الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتِبارُه إذا لم يبْطُل بهِ ضرورِيٌّ من الخمسِ، وإن تعلَّق بأدبٍ كانَ الشَّرطُ لاعتِبارِهِ أن لا يبطُلَ ضرُوريًّا ولا يورِدَ حرجًا وعُسرًا، ويُلاحظُ أنَّ الحاجيَّاتِ والتَّحسيناتِ كالمُتمِّماتِ للضَّروريَّاتِ.
والضَّروراتُ الخمسُ متَفاوِتَةٌ فيما بينهَا في قوَّةِ الضَّرورَةِ، فحفظُ الدِّين يُسترخصُ لأجلِهِ النَّفسُ والمالُ، وحفظُ النَّفسِ مُقدَّمٌ على حفظِ المالِ، فإنَّها تُفتَدَى بالمالِ، والمالُ يُمكنُ استِدراكُ ما يفوتُ منهُ بخلافِ النَّفسِ، وحفظُ العِرضِ بالعِفَّةِ من الزِّنا يُفتَدى بالمالِ، بلْ بالنَّفسِ، وحفظُ العقلِ يُغتفرُ فيهِ ما لا يُغْتفرُ في غيرِهِ من الضَّروريَّاتِ بالعُذرِ.
ودرجاتُ ذلكَ مُتفاوتَةٌ باعتباراتٍ تُدركُ من أحكامِ الإكراهِ، وحالِ الضَّرورَةِ.
والتَّحقيقُ أنَّ ترتيبَ الضَّروريَّاتِ ليسَ لهُ قانونٌ واضحٌ يُعوَّلُ عليهِ، وهيَ كما أشرْتُ تتفاوتُ باعتبارَاتِ، فلذَا لا يندرجُ ترتيبُها ضمنَ أُصولِ المقاصِدِ، وإنَّما التَّرتيبُ صحيحٌ في ترتيبِ المصالحِ من حيثُ الجُملَةُ.
*
القواعد المبنيَّة على مراعاة مقاصد التشريع:
بمُراعاةِ مقاصدِ التَّشريعِ المتقدِّمَةِ اسْتفيدَتْ جُملَةٌ من القواعِدِ والضَّوابطِ العامَّةِ ممَّا يتحقَّقُ به نفُ المُكلَّفِ، وهي في الحقيقةِ قواعدُ
فقهيَّةٌ عامَّةٌ تُساعدُ الفقيهَ على الاستِدلالِ والتَّرجيحِ بينَ المَصالحِ، من أهمِّهَا:
1ـ (الضَّرَرُ يُزالُ) .
وهذهِ قاعِدَةٌ عامَّةٌ يندرجُ تحتَهَا فروعٌ كثيرةٌ، منهَا: استِحقاقُ التَّعويضِ للغيرِ عندَ إتلافِ مالهِ، وثبُوتُ حقِّ الشُّفعةِ للشَّريكِ أو الجارِ، ووُجوبُ الوِقايَةِ من الأمراضِ، ومُعاقبَةُ المُجرمينَ بالحُدودِ أو التَّعازيرِ.
2ـ (يُدفعُ الضَّررُ العامُّ بتحمُّل الضَّررِ الخاصِّ) .
ويُمكنُ التَّعبيرُ عن هذه القاعِدَةِ بصيغَةٍ أُخرَى، هيَ:(اعتبارُ المصلحَةِ العامَّةِ مُقدَّمٌ على اعتبارِ المصلحَةِ الخاصَّةِ) .
ومن فُروعهَا: القصاصُ من القاتلِ لحفظِ حياةِ النَّاسِ من التَّهاوُنِ في الاعتِداءِ عليهَا، وقطعُ يدِ السَّارقِ لحفظِ أموالِ النَّاسِ من مدِّ الأيدِي إليهَا، وجلدُ القاذِفِ لقطعِ الألسِنَةِ دُونَ قذْفِ المُحصناتِ، وتدخلُ الدَّولةِ في تسعيرِ السِّلعِ عندَ الغلاءِ بفعلِ التُّجَّارِ ممَّا يضرُّ بالنَّاسِ، وإجبارُ التَّاجرِ المُحتكرِ على البيعِ لحاجَةِ النَّاسِ.
3ـ (يُرتكبُ أخفُّ الضَّررَينِ لاتِّقاءِ أشدِّهِمَا) .
ومن فُروعِهَا: صلَاةُ فاقدِ الطَّهورينِ الماءِ والتُّرابِ أوا لعاجزِ عن استِعمالِهَا بغيرِ طهارَةٍ، والنِّكاحُ وإنجابُ الأطفالِ في بيئةٍ قدْ كثُر فيهَا
الحرامُ والشُّبُهاتُ في المكاسِب وقلَّ الحلالُ وندرَ فلا تُتركُ ضرُورَةُ حفظِ النَّفسِ بالنِّكاحِ والنَّسلِ لأجلِ وُرودِ تلكَ المفسَدَةِ، وكونُ الإنسانِ بينَ اختيَاريْنِ: طلبِ العِلمِ في موضعٍ يرَى فيها المُنكرَ ويسكُتُ، أو تركِ ذلكَ والبقاءِ على الجهلِ والأميَّةِ، فالأوَّل مقدَّمٌ في الاختيارِ، فإنَّ طلبَ العلمِ من ضرورَةِ حفظِ الدِّينِ، والسُّكوتَ عن إنكارِ المُنكرِ فيه رُخصَةٌ في أحوالٍِ، ومنها الوُقوعُ في الكذبِ لحمَايَةِ مسلمٍ من الأذَى، وكِتمانُ الإسلامِ أو تركُ إظهارِ التَّديُّن لوِقايَةِ النَّفسِ أوِ الأهلِ أو المالِ من الأذَى.
