المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأمر * تعريفه: هو اللَّفظُ المُستعملُ لطلبِ الفِعلِ على وجهِ الاستِعلاءِ. فهوَ من - تيسير علم أصول الفقه

[عبد الله الجديع]

فهرس الكتاب

- ‌أصول الفقه

- ‌الفرق بين القاعدة الأصولية والفقهية:

- ‌مباحث الأحكام

- ‌1ـ معنى الحكم

- ‌2ـ أقسام الحكم

- ‌الحكم التكليفي

- ‌1- الواجب

- ‌2ـ المندوب

- ‌3ـ الحرام

- ‌4ـ المكروه

- ‌5ـ المباح

- ‌الحكم الوضعي

- ‌1ـ السَّببُ

- ‌3ـ الشَّرط

- ‌3ـ المانع

- ‌4ـ الصحة والبطلان

- ‌5ـ العزيمة والرخصة

- ‌أسباب الرخص:

- ‌أنواعُ الرُّخص:

- ‌درجات الأخذ بالرخص:

- ‌هل يُمنعُ الأخذ بالرُّخص

- ‌3ـ الحاكم

- ‌ وظيفةُ العقل:

- ‌4ـ المحكوم فيه

- ‌ متى يلزم الفعلُ المكلف

- ‌أنواع الفعل المكلف به باعتبار من يُضاف إليه:

- ‌5ـ المحكوم عليه

- ‌6ـ الأهلية

- ‌ عوارض الأهلية:

- ‌1ـ عوارض كونية

- ‌1ـ الجنون:

- ‌2ـ العتَه:

- ‌3ـ النسيان:

- ‌4 ـ النوم والإغماء:

- ‌5ـ المرض:

- ‌6ـ الحيض والنفاس:

- ‌7ـ الموت:

- ‌2ـ عوارض مكتسبة

- ‌1ـ الجهل:

- ‌2ـ الخطأ:

- ‌3ـ الهزل:

- ‌4ـ السفه:

- ‌5ـ السكر:

- ‌6ـ الإكراه:

- ‌أدلة الأحكام

- ‌تمهيد

- ‌الدليل الأولالقرآن

- ‌ مسألة تأخير البيان:

- ‌الدليل الثانيالسنة

- ‌أقسام السنن

- ‌(1) سنة قولية

- ‌(2) سنة فعلية

- ‌قاعدة التروك النبويَّة

- ‌(3) سنة تقريرية

- ‌الوجوه التي تقع عليها التصرفات النبوية

- ‌حجيَّة السنة

- ‌طرق ورود السنن

- ‌1ـ السنة المتواترة

- ‌2ـ سنة الأحاد

- ‌أنواع الأحكام الواردة في السنة

- ‌دلالة السنن على الأحكام

- ‌الدليل الثالثالإجماع

- ‌ الإجماع السكوتي:

- ‌الدليل الرابعشرع من قبلنا

- ‌الدليل الخامسالقياس

- ‌أركان القياس

- ‌1ـ الأصل

- ‌2ـ الفرع

- ‌3ـ حكم الأصل

- ‌4ـ العلة

- ‌حجية القياس

- ‌مسألة الاستحسان

- ‌الدليل السادسالمصلحة المرسلة

- ‌ ضوابط الاحتجاج بالمصلحة المرسلة:

- ‌مسألة سد الذرائع

- ‌مسألة في أحكام الحيل

- ‌الدليل السابعالعرف

- ‌الدليل الثامنمذهب الصحابي

- ‌الدليل التاسعالاستصحاب

- ‌خلاصة القولفي الاحتجاج بالأدلة المتقدمة

- ‌قواعد الاستنباط

- ‌1ـ القواعد الأصولية

- ‌القسم الأولوضع اللفظ للمعنى

- ‌1ـ الخاص

- ‌المطلق والمقيد

- ‌الأمر

- ‌النَّهي

- ‌هل النَّهي يقتضي الفساد

- ‌الأمرُ بالشَّيءِ نهيٌ عن أضْدادِه

- ‌صيغة النفي:

