الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثامن
مذهب الصحابي
* تعريفه:
الصَّحابيُّ هوَ: من لقِيَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بهِ وإنْ قلَّتْ صُحبَتُهُ.
و (مذهبُ الصَّحابيِّ) قولهُ ورأيُهُ فيما لا نصَّ فيه من الكتابِ والسُّنَّةِ.
*حجيته:
مذهبُ الصَّحابيّ واردٌ على وُجوهٍ، لكلٍّ منهَا مرتبةٌ في القبُولِ والاحتجاجِ أو عدمِهِ عندَ أهلِ العلمِ، هي كالتَّالي:
1ـ أن يكونَ المذهبُ انتشرَ بين الصَّحابةِ فلم يُنكرْهُ أحدٌ منهُمْ.
فهذا حجَّةٌ عندَ جُمهورِ العُلماءِ جرى عليهِ العملُ عندَ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ والشَّافعيِّ في مذهبهِ الجديدِ والحنابلةِ.
وهذا في الحقيقةِ من قبيلِ (الإجماعِ السُّكوتيِّ) ، وتقدَّم أنَّ الأقوَى فيه أنَّهُ ليسَ بِحُجَّةٍ.
2ـ أن يكونَ خالفَهُ فيه غيرُهُ من الصَّحابَةِ.
فهذا ليسَ بِحُجَّةٍ عند جميعِ الفُقهاءِ، لأنَّهُ لا مرجِّحَ لقبولِ قولِ هذا
وردِّ قولِ ذاكَ، وإنْ وُجِدَ مُرجِّحٌ خارجيٌّ كدليلٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ أو القياسِ أو غير ذلكَ كان الاحتجَاجُ بالدَّليلِ لا بقولِ الصَّحابيِّ.
3ـ أن يكونَ المذهبُ لم ينتشرْ، وليسَ مثلُهُ مظنَّةَ الانتِشارِ، ولمْ يخَالف فيهِ صحابيًّا غيرَهُ.
فهذا اختلفوا فيهِ، وأكثرُهُم يحتجُّ به حيثُ لا يكونُ عندَهُ في المسألةِ نصٌّ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، ويُقدِّمُهُ على رأي نفسِهِ، لكنْ هل احتِجَاجُ من يحتجُّ بهِ بناءً على أنَّهُ دليلٌ من أدلَّةِ الأحكامِ أو ألجأهُم إليهِ فُقدانُ الدَّليلِ في المسألةِ فصارُوا إلى اقتفاءِ أثرِ الصَّحابَةِ ومُتابَعتِهم على سبيلِ التَّقليدِ لأنَّ قولهُم ألصقُ بالهُدَى والصَّوابِ من قولِ غيرِهِم؟ يبدُوا أنَّ الاحتمالَ الثَّاني أرجحُ، وممَّا يدلُّ عليه قولُ الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله في حِكايتهِ مع مُناظرِهِ:((قالَ: أفرأيتَ إذا قالَ الواحدُ منهم القولَ لا يُحفظُ عن غيرِهِ منهمْ فيه لهُ موافقةً ولا خلافًا، أتجدُ لك حُجَّةً باتِّباعهِ في كتابٍ أو سنَّةٍ أو أمرٍ أجمعَ النَّاسُ عليه فيكونَ من الأسبابِ الَّتي قلتَ بهاخبرًا؟ قلتُ لهُ: ما وجدنَا في هذا كتابًا ولا سنَّةً ثابتةً، ولقد وجدْنَا أهل العلمِ يأخذُونَ بقولِ واحدِهِم مرَّةً ويتركُونهُ أخرى، ويتفرَّقُوا في بعضِ ما أخذُوا به منهم، قالَ: فإلى أيِّ شيءٍ صرتَ من هذا؟ قلتُ إلى اتِّباعِ قولِ واحدٍ إذ لم أجِدْ كتابًا ولا سنَّةً ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناهُ يُحكمُ له بحُكمهِ، أو وُجدَ معهُ قياسٌ، وقلَّ ما يوجدُ من قولِ الواحِدِ منهُم لا يُخالفُه غيرُهُ من هذا)) [الرِّسالة ص 597ـ
598] ، وهذا فيه أنَّ قول الصَّحابيِّ ليسَ بِحُجَّةٍ.
فهذه هي المواردُ الَّتي يُمكنُ أن يكونَ عليها (مذهبُ الصَّحابيِّ) .
هل درجات مذاهب الصحابة متفاوتة؟
وكثيرٌ من العلماءِ يرى أنَّ مذاهب الصَّحابةِ ليستْ مُتساويةً قوَّةً، فأعلاهَا (مذاهبُ الخُلفاء الرَّاشدِينَ) ، ثمَّ مذاهبُ الفُقهاءِ الَّذين اشتهرُوا بالفقهِ وعُرفُوا بهِ، ثمَّ الصَّحابةِ الَّذين لا يُحفظُ عنهُم في الفقهِ إلَاّ المسألةُ والمسألتانِ ولم يشتهِرُوا به.
