُ المُصلِّي ليسَ من شرْطِ صحَّةِ الصَّلاةِ.
2ـ يجوزُ أن يؤخِّرَ البيانُ إلى وقتِ الحاجَةِ.
وهذا يدلُّ على صحَّتهِ واقعُ التَّشريعِ، وهو واردٌ على صُوَرٍ، منها:
[1]
نُزُولُ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناسباتٍ عِدَّةٍ في وقتِ الحاجةِ إلى البيَانِ لا قبْلَهُ.
كما في حديثِ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: بيْنَا أنا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حرثٍ وهوَ مُتَّكيءٌ على عسيبٍ، إذْ مرَّ اليهودُ، فقالَ بعضُهمْ لبعضٍ: سلُوهُ عن الرُّوحِ؟ فقالَ: ما رابَكُمْ إليهِ؟ وقالَ بعضُهمْ: لا يستقْبِلَكُمْ بشيءٍ تكرَهُونَهُ، فقالوأ: سلُوهُ، فسألوهُ عنِ الرُّوحِ؟ فأمسَكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فلمْ يَرُدَّ عليهِم شيئًا، فعلمتُ أنَّهُ يُوحى
إليهِ، فقمتُ مقامِي، فلمَّا نزل الوحيُ قال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ، [متفقٌ عليه] .
وفي حديثِ يعلَى بنِ أُميَّةَ أنَّهُ قال لعمر رضي الله عنه: أَرِني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ يُوحى إليهِ، قالَ: فبينمَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجِعرَانَةِ ومعهُ نفرٌ من أصحابِهِ، جاءَهُ رجلٌ فقال: يا رسول اللهِ، كيفَ ترَى في رجلٍ أحْرَمَ بعُمرَةٍ وهو مُتَضَمِّخُ بِطيبٍ؟ فسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ساعةً، فجاءَهُ الوحيُ، فأشارَ عُمرُ رضي الله عنه إلى يعلَى، فجاءَ يَعلَى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبٌ قدْ أُظلَّ بهِ، فأدْخلَ رأْسهُ، فإذا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الوجهِ وهوَ يعظُّ، ثمَّ سُرِّيَ عنهُ، فقالَ:((أينَ الَّذي سألَ عنِ العُمْرَةِ)) فأُتيَ بِرَجُلٍ، فقال:((اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذي بكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، وانْزِعْ عنكَ الجُبَّةَ، واصْنَعْ في عُمرَتِكَ كما تصنَعُ في حجَّتِكَ)) [متفقٌ عليه] .
[2]
تأخيرُ البيانِ لبعضِ الأوامِرِ المُجْملَةِ لِعَدَمِ مجيءِ وقتِ التَّنفيذِ بعْدُ.
كما هو الشَّأنُ في الأمرِ بالحجِّ مثلاً، فإنَّه سبقَ أحكامَ بيانِ المَنَاسِكِ، وإن كانتْ بعضُ المناسِكِ دلَّتْ عليهَا بعضُ النُّصوصِ قبلَ حجَّةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، إلَاّ أنَّ صفَةَ الحجِّ الشَّرعيَّةِ إنَّمَا علمَهَا النَّاسُ بفعلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حينَ حجَّ بالنَّاسِ حجَّةَ الإسلامِ الَّتي هي حجَّةُ الودَاعِ.
[3]
تأخيرُ البيانِ إلى وقتِ استِعْدَادِ المُكلَّفِ.
فمنْ هَذا: التَّدرُّجُ في التَّشريعِ، وعليهِ عامَّةُ شرائعِ الدِّينِ.
فعنْ عائشةَ رضي الله عنها وهي تذْكُرُ نُزُول القُرآن قالتْ: إنَّما نزلَ أوَّل ما نزلَ منهُ سٌورةٌ من المفصَّلِ فيها ذِكرُ الجنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذا ثابَ النَّاسُ إلى الإسلامِ نزلَ الحلالُ والحرامُ، ولو نزَلَ أوَّل شيءٍ: لا تشْربُوا الخمرَ لقالُوا: لا نَدَعُ الخمرَ أبدًا، ولوْ نزلَ: ولا تزْنُوا لقالوا: لا ندَعُ الزِّنا أبدًا [أخرجه البخاريُّ] .