- ‌2ـ العام

- ‌ تخصيص العام

- ‌3ـ المشترك

- ‌القسم الثانياستعمال اللفظ في المعنى

- ‌1ـ الحقيقة والمجاز

- ‌2ـ الصريح والكناية

- ‌القسم الثالثدلالة اللفظ على المعنى

- ‌1ـ الواضح الدلالة

- ‌(1) الظاهر

- ‌(2) النص

- ‌حقيقة التّأويل

- ‌(3) المفسَّر

- ‌(4) المحكم

- ‌2ـ غير الواضح الدلالة

- ‌(1) الخفي

- ‌(2) المشكل

- ‌(3) المجمل

- ‌(4) المتشابه

- ‌القسم الرابعكيفية دلالة اللفظ على المعنى

- ‌1ـ عبارة النص

- ‌2ـ إشارة النص

- ‌3ـ دلالة النص

- ‌4ـ اقتضاء النص

- ‌5ـ مفهوم المخالفة

- ‌2ـ معرفة مقاصد التشريع

- ‌ أنواع المصالح المقصودة بالتشريع:

- ‌1ـ الضَّروريَّات:

- ‌2ـ الحاجيَّات:

- ‌3ـ التَّحسينيَّات:

- ‌ ترتيب المصالح:

- ‌ القواعد المبنيَّة على مراعاة مقاصد التشريع:

- ‌ منافاة البدعة لمقاصد التشريع:

- ‌3ـ تعارض الأدلة

- ‌1- إعمال الدليلين

- ‌2ـ الناسخ والمنسوخ

- ‌ ثبوت النسخ في الكتاب والسنة:

- ‌ شروط النسخ:

- ‌ أنواع ما يقع به النَّسخ:

- ‌ الوجوه التي يقع عليها النسخ في القرآن:

- ‌ طريقُ معرفة النسخ:

- ‌3ـ الترجيح

- ‌الاجتهاد والتقليد

- ‌1ـ الاجتهاد

- ‌ حكمه:

- ‌ الخطأ في الاجتهاد:

- ‌ ما يمتنع فيه الاجتهاد

- ‌ ما يجوزُ فيه الاجتهاد:

- ‌ المجتهدُ وشروطه:

- ‌1ـ معرفَة اللُّغَةِ العربيَّةِ

- ‌2ـ معرفَةُ القرآنِ

- ‌3ـ معرفة السُّنَّة

- ‌4ـ معرفةُ علمِ أُصولِ الفقه

- ‌5ـ معرفَةُ مواضعِ الإجمَاعِ

- ‌2ـ التقليد

- ‌ تقليد الفقهاء الأربعة:

الفصل: ‌ ‌الأمر * تعريفه: هو اللَّفظُ المُستعملُ لطلبِ الفِعلِ على وجهِ الاستِعلاءِ. فهوَ من

‌الأمر

* تعريفه:

هو اللَّفظُ المُستعملُ لطلبِ الفِعلِ على وجهِ الاستِعلاءِ.

فهوَ من قسمِ (الخاصِّ) من جهةِ أنَّهُ أريدَ بهِ شيءٌ خاصٌّ هو (طلبُ الفعلِ) .

* صيغته:

الألفاظُ المُستعملَةُ في (الأمرِ) تعودُ إلى أربعةٍ مخصوصةٍ، هيَ:

1ـ لفظُ (افعلْ)، كقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقولِه صلى الله عليه وسلم للمسيءِ صلاتَهُ:((إذا قمتَ إلى الصَّلاةِ فكبِّرْ، ثمَّ اقْرأْ ما تيسَّر معكَ من القُرآنِ، ثمَّ اركَعْ حتَّى تطمئنَّ راكعًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تعتدِلَ قائمًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئنَّ ساجدًا، ثمَّ ارفعْ حتَّى تطمئنَّ جالسًا، وافعَلْ ذلكَ في صلاتِكَ كُلِّهَا)) [متفقٌ عليه من حديثِ أبي هُريرةَ] .

