الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا خطأٌ جسيمٌ بُني على ظنٍّ ووهمٍ، ذلكَ أنَّهُ تضمَّن الاعتقادَ بضياعِ شيءٍ من الدِّينِ وحفظِ ما يُعارضُهُ، وهذا ضلالٌ وجهلٌ م قائلِه، فإنَّ الله الَّذي أكملَ لنا الدِّينَ تعهَّدَ بحفظِه، وإن كانَ يخفَى بعضُه على الأفرادِ فلا يجوزُ أن يخفَى جميعُه على جميعِ الأمَّةِ، فإنَّ اتِّفاقها على تضييعِ نصٍّ من نصوصِ الشَّرعِ اتِّفاقٌ منها على الضَّلالِ، فكيفَ يصحُّ هذا وهيَ معصُومَةٌ منهُ، وما هذا القولُ في الحقيقةِ إلَاّ دليلٌ على فسادِ هذهِ الدَّعاوى في الإجماعِ الموهومِ.
3ـ القياسُ، لأنَّ من شرطِ صحَّتِهِ البناءَ على النَّصِّ، فإذا ناقضَ نصًّا آخرَ فاحتِمالُ النَّسخِ وارِدٌ بين النَّصِّ الَّذي استُفيدَ منهُ حكمُ القِياسِ، والنَّصِّ المعارضِ لهُ، لا بينَ نصٍّ وقياسٍ، على أنَّ القياسَ لا يصحُّ وُرودُه بخلافِ النَّصِّ.
كما دلَّ التَّعريفُ المتقدِّمُ علَى:
أنَّ ما ثبتَ بدليلِ (استِصحابِ الإباحَةِ الأصليَّةِ) ، ثمَّ جاءَ نَصٌّ نقلَ عن تلكَ الإباحَة، فليسَ هذا من قبيلِ النَّسخِ، لأنَّ الإباحَةَ لم تُبنَ على دليلِ بخصوصِ تلكَ الجُزئيَّةِ، إنَّما أُلحقَتْ بدليلٍ عامٍّ وقاعِدَةٍ كليَّة ترجعُ إلى عدَمِ النَّصِّ، فليسَتْ (حُكمًا شرعيًّا فرعيًّا ثبتَ بالنَّصِّ) .
*
أنواع ما يقع به النَّسخ:
لمَّا كانَ أمرُ (النَّسخِ) قدْ فُرغَ منهُ لارتِباطٍه بِنُزولِ الوحيِ، ثبَتَ
باستِقراءِ صُورِ النَّسخِ أنَّه واقعٌ بأربعَةِ أشياءَ:
الأوَّلُ: نسخُ قُرآنٍ، كنسخِ قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] بآياتِ المواريثِ من سورةِ النِّساءِ، وصحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قولهُ:((إنَّ الله قدْ أعطَى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّهٌ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ)) [أخرجه أصحابُ السُّنن وغيرُهم] ، وصحَّ القولُ بنسخِهَا عن جماهيرِ السَّلفِ، كابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، وإنْ كانُوا قدِ اختلفُوا في النَّاسخِ: هلْ هوَ آياتُ المواريثِ أمِ الحديثُ؟
والثَّاني: نسخُ سنَّةٍ بسنَّةٍ، كصفَةِ التَّطبيقِ في الرُّكوعِ، فعنْ علقَمَةَ بنِ قيسٍ والأسودِ بنِ يزيدَ: أنَّهما دخلَا على عبد الله (هُو ابنُ مسعودٍ)، فقالَ: أصلَّى من خلفَكُم؟ قالَا: نعَمْ، فقامَ بينهُمَا، وجعلَ أحدَهُما عن يمينهِ والآخرَ عن شمالِهِ، ثمَّ ركعنَا، فوضَعنَا أيدينَا على رُكبِنَا، فضرَبَ أيدينَا، ثمَّ طبَّق بين يديهِ، ثمَّ جعلهُما بينَ فخِذيهِ، فلمَّا صلَّى قالَ: هكذا فعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: [رواه مسلمٌ] ، نسخَهُ ما في حديث سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، فعنِ ابنِهِ مُصعبٍ قالَ: صلَّيتُ إلى جنبِ أبي، فلمَّا ركعتُ شبَّكتُ أصابِعِي وجعلتُهُما بينَ رُكبتيَّ، فضرَبَ يديَّ، فلمَّا صلَّى قالَ: قدْ كُنَّا نفعلُ هذا، ثمَّ أُمرنَا أن نرفَع إلى الرُّكبِ [متفقٌ عليه] .
والثالثُ: نسخُ قُرآنٍ بسُنَّةٍ، وهو واقعٌ في مذهبِ طائفَةٍ كبيرةٍ من أهلِ العِلمِ خلافًا للشَّافعيِّ وأحمدَ، وممَّا يُذكرُونَهُ لهُ مثالاً: نسخُ قولِه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] بقولهِ صلى الله عليه وسلم المتقدِّم ذِكرهُ قريبًا: ((لا وصيَّةَ لوارثٍ)) .
ووُقوعُ النَّسخِ في المثالِ المذكورِ بهذهِ الصُّورِ أظهرُ، والله أعلمُ.
وكونُ القرآنِ والسُّنَّةِ وحيًا لا يمنعُ وُقوعَ النَّسخِ بينَهُمَا، لأنَّهُمَا جميعًا من عندِاللهِ.
والرَّابعُ: نسخُ سُنَّةٍ بقُرآنٍ، كنسخِ استِقبالِ بيتِ المقدِسِ باستِقبالِ الكعبَةِ، فالأوَّلُ ثابتٌ بالسُّنَّةِ، وهو الحالُ الَّتي كان عليهَا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنونَ معهُ في مكَّةَ وبعدَ الهِجرَةِ زمانًا، ونسخُه بالكتابِ، فعنْ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وهوَ بمكَّةَ نحوَ بيتِ المقدِسِ، والكعبَةُ بين يديهِ، وبعدمَا هاجرَ إلى المدينةِ ستَّةَ عشرَ شهرًا، ثمَّ صُرف إلى الكعبةِ [أخرجه أحمد بسندٍ صحيحٍ]، وعنِ البرَاءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما قالَ: كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى نحو بيتِ المقدِسِ ستَّةَ عشرَ أو سبعَةَ عشرَ شهرًا، وكَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبةِ، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فتوجَّه نحوَ الكعبَةِ، وقالَ السُّفهاءُ