4ـ (الضَّروراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ) .
وفُروعُها لا تنتهي، وهيَ قاعدَةٌ عظيمَةٌ يُستباحُ بها الحرامُ لعُسرِ احتمالِ المُكلَّفِ عُسرًا يوردُ عليهِ من الضَّررِ ما لا يقدِرُ عليهِ، ومنْ فروعِ هذا: إباحَةُ الميتَةِ والخِنزيرِ والخمر وغيرِهَا لمن لا يجدُ بُدًّا من أخذِهَا.
وفهمُ هذه القاعِدَةِ يحتاجُ إلى تصوُّرِ قدْرِ الضَّررَينِ: الضَّررِ الوارِدِ، معَ ضررِ مُواقعَةِ الحرامِ، وهذهِ تحتاجُ إلى تأمُّلٍ شديدٍ من قِبلِ الفقيهِ، فأيُّ الجانبينِ كانَ أرجحَ فالحُكمُ لهُ.
ولنضْربْ له مثالاً: إنسانٌ وقعَتْ عليهِ غرامَةٌ ماليَّةٌ، وهوَ مُخيَّرٌ بين السَّدادِ وبينَ السَّجنِ، فنظرَ فلم يجِدْ سبيلاً للسَّدادِ إلَاّ قرضًا بالرِّبا،
فتقديرُ ضرورتِه أو حاجتِهِ يعودُ إلى ترجيحِ أخفِّ المفسدَتينِ، فنظرَ فوجَد في السِّجنِ بلاءً يخافُ منهُ على دينِه من خِلطَةِ السُّفهاء، أو على زوجةٍ أو ذُرِّيَةٍ يخافُ ضياعَهُم من بعدِهِ، أو نحوِ ذلكَ من الأسبابِ، ونظرَ فيما يُقابلُ ذلكَ، فوجَدَ المفسَدَةَ في قرضِ الرِّبا غايتَهَا أن يُعينَ آكل الرِّبا على معصيَةِ الله، وبِتركِهِ الافتِراضِ منهُ فإنَّه لا يزجُرُه عن تلكَ المعصيَّةِ، فجانبُ الفسادِ في أكلِ الرِّبا باقٍ في حالِ اقتراضِه أو عدَمِهِ، فيظهرُ لهُ من ذلكَ ترجيحُ ارتِكابِ أخفِّ المفسدَتينِ، أمَّا جانبُ المظلمَةِ الَّلاحقِ لهُ في أخذِ الرِّبا منهُ فالمكلَّفُ صاحبُ الحقِّ في التَّنازُلِ عن مظلمتِه، وإنَّما الاعتبارُ لحقِّ الشَّرعِ، وهوَ في نظرِهِ قد قابلَ ضررًا أبلغ.
فإنْ قيلَ: خوفُ المفسَدَةِ كيفَ يُساوي المفسَدَة؟ فالجوابُ: أنَّ خوفَ المفسَدَةِ يكونُ لهُ حُكمُها في هذا البابِ وبابِ الإكراهِ إذا كانَ خوفًا راجِحًا قد عُلمَ رُجحانُهُ بالقرائنِ.
5ـ (الضَّروراتُ تُقدَّرُ بقَدرِهَا) .
هذه القاعِدَةُ كالقيدِ للَّتي قبلَهَا، والمقصودُ بهَا: أن يُكتفى في استباحَةِ المُحرَّمِ للضَّرورةِ بالقدرِ الَّذي دفعَتْ إليهِ الضَّرورةُ من غيرِ مُجاوزَةٍ، لقولهِ تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
ففي المثال المتقدِّم لا يحلُّ لهُ أن يقترضَ إلَاّ بمقدارِ غرامَتِه الَّتي عجزَ عن جميعِهَا، فإذا قدرَ على بعضِهَا وعجزَ عن بعضٍ، فيقتصرُ من القرضِ على القَدْرِ الَّذي ينقصُ عمَّا عِندَهُ.
وكذلكَ تُفيدُ القاعِدَةُ أنَّ الإذنَ باقٍ ما بقيَ العُذرُ، زائلٌ بزوالِهِ.
6ـ (المشقَّةُ تجلبُ التَّسيرَ) .
وهذه تعودُ إلى أصلِ رفعِ الحرجِ، وإليهِ ترجعُ مصالحُ (الحاجيَّات) ، ويندرجُ تحتهُ الرُّخصُ الَّتي شُرعتْ تخفيفًا على العبادِ.
وقد سبقَ في (أقسامِ الحُكمِ الوضعِيِّ) بيانُ أسبابِ الرُّخصِ وبعضِ أمثلتِهَا.
7ـ (إذا ضاقَ الأمرُ اتَّسعَ) .
والمعنَى: إذا ظهرَتْ فيه المشقَّةُ الَّتي لاتُحتملُ إلَاّ بالضَّررِ الرَّاجحِ فإنَّه يُرخَّصُ فيه ويُوسَّعُ.
وهذه القاعدَةُ من بابِ الَّتي قبلَهَا.
8ـ (إذا اختلفَ عليكَ أمرانِ فإنَّ أيسرَهُمَا أقربُ إلى الحقِّ) .
المقصودُ بذلك ما وقعَ فيه خفاءُ الحُكمِ شرعًا في الأمرينِ، والقاعدَةُ جاءتْ على اعتبارِ أنَّ الأصلَ في الشَّرائعِ السُّهولَةُ واليُسرُ ورفعُ الضِّيقِ والعنَتِ.