2ـ الفعلُ المُضارعُ المقترِنُ بلامِ الأمرِ، كقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]، وقولهِ صلى الله عليه وسلم:((الرَّجلُ على دينِ خليلِهِ فلينظُرْ أحدُكمْ من يُخاللْ)) [حديثٌ حسنٌ أخرجهُ التِّرمذِيُّ من حديثِ أبي هريرةَ] .

ص: 240

3ـ اسمُ فعلِِ الأمرِ، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم:((مَهْ ياعائشةُ، فإنَّ الله لا يحبُّ الفُحشَ والتَّفحُّشَ)) [رواه مسلمٌ]، قالَ ذلك حينَ أتاهُ ناسٌ من اليهودِ فقالوُ: السَّامُ عليكُمْ، فسبَّتْهُم عائشةُ، فأمرَها بالكفِّ عن ذلكَ، وقولهِ صلى الله عليه وسلم:((إيَّاكُم والظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلماتٌ يوم القيامَةِ، وإيَّاكمْ والفُحشَ؛ فإنَّ الله لا يُحبُّ الفُحشَ ولا التَّفحُّشَ، وإيَّاكُم والشُّحَّ؛ فإنَّهُ أهلكَ من كانَ قبلكُمْ أمرَهُم بالقطيعةِ فقطَعُوا، والبُخلِ فبَخِلُوا، وبالفُجُورِ ففجرُوا)) [حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أحمدُ وغيرُهُ بسندٍصحيحٍ] .

4ـ المصدرُ النَّائبُ عن فعلِ الأمرِ، كقوله تعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لنْ يُنجي أحدًا منكُم عملُهُ)) قالُوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قالَ: ((ولا أنا، إلَاّ أن يتغمَّدني الله برحمةٍ، سدِّدُوا وقاربُوا، واغْدُوا وروحُوا، وشيءٌ من الدُّلجَةِ، والقصدَ تبلُغُوا)) [متفقٌ عليه، واللَّفظُ للبُخاريُّ] .

وتقدَّم في الكلامِ في (الأحكامِ) ذكرُ صيغِ غيرِ صريحةٍ في الأمرِ دالةٍ عليهِ في مبحثِ (الواجبِ) ، والَّذي يعنينَا هُنا هو صيغةُ الأمرِ اللَّفظيَّةُ الإنشائيَّةُ، وهيَ منحصرةٌ في الصِّيغِ الأربعةِ المذكورَةِ.

ص: 241

* دلالته:

تدلُّ صيغةُ الأمرِ في خطابِ الله تعالى ورسولهِ صلى الله عليه وسلم مجرَّةً من القرائنِ على حقيقةٍ واحدةٍ هي الُوجوبُ.

هذا مذهبُ عامَّةِ أئمَّةِ الفقهِ والعلمِ ممَّن يُقتدى بهم كالأئمَّةِ الأربعةِ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشَّافعيّ وأحمدَ.

وخالفَ الفردُ والأفرادُ من المتأخِّرينَ في ذلكَ فذكرُوا أنَّها لغيرِ الوُجوبِ، قال بعضُهمْ: للنَّدبِ، وقال بعضُهم: للإباحةِ، وقال بعضُهُم غير ذلكَ.

والقولُ لا عبرََ به إن لم يُصحِّحهُ الدَّليلُ، ولقدْ تواترَتِ الأدلَّةُ وظهرَتْ وجوهُ دلالاتِهَا على المذهبِ الأوَّلِ، وهو الوُجوبُ، فمنها:

1ـ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] .

قال أبُوعبد الله القُرطبيُّ: ((وهذا أدُّ دليلٍ على ما ذهبَ إليه الجمهُورُ..من أنَّ صيغَةَ (افعلْ) للُوجوبِ في أصلِ وضعِهَا، لأنَّ الله تبارك وتعالى نفى خِيرَةَ المكلَّفِ عند سماعِ أمرِهِ وأمرِ رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ أطلقَ على من بقيتْ له خِيرَةٌ عندَ صُدورِ الأمرِ اسمَ المعصيَّةِ، ثمَّ علَّق على المعصيةِ بذلكَ الضَّلالِ، فلزِمَ حملُ الأمرِ على الوُجوبِ))

ص: 242

[الجامع لأحكام القرآن 14/188] .

