الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليهِ آيةُ الرَّجمِ، قرأْنَاهَا ووعينَاهَا وعقلنَاهَا، فرجَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورجمنَا بعدَهُ، فأخشَى إن طالَ بالنَّاسِ زمانٌ أن يقولَ قائلٌ: مَا نجدُ الرَّجمَ في كتابِ الله، فيضلُّوا بتركِ فريضةٍ أنزلَهَا الله، وإنَّ الرَّجمَ في كتابِ الله حقٌّ على من زنَى إذا أحصَنَ من الرِّجالِ والنَّساء، إذا قامَتِ البيِّنَةُ، أو كَانَ الحبلُ، أوِ الاعترافُ [متفقٌ عليه] ، وكذلكَ روَى بعضَ معنَى ذلك سعيدُ بن المسيَّب عن عُمرَ، فذَكرَ الآيةَ المنسوخَةَ:((الشَّيخُ والشَّيخَةُ فارجمُوهُمَا البتَّةَ)) [أخرجه مالكٌ في ((الموطَّأ)) ] .
3ـ نسخُ التَّلاوَةِ والحُكمِ.
مثالهُ: ما أفادَهُ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كانَ فيما أُنزلَ من القرآنِ: عشرُ رضعاتٍ معلومَاتٍ يُحرِّمنَ، ثمَّ نُسِخنَ بخمسٍ معلوماتٍ [أخرجه مسلمٌ] .
*
طريقُ معرفة النسخ:
يُعرفُ النَّسخُ بطريقينِ، هُمَا:
1ـ دلالةُ اللَّفظِ عليهِ صراحَةً، بلفظِ رسول الله، كقولهِ:((نهيتُكمْ عن زيَارَةِ القُبورِ فزُورهَا، ونهيتُكم عن لُحومِ الأضاحي فوقَ ثلاثٍ فأمسَكُوا ما بدا لكُمْ، ونهيتُكمْ عنِ النَّبيذِ إلَاّ في سقَاءٍ، فاشربُوا في الأسقيةِ كُلِّهَا، ولا تشربُوا مُسكِرًا)) [أخرجه مسلمٌ من حديثِ بُريدةَ بن الحصيبِ] ، أو قولِ الصَّحابيِّ راوي الحديثِ،
كحديثِ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَنَا بالقيامِ في الجنَازَةِ، ثمَّ جلسَ بعدَ ذلكَ وأمرَنَا بالجُلوسِ [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمدُ وغيرُهُ، ومعناهُ عندَ مسلمٍ]، وحديثِ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ: كان آخرَ الأمرينِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركُ الوُضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّارُ [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداودَ والنَّسائيُّ] .
2ـ قرينَةٌ في سياقِ النَّصِّ، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديثِ المتقدِّم قريبًا:((خُذُوا عنِّي، خُذُوا عنِّي، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلاً)) الحديثَ، فهذا يُشيرُ إلىالمنسوخِ، وهو قوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائكم فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، ومثلهُ قولهُ صلى الله عليه وسلم في نسخِ آيةِ الوصيَّةِ:((إنَّ الله قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ)) ففيهِ قرينةٌ واضحَةٌ في إرادَةِ آياتِ المواريثِ المُحكَمَةَ.
3ـ معرفَةُ تاريخ المُتقدِّ والمُتأخِّرِ، فيكونُ المتَأخِّرُ ناسخًا للمتقدِّمِ، كما هُو الشَّأنُ في نسخِ القِبلةِ من بيتِ المقدِسِ إلىالكعبَةَ، وقد سبقَ.
ومِمَّا ينتدرجُ تحتَ هَذا: أنَّ الأحكامَ الواقعَةَ في حجَّةِ الوَداعِ أوْ بعدَهَا ممَّا يُعارضُ أحكامًا غيرَ معلومَةِ التَّاريخِ، فما ورَدَ في تلكَ الحجَّةِ أو بعدَهَا ناسخٌ لتلكَ الأحكام، لأنَّ في تلكَ الحجَّةِ كمالِ الدِّينِ،
وجميعُ الأحكامِ المُستخلِصةِ منها مُحكمَةٌ، وما وقعَ بعدَ الحجَّةِ أيضًا ممَّا عارضَ ما قبلَهَا قرينَةٌ على إبطالِ الحُكمِ السَّابقِ، وذلكَ نسخٌ.
ويُمكنُ أن يُكرَ لكُلِّ من هاتينِ الصُّورتينِ مثالٌ:
[1]
صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهيُ عن الشُّربِ قائمًا من وُجوهٍِ، منهَا: حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ وأنسِ بن مالكٍ رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم زَجرَ عن الشُّربِ قائمًا [أخرجه مسلمٌ] ، فهذا جاء الفعلُ النَّبويُّ علىخلافِه في حجَّةِ الوداعِ، فعنِ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: سقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمْزَمَ، فشربَ وهوَ قائمٌ [متفقٌ عليه] .