وهذهِ قسمةٌ منطقيَّةٌ صحيحةٌ، فإنَّ العِبرَةَ في المتابعَةِ إنَّما هي الفقهُ والعلمُ، والخُلفاءُ الأربعةُ أعلمُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم، والأئمَّةُ الَّذين تصدَّرُوا للنَّاسِ يُعلِّمونَهُم ويُفتُونهُم من الصَّحابَةِ كمُعاذِ بن جبلٍ وعبد الله بن مسعودٍ وأبي موسلى الأشعريّ وزيدِ بن ثابتٍ وعبد الله بن عُمرَ وعبد الله بن عبَّاسٍ وعائشةَ أُمِّ المؤمنينَ؛ فوقَ من لم يكُن له بذلكَ اشتغالٌ ولا خبرَةٌ منهُم.
ويستدلُّ من يُقدِّم مذاهبَ الخُلفاءِ الأربعةِ بحديث العرباضِ بنِ ساريَةَ رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوصيكمْ بتقوى اللهِ والسَّمعِ والطَّاعة وإنْ كانَ عبدًا حبشيًّا، فإنَّهُ من يعِشْ منكُم بعدِي فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكمْ بسُنَّتي وسنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المهْدِيِّينَ فتمسَّكُوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحدثَاتِ
الأمُورِ، فإنَّ كلَّ محدِثَةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بِدْعةٍ ضلَالَةٌ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أحمدُ وأبوداودَ والتِّرمذيُّ وغيرُهُم] .
وهذا التَّرجيحُ لسُنَّتهم على سُنَّة غيرهم لأنَّهم حُكَّام المسلمين وأولياءُ الأمرِ فيهم كما يدلُّ عليه صدرِ الحديثِ، وقولُ وليِّ الأمرِ واجبُ الطَّاعةِ حفظًا لوحدَةِ المسلمين، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وليسَ في هذا أنَّ قول الواحدِ منهُم في مسألةٍ فقهيَّةٍ اجتهاديَّةٍ يُعتبرُ حجَّةً في الدِّين، وإن وجبَ على النَّاسِ له فيها السَّمعُ والطَّاعة حفظًا لكلمةِ المسلمين من التَّفرُّقِ، ولا شيء أبلغُ دلالةً على ذلك من وقوعِ الاختلافِ بين الأربعةِ أنفُسهم، فليسَ كلُّ ما قضى به أبوبكر قضى بهِ عُمرُ، ولا كُّلُّ ما قضى به عُمرُ جرى عليه عثمان أو عليُّ رضي الله عنهم، كما أنَّه ليسَ كلُّ ما أفتَوا به وافقهُم عليه ابن مسعودٍ أو ابنُ عبَّاسٍ أو ابنُ عمرَ، ولو كانَ الحديثُ يعني أنَّ أقوالهُم الاجتهاديَّةَ دينٌ للأمَّةِ بعدَهٌم لكانَ هذا من نسبةِ التَّناقُضِ للدِّينِ.
وإذا فُهم هذا المعنى في هذا الحديثِ، فُهم كذلك في حديث:((اقتَدُوا باللَّذين من بعدي أبي بكرٍ وعمرَ)) إن ثبتَ هذا الحديثُ فقد رُوي بأسانيد ليس فيها يسلمُ من علَّةٍ.
أمَّا حديثُ ((أصحابي كالنُّجومِ، بأيِّهِم اقتديتُم اهتَديتُم)) فهوَ
موضوعٌ كذِبٌ.
خلاصَةُ القولِ في حجيَّةِ مذهبِ الصَّحابيِّ:
أعلاهُ قوَّةً ما كان من قبيلِ (الإجماعِ السُّكوتي) . وتبيَّن في الإجماعِ أنَّه ليسَ بحُجَّةٍ، فما كان دونهُ من مذاهب الصَّحابةِ أولى أن لا يكونَ حُجَّةً، وإنَّما منزلةُ تلك الأقوالِ أنَّها في أعلى درجاتِ أقوالِ المجتهدينَ، لأنَّ المجتهدينَ من الصَّحابةِ فوقَ من جاءَ من بعدِهِم، فمُراعاةُ اجتهادَاتِهِم مع نَدْرَةِ الخطإِ فيها مُقارنةً بمن بعدَهُم أولى، وهذا الَّذي جرى عليهِ عملُ عامَّةِ أهل العِلمِ بعدَهُم، من قالَ: هيَ حجَّةٌ، ومن قالَ: ليسَتْ بحُجَّةٍ.
استثناء:
وأمَّا تفسيرُهُم للنُّصوصِ من الكتابِ والسُّنَّة من جهةِ ماتدلُّ عليه ألفاظُها في استعمالِ اللِّسانِ؛ فهوَ حُجَّةٌ، وهو أعلى وأقوَى ممَّا يُذكرُ عن آحادِ أئمَّةِ اللُّغةِ بعدَهُم، لأنَّهُم كما لا يخفَى أهلُ اللِّسانِ، فكيفَ وقدِ انضمَّ إلى ذلكَ معرفَتُهُم بمُرادِ الشَّارعِ فيما يستعملُه من تلكَ الألفاظِ؟ وهذا غيرُ الآراءِ في المسألةِ الفِقيَّةِ الَّتي تُستفادُ بالرَّأي والنَّظرِ.
* * *