2ـ قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .

وجهُ الدَّلالةِ من الآيةِ: أنَّ الله تعالى حذَّر من مُخالفَةِ أمرِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم بأن تُصيبَ المُخالفِ فتنَةٌ أو عذابٌ أليمٌ، وهذا لا يمكِنُ فيما للإنسانِ فيه اختيارٌ، فدلَّت على أنَّ الأمرَ للوُجوبِ في أصلِ وُرودِهِ حتَّى يرِد التَّخيير فيه من الآمرِ.

3ـ إطلاقُ مُسمَّى (المعصية) على تركِ (الأمرِ) في نصُوصِ الوحي، فمن أدلة ذلك:

[1]

قوله تعالى عن الملائكة: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] .

[2]

قوله تعالى عن موسى في قصَّتهِ مع الخِضرِ: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] .

[3]

قوله تعالى عن موسى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92ـ 93]، وإنَّما قال لهُ موسى حينَ استَخْلفَهُ:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142] .

والمعصيَّةُ موجبةٌ للعُقوبَةِ، كما قال تعالى في معصيَتِهِ ومعصيَةِ

ص: 243

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] .

4ـ قوله تعالى عن إبليسَ حينَ أبى أن يسجدَ لآدمَ: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وإنَّما كان أمرُهُ تعالى بالسُّجودِ بقولهِ:{اسْجُدُوا} [البقرة:34] مفيدَةً بنفسها وجوب الامتثالِ لم يكُن هناكَ وجهٌ للإنكارِ على إبليسَ في تركِه السُّجودَ، فإن قيلَ: إنَّما حمل إبليسَ على تركهَا الكِبرُ، فجوابُهُ: أنَّ هذا لا علاقةَ لهُ بالصِّيغةِ، وإنَّما أبدَى عنه إبليسُ بعد إنكارِ الله تعالى عليه عدَمَ السُّجودِ، وقدِ استحقَّ بالكبرِ المقترنِ بتركِ الأمرِ أن يُحرمَ الجنَّة ويُخلَّدُ في النَّارِ، وهذا لا يكونُ على مجرَّدِ تركِ امتثالِ الأمرِ مع اعتقادِ المعصيَّةِ بذلكَ التَّركِ، فاشتركَ كُلُّ تاركٍ لامتثالِ الأمرِ من الله تعالَى أو نبيّهِ صلى الله عليه وسلم مع إبليسَ في كونِهِ عصَى بتركِ امتثالِ الأمرِ، وقدْ يشتركُ مع إبليسَ في العاقبَةِ إذا اقترَنَ الإباءُ بالكِبرِ، وإنَّما يكونُ أمرُهُ تحتَ المشيئَةِ الرَّبانيَّةِ إذا اعتقدَ أنَّهُ عاصٍ إلَاّ أن يتوبَ.

وهذا لمن تأمَّلهُ بُرهانٌ ظاهرٌ على أنَّ صيغَةَ الأمرِ ممَّنْ لهُ سُلطانُ الأمرِ الأوَّلِ وهو الشَّارعُ واجبَةُ الامتثالِ، إلَاّ أن يأذنَ في التَّركِ أو

ص: 244

يُخيَّر.

5ـ قوله صلى الله عليه وسلم: ((لولَا أنْ أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ)) [متفقٌ عليه من حديث أبي هريرةَ] .

فتركَ بالأمرَ بهِ خشيةَ المشقَّةِ، ممَّا دلَّ على أنَّ الأمرَ للوُجوبِ، لأنَّهُ لو صحَّ أن يكونَ في مرتبةٍ دونَ الوُجوبِ كالنَّدبِ، فإنَّ المندوبَ جعلَ الشَّرعَ فيه للمكلَّفِ خيرَةً في أن يفعلَ أو يدَعَ، فلا يكُونُ سببًا للمشقَّةِ من قِبلِ الشَّارعِ.