[2]
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطَ عن فرسِه فجُحِشَتْ ساقُهُ أو كتِفهُ، وآلى من نسائِه شهرًا، فجلسَ في مشرُبةٍ لهُ درجتُها من جُذُوعٍِ، فأتاهُ أصحابُه يعودُونهُ، فصلَّى بهِمْ جالسًا وهُم قيامٌ، فلمَّا سلَّ قال:((إنَّما جُعلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ بهِ، فإذا كبَّرَ فكبِّرُوا، وإذا ركعَ فاركعُوا، وإذا سَجَدَ فاسْجُدُوا، وإن صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا)) الحديث [متفقٌ عليه]، قالَ الحُميدِيُّ فيما نقلهُ عنهُ تلميذُهُ البُخاريُّ في ((صحيحهِ)) في هذا الحديثِ:((هُوَ في مرضِهِ القديمِ، ثمَّ صلَّى بعدَ ذلكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جالسًا والنَّاسُ خلفَهُ قيامًا لم يأمُرُهُم بالقُعودِ، وإنَّما يُؤخَذُ بالآخرِ فالآخرِ من فعلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)) .
عنَى صلاتَهُ صلى الله عليه وسلم بالنَّاسِ في مرضِه الَّذي مات فيهِ، والقصَّةُ في
((الصَّحيحينِ)) حيثُ صلَّى قاعدًا، وأبوبكرٍ رضي الله عنه يأتّمُّ بهِ قائمًا، والنّاسُ يأتمُّونَ بأبي بكرٍ.
أمَّا النَّسخُ بتأخُّرِ إسلامِ الرَّاوي لحديثِ من تقدَّمهُ في الإسلامِ فغيرُ صحيحٍ.
* مسائل في النسخ:
1ـ النَّسخُ غيرُ (التَّخصيصِ) في الاصطِلاحِ، وقدْ جرَى الخلفْطُ بينهمَا في طريقةِ المُتقدِّمينَ، ووقعَ ذلكَ في كلامِ بعضِ الصَّحابَةِ في التَّفسيرِ يُطلقُونَ (النَّسخَ) وقدْ يريدُونَ بهِ التَّصيصَ، فليُلاحَظْ هذا من طريقَتِهِم، ولا يُستعملُ إطلاقُهُم النَّسخَ إلَاّ بعدَ تفسيرِهِم للمُرادِ بهِ.
مثالهُ: قولُ عبدلله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية [النور: 31]، فنسخَ واسْتثنَى من ذلكَ:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 60][أخرجه أبوداودَ بسندٍ جيِّدٍ] .
فسمَّى التَّخصيصَ نسخًا، ولا حرَجَ في الألفاظِ في هذا إذا تبيَّنتْ معانيهَا، لكنْ عليكَ أن تعلمَ ذلكَ، وإذا كانَ الاصطِلاحُ جرَى على معنَى مُعيَّنٍ فلا يصحُّ أن يُقحَمَ فيه ما ليسَ منهُ، خاصَّةً في أحكامِ الشَّريعَةِ، وهذا من أعظمِهَا.
وقد تقدَّم معنَى التَّخصيصِ والنَّسخِ جميعًا على ماجرَى عليهِ الاصطلاحُ، وفي الجُملَةِ فإنَّ التَّخصيصَ من بابِ البيانِ للمُرادِ باللَّفظِ، أمَّا النَّسخُ فهوَ إظهارٌ لِما يُنافي استِمرارَ الحُكمِ الأوَّلِ كليَّةً.
2ـ لا مانعَ من وُقوعِ نسخِ الحُكمِ مرَّتينِ، كتحريمٍ فإباحَةٍ فتحريمٍ، كما ذهبتْ طائفَةٌ من أهلِ العِلمِ إلى وقُوعِهِ في نكاحِ المِتعَةِ، فقدْ حُرِّمَتْ في غزْوَةِ خيبرَ، ثُمَّ أُبيحتْ بعدَهَا، ثمَّ حُرِّمَتْ إلى الأبدِ في عامِ الفتحِ، وفي ذلك نصُوصٌ في ((الصَّحيحينِ)) وغيرِهمَا تُستفادُ من مظانِّها.
3ـ مع ضرُورَةِ معرفَةِ النَّاسخِ والمنسوخِ للفقيهِ، إلَاّ أنَّهُ لا يُظنُّ كثرةُ وجودِ ذلكَ في أدلَّةِ التَّشريِ، وقد أُلِّفتْ فيه مُصنَّفاتٌ خاصَّةٌ مُفيدَةٌ، وفي كثيرٍ ممَّا ادُّعيَ فيه النَّسخُ ممَّا يُذكرُ في تلكَ المُصنَّفاتِ أو غيرهَا تحقيقٍ، ولاحِظِ انطِباقَ شُروطِ النَّسخِ قبلَ القولِ بهِ، كمَا عليكَ مُلاحَظةَ صحَّةِ النَّقلِ لمَا يعتمِدُ على الرِّوايةِ ممَّا قيلَ فيه ناسخٌ أو منسُوخٌ، فإنَّ القولَ بالنَّسخِ شديدٌ لما فيهِ من إبطالِ العملِ بنصٍّ من نُصوصِ الشَّرعِ.
* * *