ومنهُ: التَّدرُّجُ في التَّبيلغِ، كما في قصَّةِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه حينَ بعثهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمنِ، قالَ لهُ:((إنَّك تقدُمُ على قومٍ أهْلِ كتابٍ، فليَكُنْ أوَّلَ ما تدْعُوهُم إليه عبادَةُ الله عزَّوجلَّ، فإذا عرفُوا اللهَ فأخبِرْهُم أنَّ الله فرض عليهِمْ خمسَ صلواتٍ في يومِهِم وليْلَتِهِم، فإذا فعلُوا فأخبرهُمْ أنَّ الله قدْ فرضَ عليهِم زكاةً تُؤخذُ من أغنيائِهِمْ فترَدُّ على فُقرائِهِم، فإذا أطَاعُوا بها فخُذْ منهُم وتوقَّ كرائمَ أمْوالِهِمْ)) [متفقٌ عليه] .
* دلالة آياته على الأحكام:
وُرودُ القرآنِ قطعيٌّ كما تقدَّم، وهوَ حُجَّةٌ مُلزِمَةٌ لا تقبلُ التَّردُّدَ ولَا يرِدُ عليهَا الاحتمالُ من جهَةِ كونِهِ من أوَّلِهِ إلى مُنتهَاهُ بجميعِ ألفاظِهِ
ومعانيهِ كلامَ اللهِ، لا يُشَكُّ في ذلكَ.
ولكنَّ دلالَةَ آياتِهِ على إفادَةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ تنقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلُ: دلالَةٌ قطعيَّةٌ.
وذلكَ عند مجيءِ اللَّفظِ لا يُحتمِلُ إلَاّ معنًى واحدًا، كقوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ، فلفظُ (النِّصف) لا يحتمِلُ إلَاّ معنًى واحدًا، وقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فلفظُ (مائة) لا يحتملُ إلَاّ هذا العَدَدَ.
وهذا النَّمطُ قليلٌ في القرآنِ، فهوَ يتَّصلُ بألفاظِ الأعدَادِ والمقادِيرِ الَّتي لا تحتَمِلُ زيادَةً أوْ نقصًا.
والثَّاني: دلالةٌ ظنيَّة.
وذلك عندَ مجيءِ اللَّفظ يحتملُ إرادَةَ المعنَى تامًّا أو بعضِهِ، أو معنًى واحدٍ من معانٍ متعدِّدَةٍ، فيكونُ قابلاً للتَّقييدِ أو التَّخصيصِ أو التَّأويلِ.
من أمثلتِهِ:
[1]
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فلفظُ (اليَد) يحتملُ أن تكونَ إلى الرُّسْغِ، كما يحتملُ أن تكونَ إلى المِرفقِ، وإلى الإبطِ، والتَّعيينُ يحتاجُ إلى نصٍّ مفسِّرٍ غير هذه الآيةِ.
[2]
قوله تعالى في كفَّارَةِ اليمينِ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ، يجوزُ عليهِ التَّقييدُ بـ (مؤمنةٍ) لوْ ورَدَ فيهِ ما يصلحُ أن يكونَ قيدًا، فلفظُ الآيةِ لا يمنعُ ذلكَ.
[3]
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] ، يحتملُ إرادَة كلِّ ميتةٍ وكلِّ دمٍ، وهو الأصلُ، فإنَّ القاعدة كما سيأتي إبقاءُ اللَّفظِ على عمُومِه ما لمْ يردْ دليلُ التَّخصيصِ، لكنَّ الاستثناءَ من ذاتِ هذا العمُومِ واردٌ مقبولٌ في خُروجِ بعضِ أفرادِ الميتةِ وبعضِ أفرادِ الدَّمِ من التَّحريمِ، ولفظُ الآيةِ لا يمنعُ ذلك.
وتسميةُ هذه الدَّلالةِ (ظنيّة) لأجلِ ووردِ الاحتمالِ وعدَمِ امتناعِ لفظِ الآيةِ عن قبولهِ، وهي تسميَةٌ اصطلاحيَّةٌ.
وأكثرُ نصوصِ القرآنِ تندرجُ تحتَ هذا القسمِ في إفادَةِ الأحكامِ، وهذا مُتناسقٌ مع أمر الله تعالى بالتَّفقُّهِ في آياتِهِ وتدبُّر معانيها ودلالاتهَا، ولوْ جاءتْ قطعيَّةَ الألفاظِ امتنعَ ذلكَ فيهَا.