6ـ ومن هذا يُقالُ: (طاعةُ الأميرِ) و (معصيَةُ الأميرِ)، والأميرُ إنَّما سُمِّيَ بذلكَ لأنَّهُ يقولُ للنَّاسِ:(افعلُوا واعملُوا واسمَعُوا) ونحوَ ذلكَ، وعلى النَّاسِ السَّمعُ والطَّاعةُ، لا يقولونَ لهُ: أمرُكَ على النَّدبِ أو الإباحَةِ ونحنُ في خيرَةٍ من فِعلِهِ وتركِهِ حتَّى يقترِنَ بِأمرِكَ الوعيدُ والتَّهديدُ، فمن يجرُؤُ على أن يقولَ ذلك لحاكِمٍ أو سُلطانٍ؟ ومن يجرُؤُ على التَّردُّدِ فيه؟ فعجبًا أن يُدركَ هذا المعنى في حقِّ الخلقِ ولا يُدركُ في أمرِ ربِّ الخلقِ تبارك وتعالى الَّذي بيدِهِ سُلطانُ الأمرِ والنَّهيِ كُلِّهِ!

* قاعدة الأمر:

الأمرُ للوُجوبِ حتَّى يُصرفَ عنهُ بقرينةٍ.

معنى القاعِدَةِ اتَّضحَ مِمَّا تقدَّم من بيانِ (دلالةِ الأمرِ) .

مثالُ القاعِدَة:

ص: 245

1ـ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، فإنَّ الأمرَ على أصلِ دلالتِه للوُجوبِ، فلذلكَ سقط به وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ وراءَ الإمامِ عندَ جُمهورِ العلماءِ.

2ـ قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ فليرْكعْ ركعتينِ)) [متفقٌ عليه من حديث ابي قتادَةَ] ، فهذا أمرٌ مصروفٌ عن الوُجوبِ إلى النَّدبِ في قولِ جمهُورِ العلماءِ، والقرينةُ الصَّارفةُ له عن الوُجوبِ هي ما تواترَتْ به النُّصوصُ من كونِ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسًا في اليومِ واللَّيلةِ، وما صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من عدِّ جميعِ ما يزيدُه المسلمُ عليها تطوُّعًا.

واعلمْ أنَّ القرينةَ ممَّا يختلفُ في تقديرهِ العلماءُ وجرَى منهاجُهم على اعتبارِ القرينةِ صارِفةً لدلالةِ اللَّفظ عمَّا استُعملتْ فيه في الأصلِ إلى المعنى الَّذي دلَّت عليهِ، وهي قدْ تكونُ صريحةً بيِّنَةً كما في المثالِ المذكورِ، وقد تكونُ خفيَّةً لا تبدوا إلَاّ بالبحثِ والتَّامُّلِ، كما أنَّها قدْ تُستفادُ من نفسِ النَّصِّ، أو من دليلٍ خارجيٍّ، ولا يلزمُ أن تكونَ نصًّا من الكتابِ والسُّنَّةِ، إنَّما يجوزُ أن تكونَ كذلكَ، ويجوزُ أن تستنِدَ إلى قواعدِ الشَّرعِ ومقاصِدِه، ويجري فيها ما يجري على الدَّليلِ القائمِ بنفسهِ من جهةِ الثُّبوتِ والدَّلالةِ، وهذا معنى يغفُلُ عنهُ كثيرونَ فلا يُدركُونَ من المقصودِ بالقرينةِ إلَاّ بالقرينةِ اللَّفظيَّةَ الصَّريحةَ.

ص: 246

* مسائل

1ـ الأمرُ إذا ورَدَ بعدَ النَّهيِ رجعَ بالمأمُورِ به إلى حالِه قبلَ النَّهيِ، فإن كانَ للوُجوبِ عادَ إلى الوُجوبِ، وإنْ كانَ للنَّدبِ عادَ إلى النَّدبِ، وإن كان للإباحَةِ عادَ إلى الإباحةِ.

من أمثلةِ ذلك:

[1]

قولهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، فإتيانُهُنَّ بعد التَّطهُّر مباحٌ ليسَ بواجبٍ، فعادَ الحُكم بالأمرِ إلى الحالِ قبلَ النَّهيِ.

[2]

حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: جاءتْ فاطِمةُ بنتُ أبي حُبيشٍ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسول الله، إنِّي امرأةٌ أُستحاضُ فلا أطهُرُ، أفأدعُ الصَّلاةَ؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا، إنَّما ذلكَ عِرقٌ وليسَ بحيضٍ، فإذا أقبلَتْ حيضتُكِ فدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أدبرَتْ فاغسلي عنكِ الدَّمَ ثُمَّ صلِّي)) [متفقٌ عليه] ، فالأمرُ بالصَّلاةِ بعد َالنَّهيِ عنها لأجلِ الحيضِ عادَ بحُكمِهَا إلى ما قبل الحيضِ، وهو الوُجوبُ.

هذهِ القاعِدَةُ على واحدٍ من ثلاثةِ مذاهبَ للعُلماءِ، والمذهبُ الثَّاني: أنَّ الصِّيغةَ للوُجوبِ على أصلهَا، ولا تُصرفُ عنهُ إلَاّ بقرينةٍ، والثَّالثُ: أنَّ هذه الصُّورَةَ تجعلُ المأمُورَ بهِ مُباحًا، والَّذي دلَّ عليهِ

ص: 247

الإستقراءِ للأدلَّةِ الواردَةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ هو المذهبُ الأوَّلُ وهو قولُ بعضِ الشَّافعيَّةِ والحنابلَةِ.

2ـ صيغةُ الأمرِ لا تدلُّ بنفسهَا على وجوبِ إيقاعِ المأمورِ به أكثرَ من مرَّةٍ إلَاّ بدليلٍ.

من أمثلتِهِ

[1]

حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالً: خطبنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: ((أيُّها النَّاسُ، قد فرضَ الله عليكُم الحجَّ فحُجُّوا)) فقال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسَكَتَ، حتَّى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لو قلتُ: نعمْ لوجبَتْ ولما استَطعتُم)) ثم قالَ: ((ذرُوني ما تركتُكُم، فإنَّما هلكَ من كان قبلكُم بكثرةِ سُؤالِهِم واختلافِهم على أنبيائهمْ، فإذا أمرتُكمْ بشيءٍ فأتُوا منهُ ما استطعتُم، وإذا نهيتُكمْ عن شيءٍ فدَعُوهُ)) [أخرجه مسلمٌ] .

فهذا بيَّنٌ في أنَّ صيغَةَ الوُجُوبِ لا تدلُّ بنفسهَا على إرادَةِ إيقاعِ الفعلِ أكثرَ من مرَّةٍ، وإنَّما يحتاجُ إلى دليلٍ زائدٍ يفيدُ التَّكرارَ، فحيثُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقُلْ هُنا (في كلِّ عامٍ) فإنَّ الأصلَ أن تقعَ مرَّةً، فيتحقَّقُ المقصودُ، ولذَا كرِهَ سؤالَ السائلِ لأنَّهُ من قبيلِ البحثِ عن المسكوتِ عنهُ ممَّا قد يقعُ بالسُّؤالِ عنهُ تكليفٌ شاقٌّ يكونُ سببُهُ سُؤالَ ذلكَ السَّائلِ.

ص: 248

[2]

قولهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، فأمرَ بالوُضوءِ كلَّما قامَ العبدُ إلى صلاتِهِ، والأصلُ وجوبُ إيقاعِ الفعلِ على التكرارِ بتكرُّرِ الصَّلاةِ، إلَاّ أنَّ الأمرَ عُلِّقَ بالحدثِ تخفيفًا على الأمَّةِ، وبغيرِ الحدَثِ على سبيلِ النَّدبِ، كمَا بيَّنتْ ذلك السُّنَّةُ.

[3]

وفرضٌ خمسِ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ بما تواترَتْ بهِ النُّصوصُ دليلٌ على أنَّ قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ، يقتضي تكرارَ إيقاعِ المأمورِ بهِ، ومثلهُ تعليقُ فرضِ الزَّكاةِ ببلُوغِ النِّصابِ وحولِ الحولِ دليلٌ على تكرارِ المأمورِ به في قوله تعالى:{وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] .

ولولَا مجيءُ الدَّليل المفيدِ للتَّكرارِ كان تحقُّقُ المطلوبِ يقعُ بمرَّةٍ.

وهذه القاعدَةُ مذهبُ جُمهورِ الفُقهاءِ.

3ـ الأمرُ بشيئينِ أو أكثرَ على سبيلِ التَّخييرِ بينها، فالواجبُ امتثالُ أحدِها من غيرِ تعيينٍ.

مثالهُ قوله تعالى في كفَّارةِ اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] ، فأمرَ بالكفَّارةِ وجوبًا، وخيِّر في فعلهَا بين الإطعامِ أو الكِسوةِ أو العِتقِ درجَةً واحدَةً.

ص: 249

ومثلُهُ في المُحرمِ يحلقُ رأسهُ لعلَّةٍ، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .

4ـ الأمر في سُرعةِ الامتثالِ مُعلَّقٌ بمقتضى البيانِ، فإنْكان موقَّتًا وقتٍ لزِم امتثاله في الوقتِ المُحدَّدِ، وإن عُلِّق بشرطٍ لزِمَ امثتالُهُ عند وجودِ الشَّرطِ.

هذه من مسائلِ الخلافِ المشهورةِ بين الأصوليينَ، فمنهُم من أطلقَ (صيغةُ الأمرِ تقتضي الفوريَّةَ في الامتثالِ)، ومنهُم من أطلقَ:(تقتضي التَّراخي) ، ومنهُم من توقَّفَ، ومنهُم من فصَّل، وإذا انتقلتْ لتدبُّرِ ذلك في الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ لا تجدُ أنّ الله تعالى حينَ قال مثلاً:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] ، أوجبَ بمجرَّدِ هذا النَّصِّ امتثال المأمورِ عن غير بيانٍ لأحكامِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، نَعمْ لا ريبَ في وجوبِ الامتثالِ، لكنَّهُ متوقِّفٌ على البيانِ، فكانَ الأمرُ بالصَّلاةِ موقَّتًا بأوقاتِ محدودَةٍ، لا تؤدَّى صلاةٌ قبلَ وقتِهَا، كمَا لا يحلُّ أن تخرجَ من وقتِهَا، وامتثالُ الأمرِ بتلكَ الصَّلاةِ موسَّعٌ باتِّساعِ وقتِهَا، وفرضُ الحجِّ عُلِّق بوصفٍ في وقتٍ، فهوَ ليسَ بلازم حتَّى يوجَدَ ذلكَ الوصفُ في الوقتِ، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، وذلكَ في أيَّامِ الحجِّ الموقَّتة، وقضاءُ من فاتَهُ شيءٌ من رمضانَ بُعُذرٍ واجبٌ بعدَ رمضانَ موسَّعًا

ص: 250

يفعلُه متى شاءَ في ذلكَ الوقتِ الموسَّعِ من العامِ، كمَا قال تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .

فإذَا عُلمَ هذا لم يكُن بعدهُ لإطلاقِ العبارَاتِ معنَى، وعليهِ فالتَّفصيلُ أصحُّ شيءٍ في هذه المسألةِ.

5ـ إذا فاتَ امتثالُ المأمورِ في وقتهِ المحدَّدِ فقدْ سقطَ فِعلُهُ بالأمرِ الأوَّلِ، ولا يجبُ القضاءُ إلَاّ بأمرٍ جديدٍ.

على هذا جمهورُ الأُصوليِّينَ، وقد تقدَّم له بيانٌ وتمثيلٌ في مسألةِ (القضاء) في تفصيل الكلامِ على (أقسام الحُكمِ الوضعِيِّ) .

* * *

ص: 251